فَالْحِكْمَةُ وَإِنْ كَانَتْ عِلْمًا اصْطِلَاحِيًّا وَلَيْسَ هُوَ تَمَامَ الْمَعْنَى لِلْآيَةِ إِلَّا أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْأَصْلِيَّ لَا يَفُوتُ وَتَفَارِيعُ الْحِكْمَةِ تُعِينُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَنْ نَأْخُذَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ [الْحَشْر: ٧] تَفَاصِيلَ مِنْ عِلْمِ الِاقْتِصَادِ السِّيَاسِيِّ وَتَوْزِيعِ الثَّرْوَةِ الْعَامَّةِ وَنُعَلِّلَ بِذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةَ الزَّكَاةِ وَالْمَوَارِيثِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ رَأْسِ مَالٍ وَعَمَلٍ عَلَى أَن ذَلِك تومىء إِلَيْهِ الْآيَةُ إِيمَاءً. وَأَنَّ بَعْضَ مَسَائِلِ الْعُلُومِ قَدْ تَكُونُ أَشَدَّ تَعَلُّقًا بِتَفْسِيرِ آيِ الْقُرْآنِ كَمَا نَفْرِضُ مَسْأَلَةً كَلَامِيَّةً لِتَقْرِيرِ دَلِيلٍ قُرْآنِيٍّ مِثْلَ بُرْهَانِ
التَّمَانُعِ لِتَقْرِيرِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاء: ٢٢] وَكَتَقْرِيرِ مَسْأَلَةِ الْمُتَشَابِهِ لِتَحْقِيقِ مَعْنًى نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: ٤٧] فَهَذَا كَوْنُهُ مِنْ غَايَاتِ التَّفْسِيرِ وَاضِحٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: ٦] فَإِنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الِاعْتِبَارُ بِالْحَالَةِ الْمُشَاهَدَةِ فَلَوْ زَادَ الْمُفَسِّرُ فَفَصَّلَ تِلْكَ الْحَالَةَ وَبَيَّنَ أَسْرَارَهَا وَعَلَّلَهَا بِمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي علم الهيأة كَانَ قد زَاد الْمَقْصُود خِدْمَةً.
وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْمَعْنَى الْقُرْآنِيِّ وَبَيْنَ الْمَسَائِلِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْعِلْمِ حَيْثُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ. وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِرْوَاحِ مِنَ الْآيَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الْكَهْف: ٤٧] أَنَّ فَنَاءَ الْعَالَمِ يَكُونُ بِالزَّلَازِلِ، وَمِنْ قَوْلِهِ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: ١] الْآيَةَ أَنَّ نِظَامَ الْجَاذِبِيَّةِ يَخْتَلُّ عِنْدَ فَنَاءِ الْعَالَمِ. وَشَرْطُ كَوْنِ ذَلِكَ مَقْبُولًا أَنْ يَسْلُكَ فِيهِ مَسْلَكَ الْإِيجَازِ فَلَا يَجْلِبُ إِلَّا الْخُلَاصَةَ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَلَا يَصِيرُ الِاسْتِطْرَادُ كَالْغَرَضِ الْمَقْصُودِ لَهُ لِئَلَّا يَكُونَ كَقَوْلِهِمْ السِّيُّ بِالسِّيِّ يُذْكَرُ (١).
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي سُلُوكِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى الْإِجْمَالِ آرَاءٌ، فَأَمَّا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَيَرَوْنَ مِنَ الْحَسَنِ التَّوْفِيقَ بَيْنَ الْعُلُومِ غَيْرِ الدِّينِيَّةِ وَآلَاتِهَا وَبَيْنَ الْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةِ، وَيَرَوْنَ الْقُرْآنَ مُشِيرًا إِلَى كَثِيرٍ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ فِي «فَصْلِ الْمَقَالِ» :«أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ لَيْسَ يَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ أَلْفَاظُ الشَّرْعِ كُلُّهَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا أَنْ تَخْرُجَ كُلُّهَا عَنْ ظَاهِرِهَا بِالتَّأْوِيلِ، وَالسَّبَبُ فِي وُرُودِ الشَّرْعِ بِظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ هُوَ اخْتِلَافُ نَظَرِ النَّاسِ وَتَبَايَنُ قَرَائِحِهِمْ فِي التَّصْدِيقِ»
_________
(١) السي: بسين مُهْملَة مَكْسُورَة وتحتية مُشَدّدَة النظير والمثيل.
وَضَمِيرُ هوَ عَائِدٌ لِلْمُضَافِ إِلَيْهِ (كُلٍّ) الْمَحْذُوفِ.
وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِمُوَلِّيهَا مَحْذُوفٌ إِذِ التَّقْدِيرُ هُوَ مُوَلِّيهَا نَفْسَهُ أَوْ وَجْهَهُ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [الْبَقَرَة: ١٤٢] وَالْمَعْنَى هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهَا وملازم لَهَا.
وَقِرَاءَة الْجُمْهُورُ «مُوَلِّيهَا» بِيَاءٍ بَعْدَ اللَّامِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ «هُوَ مُوَلَّاهَا» بِأَلْفٍ بَعْدَ اللَّامِ
بِصِيغَةِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ أَيْ يُوَلِّيهِ إِيَّاهَا مُوَلٍّ وَهُوَ دِينُهُ وَنَظَرُهُ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوِجْهَةِ الْقِبْلَةُ فَاسْتَبِقُوا أَنْتُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَهُوَ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ لِكُلِّ أُمَّةٍ قِبْلَةٌ فَلَا سَبِيلَ إِلَى اجْتِمَاعِكُمْ عَلَى قِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْزَمُوا قِبْلَتَكُمُ الَّتِي هِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّكُمْ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ هَيْكَلُ قِبْلَةٍ فَلَا سَبِيلَ إِلَى اجْتِمَاعِكُمْ عَلَى قِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْزَمُوا قِبْلَتَكُمُ الَّتِي هِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّكُمْ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ لِكُلِّ قَوْمٍ قِبْلَةٌ فَلَا يَضُرُّكُمْ خِلَافُهُمْ وَاتْرُكُوهُمْ وَاسْتَبِقُوا إِلَى الْخَيْرَاتِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جِهَةٌ مِنَ الْكَعْبَةِ سَيَسْتَقْبِلُونَهَا. وَمَعَانِي الْقُرْآنِ تُحْمَلُ عَلَى أَجْمَعِ الْوُجُوهِ وأشملها.
وَقَوله: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
تَفْرِيعٌ لِلْأَمْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْ لَمَّا تَعَدَّدَتِ الْمَقَاصِدُ.
فَالْمُنَافَسَةُ تَكُونُ فِي مُصَادَفَةِ الْحَقِّ.
وَالِاسْتِبَاقُ افْتِعَالٌ وَالْمُرَادُ بِهِ السَّبْقُ وَحَقُّهُ التَّعْدِيَةُ بِاللَّامِ إِلَّا أَنَّهُ تُوُسِّعَ فِيهِ فَعُدِّيَ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ [يُوسُف: ٢٥] أَوْ عَلَى تَضْمِينِ اسْتَبِقُوا مَعْنَى اغْتَنِمُوا. فَالْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِبَاقِ هُنَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الْحِرْصُ عَلَى مُصَادَفَةِ الْخَيْرِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ والخيرات جَمْعُ خَيْرٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا قَالُوا سُرَادِقَاتٍ وَحَمَّامَاتٍ. وَالْمُرَادُ عُمُومُ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا فَإِنَّ الْمُبَادَرَةَ إِلَى الْخَيْرِ مَحْمُودَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ الْمُبَادَرَةُ بِالتَّوْبَةِ خشيَة هاذم اللَّذَّاتِ وَفَجْأَةِ الْفَوَاتِ قَالَ تَعَالَى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمرَان: ١٣٣]، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الْوَاقِعَة: ١٠- ١٢] وَمِنْ ذَلِكَ فَضِيلَةُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الْحَدِيد: ١٠] وَقَالَ مُوسَى: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طه: ٨٤].
وَقَوله: يْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
جُمْلَةٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِلْأَمْرِ بِاسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ وَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تُعْطَفُ إِذْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، وَالْمَعْنَى فَاسْتَبِقُوا إِلَى الْخَيْرِ لِتَكُونُوا مَعَ الَّذِينَ يَأْتِي بِهِمُ اللَّهُ لِلرَّفِيقِ الْحَسَنِ لِأَنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالنَّاسِ جَمِيعًا خَيْرِهِمْ وَشَرِّهِمْ

شَهِدْنَ مَعَ النَّبِيءِ مَسُوَّمَاتٍ حُنَيْنًا وَهْيَ دَامِيَةُ الْحَوَامِي
وَوَقْعَةَ خَالِدٍ شَهِدَتْ وَحَكَّتْ سَنَابِكَهَا عَلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ
وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ يَتَمَدَّحُ بِمَوَاقِعِ قَوْمِهِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ:
حَتَّى إِذَا قَالَ النَّبِيءُ مُحَمَّدٌ أَبَنِي سُلَيْمٍ قَدْ وَفَيْتُمْ فَارْجِعُوا
عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَّعُوا
وَالْأَذَى هُوَ أَن يُؤْذِي الْمُنفق مَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِإِسَاءَةٍ فِي الْقَوْلِ أَوْ فِي الْفِعْلِ قَالَ النَّابِغَةُ:
عَلَيَّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ لِوَالِدِهِ لَيْسَتْ بِذَاتِ عَقَارِبِ
فَالْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ أَنْ يَكُونَ إِنْفَاقُ الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُرَادًا بِهِ نَصْرُ الدِّينِ وَلَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ، فَذَلِكَ هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِنْفَاقِ وَهُوَ الْمَوْعُودُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْأَجْرِ الْجَزِيلِ، وَدُونَ ذَلِكَ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ تَتَفَاوَت أحوالها.
[٢٦٣، ٢٦٤]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ٢٦٣ إِلَى ٢٦٤]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)
تَخَلَّصَ مِنْ غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى التَّنْوِيهِ بِضَرْبٍ آخَرَ مِنَ الْإِنْفَاقِ وَهُوَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْمَحَاوِيجِ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ الصَّدَقَاتُ. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِلصَّدَقَةِ إِلَّا أَنَّهَا تَخْطُرُ بِالْبَالِ عِنْدَ ذِكْرِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَمَّا وَصَفَ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِصِفَةِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا [الْبَقَرَة: ٢٦٢] الْآيَةَ انْتَقَلَ بِمُنَاسَبَةِ ذَلِكَ إِلَى طَرْدِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ فَإِنَِِّ
وَالْمُخَاطَبُ بِهِ يَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ مَعَ أنّه لَا شَكَّ فِي أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ يَعُمُّ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ: إِمَّا بِطَرِيقِ اللَّفْظِ، وَإِمَّا بِطَرِيقِ لَحْنِ الْخِطَابِ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْحَالَةُ الشَّبِيهَةُ بِحَالِ الَّذِينَ تفرّقوا وَاخْتلفُوا.
وَأُرِيد بالّذين تفرّقوا وَاخْتلفُوا الّذين اخْتلفُوا فِي أُصُولِ الدِّينِ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَانِعَةِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالِافْتِرَاقِ. وَقُدِّمَ الِافْتِرَاقُ عَلَى
الِاخْتِلَافِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ عِلَّةُ التَّفَرُّقِ وَهَذَا مِنَ الْمُفَادَاتِ الْحَاصِلَةِ مِنْ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ وَذِكْرِ الْأَشْيَاء مَعَ مقارناتها، وَفِي عَكْسِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة:
٢٨٢].
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَذْمُومَ وَالَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الِافْتِرَاقِ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى تَكْفِيرِ بَعْضِ الْأُمَّةِ بَعْضًا، أَوْ تَفْسِيقِهِ، دُونَ الِاخْتِلَافِ فِي الْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ فِي الْأَقْطَارِ وَالْأَعْصَارِ، وَهُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ. وَنَحْنُ إِذَا تَقَصَّيْنَا تَارِيخَ الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا نَجِدُ افْتِرَاقًا نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا عَنِ اخْتِلَافٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأُصُولِ، دُونَ الِاخْتِلَافِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
وَالْبَيِّنَاتُ: الدَّلَائِلُ الَّتِي فِيهَا عِصْمَةٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الِاخْتِلَافِ لَوْ قُيِّضَتْ لَهَا أَفْهَامٌ.
وَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ مُقَابِلَ قَوْلِهِ فِي الْفَرِيقِ الْآخَرِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ، وَهَذَا جَزَاء لَهُم عَلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ وَعَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي تجنّب أَسبَابه.
[١٠٦، ١٠٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٠٦ إِلَى ١٠٧]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
وَمَعْنَى تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ تَخَافُونَ عَوَاقِبَهُ السَّيِّئَةَ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ النُّشُوزُ مَعَ مَخَائِلِ قَصْدِ الْعِصْيَانِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَيْهِ لَا مُطْلَقُ الْمُغَاضَبَةِ أَوْ عَدَمُ الِامْتِثَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْهُ حَالُ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّ الْمُغَاضَبَةَ وَالتَّعَاصِيَ يَعْرِضَانِ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَيَزُولَانِ، وَبِذَلِكَ يَبْقَى مَعْنَى الْخَوْفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ تَوَقُّعِ حُصُولِ مَا يَضُرُّ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْوَعْظِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ مَرَاتِبَ بِمِقْدَارِ الْخَوْفِ مِنْ هَذَا النُّشُوزِ وَالْتِبَاسِهِ بِالْعُدْوَانِ وَسُوءِ النِّيَّةِ.
وَالْمُخَاطَبُ بِضَمِيرِ تَخافُونَ إِمَّا الْأَزْوَاجُ، فَتَكُونُ تَعْدِيَةُ (خَافَ) إِلَيْهِ عَلَى أَصْلِ تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ، نَحْوَ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ [آل عمرَان: ١٧٥] وَيَكُونُ إِسْنَادُ فَعِظُوهُنَّ- وَاهْجُرُوهُنَّ- وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَى حَقِيقَتِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ مَجْمُوعَ مَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْعَمَلِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْأَزْوَاجِ فَيَتَوَلَّى كُلُّ فَرِيقٍ مَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
[٢٢٩] وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ إِلَخ. فخاطب (لَكُمْ) لِلْأَزْوَاجِ، وَخِطَابُ فَإِنْ خِفْتُمْ [الْبَقَرَة:
٢٢٩] لِوُلَاةِ الْأُمُورِ، كَمَا فِي «الْكَشَّافِ». قَالَ: وَمِثْلُ ذَلِكَ غَيْرُ عَزِيزٍ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ. يُرِيدُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّفِّ [١١- ١٣] : تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ:
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ جَعَلَ (وَبَشِّرِ) عَطْفًا عَلَى (تُؤْمِنُونَ) أَيْ فَهُوَ خِطَابٌ لِلْجَمِيعِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنَ الرَّسُولِ خُصَّ بِهِ. وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ أَخَذَ عَطَاءٌ إِذْ قَالَ: لَا يَضْرِبُ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ وَلَكِنْ يَغْضَبُ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا مِنْ فِقْهِ عَطَاءٍ وَفَهْمِهِ الشَّرِيعَةَ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَظَانِّ الِاجْتِهَادِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالضَّرْبِ هُنَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَوَقَفَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى كَقَوْل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ». وَأَنَا أَرَى لِعَطَاءٍ نَظَرًا أَوْسَعَ مِمَّا رَآهُ لَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ أَنَّهُ وَضَعَ هَاتِهِ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، قَالَ ابْنُ الْفُرْسِ: وَأَنْكَرُوا الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ بِالضَّرْبِ. وَأَقُولُ: أَوْ تَأَوَّلُوهَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِذْنَ بِالضَّرْبِ لِمُرَاعَاةِ أَحْوَالٍ دَقِيقَةٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَأَذِنَ لِلزَّوْجِ بِضَرْبِ امْرَأَتِهِ ضَرْبَ إِصْلَاحٍ لِقَصْدِ إِقَامَةِ الْمُعَاشَرَةِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ تَجَاوَزَ مَا تَقْتَضِيهِ حَالَةُ نُشُوزِهَا كَانَ مُعْتَدِيًا.
وَلِذَلِكَ يَكُونُ الْمَعْنَى وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ أَيْ تَخَافُونَ سُوءَ مَغَبَّةِ نُشُوزِهِنَّ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنَّ النُّشُوزَ رُفِعَ إِلَيْهِمْ بِشِكَايَةِ الْأَزْوَاجِ، وَأَنَّ إِسْنَادَ فَعِظُوهُنَّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَمَّا إِسْنَادُ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ فَعَلَى مَعْنَى إِذْنِ الْأَزْوَاجِ بِهِجْرَانِهِنَّ، وَإِسْنَادُ وَاضْرِبُوهُنَّ كَمَا عَلِمْتَ.
الِانْسِيَاقَ الضَّرُورِيَّ مَفْقُودٌ عِنْدَهُ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْوُجُوبُ غَيْرَ شَرْعِيٍّ، وَلَا عَقْلِيٍّ نَظَرِيٍّ، بَلْ هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهَا فَلَا عَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْمُؤَاخَذَةُ بِتَعَمُّدِ مُخَالَفَتِهَا.
وَثَانِي الْجَوَابَيْنِ: بِالتَّسْلِيمِ، غَيْرَ أَنَّ مَا وَقَرَ فِي جِبِلَّةِ الْبَشَرِ مِنِ اسْتِطْلَاعِ الْحَوَادِثِ وَالْأَخْبَارِ الْجَدِيدَةِ، وَالْإِصْغَاءِ لِكُلِّ صَاحِبِ دَعْوَةٍ، أَمْرٌ يَحْمِلُ كُلَّ مَنْ دَعَاهُ الرَّسُولُ إِلَى الدِّينِ عَلَى أَنْ يَسْتَمِعَ لِكَلَامِهِ، وَيَتَلَقَّى دَعْوَتَهُ وَتَحَدِّيَهُ وَمُعْجِزَتَهُ، فَلَا يَشْعُرُ إِلَّا وَقَدْ سَلَكَتْ دَعْوَتُهُ إِلَى نَفْسِ الْمَدْعُوِّ، فَحَرَّكَتْ فِيهِ دَاعِيَةَ النَّظَرِ، فَهُوَ يَنْجَذِبُ إِلَى تَلَقِّي الدَّعْوَةِ، رُوَيْدًا رُوَيْدًا، حَتَّى يَجِدَ نَفْسَهُ قَدْ وَعَاهَا وَعَلِمَهَا عِلْمًا لَا يَسْتَطِيعُ بَعْدَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لَا أَنْظُرُ الْمُعْجِزَةَ، أَوْ لَا أُصْغِي إِلَى الدَّعْوَةِ. فَإِنْ هُوَ أَعْرَضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَارَ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، فَكَانَ مُؤَاخَذًا، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَحَدًا مَرَّ بِرَسُولٍ يَدْعُو فَشَغَلَهُ شَاغِلٌ عَنْ تَعَرُّفِ أَمْرِهِ وَالْإِصْغَاءِ لِكَلَامِهِ وَالنَّظَرِ فِي أَعْمَالِهِ، لَسَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُخَاطِبًا، وَأَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ وَأَمْثَالَهُ إِذَا أَفْحَمَ الرَّسُولَ لَا تَتَعَطَّلُ الرِّسَالَةُ، وَلَكِنَّهُ خَسِرَ هَدْيَهُ، وَسَفَّهَ نَفْسَهُ.
وَلَا يَرِدُ عَلَيْنَا أَنَّ مَنْ سَمِعَ دَعْوَةَ الرَّسُولِ فَجَعَلَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَأَعْرَضَ هَارِبًا حِينَئِذٍ، لَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وُجُوبُ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ هَذَا مَا صَنَعَ صُنْعَهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ تَهَيَّأَ لِتَوَجُّهِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ إِذَا سَمِعَ فَعَصَى، وَكَفَى بِهَذَا شُعُورًا مِنْهُ بِتَوَجُّهِ التَّكْلِيفِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ مُؤَاخَذًا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ نُوحٍ: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ- أَيْ إِلَى الْإِيمَانِ- لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نوح: ٧].
وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: بَعْدَ الرُّسُلِ دُونَ أَنْ يُقَالَ: بَعْدَهُمْ، لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَاهَا حَتَّى تَسِيرَ مِسْرَى الْأَمْثَالِ.
وَمُنَاسَبَةُ التَّذْيِيلِ بِالْوَصْفَيْنِ فِي قَوْلِهِ: عَزِيزاً حَكِيماً: أَمَّا بِوَصْفِ الْحَكِيمِ فَظَاهِرَةٌ،
وَالصَّيْدُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُصَادَ وَيُقْتَلَ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ لِأَكْلِهِ أَوِ الِانْتِفَاعِ بِبَعْضِهِ. وَيُلْحَقُ بِالصَّيْدِ الْوُحُوشُ كُلُّهَا. قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: وَالْوُحُوشُ تُسَمَّى صَيْدًا وَإِنْ لَمْ تُصَدْ بَعْدُ، كَمَا يُقَالُ: بِئْسَ الرَّمِيَّةُ الْأَرْنَبُ، وَإِنْ لَمْ تُرْمَ بَعْدُ. وَخُصَّ مِنْ عُمُومِهِ مَا هُوَ مُضِرٌّ، وَهِيَ السِّبَاعُ الْمُؤْذِيَةُ وَذَوَاتُ السُّمُومِ وَالْفَأْرُ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ. وَدَلِيلُ التَّخْصِيصِ السُّنَّةُ.
وَقَصْدُ الْقَتْلِ تَبَعٌ لِتَذَكُّرِ الصَّائِدِ أَنَّهُ فِي حَالِ إِحْرَامٍ، وَهَذَا مَوْرِدُ الْآيَةِ، فَلَوْ نَسِيَ أَنَّهُ مُحْرِمٌ فَهُوَ غَيْرُ مُتَعَمَّدٍ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَهُ فَأَصَابَهُ فَهُوَ غَيْرُ مُتَعَمِّدٍ. وَلَا وَجْهَ وَلَا دَلِيلَ لِمَنْ تَأَوَّلَ التَّعَمُّدَ فِي الْآيَةِ بِأَنَّهُ تَعَمُّدُ الْقَتْلِ مَعَ نِسْيَانِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حُرُمٌ جَمْعُ حَرَامٍ، بِمَعْنَى مُحْرِمٍ، مِثْلُ جَمْعِ قَذَالٍ عَلَى قُذُلٍ، وَالْمُحْرِمُ أَصْلُهُ الْمُتَلَبِّسُ بِالْإِحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. وَيُطْلَقُ الْمُحْرِمُ عَلَى الْكَائِنِ فِي الْحَرَمِ.
قَالَ الرَّاعِي:
قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا أَيْ كَائِنًا فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ. فَأَمَّا الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَهُوَ مَعْلُومٌ، وَأَمَّا الْحُصُولُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ الْحُلُولُ فِي مَكَانِ الْحَرَمِ مِنْ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ. وَزَادَ الشَّافِعِيُّ الطَّائِفُ فِي حُرْمَةِ صَيْدِهِ لَا فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى صَائِدِهِ. فَأَمَّا حَرَمُ مَكَّةَ فَيَحْرُمُ صَيْدُهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَفِي صَيْدِهِ الْجَزَاءُ. وَأَمَّا حَرَمُ الْمَدِينَةِ فَيَحْرُمُ صَيْدُهُ وَلَا جَزَاءَ فِيهِ، وَمِثْلُهُ الطَّائِفُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.
وَحَرَمُ مَكَّةَ مَعْلُومٌ بِحُدُودٍ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْحَرَمُ الَّذِي حَرَّمَهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَوُضِعَتْ بِحُدُودِهِ عَلَامَاتٌ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَأَمَّا حَرَمُ الْمَدِينَةِ
فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ مَا بَيْنِ عَيْرٍ أَوْ عَائِرٍ (جَبَلٌ) إِلَى ثَوْرٍ».
قِيلَ: هُوَ جَبَلٌ وَلَا يُعْرَفُ ثَوْرٌ إِلَّا فِي مَكَّةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَكْثَرُ الرُّوَاةِ فِي كِتَابِ «الْبُخَارِيِّ» ذَكَرُوا عَيْرًا، وَأَمَّا ثَوْرٌ فَمِنْهُمْ مَنْ كَنَّى عَنْهُ فَقَالَ: مِنْ عَيْرِ إِلَى كَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ مَكَانَهُ بَيَاضًا لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا ذِكْرَ ثَوْرٍ هُنَا خَطَأً. وَقِيلَ: إِنَّ الصَّوَابَ إِلَى أُحُدٍ كَمَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ. وَقِيلَ: ثَوْرٌ جَبَلٌ صَغِيرٌ وَرَاءَ جَبَلِ أُحُدٍ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ إِلَخْ، (مَنْ) اسْمُ شَرْطٍ مُبْتَدَأٌ، وقَتَلَهُ فِعْلُ الشَّرْطِ، ومِنْكُمْ
فِي شَرْحِهِ عَلَى «مُشْكِلِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ». وَجَعَلَ مِنْهُ
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً»
عَلَى رِوَايَةِ إِنْ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- دُونَ رِوَايَةِ- فتح الْهمزَة-.
[١٢٢]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٢٢]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢)
الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً عَاطِفَةٌ لِجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى جُمْلَةِ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: ١٢٢] لِتَضَمُّنِ قَوْلِهِ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أَنَّ الْمُجَادَلَةَ، الْمَذْكُورَةَ مِنْ قَبْلُ، مُجَادَلَةٌ فِي الدِّينِ: بِتَحْسِينِ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَتَقْبِيحِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الَّتِي مِنْهَا: تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ، وَتَحْرِيمُ مَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَلَمَّا حَذَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَسَائِسِ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ وَمُجَادَلَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: ١٢١] أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَفْظِيعِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَوَصْفِ حُسْنِ حَالَةِ الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَارَقُوا الشِّرْكَ، فَجَاءَ بِتَمْثِيلَيْنِ لِلْحَالَتَيْنِ، وَنَفَى مُسَاوَاةَ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى: تَنْبِيهًا عَلَى سُوءِ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَحُسْنِ حَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.
وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي إِنْكَارِ تَمَاثُلِ الْحَالَتَيْنِ: فَالْحَالَةُ الْأُولَى: حَالَةُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَهِيَ الْمُشَبَّهَةُ بِحَالِ مَنْ كَانَ مَيِّتًا مُودَعًا فِي ظُلُمَاتٍ، فَصَارَ حَيًّا فِي نُورٍ وَاضِحٍ، وَسَارَ فِي الطَّرِيقِ الْمُوَصِلَةِ لِلْمَطْلُوبِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:
حَالَةُ الْمُشْرِكِ وَهِيَ الْمُشَبَّهَةُ بِحَالَةِ مَنْ هُوَ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ فِي ظُلُمَاتٍ.
وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ، فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، اسْتِغْنَاءً بِالْمَذْكُورِ عَنِ الْمَحْذُوفِ:
فَقَوْلُهُ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً مَعْنَاهُ: أَحَالُ مَنْ كَانَ مَيِّتًا، أَوْ صِفَةُ مَنْ كَانَ مَيِّتًا.
إِلَى ذَلِكَ بِالطَّبْعِ دُونَ اخْتِيَارٍ وَلَا نظر، بِحَسب خصايص عُنْصُرِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ بُلُوغُ الْإِنْسَانِ إِلَى الْفَضَائِلِ الْمَلَكِيَّةِ أَعْلَى وَأَعْجَبَ، وَكَانَ مَبْلَغُهُ إِلَى الرَّذَائِلِ الشَّيْطَانِيَّةِ أَحَطَّ وَأَسْهَلَ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خُوطِبَ بِالتَّكْلِيفِ.
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ أَصْلِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ لِأَنَّهُ سُجُودُ
اعْتِرَافٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَظْهَرِ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ كَذَلِكَ، فَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَامْتَثَلُوا أَمْرَ اللَّهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا حِكْمَتَهُ، وَانْتَظَرُوا الْبَيَانَ، كَمَا حَكَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [الْبَقَرَة: ٣٢] فَجَاءَهُمُ الْبَيَانُ مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٣٠] ثُمَّ مُفَصَّلًا بِقِصَّةِ قَوْلِهِ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَة: ٣١]- إِلَى قَوْلِهِ- وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٣].
وَقَدْ عَاقَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِصْيَانِهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ فِي اعْتِلَاءٍ وَهُوَ السَّمَاءُ، وَأَحَلَّ الْمَلَائِكَةَ فِيهِ، وَجَعَلَهُ مَكَانًا مُقَدَّسًا فَاضِلًا عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِجَعْلٍ آلَهِيٍّ بِإِفَاضَةِ الْأَنْوَارِ وَمُلَازَمَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ لَهُ: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْهُبُوطِ إِمَّا حَقِيقَةً إِنْ كَانَ الْمَكَانُ عَالِيًا، وَإِمَّا اسْتِعَارَةً لِلْبُعْدِ عَنِ الْمَكَانِ الْمُشَرَّفِ، بِتَشْبِيهِ الْبُعْدِ عَنْهُ بِالنُّزُولِ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالْفَاءُ فِي جُمْلَةِ: فَاهْبِطْ لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ عَلَى جَوَابِ إِبْلِيسَ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ عَلَى كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ آخَرَ، لِأَنَّ الْكَلَامَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ فِي مَقَامِ الْمُحَاوَرَةِ، كَالْعَطْفِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: ١٢٤].
وَالْفَاءُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِالْهُبُوطِ مُسَبَّبٌ عَنْ جَوَابِهِ.
وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ الْمَجْرُورِ بِمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْها عَائِدٌ عَلَى الْمَعْلُومِ بَيْنَ
قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩] وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مُطَّرِدٌ.
وَالْأَمْرُ حَقِيقَتُهُ طَلَبُ الْفِعْلِ، فَمَعْنَى فَماذا تَأْمُرُونَ مَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ نَفْعَلَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْأَمْرِ فِي الطَّلَبِ الصَّادِرِ مِنَ الْعَلِيِّ إِلَى مَنْ دُونَهُ فَإِذَا الْتُزِمَ هَذَا كَانَ إِطْلَاقُهُ هُنَا عَلَى وَجْهِ التَّلَطُّفِ مَعَ الْمُخَاطَبِينَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الطَّلَبُ عَلَى وَجْهِ الْإِفْتَاءِ وَالِاشْتِوَارِ لِأَنَّ أَمْرَهُمْ لَا يَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ
فِرْعَوْنَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، كَانَ مُرَادًا مِنَ الْأَمْرِ الطَّلَبُ الَّذِي يَجِبُ امْتِثَالُهُ كَمَا قَالَ مَلَأُ بِلْقِيسَ:
فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النَّمْل: ٣٣].
وَالسَّاحِرُ فَاعِلُ السِّحْرِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى السِّحْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢].
وَجُمْلَةُ: قالُوا أَرْجِهْ جَوَابُ الْقَوْم المستشارين، فتجر يَدهَا مِنْ حَرْفِ الْعَطْفِ لِجَرَيَانِهَا فِي طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ، أَيْ: فَأَجَابَ بَعْضُ الْمَلَأِ بِإِبْدَاءِ رَأْيٍ لِفِرْعَوْنَ فِيمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ اتِّخَاذُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: قالُوا أَرْجِهْ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بِإِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ وَهُوَ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ إِذَا كَانَ فِرْعَوْنُ هُوَ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِمْ: فَماذا تَأْمُرُونَ.
وَفِعْلُ أَرْجِهْ أَمْرٌ مِنَ الْإِرْجَاءِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ. قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ أَرْجِهْ- بِجِيمٍ ثُمَّ هَاءٍ- وَأَصْلُهُ (أَرْجِئْهُ) بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْجِيمِ فَسُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا، فَصَارَتْ يَاءً سَاكِنَةً، وَعُومِلَتْ مُعَامَلَةَ حَرْفِ الْعِلَّةِ فِي حَالَةِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِالْهَمْزِ سَاكِنًا عَلَى الْأَصْلِ- وَلَهُمْ فِي حَرَكَاتِ هَاءِ الْغَيْبَةِ وَإِشْبَاعِهَا وُجُوهٌ مُقَرَّرَةٌ فِي عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ.
وَالْمَعْنَى: أَخِّرْ الْمُجَادَلَةَ مَعَ مُوسَى إِلَى إِحْضَارِ السَّحَرَةِ الَّذِينَ يُدَافِعُونَ سِحْرَهُ، وَحَكَى الْقُرْآنُ ذِكْرَ الْأَخِ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ طُوِيَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ ابْتِدَاءً.
وَعُدِّيَ فعل الْإِرْسَال (بفي) دُونَ (إِلَى) لِأَنَّ الْفِعْلَ هُنَا غَيْرُ مَقْصُودٍ تَعْدِيَتُهُ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُرْسَلُونَ خَاصَّةً. وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ. إِذِ الْمَعْنَى: وَأَرْسِلْ حَاشِرِينَ فِي الْمَدَائِنِ يَأْتُوكَ بِالسَّحَرَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ لِلْبَحْثِ وَالْجَلْبِ. لَا لِلْإِبْلَاغِ

[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٥٢]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢)
كَدَأْبِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ حَذْفٌ تَابِعٌ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي مِثْلِهِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِذَا تَحَدَّثُوا عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَتَوْا بِخَبَرٍ دُونَ مُبْتَدَإٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ مَحْذُوفٌ، فَقُدِّرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ.
فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: دَأْبُهُمْ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ بِرُسُلِ رَبِّهِمْ، مِثْلِ عَادٍ وَثَمُودَ.
وَالدَّأْبُ: الْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ الْمَأْلُوفَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَخْصِيصِ آلِ فِرْعَوْنَ بِالذِّكْرِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ إِلَّا اخْتِلَافُ الْعِبَارَةِ، فَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١١] كَذَّبُوا بِآياتِنا وَهُنَا كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ، وَهُنَالِكَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ [آل عمرَان ١١] وَهُنَا إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ.
فَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ بَين كَذَّبُوا [آل عمرَان: ١١] وكَفَرُوا فَلِأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ شَارَكُوا الْمُشْرِكِينَ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، وَفِي جَحْدِ دَلَالَةِ الْآيَاتِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَعَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذُكِرُوا هُنَا ابْتِدَاءً بِالْأَفْظَعِ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَعُبِّرَ بالْكفْر بِالْآيَاتِ عَن جحد الْآيَات الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْكُفْرَ أَصْرَحُ فِي إِنْكَارِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ عُقِّبَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالَّتِي بَعْدَهَا، فَذُكِرَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا التَّكْذِيبُ بِالْآيَاتِ، أَيِ التَّكْذِيبُ بِآيَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَجَحْدُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ. فَأَمَّا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١١] فَقَدْ ذُكِرَ تَكْذِيبُهُمْ بِالْآيَاتِ، أَيِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ التَّكْذِيبَ مُتَبَادِرٌ فِي مَعْنَى تَكْذِيبِ الْمُخْبِرِ، لِوُقُوعِ ذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ وَتَصْدِيقِ مَنْ صَدَّقَ بِهِ، وَإِلْحَادِ مَنْ قَصَدَ الْفِتْنَةَ بِمُتَشَابِهِهِ، فَعُبِّرَ عَنِ الَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي تَكْذِيبِ رَسُولِهِمْ بِوَصْفِ التَّكْذِيبِ.
فَأَمَّا الْإِظْهَارُ هُنَا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، فَاقْتَضَاهُ أَنَّ الْكُفْرَ كُفْرٌ بِمَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَاتِ اللَّهِ فَأُضِيفَتِ الْآيَاتُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِيَدُلَّ عَلَى الذَّاتِ بِعُنْوَانِ الْإِلَهِ الْحَقِّ وَهُوَ الْوَحْدَانِيَّةُ.
ثَلَاثَةٌ، أَرْبَعَةٌ، خَمْسَةٌ، سِتَّةٌ، سَبْعَةٌ، وَثَمَانِيَةٌ، تِسْعَةٌ، عَشَرَةٌ، فَهَكَذَا هِيَ لُغَتُهُمْ. وَمَتَى جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ أَمْرُ ثَمَانِيَةٍ أَدْخَلُوا الْوَاوَ» اه.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ.
وَأَقُولُ: كَثُرَ الْخَوْضُ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِلْوَاوِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا، وَتَوْجِيهًا وَنَقْضًا. وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ ثَابِتٌ، فَأَمَّا فِي الْمَعْدُودِ الثَّامِنِ فَقَدِ اطَّرَدَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُسْتَدَلِّ بِهَا. وَلَا يَرِيبُكَ أَنَّ بَعْضَ الْمُقْتَرِنِ بِالْوَاوِ فِيهَا لَيْسَ بِثَامِنٍ فِي الْعَدَّةِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِكَوْنِهِ ثَامِنًا فِي الذِّكْرِ لَا فِي الرُّتْبَةِ.
وَأَمَّا اقْتِرَانُ الْوَاوِ بِالْأَمْرِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الثَّامِنِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧٣]. فَإِنَّ مَجِيءَ الْوَاوِ لِكَوْنِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةً، فَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا نُكْتَةً لَطِيفَةً جَاءَتِ اتِّفَاقِيَّةً. وَسَيَجِيءُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧٣].
وَجُمْلَةُ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة:
١١١] عَطْفَ إِنْشَاءٍ عَلَى خَبَرٍ. وَمِمَّا حَسَّنَهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخَبَرِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ فَأَشْبَهَ الْأَمْرَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِتَبْشِيرِهِمْ إِبْلَاغُهُمْ فَكَانَ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مُرَادًا مِنْهَا مَعْنَيَانِ خَبَرِيٌّ وَإِنْشَائِيٌّ. فَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمَعْهُودُونَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التَّوْبَة: ١١١].
وَالْبِشَارَةُ تقدّمت مرَارًا.
[١١٣]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١١٣]
مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣)
اسْتِئْنَافٌ نُسِخَ بِهِ التَّخْيِيرُ الْوَاقِعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التَّوْبَة: ٨٠] فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَسْوِيَةً بَيْنَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَسْتَغْفِرَ فِي
وَجُمْلَةُ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِلْغَرَضِ مِنَ التَّشْبِيهِ وَهُوَ نَفْيُ اسْتِوَاءِ حَالِهِمَا، وَنَفْيُ الِاسْتِوَاءِ كِنَايَةٌ عَنِ التَّفْضِيلِ وَالْمُفَضَّلِ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ مَعْلُومٌ تَفْضِيلُ الْفَرِيقِ الْمُمَثَّلِ بِالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ عَلَى الْفَرِيقِ الْمُمَثَّلِ بِالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ.
وَانْتَصَبَ مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ، أَيْ مِنْ جِهَةِ حَالِهِمَا، وَالْمَثَلُ: الْحَالُ.
وَالْمَقْصُودُ تَنْبِيهُ الْمُشْرِكِينَ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالَةِ لَعَلَّهُمْ يَتَدَارَكُونَ أَمْرَهُمْ فَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ جُمْلَةَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
وَالْهَمْزَةُ اسْتِفْهَامٌ وَإِنْكَارُ انْتِفَاءِ تَذَكُّرِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ فِي ضَلَالِهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «تذكرُونَ» بتَشْديد الدَّال. وَأَصْلُهُ تَتَذَكَّرُونَ، فَقُلِبَتِ التَّاءُ دَالًّا لِقُرْبِ مُخْرَجَيْهِمَا وَلِيَتَأَتَّى الْإِدْغَامُ تَخْفِيفًا. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ- بِتَخْفِيفِ الذَّالِ- عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الْفِعْلِ.
وَفِي مُقَابَلَةِ الْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ بِ الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ محسن الطباق.
[٢٥، ٢٦]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٢٥ إِلَى ٢٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦)
انْتِقَالٌ مِنْ إِنْذَارِ الْمُشْرِكِينَ وَوَصْفِ أَحْوَالِهِمْ وَمَا نَاسَبَ ذَلِكَ إِلَى مَوْعِظَتِهِمْ بِمَا أَصَابَ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَاقَاهُ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- قَبْلَهُ مِنْ أَقْوَامِهِمْ.
فَالْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْوَاوَ الِابْتِدَائِيَّةُ.
وَأُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ بلام الْقسم ولَقَدْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لِمَا غَفَلُوا عَنِ الْحَذَرِ مِمَّا بِقَوْمِ نُوحٍ مَعَ مُمَاثَلَةِ حَالِهِمْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِوُقُوعِ رِسَالَتِهِ.
وَكَذَلِكَ عَطْفُ جُمْلَةِ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ إِذْ لَمْ يَكُنِ ابْيِضَاضُ عَيْنَيْهِ إِلَّا فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ. فَكُلٌّ مِنَ التَّوَلِّي وَالتَّحَسُّرِ وَابْيِضَاضِ الْعَيْنَيْنِ مِنْ أَحْوَالِهِ إِلَّا أَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الْأَزْمَانِ.
وَابْيِضَاضُ الْعَيْنَيْنِ: ضَعْفُ الْبَصَرِ. وَظَاهِرَةٌ أَنَّهُ تَبَدَّلَ لَوْنُ سَوَادِهِمَا مِنَ الْهُزَالِ.
وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ دُونَ عَمِيَتْ عَيْنَاهُ.
ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْحُزْنِ سَبَبِيَّةٌ. وَالْحُزْنُ سَبَبُ الْبُكَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ ابْيِضَاضِ الْعَيْنَيْنِ. وَعِنْدِي أَنَّ ابْيِضَاضَ الْعَيْنَيْنِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِبْصَارِ كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
قَبْلَ مَا الْيَوْمِ بَيَّضَتْ بِعُيُونِ النَّ اسِ فِيهَا تَغَيُّضٌ وَإِبَاءُ
وَأَنَّ الْحُزْنَ هُوَ السَّبَبُ لِعَدَمِ الْإِبْصَارِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ. فَإِنَّ تَوَالِيَ إِحْسَاسِ الْحُزْنِ عَلَى الدِّمَاغِ قَدْ أَفْضَى إِلَى تَعْطِيلِ عَمَلِ عَصَبِ الْإِبْصَارِ عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ مِنَ الْحُزْنِ أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ فَلَا يُسْتَغْرَبُ صدوره من نبيء، أَوْ أَنَّ التَّصَبُّرَ عِنْدَ الْمَصَائِبِ لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بَلْ كَانَ مِنْ سُنَنِهِمْ إِظْهَارُ الْحُزْنِ وَالْجَزَعِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ. وَقَدْ حَكَتِ التَّوْرَاةُ بُكَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَحَكَتْ تَمْزِيقَ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ ثِيَابَهُمْ مِنَ الْجَزَعِ. وَإِنَّمَا التَّصَبُّرُ فِي الْمُصِيبَةِ كَمَالٌ بَلَغَتْ إِلَيْهِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ.
وَالْكَظِيمُ: مُبَالَغَةٌ لِلْكَاظِمِ. وَالْكَظْمُ: الْإِمْسَاكُ النَّفْسَانِيُّ، أَيْ كَاظِمٌ لِلْحُزْنِ لَا يُظْهِرُهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَبْكِي فِي خَلْوَتِهِ، أَوْ هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَحْزُونٍ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ مَكْظُومٌ.
وَجُمْلَةُ قالُوا تَاللَّهِ مُحَاوَرَةُ بنيه إِيَّاه عِنْد مَا سَمِعُوا قَوْلَهُ: يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَقَدْ قَالَهَا فِي خَلْوَتِهِ فَسَمِعُوهَا.
وَالتَّاءُ حَرْفُ قَسَمٍ، وَهِيَ عِوَضٌ عَنْ وَاوِ الْقَسَمِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: «التَّاءُ فِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى وَهُوَ التَّعَجُّبُ». وَسَلَّمَهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ»،
وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ تَعْلِيمُ أَنَّ خَلْقَ الْجَانِّ أَسْبَقُ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ عنصر الْحَرَارَة والحرارة أَسْبَقَ مِنَ الرُّطُوبَةِ.
والسَّمُومِ- بِفَتْحِ السِّينِ-: الرِّيحُ الْحَارَّةُ. فَالْجِنُّ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ لِيَحْصُلَ الِاعْتِدَالُ فِي الْحَرَارَةِ فَيَقْبَلَ الْحَيَاةَ الْخَاصَّةَ اللَّائِقَةَ بِخِلْقَةِ الْجِنِّ، فَكَمَا كَوَّنَ اللَّهُ الْحَمَأَةَ الصَّلْصَالَ الْمَسْنُونَ لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ، كَوَّنَ رِيحًا حَارَّةً وَجَعَلَ مِنْهَا الْجِنَّ. فَهُوَ مُكَوَّنٌ مِنْ حَرَارَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مِقْدَارِ حَرَارَةِ الْإِنْسَانِ وَمِنْ تَهْوِيَةٍ قَوِيَّةٍ. وَالْحِكْمَةُ كُلُّهَا فِي إِتْقَانِ المزج والتركيب.
[٢٨- ٣٥]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٢٨ إِلَى ٣٥]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢)
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)
عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ.
وإِذْ مَفْعُولٌ لِفِعْلِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظَائِرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَالْبَشَرُ مُرَادِفُ الْإِنْسَانِ، أَيْ أَنِّي خَالِقٌ إِنْسَانًا. وَقَدْ فَهِمَ الْمَلَائِكَةُ الْحَقِيقَةَ بِمَا أَلْقَى اللَّهُ فِيهِمْ مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ لَهُمْ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ بِالْمَعْنَى الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ بِالْعِبَارَةِ الْجَامِعَةِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَعَجُولٌ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي عَاجِلٍ. يُقَالُ: عَجِلَ فَهُوَ عَاجِلٌ وَعَجُولٌ.
وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ وَيَدْعُ بِدُونِ وَاوٍ بَعْدَ الْعَيْنِ إِجْرَاءً لِرَسْمِ الْكَلِمَةِ عَلَى حَالَةِ النُّطْقِ بِهَا فِي الْوَصْلِ كَمَا كُتِبَ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: ١٨] وَنَظَائِرُهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ كُتِبَتْ بِالْوَاوِ لَكَانَ صَوَابا.
[١٢]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ١٢]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢)
عطف على وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ [الْإِسْرَاء: ١١]، إِلَخْ. وَالْمُنَاسَبَةُ أَن جملَة وَيَدْعُ الْإِنْسانُ تَتَضَمَّنُ أَنَّ الْإِبْطَاءَ تَأْخِيرُ الْوَعْدِ لَا يَرْفَعُهُ وَأَنَّ الِاسْتِعْجَالَ لَا يُجْدِي صَاحِبَهُ لِأَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ أَجَلًا، وَلَمَّا كَانَ الْأَجَلُ عِبَارَةً عَنْ أَزْمَانٍ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى لَيْلٍ وَنَهَارٍ مُتَقَضِّيَيْنِ. وَهَذَا شَائِعٌ عِنْدَ النَّاسِ فِي أَن الزَّمَان متقض وَإِن طَالَ.
فَلَمَّا أُرِيدَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ أُدْمِجَ فِيهِ مَا هُوَ أَهَمُّ فِي الْعِبْرَةِ بِالزَّمَنَيْنِ وَهُوَ كَوْنُهُمَا آيَتَيْنِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَعَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَكَوْنِهِمَا مِنَّتَيْنِ عَلَى النَّاسِ، وَكَوْنِ النَّاسِ رُبَّمَا كَرِهُوا
اللَّيْلَ لِظُلْمَتِهِ، وَاسْتَعْجَلُوا انْقِضَاءَهُ بِطُلُوعِ الصَّبَاحِ فِي أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ بِزِيَادَةِ الْعِبْرَةِ فِي أَنَّهُمَا ضِدَّانِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا آثَارُ النِّعْمَةِ الْمُخْتَلِفَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ السَّيْرِ فِي النَّهَارِ.
وَاكْتَفَى بَعْدَهَا عَنْ عَدِّ نِعْمَةِ السُّكُونِ فِي اللَّيْلِ لِظُهُورِ ذَلِكَ بِالْمُقَابَلَةِ، وَبِتِلْكَ الْمُقَابَلَةِ حَصَلَتْ نِعْمَةُ الْعِلْمِ بِعَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الزَّمَنُ كُلُّهُ ظُلْمَةً أَوْ كُلُّهُ نُورًا لَمْ يَحْصُلِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ أَجْزَائِهِ.
وَفِي هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِيمَاءٌ إِلَى ضَرْبِ مَثَلٍ لِلْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَلِلضَّلَالِ وَالْهُدَى، فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِهِ قَوْلَهُ: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْإِسْرَاء: ٢] الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ:

[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ١٠٢]

أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢)
أَعْقَبَ وَصْفَ حِرْمَانِهِمُ الِانْتِفَاعَ بِدَلَائِلِ الْمُشَاهَدَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْآيَاتِ بِتَفْرِيعِ الْإِنْكَارِ لِاتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَزْعُمُونَهَا نَافِعَةً لَهُمْ تَنْصُرُهُمْ
تَفْرِيعَ الْإِنْكَارِ عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي، لِأَنَّ حُسْبَانَهُمْ ذَلِكَ نَشَأَ عَنْ كَوْنِ أَعْيُنِهِمْ فِي غِطَاءٍ وَكَوْنِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا، أَيْ حَسَبُوا حُسْبَانًا بَاطِلًا فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ مَا حَسِبُوهُ شَيْئًا، وَلِأَجْلِهِ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا.
وَتَقَدَّمَ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى فَاءِ الْعَطْفِ لِأَنَّ لِلِاسْتِفْهَامِ صَدْرُ الْكَلَامِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَمْثَالِهِ. وَالْخِلَافُ شَهِيرٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُقَدَّمٌ مِنْ تَأْخِيرٍ، أَوْ أَنَّ الْعَطْفَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَ حَذْفِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ لِدَلَالَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. فَيقدر هُنَا:
أأمنوا عَذَابِي فَحَسِبُوا أَنْ يَتَّخِذُوا إِلَخْ... وَأَوَّلُ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظَائِرُهُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٥].
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَحْسَبُونَهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَا ظَنُّوهُ بَاطِلٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا [العنكبوت: ٢].
وأَنْ يَتَّخِذُوا سَادَ مسدّ مفعولي فَحَسِبَ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولَيْنِ فَهُوَ يَنْحَلُّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا عِبَادِيَ مُتَّخِذِينَ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ مِنْ دُونِي.
وَالْإِنْكَارُ مُتَسَلِّطٌ عَلَى مَعْمُولِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَهُوَ أَوْلِياءَ الْمَعْمُول ل يَتَّخِذُوا بِقَرِينَةِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ فعل فَحَسِبَ مِنْ أَنَّ هُنَالِكَ
مَا يُرِيدُهُ الْآخَرُ، لِأَنَّ الْمُتَعَدِّدِينَ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الِاخْتِلَافُ فِي الْإِرَادَةِ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْإِمْكَانُ لَازِمًا لِلتَّعَدُّدِ فَإِنْ حَصَلَ التمانع بَينهمَا إِذْ تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ أَحَدِهِمَا بِوُجُودِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَتَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ الْآخَرِ بِعَدَمِ وُجُودِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَحْصُلَ الْمُرَادَانِ مَعًا لِلُزُومِ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ، وَإِنْ حَصَلَ أَحَدُ الْمُرَادَيْنِ لَزِمَ عَجْزُ صَاحِبِ الْمُرَادِ الَّذِي لَمْ يَحْصُلُ، وَالْعَجْزُ يَسْتَلْزِمُ الْحُدُوثَ وَهُوَ مُحَالٌ، فَاجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ أَوْ حُدُوثُ الْإِلَهِ لَازِمٌ لَازم لَازم لِلتَّعَدُّدِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَازِمُ اللَّازِمِ لَازِمٌ فَيَكُونُ الْمَلْزُومُ الْأَوَّلُ محالا، قَالَ التفتازانيّ: وَبِهِ تَنْدَفِعُ الْإِيرَادَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى بُرْهَانِ التَّمَانُعِ.
وَأَقُولُ يَرُدُّ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّ إِمْكَانَ التَّمَانُعِ لَا يُوجِبُ نُهُوضَ الدَّلِيلِ، لِأَنَّ هَذَا الْإِمْكَانَ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ بِاسْتِحَالَةِ حُدُوثِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْإِلَهَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْإِرَادَةِ إِنَّمَا يَجِيءُ مِنْ تَفَاوُتِ الْعِلْمِ فِي الِانْكِشَافِ بِهِ، وَلِذَلِكَ يَقِلُّ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْحُكَمَاءِ. وَالْإِلَهَانِ نَفْرِضُهُمَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فَعِلْمُهُمَا وَحِكْمَتُهُمَا يَقْتَضِيَانِ
انْكِشَافًا مُتَمَاثِلًا فَلَا يُرِيدُ أَحَدُهُمَا إِلَّا مَا يُرِيدُهُ الْآخَرُ فَلَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا تَمَانُعٌ، وَلِذَلِكَ اسْتُدِلَّ فِي الْمَقَاصِدِ عَلَى لُزُومِ حُصُولِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِ اللُّزُومِ الْعَادِيِّ.
بَقِيَ النَّظَرُ فِي كَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْفِعْلِ عَنْهُمَا فَذَلِكَ انْتِقَالٌ إِلَى مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى.
وَإِنَّ احْتِمَالَ اتِّفَاقِ الْإِلَهَيْنِ عَلَى إِرَادَةِ الْأَشْيَاءِ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِلَهَيْنِ حَكِيمَانِ لَا تَخْتَلِفُ إِرَادَتُهُمَا، وَإِنْ كَانَ احْتِمَالًا صَحِيحًا لَكِنْ يَصِيرُ بِهِ تَعَدُّدُ الْإِلَهِ عَبَثًا لِأَنَّ تَعَدُّدَ وُلَاةِ الْأُمُورِ مَا كَانَ إِلَّا لِطَلَبِ ظُهُورِ الصَّوَابِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا، فَإِذَا كَانَا لَا يَخْتَلِفَانِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّعَدُّدِ، وَمِنَ الْمُحَالِ بِنَاءَ صِفَةِ أَعْلَى الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَالْآيَةُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ.
رَسُولٍ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً رُسُلًا، وَحَذْفُ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ جَائِزٌ إِذَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، وَذَلِكَ مِنَ الْإِيجَازِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَفْعُولِ الْغَرِيبِ مِثْلَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» : أَلَا تَرَى قَوْلَ الْمَعَرِّي:
وَإِنْ شِئْتَ فَازْعُمْ أَنَّ مَنْ فَوْقَ ظَهْرِهَا عَبِيدُكَ وَاسْتَشْهِدْ إِلَهَكَ يَشْهَدِ
وَهَلْ أَغْرَبُ مِنْ هَذَا الزَّعْمِ لَوْ كَانَتِ الْغَرَابَةُ مُقْتَضِيَةً ذِكْرَ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ. فَلَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مَفْعُولُ جَوَابِ الشَّرْطِ حَسُنَ حَذْفُهُ مِنْ فِعْلِ الشَّرْطِ.
وَجُمْلَةِ مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ قَصَدُوا بِهَا تَكْذِيبَ الدَّعْوَةِ بَعْدَ تَكْذِيبِ الدَّاعِي، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِهَا مُسْتَأْنَفَةً غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِذَاتِهَا وَلَيْسَت تَكْمِلَة لَهَا قَبْلَهَا، بِخِلَافِ أُسْلُوبِ عَطْفِ جُمْلَةِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً إِذْ كَانَ مَضْمُونُهَا مِنْ تَمَامِ غَرَضِ مَا قَبْلَهَا.
فَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا إِلَى الْكَلَامِ الَّذِي قَالَهُ نُوحٌ، أَيْ مَا سَمِعْنَا بِأَنْ لَيْسَ لَنَا إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ فِي مُدَّةِ أَجْدَادِنَا، فَالْمَقْصُودُ بِالْإِشَارَةِ مَعْنَى الْكَلَامِ لَا نَفْسُهُ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ. وَلَمَّا كَانَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ يَقْتَضِي زَمَنًا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَدْخُولُهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ فِي مُدَّةِ آبَائِنَا لِأَنَّ الْآبَاءَ لَا يَصْلُحُ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَالْآبَاءُ الْأَوَّلُونَ هُمُ الْأَجْدَادُ.
وَلَمَّا كَانَ السَّمَاعُ الْمَنْفِيُّ لَيْسَ سَمَاعًا بِآذَانِهِمْ لِكَلَامٍ فِي زَمَنِ آبَائِهِمْ بَلِ الْمُرَادُ مَا بَلَغَ إِلَيْنَا وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا فِي زَمَنِ آبَائِنَا، عُدِّيَ فِعْلُ سَمِعْنا بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الِاتِّصَالِ.
جَعَلُوا انْتِفَاءَ عِلْمِهِمْ بِالشَّيْءِ حُجَّةً عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهُوَ مجادلة سفسطائيّة إِذْ قَدْ يَكُونُ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ عَنْ تَقْصِيرٍ فِي اكْتِسَابِ الْمَعْلُومَاتِ، وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ وُجُودِ سَبَبٍ يَقْتَضِي حُدُوثَ مِثْلِهِ بِأَنْ كَانَ النَّاسُ عَلَى حَقٍّ فَلَمْ يَكُنْ دَاعٍ إِلَى مُخَاطَبَتِهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ مِنْ زَمَنِ آدَمَ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى حَدَثَ الشِّرْكُ فِي النَّاسِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ نُوحًا فَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ أُرْسِلَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ.
طَوَاهُ صَاحِبُهُ بَعْدَ أَنْ بَسَطَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَةِ، وَحَرْفُ (إِلَى) وَمَجْرُورُهُ تَخْيِيلٌ.
وَمَوْقِعُ وَصْفِ الْقَبْضِ بِيَسِيرٍ هُنَا أَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ يَحْصُلُ بِبُطْءٍ دُونَ طَفْرَةٍ، فَإِنَّ فِي التَّرَيُّثِ تَسْهِيلًا لِقَبْضِهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُجَزَّأَ أَيْسَرُ عَلَى النُّفُوسِ مِنَ الْمُجْتَمِعِ غَالِبًا، فَأُطْلِقُ الْيُسْرُ وَأُرِيدَ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ عُرْفًا، وَهُوَ التَّدْرِيجُ بِبُطْءٍ، عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ، لِيَكُونَ صَالِحًا لِمَعْنًى آخَرَ سَنَتَعَرَّضُ إِلَيْهِ فِي آخِرِ كَلَامِنَا.
وَتَعْدِيَةُ الْقَبْضِ بِ إِلَيْنا لِأَنَّهُ ضِدُّ الْمَدِّ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: مَدَّ الظِّلَّ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مَعْنَى قَبَضْناهُ أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ وَاقِعٌ بَعْدَ الْمَدِّ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ.
وَفِي مَدِّ الظِّلِّ وَقَبْضِهِ نِعْمَةُ مَعْرِفَةِ أَوْقَاتِ النَّهَارِ لِلصَّلَوَاتِ وَأَعْمَالِ النَّاسِ، وَنِعْمَةُ التَّنَاوُبِ فِي انْتِفَاعِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْطَارِ بِفَوَائِدِ شُعَاعِ الشَّمْسِ وَفَوَائِدِ الْفَيْءِ بِحَيْثُ إِنَّ الْفَرِيقَ الَّذِي كَانَ تَحْتَ الْأَشِعَةِ يَتَبَرَّدُ بِحُلُولِ الظِّلِّ، وَالْفَرِيقَ الَّذِي كَانَ فِي الظِّلِّ يَنْتَفِعُ بِانْقِبَاضِهِ.
هَذَا مَحَلُّ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ اللَّتَيْنِ تَتَنَاوَلُهُمَا عُقُولُ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ مَدَارِكِهِمْ. وَوَرَاءَ ذَلِكَ عِبْرَةٌ عِلْمِيَّةٌ كُبْرَى تُوَضِّحُهَا قَوَاعِدُ النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَحَرَكَةُ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ وَظُهُورُ الظُّلْمَةِ وَالضِّيَاءِ، فَلَيْسَ الظِّلُّ إِلَّا أَثَرَ الظُّلْمَةِ فَإِنَّ الظُّلْمَةَ هِيَ أَصْلُ كَيْفِيَّاتِ الْأَكْوَانِ ثُمَّ انْبَثَقَ النُّورُ بِالشَّمْسِ وَنَشَأَ عَنْ تَدَاوُلِ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ نِظَامُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَعَنْ ذَلِكَ نِظَامُ الْفُصُولِ وَخُطُوطِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ لِلْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَبِهَا عُرِفَتْ مَنَاطِقُ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ.
وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَصْلِ الْمَخْلُوقَاتِ كَيْفَ طَرَأَ عَلَيْهَا الْإِيجَادُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عَدَمًا، وَكَيْفَ يَمْتَدُّ وُجُودُهَا فِي طَوْرِ نَمَائِهَا، ثُمَّ كَيْفَ تَعُودُ إِلَى الْعَدَمِ تَدْرِيجًا فِي طَوْرِ انْحِطَاطِهَا إِلَى أَنْ تَصِيرَ إِلَى الْعَدَمِ، فَذَلِكَ مِمَّا يُشِيرُ إِلَيْهِ ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً فَيَكُونُ قَدْ حَصَلَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَحْوَالِ الظِّلِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الْمِنَّةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى نِظَامِ الْقُدْرَةِ تَقْرِيبٌ لِحَالَةِ إِيجَادِ النَّاسِ وَأَحْوَالِ الشَّبَابِ وَتَقَدُّمِ السِّنِّ،
فَذَكَّرَهُمْ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِذِكْرِ أظهر الْآيَات وأكثرها تَكْرَارًا عَلَى حَوَاسِّهِمْ وَأَجْدَرِهَا بِأَنْ تَكُونَ مُقْنِعَةً فِي ارْعِوَائِهِمْ عَنْ شِرْكِهِمْ. وَهِيَ آيَةٌ مُلَازِمَةٌ لَهُمْ طُولَ حَيَاتِهِمْ تَخْطُرُ بِبَالِهِمْ مَرَّتَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الْأَقَلِّ. وَتِلْكَ هِيَ آيَةُ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الدَّالَّةُ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْعَالَمِ فَأَصْنَامُهُمْ تَخْضَعُ لِمَفْعُولِهَا فَتَظْلِمُ ذَوَاتِهِمْ فِي اللَّيْلِ وَتُنِيرُ فِي النَّهَارِ، وَفِيهَا تَذْكِيرٌ بِتَمْثِيلِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ بَعْدَهُ بِسُكُونِ اللَّيْلِ وَانْبِثَاقِ النَّهَارِ عَقِبَهُ.
وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ [النَّمْل: ٨٥] وَجُمْلَةِ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النَّمْل: ٨٧] لِيُتَخَلَّلَ الْوَعِيدُ بِالِاسْتِدْلَالِ فَتَكُونَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ بِالْإِرْهَابِ تَارَةً وَاسْتِدْعَاءِ النَّظَرِ تَارَةً أُخْرَى.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ لِأَنَّهَا لِغَرَابَتِهَا تَسْتَلْزِمُ سُؤَالَ مَنْ
يَسْأَلُ عَنْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ فَهَذِهِ عَلَاقَةُ أَوْ مُسَوِّغُ اسْتِعْمَالِ الِاسْتِفْهَامِ فِي التَّعْجِيبِ، وَهِيَ عَلَاقَةٌ خَفِيَّةٌ أَشَارَ سَعْدُ الدِّينِ فِي «الْمُطَوَّلِ» إِلَى عَدَمِ ظُهُورِهَا وَتَصَدَّى السَّيِّدُ الشَّرِيفُ إِلَى بَيَانِهَا غَايَةَ الْبَيَانِ وَأَرْجَعَهَا إِلَى الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ فَتَأَمَّلْهُ.
وَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَلْبِيَّةً وَجُمْلَةُ أَنَّا جَعَلْنَا سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، أَيْ كَيْفَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا مَعَ أَنَّ ذَلِكَ وَاضِحُ الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْجَعْلِ. وَاخْتِيرَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِلْمِ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ لِشَبَهِ هَذَا الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ الْمُبْصَرَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنَ الْجُمْلَةِ مَفْعُولَ الرُّؤْيَةِ وَالْمَعْنَى:
كَيْفَ لَمْ يُبْصِرُوا جَعْلَ اللَّيْلِ لِلسُّكُونِ وَالنَّهَارِ لِلْإِبْصَارِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ بِمَرْأَى مِنْ أَبْصَارِهِمْ.
وَالْجَعْلُ مُرَادٌ مِنْهُ أَثَرُهُ وَهُوَ اضْطِرَارُ النَّاسِ إِلَى السُّكُونِ فِي اللَّيْلِ وَإِلَى الِانْتِشَارِ فِي النَّهَارِ.
فَجُعِلَتْ رُؤْيَةُ أَثَرِ الْجَعْلِ بِمَنْزِلَةِ رُؤْيَةِ ذَلِكَ الْجَعْلِ وَهَذَا وَاسِعٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُجْعَلَ الْأَثَرُ مَحَلَّ الْمُؤَثِّرِ، وَالدَّالُّ مَحَلَّ الْمَدْلُولِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ
أَيْ عَلَى مَخَافَةِ وَعِلٍ.
وَالْمُبْصِرُ: اسْمُ فَاعِلِ أَبْصَرَ بِمَعْنَى رَأَى. وَوَصْفُ النَّهَارِ بِأَنَّهُ مُبْصِرٌ مِنْ قَبِيلِ
لِرُومَةَ وَانْفَرَدَ بِالسُّلْطَةِ فِي حُدُودِ سَنَةِ ٣٢٢ مَسِيحِيَّةً، وَجَمَعَ شَتَاتَ الْمَمْلَكَةِ فَجَعَلَ لِلْمَمْلَكَةِ عَاصِمَتَيْنِ عَاصِمَةً غَرْبِيَّةً هِيَ رُومَةُ وَعَاصِمَةً شَرْقِيَّةً اخْتَطَّهَا مَدِينَةً عَظِيمَةً عَلَى بَقَايَا مَدِينَةِ بِيزَنْطَةَ وَسَمَّاهَا قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَانْصَرَفَتْ هِمَّتُهُ إِلَى سُكْنَاهَا فَنَالَتْ شُهْرَةً تَفُوقُ رُومَةَ. وَبَعْدَ مَوْتِهِ سَنَةَ ٣٣٧ قُسِّمَتِ الْمَمْلَكَةُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ، وَكَانَ الْقِسْمُ الشَّرْقِيُّ الَّذِي هُوَ بِلَادُ الرُّومِ وَعَاصِمَتُهُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ لِابْنِهِ قُسْطَنْطِينْيُوسَ، فَمُنْذُ ذَلِكَ الْحِينِ صَارَتْ مَمْلَكَةُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ هِيَ مَمْلَكَةُ الرُّومِ وَبَقِيَتْ مَمْلَكَةُ رُومَةَ مَمْلَكَةَ الرُّومَانِ. وَزَادَ انْفِصَالُ الْمَمْلَكَتَيْنِ فِي سَنَةِ ٣٩٥ حِينَ قَسَّمَ طُيُودِسْيُوسُ بُلْدَانَ السَّلْطَنَةِ الرُّومَانِيَّةِ بَيْنَ وَلَدَيْهِ فَجَعَلَهَا قِسْمَيْنِ مَمْلَكَةً شَرْقِيَّةً وَمَمْلَكَةً غَرْبِيَّةً، فَاشْتَهَرَتِ الْمَمْلَكَةُ الشَّرْقِيَّةُ بِاسْمِ بِلَادِ الرُّومِ وَعَاصِمَتُهَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ. وَيُعْرَفُ الرُّومُ عِنْد الإفرنج بالبيزنطيين نِسْبَةً إِلَى بِيزَنْطَةَ اسْمُ مَدِينَةٍ يُونَانِيَّةٍ قَدِيمَةٍ وَاقعَة على شاطىء الْبُوسْفُورِ الَّذِي هُوَ قِسْمٌ مِنْ مَوْقِعِ الْمَدِينَةِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَدْ صَارَتْ ذَاتَ تِجَارَةٍ عَظِيمَةٍ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ قَبْلَ الْمَسِيح وسمّي ميناءها بِالْقَرْنِ الذَّهَبِيِّ. وَفِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ قَبْلَ الْمَسِيحِ خَلَعَتْ طَاعَةَ أَثِينَا. وَفِي أَوَاسِطِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ بَعْدَ الْمَسِيحِ جُعِلَ قُسْطَنْطِينُ سُلْطَانَ مَدِينَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
وَهَذَا الْغَلَبُ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ انْهِزَامُ الرُّومِ فِي الْحَرْبِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفُرْسِ سَنَةَ ٦١٥ مَسِيحِيَّةً. وَذَلِكَ أَنَّ خُسْرُو بْنَ هُرْمُزَ مَلِكَ الْفُرْسِ غَزَا الرُّومَ فِي بِلَادِ الشَّامِ وَفِلَسْطِينَ وَهِيَ مِنَ الْبِلَادِ الْوَاقِعَةِ تَحْتَ حُكْمِ هِرَقْلَ قَيْصَرِ الرُّومِ، فَنَازَلَ أَنْطَاكِيَةَ ثُمَّ دِمَشْقَ وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَى الرُّومِ فِي أَطْرَافِ بِلَاد الشَّام المحاداة بِلَادِ الْعَرَبِ بَيْنَ بُصْرَى وَأَذْرُعَاتَ. وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَة فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أَي أدنى بِلَاد الرّوم إِلَى بِلَاد الْعَرَب.
فالتعريف فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ، أَيْ أَرْضِ الرُّومِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ، أَوِ اللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ فِي أَدْنَى أَرْضِهِمْ، أَوْ أَدْنَى أَرْضِ اللَّهِ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ أَدْنَى لِظُهُورِ أَنَّ تَقْدِيرَهُ: مِنْ أَرْضِكُمْ، أَيْ أَقْرَبِ بِلَادِ الرُّومِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ بِلَادَ الشَّامِ تَابِعَةٌ يَوْمَئِذٍ لِلرُّومِ وَهِيَ أَقْرَبُ مَمْلَكَةِ للروم مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْهَزِيمَةُ هَزِيمَةً كُبْرَى لِلرُّومِ.
وَقَوْلُهُ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ إِخْبَارٌ بِوَعْدٍ مَعْطُوفٍ
وَالسَّلَامُ وَلَكِنَّهَا تَوَقُّعُ أَنْ يَصْدُرَ مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ مَا يكرههُ النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً، أَيِ اللَّهُ حَسِيبُ الْأَنْبِيَاءِ لَا غَيْرُهُ.
هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَلَا تَسْلُكْ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مَسْلَكًا يُفْضِي بِكَ إِلَى تَوَهُّمِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَلَتْ مِنْهُ خَشْيَةُ النَّاسِ وَأَنَّ اللَّهَ عَرَّضَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ تَصْرِيحًا بَعْدَ أَنْ عَرَّضَ بِهِ تَلْمِيحًا فِي قَوْلِهِ: وَتَخْشَى النَّاسَ [الْأَحْزَاب: ٣٧] بَلِ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكْتَرِثْ بِهِمْ وَأَقَدَمَ عَلَى تَزَوُّجِ زَيْنَبَ، فَكُلُّ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي مَا نَزَلَتْ إِلَّا بَعْدَ تَزَوُّجِ زَيْنَبَ كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْله:
زَوَّجْناكَها [الْأَحْزَاب: ٣٧] وَلَمْ يَتَأَخَّرْ إِلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً حَيْثُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِقَصْدِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَارِيَةً مَجْرَى الْمَثَلِ وَالْحِكْمَةِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا وَصْفَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَيْسَ فِي الْآيَة مجَال للاستدراك عَلَيْهَا بِمَسْأَلَةِ التُّقْيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمرَان: ٢٨].
[٤٠]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٤٠]
مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠)
اسْتِئْنَافٌ لِلتَّصْرِيحِ بِإِبْطَالِ أَقْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَمَا يُلْقِيهِ الْيَهُودُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الشَّكِّ.
وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الْأَحْزَاب: ٤]. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ قَطْعُ تَوَهُّمِ أَن يكون للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَدٌ مِنَ الرِّجَالِ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَام البنوّة حَتَّى لَا يَتَطَرَّقَ الْإِرْجَافُ وَالِاخْتِلَاقُ إِلَى مَنْ يَتَزَوَّجَهُنَّ مِنْ أَيَامَى الْمُسْلِمِينَ أَصْحَابِهِ مِثْلَ أُمِّ سَلَمَةَ وَحَفْصَةَ.
ومِنْ رِجالِكُمْ وَصْفٌ لِ أَحَدٍ، وَهُوَ احْتِرَاسٌ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَنَاتٍ.
وَالْمَقْصُودُ: نَفْيُ أَنْ يَكُونَ أَبًا لِأَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ فِي حِينِ نُزُولِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ كَانَ وُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ أَوْ وَلَدَانِ بِمَكَّةَ مِنْ خَدِيجَةَ وَهُمُ الطَّيِّبُ وَالطَّاهِرُ (أَوْ هُمَا اسْمَانِ
الْمَعِدَةِ فَتَقْبَلُ زِيَادَةَ الطَّعَامِ وَلِذَلِكَ كَانَ الِاتِّكَاءُ فِي الطَّعَامِ مَكْرُوهًا لِلْإِفْرَاطِ فِي الرَّفَاهِيَةِ. وَأَمَّا الِاتِّكَاءُ فِي غَيْرِ حَالِ الْأَكْلِ فَقَدِ اتَّكَأَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَافِدِ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ: أَنَّهُ دَخْلَ الْمَسْجِدَ فَسَأَلَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: «هُوَ ذَلِكَ الْأَزْهَرُ الْمُتَّكِئُ».
وَالْفَاكِهَةُ: مَا يُؤْكَلُ لِلتَّلَذُّذِ لَا لِلشِّبَعِ كَالثِّمَارِ وَالنُّقُولِ وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عَزِيزَةُ النَّوَالِ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَلِأَنَّهَا اسْتَجْلَبَهَا ذِكْرُ الِاتِّكَاءِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَّكِئِينَ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِتَنَاوُلِ الْفَوَاكِهِ.
ثُمَّ عَمَّمَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ويَدَّعُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَصَرِّفًا مِنَ الدُّعَاءِ أَوْ مِنَ الِادِّعَاءِ، أَيْ مَا يَدَّعُونَ إِلَيْهِ أَوْ مَا يَدَّعُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ لَهُمْ بِإِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ. وَصِيغَ لَهُ وَزْنُ الِافْتِعَالِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَوَزْنُ يَدَّعُونَ يَفْتَعِلُونَ. أَصْلُهُ يَدْتَعْيُونَ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْيَاءِ إِلَى الْعَيْنِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّ الضَّمَّ عَلَى الْيَاءِ ثَقِيلٌ بَعْدَ حَذْفِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ فَبَقِيَتِ الْيَاءُ سَاكِنَةً وَبَعْدَهَا وَاوُ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ مُفِيدُ مَعْنَى الْإِسْنَادِ إِلَى الْجَمْعِ.
وَهَذَا الِافْتِعَالُ لَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ (دَعَا)، وَالِافْتِعَالُ هُنَا يَجْعَلُ فِعْلَ (دَعَا) قَاصِرًا فَيَنْبَغِي تَعْلِيقُ مَجْرُورٍ بِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
فَاشْتَوَى لَيْلَةَ رِيحٍ وَاجْتَمَلْ (١) اشْتَوَى إِذَا شَوَى لِنَفْسِهِ وَاجْتَمَلَ إِذَا جَمُلَ لِنَفْسِهِ، أَيْ جَمْعَ الْجَمِيلَ وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُذَابُ وَهُوَ الْإِهَالَةُ.
وَإِنْ جَعَلْتَهُ مِنَ الِادِّعَاءِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ ذَلِكَ حَقًّا لَهُمْ، أَيْ تَتَحَدَّثُ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ فَيَؤُولُ إِلَى مَعْنَى: وَيَتَمَنَّوْنَ فِي أَنْفُسِهِمْ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى أَنْ يَسْأَلُوا
_________
(١) قبله:
وَغُلَام أَرْسلتهُ أمه بألوك فبذلنا مَا سَأَلَ
أَرْسلتهُ فَأَتَاهُ رزقه...................... إِلَخ

[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٥٤]

وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤)
لَمَّا فَتَحَ لَهُمْ بَابَ الرَّجَاءِ أَعْقَبَهُ بِالْإِرْشَادِ إِلَى وَسِيلَةِ الْمَغْفِرَةِ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْقُنُوطِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَبَيْنَ الْإِنَابَةِ جَمْعًا يَقْتَضِي الْمُبَادَرَةَ، وَهِيَ أَيْضًا مُقْتَضَى صِيغَةِ الْأَمْرِ.
وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ وَلِمَا فِيهَا وَفِي التَّوْبَةِ مِنْ مَعْنَى الرُّجُوعِ عُدِّيَ الْفِعْلَانِ بِحَرْفِ إِلَى.
وَالْمَعْنَى: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ بِأَنْ تُوَحِّدُوهُ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْإِسْلَامِ، أَيِ التَّصْدِيقُ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ وَاتِّبَاعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ إِيذَانٌ بِوَعِيدٍ قَرِيبٍ إِنْ لَمْ يُنِيبُوا وَيُسْلِمُوا كَمَا يُلْمِحُ إِلَيْهِ فِعْلُ يَأْتِيَكُمُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعَذَابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُنِيبُوا وَيُسْلِمُوا يَأْتِهِمُ الْعَذَابُ. وَالْعَذَابُ مِنْهُ مَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا إِنْ شَاءَهُ اللَّهُ وَهَذَا
خَاصٌّ بِالْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَقَدِ اسْتَعَاذَ لَهُمْ مِنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٥]، وَمِنَ الْعَذَابِ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَهُوَ جَزَاءُ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ.
وَهَذَا الْخِطَابُ يَأْخُذُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُ بِنَصِيبٍ، فَنَصِيبُ الْمُشْرِكِينَ الْإِنَابَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَاتِّبَاعُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَنَصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ التَّوْبَةُ إِذَا أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَالْإِكْثَارُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَحَاصِلٌ لَهُمْ.
وَالنَّصْرُ: الْإِعَانَةُ عَلَى الْغَلَبَةِ بِحَيْثُ يَنْفَلِتُ الْمَغْلُوبُ مِنْ غَلَبَةِ قَاهِرِهِ كُرْهًا عَلَى الْقَاهِرِ وَلَا نَصِيرَ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ.
وَالْإِنَابَةُ: الرُّجُوعُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْكِنَايَةُ عَنْ تَرْكِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْغَيْرِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُجُودِ الْمَطْلُوبِ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَتِ الْإِنَابَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٥].
وَجِيءَ فِي فِعْلِ تَوَكَّلْتُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَفِي فِعْلِ أُنِيبُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تَوَكُّلَهُ عَلَى اللَّهِ كَانَ سَابِقًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ تَنَكُّرُ قَوْمِهِ لَهُ، فَقَدْ صَادَفَ تَنَكُّرُهُمْ مِنْهُ عَبْدًا مُتَوَكِّلًا عَلَى رَبِّهِ، وَإِذَا كَانَ تَوَكُّلُهُ قَدْ سَبَقَ تَنَكُّرَ قَوْمِهِ فَاسْتِمْرَارُهُ بَعْدَ أَنْ كَشَّرُوا لَهُ عَنْ أَنْيَابِ الْعُدْوَانِ مُحَقَّقٌ.
وَأَمَّا فِعْلُ أُنِيبُ فَجِيءَ فِيهِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَجَدُّدِ الْإِنَابَةِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ. وَيُعْلَمُ تَحَقُّقُهَا فِي الْمَاضِي بِمُقَارَنَتِهَا لِجُمْلَةِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ لِأَنَّ الْمُتَوَكِّلَ مُنِيبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الِاحْتِبَاكِ. وَالتَّقْدِيرُ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَأَتَوَكَّلُ وَإِلَيْهِ أَنَبْتُ وَأُنِيبُ.
وَتَقْدِيمُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ فِي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَا أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ وَلَا أُنِيبُ إِلَّا إِلَيْهِ.
[١١]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ١١]
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى: ٩]، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا أَعْقَبَ بِهِ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَإِنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ أَبْرَزِ آثَارِ صِفَةِ الْقُدْرَةِ الْمُنْفَرِدِ بِهَا.
وَالْفَاطِرُ: الْخَالِقُ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ فَاطِرٍ [١].
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ.
جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ فاطِرُ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ
أَعْمَالِكُمْ، وَلَيْسَتِ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ وَلَا لِلتَّسَبُّبِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي مَنْعَ الْمُسْلِمِ مِنْ تَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا إِذَا تَوَخَّى حَلَالَهَا وَعَمِلَ بِوَاجِبِهِ الدِّينِيِّ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الزُّهْدُ فِي الِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ أَرْفَعَ دَرَجَةً وَهِيَ دَرَجَةُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَاصَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لَأَنَا أَعْلَمُ
بِخَفْضِ الْعَيْشِ وَلَوْ شِئْتُ لَجَعَلْتُ أَكْبَادًا، وَصَلَائِقَ وَصِنَابًا وَكَرَاكِرَ وَأَسْنِمَةً (١) وَلَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ نَعَى عَلَى قَوْمٍ فَقَالَ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها. وَأَنَّمَا أَرَادَ عُمَرُ بِذَلِكَ الْخَشْيَةَ مِنْ أَنْ يَشْغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ وَاجِبِهِ مِنْ تَدْبِيرِ أُمُورِ الْأُمَّةِ فَيَقَعَ فِي التَّفْرِيطِ وَيُؤَاخَذَ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ عُمَرَ حِينَ دَخَلَ الشَّامَ قَدَّمَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ طَعَامًا طَيِّبًا. فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا لَنَا فَمَا لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا وَلَمْ يَشْبَعُوا مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ؟
فَقَالَ خَالِدٌ: لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَبَكَى عُمَرُ. وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ حَظُّنَا فِي الْمُقَامِ وَذَهَبُوا بِالْجَنَّةِ لَقَدْ بَايَنُونَا بَوْنًا بَعِيدًا.
وَالْهُونِ: الْهَوَانُ وَهُوَ الذُّلُّ وَإِضَافَةُ عَذابَ إِلَى الْهُونِ مَعَ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ تُجْزَوْنَ.
وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِكْبَارِ، الِاسْتِكْبَارُ على الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعَلى قَبُولِ التَّوْحِيدِ.
وَالْفُسُوقُ: الْخُرُوجُ عَنِ الدِّينِ وَعَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ يَأْخُذُ الْمُسْلِمُ بِحَظٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْجُرْمَيْنِ فَيَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنْ جَزَائِهِمَا الَّذِي لَقِيَهُ الْكَافِرُونَ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ.
وَالْفُسُوقُ: هُنَا الشِّرْكُ.
_________
(١) الصلائق بالصَّاد جمع صليقة وَهِي الشَّاة المصلوقة، أَي المشوية، وَالصِّنَاب بِكَسْر الصَّاد وَنون مُخَفّفَة وموحدة صباغ من خَرْدَل وزبيب يُؤْدم بِهِ اللَّحْم. والكراكر جمع كركرة بكافين مكسورين غُدَّة فِي صدر الْبَعِير تلاصق الأَرْض إِذا برك وَهِي لحم طيب.

[سُورَة الطّور (٥٢) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٦]

يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)
يَوْمَ يُدَعُّونَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ.
وَالدَّعُّ: الدَّفْعُ الْعَنِيفُ، وَذَلِكَ إِهَانَةٌ لَهُمْ وَغِلْظَةٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ يَوْمَ يُسَاقُونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ سَوْقًا بِدَفْعٍ، وَفِيهِ تَمْثِيلُ حَالِهِمْ بِأَنَّهُمْ خَائِفُونَ مُتَقَهْقِرُونَ فَتَدْفَعُهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِإِزْجَائِهِمْ إِلَى النَّارِ.
وَتَأْكِيدُ يُدَعُّونَ بِ دَعًّا لِتُوَصِّلَ إِلَى إِفَادَةِ تَعْظِيمِهِ بِتَنْكِيرِهِ.
وَجُمْلَةُ هذِهِ النَّارُ إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَالْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ يُقَدَّرُ بِمَا هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرٍ يُدَعُّونَ. وَتَقْدِيرُهُ: يُقَالُ لَهُمْ، أَوْ مَقُولًا لَهُمْ، وَالْقَائِلُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِإِيصَالِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ. وَالْإِشَارَةُ بِكَلِمَةِ هذِهِ الَّذِي هُوَ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ الْقَرِيب الْمُؤَنَّث تومىء إِلَى أَنَّهُمْ بَلَغُوهَا وَهُمْ عَلَى شِفَاهَا، وَالْمَقْصُودُ بِالْإِشَارَةِ التَّوْطِئَةُ لِمَا سَيَرِدُ بَعْدَهَا مِنْ قَوْلِهِ: الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ إِلَى لَا تُبْصِرُونَ.
وَالْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ فِي قَوْلِهِ: الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ لِتَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى فَسَادِ رَأْيِهِمْ إِذْ كَذَّبُوا بِالْحَشْرِ وَالْعِقَابِ فَرَأَوْا ذَلِكَ عِيَانًا.
وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا التَّنْبِيهِ تَنْبِيهٌ آخر على ضلالهم فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: أَفَسِحْرٌ هَذَا إِذْ كَانُوا حِينَ يَسْمَعُونَ الْإِنْذَارَ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ يَقُولُونَ: هَذَا سِحْرٌ، وَإِذَا عُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ قَالُوا: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ، فَلِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ مَا فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ مِنْ مَعْنَى التَّوْقِيفِ عَلَى خَطَئِهِمْ وَبَيْنَ التَّهَكُّمِ عَلَيْهِمْ بِمَا كَانُوا يَقُولُونَهُ دَخَلَتْ فَاءُ التَّفْرِيعِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُقَالُ لَهُمُ الْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي: أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ شَرْعَهَا اللَّهُ وَفَرْضَهَا عَلَى مَنْ يَجِدُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ قَبْلَ مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْقَطَهَا عَنِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يَتَصَدَّقُونَ بِهِ، وَجَعَلَ سَبَبَهَا وَوَقْتَهَا هُوَ وَقْتَ تُوَجُّهِهِمْ إِلَى مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ حَرِيصِينَ عَلَى سُؤَالِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمُورِ الدِّينِ كُلَّ يَوْمٍ فَشَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ هَذِهِ الصَّدَقَةَ كُلَّ يَوْمٍ لِنَفْعِ الْفُقَرَاءِ نَفْعًا يَوْمِيًّا، وَكَانَ الْفُقَرَاءُ أَيَّامَئِذٍ كَثِيرِينَ بِالْمَدِينَةِ مِنْهُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ وَمُعْظَمُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ شُرِعَتْ بَعْدَ الزَّكَاةِ فَتَكُونُ لِحِكْمَةِ إِغْنَاءِ الْفُقَرَاءِ يَوْمًا فَيَوْمًا لِأَنَّ الزَّكَاةَ تُدْفَعُ فِي رُؤُوسِ السِّنِينَ وَفِي مُعَيَّنِ الْفُصُولِ، فَلَعَلَّ مَا يَصِلُ إِلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهَا يَسْتَنْفِدُونَهُ قَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ الزَّكَاةِ الْقَابِلَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ صَدَقَةَ الْمُنَاجَاةِ شُرِعَتْ قَبْلَ شَرْعِ الزَّكَاةِ وَنُسِخَتْ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [المجادلة: ١٣] أَنَّ الزَّكَاةَ حِينَئِذٍ شَرْعٌ مُفْرَدٌ مَعْلُومٌ، وَلَعَلَّ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ صَحَّ عَنْهُ أَرَادَ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِالِاكْتِفَاءِ بِالزَّكَاةِ.
وَقَدْ تَعَدَّدَتْ أَخْبَارٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَسَانِيدِ تَتَضَمَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ يَدُمِ الْعَمَلُ بِهَا إِلَّا زَمَنًا قَلِيلًا، قِيلَ: إِنَّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: كَانَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَيْ أَنَّهَا لَمْ يَدُمِ الْعَمَلُ بِهَا طَوِيلًا إِنْ كَانَ الْأَمْرُ مُرَادًا بِهِ الْوُجُوبُ وَإِلَّا فَإِنَّ نَدْبَ ذَلِكَ لَمْ يَنْقَطِعْ فِي حَيَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَكُونَ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ أَزْكَى عِنْدَ مُلَاقَاةِ النَّبِيءِ مِثْلَ اسْتِحْبَابِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ لكل صَلَاة.
وتضافرت كَلِمَاتُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قَدْ نَسَخَهُ قَوْلُهُ: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة: ١٣] الْآيَةَ.
وَهَذَا مُؤَذِّنٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلْوُجُوبِ. وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ وَأَحْكَامِ ابْنِ الْفَرَسِ حِكَايَةُ أَقْوَالٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تَحُومُ حَوْلَ كَوْنِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ شُرِعَتْ لِصَرْفِ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ عَنْ مُنَاجَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانُوا قَدْ أَلْحَفُوا فِي مُنَاجَاتِهِ دُونَ دَاعٍ يَدْعُوهُمْ فَلَا يَنْثَلِجُ لَهَا صَدْرُ الْعَالِمِ لِضَعْفِهَا سَنَدًا وَمَعْنًى، وَمُنَافَاتِهَا مَقْصِدَ الشَّرِيعَةِ. وَأَقْرَبُ مَا رُوِيَ عَنْ خَبَرِ تَقْرِيرِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ مَا
فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ عَلِىِّ بْنِ عَلْقَمَةَ الْأَنْمَارِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ
وَالْغُرُورُ: ظَنُّ النَّفْسِ وُقُوعِ أَمْرٍ نَافِعٍ لَهَا بِمَخَائِلِ تَتَوَهُّمِهَا، وَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ أَوْ هُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي آخِرِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٦] وَقَوْلِهِ: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي الْأَنْعَامِ [١١٢] وَقَوْلِهِ: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [٥].
وَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي شِدَّةِ التَّلَبُّسِ بِالْغُرُورِ حَتَّى كَأَنَّ الْغُرُورَ مُحِيطٌ بِهِمْ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ.
وَالْمَعْنَى: مَا الْكَافِرُونَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ الْغُرُورِ، وَهَذَا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِقَلْبِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ فِي مَأْمَنٍ مِنَ الْكَوَارِثِ بحماية آلِهَتهم.
[٢١]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢١]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١)
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ انْتِقَالٌ آخَرُ وَالْكَلَامُ عَلَى أسلوب قَوْله: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ [الْملك:
٢٠]، وَهَذَا الْكَلَامُ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الْملك: ١٥] عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ.
وَالرِّزْقُ: مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَطَرِ، وَعَلَى الطَّعَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمرَان: ٣٧].
وَضَمِيرُ أَمْسَكَ وَضَمِيرُ رِزْقَهُ عَائِدَانِ إِلَى لفظ الرَّحْمنِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ:
مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ [الْملك: ٢٠].
وَجِيءَ بِالصِّلَةِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى التَّجَدُّدِ لِأَنَّ الرِّزْقَ يَقْتَضِي التِّكْرَارَ إِذْ حَاجَةُ الْبَشَرِ إِلَيْهِ مُسْتَمِرَّةٌ. وَكُتِبَ أَمَّنْ فِي الْمُصْحَفِ بِصُورَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَة كَمَا كتبت نَظِيرَتُهَا الْمُتَقَدِّمَةُ آنِفًا.
بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ وَقَعَ جَوَابًا عَن سُؤال ناشىء عَنْ الدَّلَائِلِ وَالْقَوَارِعِ وَالزَّوَاجِرِ وَالْعِظَاتِ وَالْعِبَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الْملك: ٢] إِلَى هُنَا، فَيَتَّجِهُ لِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ: لَعَلَّهُمْ نَفَعَتْ عِنْدَهُمْ الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ، وَاعْتَبَرُواْ بِالْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، فَأُجِيبَ بِإِبْطَالِ ظَنِّهِ بِأَنَّهُمْ لَجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ.
يَنْتَظِرُهُمْ عَذَابٌ آخَرُ أَشَدُّ، فَكَانَ ذَلِكَ حُزْنًا فَوْقَ حَزْنٍ، فَهَذَا مِنْوَالُ هَذَا النَّظْمِ وَهُوَ مُؤَذِّنٌ بِشِدَّةِ الْغَضَبِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَشَدُّ مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ أُسْنِدَ هَذَا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثٍ عَنْ أَبِي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ. قَالَ: «سَأَلْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشَدِّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ؟ فَقَالَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً
وَفِي سَنَدِهِ جِسْرُ بْنُ فَرْقَدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا.
وَفِي «ابْنِ عَطِيَّةَ»
: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ سَنَدَهُ، وَتَعَدُّدُ طُرُقِهِ يكسبه قُوَّة.
[٣١- ٣٦]
[سُورَة النبإ (٧٨) : الْآيَات ٣١ إِلَى ٣٦]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦)
جَرَى هَذَا الِانْتِقَالُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ الْإِنْذَارِ لِلْمُنْذَرِينَ بِتَبْشِيرِ مَنْ هُمْ أَهْلٌ لِلتَّبْشِيرِ.
فَانْتُقِلَ مِنْ تَرْهِيبِ الْكَافِرِينَ بِمَا سَيُلَاقُونَهُ إِلَى تَرْغِيبِ الْمُتَّقِينَ فِيمَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ كَرَامَةٍ وَمِنْ سَلَامَةٍ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الشِّرْكِ.
فَالْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً [النبأ: ٢١- ٢٢] وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا بِمُنَاسَبَةِ مُقْتَضِي الِانْتِقَالِ.
وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفِ إِنَّ لِلدِّلَالَةِ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِئَلَّا يَشُكَّ فِيهِ أَحَدٌ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَاجْتَنَبُوا مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ مُقَابَلَتِهِمْ بِالطَّاغِينَ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْمَفَازُ: مَكَانُ الْفَوْزِ وَهُوَ الظَّفَرُ بِالْخَيْرِ وَنِيلُ الْمَطْلُوبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا بِمَعْنَى الْفَوْزِ، وَتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ.


الصفحة التالية
Icon