فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ | وَرِجْلٍ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ |
عَلَوْتُمُ فَتَوَاضَعْتُمْ عَلَى ثِقَةٍ | لَمَّا تَوَاضَعَ أَقْوَامٌ عَلَى غَرَرِ |
وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَظَائِرُهَا مَثَارَ اخْتِلَافٍ بَيْنَ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ دَلَالَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ حُكْمٍ يَثْبُتُ لِلْمُسْتَثْنَى فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الِاسْتِثْنَاءُ يَقْتَضِي اتِّصَافَ الْمُسْتَثْنَى بِنَقِيضِ مَا حَكَمَ بِهِ للمستثنى مِنْهُ فَلِذَلِكَ كَثُرَ الِاكْتِفَاءُ بِالِاسْتِثْنَاءِ دُونَ أَنْ يُتْبَعَ بِذَكَرِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ لِلْمُسْتَثْنَى سَوَاءً كَانَ الْكَلَامُ مُثْبَتًا أَوْ مَنْفِيًّا. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ جَلِيًّا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ لَوْلَا إِفَادَةُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَثْبُتُ لَهُ نَقِيضُ مَا حَكَمَ بِهِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَكَانَتْ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ غَيْرَ مُفِيدَةٍ سِوَى نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَمَّا عَدَا اللَّهَ فَتَكُونُ إِفَادَتُهَا الْوَحْدَانِيَّةَ لِلَّهِ بِالِالْتِزَامِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ كَلَامٍ مَنْفِيٍّ يُثْبِتُ لِلْمُسْتَثْنَى نَقِيضَ مَا حَكَمَ بِهِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ كَلَامٍ مُثْبَتٍ لَا يُفِيدُ إِلَّا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَثْبُتُ لَهُ نَقِيضُ الْحُكْمِ لَا نَقِيضُ الْمَحْكُومِ بِهِ، فَالْمُسْتَثْنَى بِمَنْزِلَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْ وَصْفِهِ،
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فَذَكَّرَهُمْ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْجَاهِلِيَّةِ بِالْإِسْلَامِ، الَّذِي سَمَّاهُ نِعْمَةً كَمَا سَمَّاهُ بِذَلِكَ فِي قَوْله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آل عمرَان: ١٠٣] فَكَمَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِالِانْسِلَاخِ عَنْ تِلْكَ الضَّلَالَةِ، فَلَا تَرْجِعُوا إِلَيْهَا
بِالتَّعَاهُدِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.
وَقَوْلُهُ: وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى (نِعْمَةٍ)، وَجُمْلَةُ يَعِظُكُمْ بِهِ حَالٌ وَيَجُوزُ جَعْلُهُ مُبْتَدَأً وَجُمْلَة يَعِظُكُمْ خَبرا، وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ.
وَالْحِكْمَةُ: الْعِلْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ الْعِبْرَةُ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَإِدْرَاكُ مَصَالِحِ الدِّينِ، وَأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى، بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ حُكْمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الْبَقَرَة: ٢١٩، ٢٢٠] وَمَعْنَى إِنْزَالِ الْحِكْمَةِ أَنَّهَا كَانَتْ حَاصِلَةً مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى الْعِلَلِ، وَمِمَّا يَحْصُلُ أَثْنَاءَ مُمَارَسَةِ الدِّينِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْيِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ فَسَّرَ الْحِكْمَةَ بِالسَّنَةِ فَقَدْ فَسَّرَهَا بِبَعْضِ دَلَائِلِهَا. وَالْمَوْعِظَةُ وَالْوَعْظُ: النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِمَا يُلِينُ الْقُلُوبَ، وَيُحَذِّرُ الْمَوْعُوظَ.
وَقَوْلُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْكِيرٌ بِالتَّقْوَى وَبِمُرَاعَاةِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ تَنْزِيلًا لَهُمْ فِي حِينِ مُخَالَفَتِهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ لِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْهَلُ أَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ، فَإِنَّ الْعَلِيمَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ إِذَا عَلِمَ مُخَالَفَتَهُمْ لَا يَحُولُ بَيْنَ عِقَابِهِ وَبَيْنَهُمْ شَيْءٌ، لِأَنَّ هَذَا الْعَلِيم قدير.
[٢٣٢]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٣٢]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مُخَاطَبَةُ أَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ بِأَلَّا يَمْنَعُوهُنَّ مِنْ مُرَاجَعَةِ أَزْوَاجِهِنَّ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الْمُفَارِقِينَ بِإِمْسَاكِهِنَّ بِمَعْرُوفٍ وَرَغَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ، إِذْ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتِ الرَّغْبَةَ مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَتْ تَأْلَفُهُ وَتُعَاشِرُهُ لَمْ تَلْبَثْ أَنْ تَقْرِنَ رَغْبَتَهُ بِرَغْبَتِهَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ سَرِيعَةُ
وَجُمْلَةُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا إِدْمَاجُ التَّذْكِيرِ بالوحدانيّة لزِيَادَة تقرّرها وَإِغَاظَةِ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْإِعْرَاضُ عَنْ مُكَابَرَتِهِمْ وَأَذَاهُمْ لَا الْإِعْرَاضُ عَنْ دَعْوَتِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ الدَّعْوَةِ لِأَيِّ صِنْفٍ مِنَ النَّاسِ، وَكُلُّ آيَةٍ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّمَا هُوَ إِعْرَاضٌ عَنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَذَاهُمْ، أَلَا تَرَى كُلَّ آيَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ تَلَتْهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدْعُو الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الشِّرْكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣] : فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
وَهَذَا تَلَطُّفٌ مَعَ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِزَالَةٌ لِمَا يَلْقَاهُ مِنَ الْكَدَرِ مِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ وَقِلَّةِ إِغْنَاءِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَنُذُرِهِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَذَكَّرَهُ اللَّهُ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحَوِّلَ قُلُوبَهُمْ فَتَقْبَلَ الْإِسْلَامَ بِتَكْوِينٍ آخَرَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَحْصُلَ الْإِيمَانُ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِالْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ فِي الْإِرْشَادِ وَالِاهْتِدَاءِ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطِّيبِ وَتَظْهَرَ مَرَاتِبُ النُّفُوسِ فِي مَيَادِينِ التَّلَقِّي، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ تَخْتَلِفَ النُّفُوسُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ اخْتِلَافًا نَاشِئًا عَنِ اخْتِلَافِ كَيْفِيَّاتِ الْخِلْقَةِ وَالْخَلْقِ وَالنَّشْأَةِ وَالْقَبُولِ، وَعَنْ مَرَاتِبِ اتِّصَالِ الْعِبَادِ بِخَالِقِهِمْ وَرَجَائِهِمْ مِنْهُ. فَالْمُشْرِكُونَ بَلَغُوا إِلَى حَضِيضِ الشِّرْكِ بِأَسْبَابٍ وَوَسَائِلَ مُتَسَلْسِلَةٍ مُتَرَتِّبَةٍ خِلْقِيَّةٍ، وَخُلُقِيَّةٍ، وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، تَهَيَّأَتْ فِي أزمنة وأحوال هيّأتها لَهُمْ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الْمُرْشِدَ كَانَ إِصْغَاؤُهُمْ إِلَى إِرْشَادِهِ مُتَفَاوِتًا عَلَى تَفَاوُتِ صَلَابَةِ عُقُولِهِمْ فِي الضَّلَالِ وَعَرَاقَتِهِمْ فِيهِ، وَعَلَى تَفَاوُتِ إِعْدَادِ نُفُوسِهِمْ لِلْخَيْرِ وَجُمُوحِهِمْ عَنْهُ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ إِيمَانَ النَّاسِ حَاصِلًا بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَلَا بِتَبْدِيلِ خَلْقِ الْعُقُولِ، وَهَذَا هُوَ الْقَانُونُ فِي مَعْنَى مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَهَذَا مَعْنَى انْتِفَاءِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُرَادِ بِهِ تَطْمِينُ قَلْبِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَتَذْكِيرُهُ بِحَقَائِقِ الْأَحْوَالِ وَلَيْسَ فِي مِثْلِ هَذَا عُذْرٌ لَهُمْ
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمُ ابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ لِلِانْقِطَاعِ عَنْ جَمَاعَاتِ الشِّرْكِ مِنَ الْيُونَانِ وَالرُّومِ وَعَنْ بَطْشِ الْيَهُودِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ ذَلِكَ طَلَبٌ لِرِضْوَانِ اللَّهِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الْكَهْفِ: ١٦].
وَفِي الْحَدِيثِ: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتَتَبَّعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ»
، وَعَلِيهِ فَيكون تَركهم التَّزَوُّجُ عَارِضًا اقْتَضَاهُ الِانْقِطَاعُ عَنِ الْمُدُنِ وَالْجَمَاعَاتِ فَظَنَّهُ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ أَصْلًا مِنْ أَصُولِ الرَّهْبَانِيَّةِ.
وَأَمَّا تَرْكُ الْمَسِيحِ التَّزَوُّجَ فَلَعَلَّهُ لِعَارِضٍ آخَرَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لِأَجْلِهِ، وَلَيْسَ تَرْكُ التَّزَوُّج من شؤون النُّبُوءَةِ فَقَدْ كَانَ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ أَزْوَاجٌ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً [الرَّعْد: ٣٨].
وَقِيلَ: إِنَّ ابْتِدَاعَهُمُ الرَّهْبَانِيَّةَ بِأَنَّهُمْ نَذَرُوهَا لِلَّهِ وَكَانَ الِانْقِطَاعُ عَنِ اللَّذَائِذِ وَإِعْنَاتِ النَّفْسِ مِنْ وُجُوهِ التَّقَرُّبِ فِي بِعْضِ الشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ بَقِيَتْ إِلَى أَنْ أَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ
فِي حَدِيثِ النُّذُرِ فِي «الْمُوَطَّأِ» «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ صَامِتًا فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: نَذَرَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَأَنْ يَصُومَ يَوْمَهُ فَقَالَ: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وليستظل وليتمّ صَوْمه إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ»
. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٢٦] قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا وَلَا تَنَافِي بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ أَسْبَابَ الرهبانية قد تَتَعَدَّد بِاخْتِلَافِ الْأَدْيَانِ.
وَقَدْ فُرِّعَ عَلَى قَوْلِهِ: ابْتَدَعُوها وَمَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ وَمَا بَعْدَهُ قَوْلُهُ: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أَيْ فَتَرَتَّبَ عَلَى الْتِزَامِهِمُ الرَّهْبَانِيَّةَ أَنَّهُمْ، أَيِ الْمُلْتَزِمِينَ لِلرَّهْبَانِيَّةِ مَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ جَمِيعَهُمْ قَصَّرُوا تَقْصِيرًا مُتَفَاوِتًا، قَصَّرُوا فِي أَدَاءِ حَقِّهَا، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَا يَكْتُبُهُ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مِنَ التَّكَالِيفِ لَا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ الْعَمَلُ بِهِ.
وَالرَّعْيُ: الْحِفْظُ، أَيْ مَا حَفِظُوهَا حَقَّ حِفْظِهَا، وَاسْتُعِيرَ الْحِفْظُ لْاسْتِيفَاءِ مَا تَقْتَضِيهِ مَاهِيَّةُ الْفِعْلِ، فَالرَّهْبَانِيَّةُ تَحُومُ حَوْلَ الْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّذَائِذِ الزَّائِلَةِ وَإِلَى التعود بِالصبرِ عَلَى تَرْكِ الْمَحْبُوبَاتِ لِئَلَّا يَشْغَلَهُ اللَّهْوُ بِهَا عَنِ الْعِبَادَةِ وَالنَّظَرِ فِي آيَاتِ
وَبِنَاءُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِاعْتِبَارُ بِحُصُولِ الْفِعْلِ لَا بِتَعْيِينِ فَاعِلِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ فَاعِلَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.
وَجُمْلَةُ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ عَطْفٌ عَلَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهِيَ تَقْيِيدٌ لِوَقْتٍ حَادِثٍ يَحْصُلُ وَهِيَ مِمَّا جُعِلَ مَضْمُونُهَا عَلَامَةً عَلَى وُقُوعِ مَا يُوعَدُونَ بِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُهَا مُسْتَقْبَلَ الْحُصُولِ وَفِي نَظْمِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ غُمُوضٌ وَدِقَّةٌ. فَأَمَّا أُقِّتَتْ فَأَصْلُهُ وُقِّتَتْ بِالْوَاوِ فِي أَوَّلِهِ، يُقَالُ: وَقَّتَ وَقْتًا، إِذَا عَيَّنَ وَقْتًا لِعَمَلٍ مَا، مُشْتَقًّا مِنَ الْوَقْتِ وَهُوَ الزَّمَانُ، فَلَمَّا بُنِيَ لِلْمَجْهُولِ ضُمَّتِ الْوَاوُ وَهُوَ ضَمٌّ لَازِمٌ احْتِرَازًا مِنْ ضَمَّةِ وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢٣٧] لِأَنَّ ضَمَّةَ الْوَاوِ ضَمَّةٌ عَارِضَةٌ، فَجَازَ إِبْدَالُهَا هَمْزَةً لِأَنَّ الضَّمَّ عَلَى الْوَاوِ ثَقِيلٌ فَعَدَلَ عَنِ الْوَاوِ إِلَى الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ أُقِّتَتْ بِهَمْزَةٍ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِالْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِالْوَاوِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ.
وَشَأْنُ إِذا أَنْ تَكُونَ لِمُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ فَهَذَا التأْقِيتُ لِلرُّسُلِ تَوْقِيتٌ سَيَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ مَا يُوعَدُونَ يَحْصُلُ مَعَ الْعَلَامَاتِ الْأُخْرَى.
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ أُقِّتَتْ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَقْتِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِ هَذَا الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: جُعِلَتْ وَقْتًا، وَهُوَ أَصْلُ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مَرْفُوعِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى: وُقِّتَ لَهَا وَقْتٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذف والإيصال.
وَإِذ كَانَ إِذَا ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ وَكَانَ تَأْجِيلُ الرُّسُلِ قَدْ حَصَلَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ أُقِّتَتْ عَلَى مَعْنَى: حَانَ وَقْتُهَا، أَيِ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ لِلرُّسُلِ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ يُنْذِرُوا أُمَمَهُمْ بِأَنَّهُ يَحِلُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، وَذَلِكَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ فَإِنَّ التَّأْجِيلَ يُفَسِّرُ التَّوْقِيتَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ فِي مَحْمَلِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أُقِّتَتْ: جُمِعَتْ أَيْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [الْمَائِدَة: ١٠٩]، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ أُقِّتَتْ أُجِّلَتْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أَيْ جُعِلَ يَوْمُ الدِّينِ وَالْفَصْلِ لَهَا وَقْتًا.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى «وُقِّتَتْ» بَلَغَتْ مِيقَاتَهَا الَّذِي
السَّامِعِينَ حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى تَأْكِيدِهِ بِالْقَسَمِ وَيَدُلَّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [التِّين: ٦] لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَثَرُ التَّقْوِيمِ لِعَقْلِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يُلْهِمُهُ السَّيْرَ فِي أَعْمَالِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَقْوَمِ، وَمُعَامَلَةَ بَنِي نَوْعِهِ السَّالِمِينَ مِنْ عَدَائِهِ مُعَامَلَةَ الْخَيْرِ مَعَهُمْ عَلَى حَسَبِ تَوَافُقِهِمْ مَعَهُ فِي الْحَقِّ فَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ إِذَا سَلِمَ مِنْ عَوَارِضَ عَائِقَةٍ مِنْ بَعْضِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْرِضُ لَهُ وَهُوَ جَنِينٌ إِمَّا مِنْ عَاهَةٍ تَلْحَقُهُ لِمَرَضِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ، أَوْ لِفَسَادِ هَيْكَلِهِ مِنْ سَقْطَةٍ أَوْ صَدْمَةٍ فِي حَمْلِهِ، وَمَا يَعْرِضُ لَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ مِنْ دَاءٍ مُعْضِلٍ يَعْرِضُ لَهُ يَتْرُكُ فِيهِ اخْتِلَالَ مِزَاجِهِ فَيُحَرِّفُ شَيْئًا مِنْ فِطْرَتِهِ كَحَمَاقَةِ السَّوْدَاوِيِّينَ وَالسُّكَّرِيِّينَ أَوْ خَبَالِ الْمُخْتَبَلِينَ، وَمِمَّا يُدْخِلُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَسَاوِي الْعَادَاتِ كَشُرْبِ الْمُسْكِرَاتِ وَتَنَاوُلِ الْمُخَدِّرَاتِ مِمَّا يُورِثُهُ عَلَى طُولٍ انْثِلَامَ تَعَقُّلِهِ أَوْ خَوَرَ عَزِيمَتِهِ.
وَالَّذِي نَأْخُذُهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ عَلَى حَالَةِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّوْعَ لِيَتَّصِفَ بِآثَارِهَا، وَهِيَ الْفِطْرَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ الْكَامِلَةُ فِي إِدْرَاكِهِ إِدْرَاكًا مُسْتَقِيمًا مِمَّا يَتَأَدَّى مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ الصَّادِقَةِ، أَيِ الْمُوَافِقَةُ لِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بِسَبَبِ سَلَامَةِ مَا تُؤَدِّيهِ الْحَوَاسُّ السَّلِيمَةُ، وَمَا يَتَلَقَّاهُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ مِنْ ذَلِكَ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ الْمُنْتَظِمَيْنِ، بِحَيْثُ لَوْ جَانَبَتْهُ التَّلْقِينَاتُ الضَّالَّةُ وَالْعَوَائِدُ الذَّمِيمَةُ وَالطَّبَائِعُ الْمُنْحَرِفَةُ وَالتَّفْكِيرُ الضَّارُّ، أَوْ لَوْ تَسَلَّطَتْ عَلَيْهِ تَسَلُّطًا مَا فَاسْتَطَاعَ دِفَاعَهَا عَنْهُ بِدَلَائِلِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، لَجَرَى فِي جَمِيع شؤونه عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَلَمَا صَدَرَتْ مِنْهُ إِلَّا الْأَفْعَالُ الصَّالِحَةُ
وَلَكِنَّهُ قَدْ يَتَعَثَّرُ فِي ذُيُولِ اغْتِرَارِهِ وَيُرْخِي الْعِنَانَ لِهَوَاهُ وَشَهْوَتِهِ، فَتَرْمِي بِهِ فِي الضَّلَالَاتِ، أَوْ يَتَغَلَّبُ عَلَيْهِ دُعَاةُ الضَّلَالِ بِعَامِلِ التَّخْوِيفِ أَوِ الْإِطْمَاعِ فَيُتَابِعُهُمْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَسْتَحْكِمَ فِيهِ مَا تَقَلَّدَهُ فَيَعْتَادُهُ وَيَنْسَى الصَّوَابَ وَالرُّشْدَ.
وَيُفَسِّرُ هَذَا الْمَعْنَى
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ثُمَّ يَكُونُ أَبَوَاهُ هُمَا اللَّذَانِ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»
الْحَدِيثَ ذَلِكَ أَنَّ أَبَوَيْهِ هُمَا أَوَّلُ مَنْ يَتَوَلَّى تَأْدِيبَهُ وَتَثْقِيفَهُ وَهُمَا أَكْثَرُ النَّاسِ مُلَازَمَةً لَهُ فِي صِبَاهُ، فَهُمَا اللَّذَانِ يُلْقِيَانِ فِي نَفْسِهِ الْأَفْكَارَ الْأَوْلَى، فَإِذَا سَلِمَ مِنْ تَضْلِيلِ أَبَوَيْهِ فَقَدْ سَارَ بِفِطْرَتِهِ شَوْطًا ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْضَةٌ لِعَدِيدٍ مِنَ الْمُؤَثِّرَاتِ فِيهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ،