وتخلّص إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ بَيْنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْفَلْسَفِيَّةِ اتِّصَالًا. وَإِلَى مِثْلِ ذَلِكَ ذَهَبَ قُطْبُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحِ حِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ»، وَهَذَا الْغَزَالِيُّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيُّ وَأَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ وَأَمْثَالُهُمْ صَنِيعُهُمْ يَقْتَضِي التَّبَسُّطَ وَتَوْفِيقَ الْمَسَائِلِ العلمية، فقد ملأوا كُتُبَهُمْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةِ بِقَوَاعِدِ الْعُلُومِ الْحِكَمِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِ «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ»، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِيمَا أَمْلَاهُ عَلَى سُورَةِ نُوحٍ وَقِصَّةِ الْخَضِرِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ جَنِّي وَالزَّجَّاجُ وَأَبُو حَيَّانَ قَدْ أَشْبَعُوا «تَفَاسِيرَهُمْ» مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَلَامَ الصَّادِرَ عَنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ لَا تُبْنَى مَعَانِيهِ عَلَى فَهْمِ طَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّ مَعَانِيَهُ تُطَابِقُ الْحَقَائِقَ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْحَقِيقَةِ فِي عِلْمٍ مِنَ
الْعُلُومِ وَكَانَتِ الْآيَةُ لَهَا اعْتِلَاقٌ بِذَلِكَ فَالْحَقِيقَةُ الْعِلْمِيَّةُ مُرَادَةٌ بِمِقْدَارِ مَا بَلَغَتْ إِلَيْهِ أَفْهَامُ الْبَشَرِ وَبِمِقْدَارِ مَا سَتَبْلُغُ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقَامَاتِ وَيُبْنَى عَلَى تَوَفُّرِ الْفَهْمِ، وَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَمَّا يَصْلُحُ لَهُ اللَّفْظُ عَرَبِيَّةً، وَلَا يَبْعُدُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا يَكُونُ تَكَلُّفًا بَيِّنًا وَلَا خُرُوجًا عَنِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ كَتَفَاسِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ.
وَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فَقَالَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ: «لَا يَصِحُّ فِي مَسْلَكِ الْفَهْمِ وَالْإِفْهَامِ إِلَّا مَا يَكُونُ عَامًّا لجَمِيع الْعَرَب، فَلَا يتكلّف فِيهِ فَوْقَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ» وَقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي: «مَا تَقَرَّرَ مِنْ أُمِّيَّةِ الشَّرِيعَةِ وَأَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِهَا وَهُمُ الْعَرَبُ تَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوَاعِدُ، مِنْهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تَجَاوَزُوا فِي الدَّعْوَى عَلَى الْقُرْآنِ الْحَدَّ فَأَضَافُوا إِلَيْهِ كُلَّ عِلْمٍ يُذْكَرُ لِلْمُتَقَدِّمِينَ أَوِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلُومِ الطَّبِيعِيَّاتِ وَالتَّعَالِيمِ وَالْمَنْطِقِ وَعِلْمِ الْحُرُوفِ وَأَشْبَاهِهَا وَهَذَا إِذَا عَرَضْنَاهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَمْ يَصِحَّ فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا أَعْلَمَ بِالْقُرْآنِ وَبِعُلُومِهِ وَمَا أُودِعَ فِيهِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا سِوَى مَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّكَالِيفِ وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ. نَعَمْ تَضَمَّنَ عُلُومًا مِنْ جِنْسِ عُلُومِ الْعَرَبِ وَمَا هُوَ عَلَى مَعْهُودِهَا مِمَّا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ أُولُو الْأَلْبَابِ وَلَا تَبْلُغُهُ إِدْرَاكَاتُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ إِلَخْ».
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا أَسَّسَهُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ لَمَّا كَانَ خِطَابًا لِلْأُمِّيِّينَ وَهُمُ الْعَرَبُ فَإِنَّمَا يَعْتَمِدُ فِي مَسْلَكِ فَهْمِهِ وَإِفْهَامِهِ عَلَى مَقْدِرَتِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ أُمِّيَّةٌ. وَهُوَ أَسَاسٌ وَاهٍ لِوُجُوهٍ سِتَّةٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ مَا بَنَاهُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهُ انْتِقَالُ الْعَرَبِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: ٤٩]. الثَّانِي أَنَّ مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ
وَ (كَانَ) تَامَّةٌ أَيْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ تُوجَدُونَ مِنْ مَوَاقِعِ الْخَيْرِ وَمَوَاقِعِ السُّوءِ.
وَالْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ جَلْبُهُ وَهُوَ مَجَازٌ فِي لَازِمِ حَقِيقَتِهِ فَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُرْبِ وَالطَّاعَةِ. قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ يَمْدَحُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ:

أَتَاكَ بِيَ اللَّهُ الَّذِي نَوَّرَ الْهُدَى وَنُورٌ وَإِسْلَامٌ عَلَيْكَ دَلِيلُ
أَرَادَ سَخَّرَنِي إِلَيْكَ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهَا»
أَيِ اهْدِهَا وَقَرِّبْهَا لِلْإِسْلَامِ وَيسْتَعْمل فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الشَّيْءِ وَفِي الْعِلْمِ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لُقْمَان:
١٦].
وَتَجِيءُ أَقْوَال فِي تفطسير أَيْنَما تَكُونُوا عَلَى حَسَبِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى تَقَبَّلَ اللَّهُ أَعْمَالَكُمْ فِي اسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ فَإِنَّهُ الْمُهِمُّ، لَا اسْتِقْبَال الْجِهَات أَو الْمَعْنى إِنَّكُمْ إِنَّمَا تَسْتَقْبِلُونَ مَا يُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ فَاسْعَوْا فِي مَرْضَاتِهِ بِالْخَيْرَاتِ يَعْلَمُ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، أَوْ هُوَ تَرْهِيبٌ أَيْ فِي أَيَّةِ جِهَةٍ يَأْتِ الله بكم فيثيت وَيُعَاقِبُ، أَوْ هُوَ تَحْرِيضٌ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَيْ فَأَنْتُمْ صَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَبَادِرُوا بِالطَّاعَةِ قَبْلَ الْفَوْتِ بِالْمَوْتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوه.
وَقَوله: نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
تَذْيِيلٌ يُنَاسِبُ جَمِيعَ الْمعَانِي الْمَذْكُورَة.
[١٤٩، ١٥٠]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ١٤٩ إِلَى ١٥٠]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)
عُطِفَ قَوْلُهُ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: ١٤٤] عَطْفَ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ مِنْ جِنْسِهِ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ لَا تَهَاوُنَ فِي الْقِيَامِ بِهِ وَلَوْ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ كَالسَّفَرِ، فَالْمُرَادُ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ خَرَجْتَ
الْمَنَّ وَالْأَذَى فِي الصَّدَقَةِ أَكْثَرُ حُصُولًا لِكَوْنِ الصَّدَقَةِ مُتَعَلِّقَةً بِأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ، بِخِلَافِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ تَنَالُهُمُ النَّفَقَةُ لَا يَعْلَمُهُمُ الْمُنْفِقُ.
فَالْمَنُّ عَلَى الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ هُوَ تَذْكِيرُهُ بِالنِّعْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَمِنْ فِقْرَاتِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْكَلِمِ النَّوَابِغِ» :«طَعْمُ الْآلَاءِ أَحْلَى مِنَ الْمَنِّ. وَهُوَ أَمَرُّ مِنَ الْآلَاءِ عِنْدَ الْمَنِّ» الْآلَاءُ الْأَوَّلُ النِّعَمُ وَالْآلَاءُ الثَّانِي شَجَرٌ مُرُّ الْوَرَقِ، وَالْمَنُّ الْأَوَّلُ شَيْءٌ شِبْهُ الْعَسَلِ يَقَعُ كَالنَّدَى عَلَى بَعْضِ شَجَرِ بَادِيَةِ سِينَا وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [الْبَقَرَة: ٥٧]، والمنّ الثَّانِي تَذْكِيرُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالنِّعْمَةِ.
وَالْأَذَى الْإِسَاءَةُ وَالضُّرُّ الْقَلِيلُ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان: ١١١]، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَذَى الصَّرِيحُ مِنَ الْمُنْعِمِ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ كَالتَّطَاوُلِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَعْطَاهُ، أَوْ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْعَطَاءِ، بَلْهَ تَعْيِيرِهِ بِالْفَقْرِ، وَهُوَ غَيْرُ الْأَذَى الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَ الْمَنِّ.
وَأَشَارَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنَ «الْإِحْيَاءِ» إِلَى أَنَّ الْمَنَّ لَهُ أَصْلٌ وَمَغْرِسٌ وَهُوَ مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ وَصِفَاتِهِ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. وَمَنْبَعُ الْأَذَى أَمْرَانِ: كَرَاهِيَةُ الْمُعْطِي إِعْطَاءَ مَالَهُ وَشِدَّةُ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَرُؤْيَتُهُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْفَقِيرِ، وَكِلَاهُمَا مَنْشَؤُهُ الْجَهْلُ فَإِنَّ كَرَاهِيَةَ تَسْلِيمِ الْمَالِ حُمْقٌ لِأَنَّ مَنْ بَذَلَ الْمَالَ لِطَلَبِ رِضَا اللَّهِ وَالثَّوَابِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ أَشَرَفُ مِمَّا بَذَلَهُ، وَظَنُّهُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْفَقِيرِ جَهْلٌ بِخَطَرِ الْغِنَى، أَيْ أَنَّ مَرَاتِبَ النَّاسِ بِمَا تَتَفَاوَتُ بِهِ نُفُوسُهُمْ مِنَ التَّزْكِيَةِ لَا بِعَوَارِضِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ الَّتِي لَا تَنْشَأُ عَنْ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ.
وَلَمَّا حَذَّرَ اللَّهُ الْمُتَصَدِّقَ مِنْ أَنْ يُؤْذِيَ الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ عُلِمَ أَنَّ التَّحْذِيرَ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهِ كَشَتْمِهِ وَضَرْبِهِ حَاصِلٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالنَّهْيِ.
أَوْسَعَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَقَامَ بَيَانًا وَتَرْغِيبًا وَزَجْرًا بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ وَتَفَنُّنَاتٍ بَدِيعَةٍ فَنَبَّهَنَا بِذَلِكَ إِلَى شِدَّةِ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْمَعُونَةِ.
وَكَيْفَ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ وَقِوَامُ الْأُمَّةِ دَوَرَانُ أَمْوَالِهَا بَيْنَهَا، وَأَنَّ مِنْ أَكْبَرِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الِانْتِفَاعُ بِالثَّرْوَةِ الْعَامَّةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ عَلَى وُجُوهٍ جَامِعَةٍ بَيْنَ رَعْيِ الْمَنْفَعَةِ الْعَامَّةِ وَرَعْيِ الْوِجْدَانِ الْخَاصِّ، وَذَلِكَ بِمُرَاعَاةِ الْعَدْلِ مَعَ الَّذِي كَدَّ لِجَمْعِ الْمَالِ وَكَسْبِهِ،
(١٠٧)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِ، مُتَعَلِّقًا بِمَا فِي قَوْلِهِ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ مَعْنَى كَائِنٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ: أَيْ يَكُونُ عَذَابٌ لَهُمْ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، وَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى أَكْثَرِ الِاسْتِعْمَالِ فِي إِضَافَةِ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ إِلَى الْجُمَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلِ اذْكُرْ مَحْذُوفًا، وَتَكُونُ جُمْلَةُ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ صفة ل (يَوْم) عَلَى تَقْدِيرِ: تَبْيَضُّ فِيهِ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ فِيهِ وُجُوهٌ.
وَفِي تَعْرِيفِ هَذَا الْيَوْمِ بِحُصُولِ بَيَاضِ وُجُوهٍ وَسَوَادِ وُجُوهٍ فِيهِ، تَهْوِيلٌ لِأَمْرِهِ، وَتَشْوِيقٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ تَفْصِيلِ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ الْمُبْيَضَّةِ، وَالْوُجُوهِ الْمُسْوَدَّةِ: تَرْهِيبًا لِفَرِيقٍ وَتَرْغِيبًا لِفَرِيقٍ آخَرَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ عِلْمَ السَّامِعِينَ بِوُقُوعِ تَبْيِيضِ وُجُوهٍ وَتَسْوِيدِ وُجُوهٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلُ: فِي الْآيَاتِ النَّازِلَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: ٦٠] وَقَوْلُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس: ٣٨- ٤١].
وَالْبَيَاضُ وَالسَّوَادُ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ حَقِيقِيَّانِ يُوسَمُ بِهِمَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُمَا بَيَاضٌ وَسَوَادٌ خَاصَّانِ لِأَن هَذَا م أَحْوَالِ الْآخِرَةِ فَلَا دَاعِيَ لِصَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ تَفْصِيلٌ لِلْإِجْمَالِ السَّابِقِ، سُلِكَ فِيهِ طَرِيقُ النَّشْرِ الْمَعْكُوسِ، وَفِيهِ إِيجَازٌ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فَهُمُ الْكَافِرُونَ يُقَالُ لَهُمْ أكفرتم إِلَى آخر: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
قدّم عِنْدَ وَصْفِ الْيَوْمِ ذِكْرُ الْبَيَاضِ، الَّذِي هُوَ شِعَارُ أَهْلِ النَّعِيمِ، تَشْرِيفًا لِذَلِكَ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَوْمُ ظُهُورِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ، وَلِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَلِأَنَّ فِي ذِكْرِ سِمَةِ أَهْلِ النَّعِيمِ، عَقِبَ وَعِيدِ بِالْعَذَابِ، حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، إِذْ
وَضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ يَجْرِي عَلَى التَّوْزِيعِ، وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْهَجْرُ وَالضَّرْبُ بِمُجَرَّدِ تَوَقُّعِ النُّشُوزِ قَبْلَ حُصُولِهِ اتِّفَاقًا، وَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ الْأَزْوَاجَ كَانَ إِذْنًا لَهُمْ بِمُعَامَلَةِ أَزْوَاجِهِمُ النَّوَاشِزِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ، وَكَانَ الْأَزْوَاجُ مُؤْتَمَنِينَ عَلَى تَوَخِّي مَوَاقِعِ هَذِهِ الْخِصَالِ بِحَسَبِ قُوَّةِ النُّشُوزِ وَقَدْرِهِ فِي الْفَسَادِ، فَأَمَّا الْوَعْظُ فَلَا حَدَّ لَهُ، وَأَمَّا الْهَجْرُ فَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ إِلَى حَدِّ الْإِضْرَارِ بِمَا تَجِدُهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الْكَمَدِ، وَقَدْ قَدَّرَ بَعْضُهُمْ أَقْصَاهُ بِشَهْرٍ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ فَهُوَ خَطِيرٌ وَتَحْدِيدُهُ عَسِيرٌ، وَلَكِنَّهُ أُذِنَ فِيهِ فِي حَالَةِ ظُهُورِ الْفَسَادِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ اعْتَدَتْ حِينَئِذٍ، وَلَكِنْ يَجِبُ تَعْيِينُ حَدٍّ فِي ذَلِكَ، يُبَيَّنُ فِي الْفِقْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أُطْلِقَ
لِلْأَزْوَاجِ أَنْ يَتَوَلَّوْهُ، وَهُمْ حِينَئِذٍ يَشْفُونَ غَضَبَهُمْ، لَكَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ تَجَاوُزِ الْحَدِّ، إِذْ قَلَّ مَنْ يُعَاقِبُ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ، عَلَى أَنَّ أَصْلَ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ لَا تَسْمَحُ بِأَنْ يَقْضِيَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ لَوْلَا الضَّرُورَةُ. بَيْدَ أَنَّ الْجُمْهُورَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْإِضْرَارِ، وَبِصُدُورِهِ مِمَّنْ لَا يُعَدُّ الضَّرْبُ بَيْنَهُمْ إِهَانَةً وَإِضْرَارًا. فَنَقُولُ: يَجُوزُ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ الْأَزْوَاجَ لَا يُحْسِنُونَ وَضْعَ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَوَاضِعَهَا، وَلَا الْوُقُوفَ عِنْدَ حُدُودِهَا أَنْ يَضْرِبُوا عَلَى أَيْدِيهِمُ اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، وَيُعْلِنُوا لَهُمْ أَنَّ مَنْ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ عُوقِبَ، كَيْلَا يَتَفَاقَمَ أَمْرُ الْإِضْرَارِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ ضعف الْوَازِع.
[٣٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٣٥]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النِّسَاء: ٣٤] وَهَذَا حُكْمُ أَحْوَالٍ أُخْرَى تَعْرِضُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَهِيَ أَحْوَالُ الشِّقَاقِ مِنْ مُخَاصَمَةٍ وَمُغَاضَبَةٍ وَعِصْيَانٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ، أَيْ دُونَ نُشُوزٍ مِنَ الْمَرْأَةِ.
لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ كُلَّهَا دَلِيلُ حِكْمَتِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا بِوَصْفِ الْعَزِيزِ فَلِأَنَّ الْعَزِيزَ يُنَاسِبُ عِزَّتَهُ أَنْ يَكُونَ غَالِبًا مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ فَهُوَ غَالِبٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْبُودِيَّةِ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَغَالِبٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْقُولِيَّةِ إِذْ شَاءَ أَنْ لَا يُؤَاخِذَ عَبِيدَهُ إِلَّا بَعْدَ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْآيَاتِ. وَتَأْخِيرُ
وَصْفِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ إِجْرَاءَ عِزَّتِهِ عَلَى هَذَا التَّمَامِ هُوَ أَيْضًا مِنْ ضُرُوبِ الْحِكْمَة الباهرة.
[١٦٦]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٦٦]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦)
هَذَا اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَعْنًى أَثَارَهُ الْكَلَامُ: لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ من قَوْله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ [النِّسَاء: ١٥٣] مَسُوقٌ مَسَاقَ بَيَانِ تَعَنُّتِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ عَنْ أَنْ يَشْهَدُوا بِصِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ نِسْبَةِ الْقُرْآنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ يَأْبَوْنَ مِنَ الشَّهَادَةِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ الِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ. فَإِنَّ الِاسْتِدْرَاكَ تَعْقِيبُ الْكَلَامِ بِرَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ أَوْ نَفْيُهُ. وَالْمَعْنَى: لَمْ يَشْهَدْ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكِنَّ اللَّهَ شَهِدَ وَشَهَادَةُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ شَهَادَتِهِمْ.
وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٢]، أَنَّ حَقِيقَةَ الشَّهَادَةِ إِخْبَارٌ لِتَصْدِيقِ مُخْبِرٍ، وَتَكْذِيبِ مُخْبِرٍ آخَرَ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْخَبَرِ الْمُحَقِّقِ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُهُ الشَّكُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٨]. فَالشَّهَادَةُ فِي قَوْلِهِ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ أُطْلِقَتْ عَلَى الْإِخْبَارِ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ إِطْلَاقًا مَجَازِيًّا، لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ تَضَمَّنَ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ وَتَكْذِيبَ مُعَانَدِيهِ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ مِنَ الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقِيِّ هُوَ غَيْرُ الْإِطْلَاقِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمرَان: ١٨] فَإِنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَعُطِفَ شَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى شَهَادَةِ اللَّهِ: لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِتَعَدُّدِ الشُّهُودِ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ اللَّهِ مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ وَشَهَادَةَ الْمَلَائِكَةِ
صِفَةٌ لِاسْمِ الشَّرْطِ، أَيْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا. وَفَائِدَةُ إِيرَادِ قَوْلِهِ مِنْكُمْ أَعْرَضَ عَنْ بَيَانِهَا الْمُفَسِّرُونَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ إِيرَادِ هَذَا الْوَصْفِ التَّنْبِيهُ عَلَى إِبْطَالِ فِعْلِ أَهْلِ
الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَنْ أَصَابَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ مِنْهُمْ كَانُوا يَضْرِبُونَهُ وَيَسْلُبُونَهُ ثِيَابَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَتَعْلِيقُ حُكْمِ الْجَزَاءِ عَلَى وُقُوعِ الْقَتْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجِبُ إِلَّا إِذَا قَتَلَ الصَّيْدَ، فَأَمَّا لَوْ جَرَحَهُ أَوْ قَطَعَ مِنْهُ عُضْوًا وَلَمْ يَقْتُلْهُ فَلَيْسَ فِيهِ جَزَاءٌ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ سَوَاءٌ أَكَلَ الْقَاتِلُ الصَّيْدَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْهُ لِأَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ هُوَ الْقَتْلُ.
وَقَوله مُتَعَمِّداً قيد أَخْرَجَ الْمُخْطِئَ، أَيْ فِي صَيْدِهِ. وَلَمْ تُبَيِّنْ لَهُ الْآيَةُ حُكْمًا لَكِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ لَا يَكُونُ أَشَدَّ مِنَ الْمُتَعَمِّدِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ جَزَاءٌ آخَرُ أَخَفُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ. قَالَ الزُّهْرِيِّ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْعَمْدِ وَجَرَتِ السُّنَّةُ فِي النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ أَنَّهُمَا يُكَفِّرَانِ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالسُّنَّةِ الْعَمَلَ مِنْ عَهْدِ النُّبُوءَةِ وَالْخُلَفَاءِ وَمَضَى عَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: إِنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَقَدْ غَلَّبَ مَالِكٌ فِيهِ مَعْنَى الْغُرْمِ، أَيْ قَاسَهُ عَلَى الْغُرْمِ. وَالْعَمْدُ وَالْخَطَأُ فِي الْغُرْمِ سَوَاءٌ فَلِذَلِكَ سَوَّى بَيْنَهُمَا. وَمَضَى بِذَلِكَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ من الْمَالِكِيَّة، وداوود الظَّاهِرِيُّ، وَابْن جُبَير وطاووس، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ: لَا شَيْءَ عَلَى النَّاسِي. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: إِنْ كَانَ مُتَعَمِّدًا لِلْقَتْلِ نَاسِيًا إِحْرَامَهُ فَهُوَ مَوْرِدُ الْآيَةِ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَأَمَّا الْمُتَعَمِّدُ لِلْقَتْلِ وَهُوَ ذَاكر لإحرامه فَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ وَقَدْ بَطُلَ حَجُّهُ، وَصَيْدُهُ جِيفَةٌ لَا يُؤْكَلُ.
وَقَوْلُهُ:
وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ حَالُ مَنْ كَانَ مَيِّتًا فِي
ظُلُمَاتٍ. وَقَوْلُهُ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ تَقْدِيرُهُ: كَمَنْ مَثَلُهُ مثل ميّت فَمَا صدق (مَنْ) مَيِّتٌ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِمَيِّتٍ فِي الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ جُزْءَ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ هُوَ الْمَيِّتُ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ وَالْمُشَبَّهَ بِهِ سَوَاءٌ فِي الْحَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ حَالَةُ كَوْنِ الْفَرِيقَيْنِ مُشْرَكَيْنِ. وَلَفْظُ (مَثَلِ) بِمَعْنَى حَالَةِ. وَنَفْيُ الْمُشَابَهَةِ هُنَا مَعْنَاهُ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ، وَنَفْيُ الْمُسَاوَاةِ كِنَايَةٌ عَنْ تَفْضِيلِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى تَفْضِيلًا لَا يَلْتَبِسُ، فَذَلِكَ مَعْنَى نَفْيِ الْمُشَابَهَةِ كَقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرَّعْد: ١٦]- وَقَوْلِهِ- أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَة: ١٨]. وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ كَافُ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ مَنْفِيٌّ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ.
وَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ تَمْثِيلِ حَالِ مَنْ أَسْلَمَ وَتَخَلَّصَ مِنَ الشِّرْكِ بِحَالِ مَنْ كَانَ مَيِّتًا فَأُحْيِيَ، وَتَمْثِيلُ حَالِ مَنْ هُوَ بَاقٍ فِي الشِّرْكِ بِحَالٍ مَيِّتٍ بَاقٍ فِي قَبْرِهِ. فَتَضَمَّنَتْ جُمْلَةُ:
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً إِلَى آخِرِهَا تَمْثِيلُ الْحَالَةِ الْأُولَى، وَجُمْلَةُ: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ إِلَخْ تَمْثِيلُ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، فَهُمَا حَالَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ، وَحَالَتَانِ مُشَبَّهٌ بِهِمَا، وَحَصَلَ بِذِكْرِ كَافِ التَّشْبِيهِ وَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ نَفْيُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ مَنْ أَسْلَمَ وَبَيْنَ مَنْ بَقِيَ فِي الشِّرْكِ. كَمَا حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ: أَنَّ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ تَشْبِيهَيْنِ مُرَكَّبَيْنِ.
وَلَكِنَّ وُجُودَ كَافِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَمَنْ مَثَلُهُ مَعَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِ الْمُشَبَّهَيْنِ فِي التَّرْكِيبَيْنِ أَثَارَا شُبْهَةً: فِي اعْتِبَارِ هَذَيْنِ التَّشْبِيهَيْنِ أَهْوَ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ، أَمْ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ فَنَحَا
الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ، وَتَأْنِيثُهُ إِمَّا رَعْيٌ لِمَعْنَاهُ بِتَأْوِيلِ الْبُقْعَةِ، أَوْ لِلَفْظِ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا مَكَانُ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ هَذَا الضَّمِيرِ بِالتَّأْنِيثِ.
وَقَوْلُهُ: فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّفْرِيعِ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ، وَهُوَ عُقُوبَةٌ خَاصَّةٌ عُقُوبَةُ إِبْعَادٍ عَنِ الْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ خُلُقُهُ غَيْرَ مُلَائِمٍ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ لَهُ، وَذَلِكَ خُلُقُ التَّكَبُّرِ لِأَنَّ الْمَكَانَ كَانَ مَكَانًا مُقَدَّسًا فَاضِلًا لَا يَكُونُ إِلَّا مُطَهَّرًا مِنْ كُلِّ مَا لَهُ وَصْفٌ يُنَافِيهِ وَهَذَا مَبْدَأٌ حَاوَلَهُ الْحُكَمَاءُ الْبَاحِثُونَ عَنِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُحْدِثُوا بِدْعَةً فِي بَلَدِنَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ مَحَلَّتِهِمْ مَنْ يُخْشَى مِنْ سِيرَتِهِ فُشُوُّ الْفَسَادِ بَيْنَهُمْ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: فَما يَكُونُ لَكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَا يُغْتَفَرُ مِنْهُ، لِأَنَّ النَّفْيَ بِصِيغَةِ (مَا يَكُونُ لَكَ) كَذَا أَشَدُّ مِنَ النَّفْيِ بِ (لَيْسَ لَكَ كَذَا) كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ الْآيَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ [٧٩]، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ هُنَا نَهْيًا لِأَنَّهُ نَفَاهُ عَنْهُ مَعَ وُقُوعِهِ، وَعَلَيْهِ فَتَقْيِيدُ نَفْيِ التَّكَبُّرِ عَنْهُ بِالْكَوْنِ فِي السَّمَاءِ لِوُقُوعِهِ عِلَّةً لِلْعُقُوبَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ عُقُوبَةُ الطَّرْدِ مِنَ السَّمَاءِ، فَلَا دَلَالَةَ لِذَلِكَ الْقَيْدِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ فِي غَيْرِهَا، وَكَيْفَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ التَّكَبُّرَ مَعْصِيَةٌ لَا تَلِيقُ بِأَهْلِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ.
وَقَوْلُهُ: فَاخْرُجْ تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ فَاهْبِطْ بِمُرَادِفِهَا، وَأُعِيدَتِ الْفَاءُ مَعَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِ تَسَبُّبِ الْكِبْرِ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ يَجُوزُ أَنْ تكون مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا، إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ الْإِخْبَارَ عَنْ تَكْوِينِ الصِّغَارِ فِيهِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ صَاغِرًا حَقِيرًا حَيْثُمَا حَلَّ، فَفَصْلُهَا عَنِ الَّتِي قبلهَا للاستيناف، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْإِخْرَاجِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا
وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٣٢]، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَالِكَ: «لَمْ يعد الْفِعْل بَقِي مِثْلَ مَا يُعَدَّى بِإِلَى، وَلَكِنَّ الْأُمَّةَ جُعِلَتْ مَوْضِعًا لِلْإِرْسَالِ كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ:
أَرْسَلْتَ فِيهَا مُصْعَبًا ذَا إِقْحَامٍ (١)
وَقَدْ جَاءَ (بَعَثَ) عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً [الْفرْقَان:
٥١]، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا قَرِيبٌ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ [الْأَعْرَاف:
٩٤].
وَالْمَدَائِنُ: جَمْعُ مَدِينَةٍ، وَهِيَ بِوَزْنِ فَعِيلَةٍ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَدَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ وَلَعَلَّ (مَدَنَ) هُوَ الْمُشْتَقُّ مِنَ الْمَدِينَةِ لَا الْعَكْسُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْأَظْهَرُ أَنَّ مِيمَ مَدِينَةٍ أَصْلِيَّةٌ وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ عَلَى مَدَائِنَ بِالْهَمْزَةِ كَمَا قَالُوا (صَحَائِفُ) جَمْعُ صَحِيفَةٍ. وَلَوْ كَانَتْ مَفْعَلَةً مِنْ دَانَهُ لَقَالُوا فِي الْجَمْعِ مَدَايِنَ بِالْيَاءِ مِثْلَ مَعَايِشَ.
وَمُدَايِنُ مِصْرَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ كَثِيرَةٌ وَسَنَذْكُرُ بَعْضَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٥٣]. قِيلَ أَرَادُوا مَدَائِنَ الصَّعِيدِ وَكَانَتْ مَقَرَّ الْعُلَمَاءِ بِالسِّحْرِ. وَالْحَاشِرُونَ الَّذِينَ يَحْشُرُونَ النَّاسَ وَيَجْمَعُونَهُمْ.
وَالشَّأْنُ أَنْ يَكُونَ مَلَأُ فِرْعَوْنَ عُقَلَاءَ أَهْلَ سِيَاسَةٍ، فَعَلِمُوا أَنَّ أَمْرَ دَعْوَةِ مُوسَى لَا يَكَادُ يَخْفَى. وَأَنَّ فِرْعَوْنَ إِنْ سَجَنَهُ أَوْ عَانَدَ، تَحَقَّقَ النَّاسُ أَنَّ حُجَّةَ مُوسَى غَلَبَتْ، فَصَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِلشَّكِّ فِي دِينِ فِرْعَوْنَ، فَرَأَوْا أَنْ يُلَايِنُوا مُوسَى، وَطَمِعُوا أَنْ يُوجَدَ فِي سَحَرَةِ مِصْرَ مَنْ يُدَافِعُ آيَاتِ مُوسَى، فَتَكُونُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ ظَاهِرَةً لِلنَّاسِ.
وَجَزْمُ يَأْتُوكَ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ اتِّصَالِ السَّبَبِيَّةِ بَيْنَ الْإِرْسَالِ وَالْإِتْيَانِ، فَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تُرْسِلْ يَأْتُوكَ، وَقَدْ قِيلَ: فِي مِثْلِهِ إِنَّهُ مَجْزُومٌ بِلَامِ الْأَمْرِ مَحْذُوفَةٍ، عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ بَدَلٌ مِنْ أَرْسِلْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ. أَيْ: أَرْسِلْهُمْ آمِرًا لَهُمْ فَلْيَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ فِعْلِ الْقَوْلِ نَحْوَِِ:
_________
(١) المصعب بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين (الْفَحْل) الصعب من الْإِبِل وَبَقِيَّة الرجز:
طبّا فَقِيها بذوات الإيلام
وَأَمَّا الْإِضْمَارُ فِي آلِ عِمْرَانَ فَلِكَوْنِ التَّكْذِيبِ تَكْذِيبًا لِآيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى ثُبُوتِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُضِيفَتِ الْآيَاتُ إِلَى الضَّمِيرِ عَلَى الْأَصْلِ فِي التَّكَلُّمِ.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ بِذِكْرِ حَرْفِ التَّأْكِيدِ هُنَا، دُونَهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١١]، فَلِأَنَّهُ قَصَدَ هُنَا التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَكَانُوا يُنْكِرُونَ قُوَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بِمَعْنَى لَازِمِهَا، وَهُوَ إِنْزَالُ الضُّرِّ بِهِمْ، وَيُنْكِرُونَ أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ لَهُمْ، فَأَكَّدَ الْخَبَرَ بِاعْتِبَارِ لَازِمِهِ التَّعْرِيضِيِّ الَّذِي هُوَ إِبْلَاغُ هَذَا الْإِنْذَارِ إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١١] لَمْ يُقْصَدْ إِلَّا الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ اللَّهِ شَدِيدَ الْعِقَابِ إِذَا عَاقَبَ، فَهُوَ تَذْكِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْإِخْبَارِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ، عَقِبَهُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمرَان: ١٢] الْآيَةَ.
وَزِيدَ وَصْفُ «قَوِيٌّ» هُنَا مُبَالَغَةً فِي تَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ الْمَقْصُودِينَ بِالْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ.
وَالْقَوِيُّ الْمَوْصُوفُ بِالْقُوَّةِ، وَحَقِيقَتُهَا كَمَالُ صَلَابَةِ الْأَعْضَاءِ لِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُرَادُ مِنْهَا، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ مَقُولٌ عَلَيْهَا بِالتَّشْكِيكِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ [الْأَعْرَافِ: ١٤٥]. وَهِيَ إِذَا وُصِفَ اللَّهُ بِهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا اللزومي وَهِي مُنْتَهَى الْقُدْرَةِ عَلَى فِعْلِ مَا تتعلّق بِهِ إِرَادَته تَعَالَى مِنَ الْمُمْكِنَاتِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ أَخْذَهُمْ كَانَ قَوِيًّا شَدِيدًا، لِأَنَّهُ عِقَابُ قَوِيٍّ شَدِيدِ الْعِقَابِ، كَقَوْلِهِ: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: ٤٢]، وَقَوْلِهِ:
إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: ١٠٢].
[٥٣]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٥٣]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْأَنْفَال: ٥٢] أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا إِلَخْ أَيْ ذَلِكَ الْأَخْذُ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي تَسَبَّبُوا بِهَا فِي زَوَالِ نِعْمَتِهِمْ.
انْتِفَاءِ أَهَمِّ الْغَرَضَيْنِ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، وَهُوَ حُصُولُ الْغُفْرَانِ، فَبَقِيَ لِلتَّخْيِيرِ غَرَضٌ آخَرُ وَهُوَ حُسْنُ الْقَوْلِ لِمَنْ يَرَى النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمُلَاطَفَةِ لِذَاتِهِ أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِهِ، مِثْلُ قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَأَرَادَ اللَّهُ نَسْخَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ دَرَجَ فِي تَلَقِّيهِ عَلَى عَادَةِ التَّشْرِيعِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ. وَلَعَلَّ الْغَرَضَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أُبْقِيَ التَّخْيِيرُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ قَدْ ضَعُفَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَرُجِّحَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ بِانْقِرَاضِ مَنْ هُمْ أَهْلٌ لِحُسْنِ الْقَوْلِ وَغَلَبَةِ الدَّهْمَاءِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّ اسْتِغْفَارَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ يَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ فَيُصْبِحُوا فَرِحِينَ بِأَنَّهُمْ رَبِحُوا الصَّفْقَتَيْنِ وَأَرْضَوُا الْفَرِيقَيْنِ، فَنَهَى اللَّهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَعَلَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا سَمِعُوا تَخْيِيرَ النَّبِيءِ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ ذَهَبُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِأَهْلِيهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ طَمَعًا فِي إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَأَصْبَحَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى اعْتِقَادِ مُسَاوَاةِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَغْفِرَةِ فَيَنْتَفِي التَّفَاضُلُ الْبَاعِثُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْإِيمَانِ، فَنَهَى اللَّهُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعًا عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنْ رَخَّصَهُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فِي قَوْلِهِ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التَّوْبَة: ٨٠].
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ قَالَ:
فَقُلْتُ لَهُ: أَتَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْكَ وَهُمَا مُشْرِكَانِ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدِ اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ
[التَّوْبَة: ١١٤]. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : هُوَ أَضْعَفُ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ
فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي اسْتِغْفَارِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ، أَوْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سُؤَالِهِ رَبَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأُمِّهِ آمِنَةَ حِينَ زَارَ قَبْرَهَا بِالْأَبْوَاءِ. فَهُمَا خَبَرَانِ وَاهِيَانِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ.
وَجَاءَتْ صِيغَةُ النَّهْيِ بِطَرِيقِ نَفْيِ الْكَوْنِ مَعَ لَامِ الْجُحُودِ مُبَالَغَةً فِي التَّنَزُّهِ عَنْ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ فِي آخِرِ سُورَةِ الْعُقُودِ
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ إِنِّي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ مَحْكِيٌّ بِفِعْلِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ فِي مَحَلِّ حَالٍ، أَيْ قَائِلًا.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ وَهُوَ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَرْسَلْنَاهُ مُتَلَبِّسًا بِذَلِكَ، أَيْ بِمَعْنَى
الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ (أَنِّي نَذِيرٌ)، أَيْ مُتَلَبِّسًا بِالنِّذَارَةِ الْبَيِّنَةِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَوْمِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي آلِ عِمْرَانَ [٣٣]. وَعِنْدَ قَوْلِهِ: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَاف [٥٩].
وَجُمْلَة أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ مُفَسِّرَةٌ لِجُمْلَةِ أَرْسَلْنا لِأَنَّ الْإِرْسَالَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا تَفْسِيرًا لِ نَذِيرٌ لِمَا فِي نَذِيرٌ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ نُوحٍ [٢، ٣] قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ مُتَعَيِّنٌ عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ هَمْزَةِ (أَنِّي) إِذَا اعْتُبِرَتْ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً. وَيَجُوزُ جَعْلُ (أَنْ) مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ فَيَكُونُ بَدَلًا مِنْ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ عَلَى قِرَاءَةِ- فَتْحِ الْهَمْزَةِ- وَاسْمُهَا ضمير شَأْن محذوفا، أَيْ أَنَّهُ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ تَعْلِيلٌ لِ نَذِيرٌ لِأَنَّ شَأْنَ النِّذَارَةِ أَنْ تَثْقُلَ عَلَى النُّفُوسِ وَتُخْزِهِمْ فَكَانَتْ جَدِيرَةً بِالتَّعْلِيلِ لِدَفْعِ حَرَجِ مَا يُلَاقُونَهُ.
وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْأَلِيمِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ الْعَذَابُ بِالْأَلِيمِ، لِأَنَّ شِدَّةَ الْعَذَابِ لَمَّا بَلَغَتِ الْغَايَةَ جُعِلَ زَمَانُهُ أَلِيمًا، أَيْ مُؤْلِمًا.
وَجُمْلَةُ أَخافُ عَلَيْكُمْ وَنَحْوُهَا مِثْلُ أَخْشَى عَلَيْكَ، تُسْتَعْمَلُ لِلتَّوَقُّعِ فِي الْأَمْرِ الْمَظْنُونِ أَوِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِاعْتِبَارِ إِمْكَانِ الِانْفِلَاتِ مِنَ الْمَقْطُوعِ بِهِ، كَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا أَخْشَى عَلَيْهِ الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا
فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ إِلَى الْخَوْفِ مِنْهُ وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَخُوفِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا فِي الْآيَةِ وَبَيت لبيد.
وَفَسَّرَهُ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ بِالتَّاءِ يَكُونُ نَادِرَ الْوُقُوعِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُتَعَجَّبَ مِنْهُ لَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ وَمِنْ ثَمَّ قَلَّ اسْتِعْمَالُ التَّاءِ إِلَّا مَعَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ الْقَسَمَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ أَقْوَى الْقَسَمِ.
وَجَوَابُ الْقسم هُوَ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ بِاعْتِبَارِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْغَايَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْيَمِينِ الْإِشْفَاقُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْهَلَاكِ بِسَبَبِ عَدَمِ تَنَاسِيهِ مُصِيبَةَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَحْقِيقَ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ تَذَكُّرِ يُوسُفَ. وَجَوَابُ الْقَسَمِ هُنَا فِيهِ حَرْفُ النَّفْيِ مُقَدَّرٌ بِقَرِينَةِ عَدَمِ قَرْنِهِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُثْبَتًا لَوَجَبَ قَرْنُهُ بِنُونِ التَّوْكِيدِ فَحُذِفَ حَرْفُ النَّفْيِ هُنَا.
وَمعنى تَفْتَؤُا تفتر. يُقَال: فتىء مِنْ بَابِ عَلِمَ، إِذَا فَتَرَ عَنِ الشَّيْءِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَفْتُرُ فِي حَالِ كَوْنِكَ تَذْكُرُ يُوسُفَ. وَلِمُلَازَمَةِ النَّفْيِ لِهَذَا الْفِعْلِ وَلُزُومِ حَالٍ يَعْقُبُ فَاعِلَهُ صَارَ شَبِيهًا بِالْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ.
وحَرَضاً مَصْدَرٌ هُوَ شِدَّةُ الْمَرَضِ الْمُشْفِي عَلَى الْهَلَاكِ، وَهُوَ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا، أَيْ بَالِيًا لَا شُعُورَ لَكَ. وَمَقْصُودُهُمُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ صَدًّا لَهُ عَنْ مُدَاوَمَةِ ذِكْرِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى لِسَانِهِ لِأَنَّ ذِكْرَهُ بِاللِّسَانِ يُفْضِي إِلَى دَوَامِ حُضُورِهِ فِي ذِهْنِهِ.
وَفِي جَعْلِهِمُ الْغَايَةَ الْحَرَضَ أَوِ الْهَلَاكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ يَذْكُرُ أَمْرًا لَا طَمَعَ فِي تَدَارُكِهِ، فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّ ذِكْرَهُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُوَجَّهٌ إِلَى اللَّهِ دُعَاءً بِأَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ. فَقَوْلُهُ: يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ تَعْرِيضٌ بِدُعَاءِ اللَّهِ أَنْ يُزِيلَ أَسَفَهُ بِرَدِّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَهْلِكْ وَلَكِنَّهُ بِأَرْضِ غُرْبَةٍ مَجْهُولَةٍ، وَعَلِمَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ أَوْ بِفِرَاسَةٍ صَادِقَةٍ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْإِلْهَامِ عِنْد الصُّوفِيَّة.
فجملةنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
مُفِيدَةٌ قَصْرَ شَكْوَاهُ عَلَى التَّعَلُّقِ بِاسْمِ اللَّهِ، أَيْ يَشْكُو إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى نَفْسِهِ لِيُجَدِّدَ الْحُزْنَ، فَصَارَتِ الشَّكْوَى بِهَذَا الْقَصْدِ ضَرَاعَةً وَهِيَ عِبَادَةٌ لِأَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، وَصَارَ ابْيِضَاضُ عَيْنَيْهِ النَّاشِئُ عَنِ التَّذَكُّرِ
وَإِنَّمَا ذَكَرَ لِلْمَلَائِكَةِ الْمَادَّةَ الَّتِي مِنْهَا خُلِقَ الْبَشَرُ لِيَعْلَمُوا أَنَّ شَرَفَ الْمَوْجُودَاتِ بِمَزَايَاهَا لَا بِمَادَّةِ تَرْكِيبِهَا كَمَا أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ.
وَالتَّسْوِيَةُ: تَعْدِيلُ ذَاتِ الشَّيْءِ. وَقَدْ أُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى اعْتِدَالِ الْعَنَاصِرِ فِيهِ وَاكْتِمَالِهَا
بِحَيْثُ صَارَتْ قَابِلَةً لِنَفْخِ الرُّوحِ.
وَالنَّفْخُ: حَقِيقَتُهُ إِخْرَاجُ الْهَوَاءِ مَضْغُوطًا بَيْنَ الشَّفَتَيْنِ مَضْمُومَتَيْنِ كَالصَّفِيرِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِوَضْعِ قُوَّةٍ لَطِيفَةِ السَّرَيَانِ قَوِيَّةِ التَّأْثِيرِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ ثَمَّةَ نَفْخٍ وَلَا مَنْفُوخٍ.
وَتَقْرِيبُ نَفْخِ الرُّوحِ فِي الْحَيِّ أَنَّهُ تَكُونُ الْقُوَّةُ الْبُخَارِيَّةُ أَوِ الْكَهْرَبَائِيَّةُ الْمُنْبَعِثَةُ مِنَ الْقَلْبِ عِنْدَ انْتِهَاءِ اسْتِوَاءِ الْمِزَاجِ وَتَرْكِيبِ أَجْزَاءِ الْمِزَاجِ تَكَوُّنًا سَرِيعًا دَفْعِيًّا وَجَرَيَانِ آثَارِ تِلْكَ الْقُوَّةِ فِي تَجَاوِيفِ الشَّرَايِينِ إِلَى أَعْمَاقِ الْبَدَنِ فِي تَجَاوِيفِ جَمِيعِ أَعْضَائِهِ الرَّئِيسَةِ وَغَيْرِهَا.
وَإِسْنَادُ النَّفْخِ وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ تَنْوِيهٌ بِهَذَا الْمَخْلُوقِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ حَقَائِقَ الْعَنَاصِرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَفَاضَلُ إِلَّا بِتَفَاضُلِ آثَارِهَا وَأَعْمَالِهَا، وَأَنَّ كَرَاهَةَ الذَّاتِ أَوِ الرَّائِحَةِ إِلَى حَالَةٍ يَكْرَهُهَا بَعْضُ النَّاسِ أَوْ كُلُّهُمْ إِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِمَا يُلَائِمُ الْإِدْرَاكَ الْحِسِّيَّ أَوْ يُنَافِرُهُ تَبَعًا لِطِبَاعِ الْأَمْزِجَةِ أَوْ لِإِلْفِ الْعَادَةِ وَلَا يُؤْبَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا هُوَ ضَابِطُ وَصْفِ الْقَذَارَةِ وَالنَّزَاهَةِ عِنْدَ الْبَشَرِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَنِيَّ يُسْتَقْذَرُ فِي الْحِسِّ الْبَشَرِيِّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ تَكْوِينَ نَوْعِهِ، وَمِنْهُ تَخَلَّقَتْ أَفَاضِلُ الْبَشَرِ. وَكَذَلِكَ الْمِسْكُ طَيِّبٌ فِي الْحِسِّ الْبَشَرِيِّ لِمُلَاءَمَةِ رَائِحَتِهِ لِلشَّمِّ وَمَا هُوَ إِلَّا غُدَّةٌ مِنْ خَارِجَاتِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْغَزَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [سُورَة السَّجْدَة: ٧- ٩].
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ إِلَى قَوْلِهِ: أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً [الْإِسْرَاء: ٩- ١٠]، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ١٥]. وَكُلُّ هَذَا الْإِدْمَاجِ تَزْوِيدٌ لِلْآيَةِ بِوَافِرِ الْمَعَانِي شَأْنَ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَإِيجَازِهِ.
وَتَفْرِيعُ جُمْلَةِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ بِالْفَاءِ بَيْنَ جُمْلَةِ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ لِتَبْتَغُوا.
وَإِضَافَةُ آيَةٍ إِلَى اللَّيْلِ وَإِلَى النَّهَارِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً، أَيِ الْآيَةُ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ، وَالْآيَة الَّتِي هِيَ النَّهَارُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آيَةُ اللَّيْلِ الْآيَةَ الْمُلَازِمَةَ لَهُ وَهِيَ الْقَمَرُ، وَآيَةُ النَّهَارِ الشَّمْسُ، فَتَكُونُ إِعَادَةُ لَفْظِ (آيَةٍ) فِيهِمَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَعْنًى آخَرُ وَتَكُونُ الْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةً، وَيَصِيرُ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ تَكْوِينِ هَذَيْنِ الْخَلْقَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ. وَيَكُونُ مَعْنَى الْمَحْوِ أَنَّ الْقَمَرَ مَطْمُوسٌ لَا نُورَ فِي جِرْمِهِ وَلَكِنَّهُ يَكْتَسِبُ الْإِنَارَةَ بِانْعِكَاسِ شُعَاعِ الشَّمْسِ عَلَى كُرَتِهِ، وَمَعْنَى كَوْنِ آيَةِ النَّهَارِ مُبْصِرَةً أَنَّ الشَّمْس جعل ضوؤها سَبَبَ إِبْصَارِ النَّاسِ الْأَشْيَاءَ، ف مُبْصِرَةً اسْمُ فَاعِلِ (أَبْصَرَ) الْمُتَعَدِّي، أَيْ جَعَلَ غَيْرَهُ بَاصِرًا. وَهَذَا أَدَقُّ مَعْنًى وَأَعْمَقُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بَلَاغَةً وَعِلْمًا فَإِنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ مِنْ عِلْمِ الْهَيْئَةِ، وَمَا أُعِيدَ لَفْظُ (آيَةٍ) إِلَّا لِأَجْلِهَا.
وَالْمَحْوُ: الطَّمْسُ. وَأُطْلِقَ عَلَى انْعِدَامِ النُّورِ، لِأَنَّ النُّورَ يُظْهِرُ الْأَشْيَاءَ وَالظُّلْمَةُ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ، فَشَبَّهَ اخْتِفَاءَ الْأَشْيَاءِ بِالْمَحْوِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، أَيْ جَعَلْنَا الظُّلْمَةَ آيَةً وَجَعَلْنَا سَبَبَ الْإِبْصَارِ آيَةً. وَأَطْلَقَ وَصْفَ مُبْصِرَةً عَلَى النَّهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِسْنَادًا لِلسَّبَبِ.
وَقَوْلُهُ: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ عِلَّةٌ لِخُصُوصِ آيَةِ النَّهَارِ مِنْ قَوْلِهِ: آيَتَيْنِ
وَجَاءَ التَّعْلِيلُ لِحِكْمَةِ آيَةِ النَّهَارِ خَاصَّةً دُونَ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ حِكْمَةِ اللَّيْلِ لِأَنَّ الْمِنَّةَ بِهَا أَوْضَحُ، وَلِأَنَّ من التنبه إِلَيْهَا يَحْصُلُ التَّنَبُّهُِِ
مَحْسُوبًا بَاطِلًا، وَهُوَ كَوْنُهُمْ أَوْلِيَاءَ بِاعْتِبَارِ مَا تَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ الْوِلَايَةِ مِنَ الْحِمَايَةِ وَالنَّصْرِ.
وعِبادِي صَادِقٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَمَنْ عَبَدُوهُمْ مِنَ الْأَخْيَارِ مِثْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَصْدُقُ عَلَى الْأَصْنَامِ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ.
ومِنْ دُونِي مُتَعَلِّقُ بِ أَوْلِياءَ إِمَّا بِجَعْلِ دُونِي اسْمًا بِمَعْنَى حَوْلَ، أَيْ مِنْ حَوْلِ عَذَابِي، وَتَأْوِيلُ أَوْلِياءَ بِمَعْنَى أَنْصَارًا، أَيْ حَائِلِينَ دون عَذَابي ومانعيهم مِنْهُ، وَإِمَّا بِجَعْلِ دُونِي بِمَعْنَى غَيْرِي، أَيْ أَحَسِبُوا أَنَّهُمْ يَسْتَغْنُونَ بِوِلَايَتِهِمْ.
وَصِيغَ فِعْلُ الِاتِّخَاذِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِهِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُقْلِعِينَ عَنْهُ.
وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» فِعْلَ يَتَّخِذُوا لِلْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ أَحَسِبُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي أَوْلِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا اتَّخَذُوهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً. وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ
إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ
[سبأ: ٤٠- ٤١].
وَإِظْهَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَفَحَسِبُوا، بِإِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى الْكَافِرِينَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، لِقَصْدِ اسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ بِدَلَالَتِهَا، وَزِيَادَةً فِي إِظْهَار التوبيخ لَهَا.
وَجُمْلَةُ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا مُقَرَّرَةٌ لِإِنْكَارِ انْتِفَاعِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِمْ فَأَكَّدَ بِأَنَّ جَهَنَّمَ أُعِدَّتْ لَهُمْ نُزُلًا فَلَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهَا وَلِذَلِكَ أَكَّدَ بِحَرْفِ (إِنَّ).
ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي «شَرْحِ النَّسَفِيَّةِ» فَحَقَّقَ أَنَّهَا دَلِيلٌ إِقْنَاعِيٌّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، وَقَالَ الْمُحَقَّقُ الْخَيَالِيُّ إِلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِما، وَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الظَّرْفِيَّةُ ظَرْفِيَّةَ التَّأْثِيرِ، أَيْ لَو كَانَ مُؤثر فِيهِمَا، أَيِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ غَيْرُ اللَّهِ تَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً قَطْعِيَّةً. وَقَدْ بَسَطَهُ عَبْدُ الْحَكِيمِ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى الْخَيَالِيِّ» وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى إِثْبَاتِ كَلَامِهِ هُنَا.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِلَّا اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيِ الْقَضِيَّةِ لَا مِنَ النِّسْبَةِ الْحُكْمِيَّةِ، أَيْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لَا مِنَ الْحُكْمِ. وَذَلِكَ مِنْ مَوَاقِعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ أَصْلَ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْمُسْتَثْنَى بِاعْتِبَارِ تَسَلُّطِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ وَذَلِكَ فِي الْمُفَرَّغِ وَفِي الْمَنْصُوبِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِهِ قَبْلَ تَسَلُّطِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوبِ وَلَا الْمُفَرَّغِ فَيُقَالُ حِينَئِذٍ إِنَّ (إِلَّا) بِمَعْنَى غَيْرٍ وَالْمُسْتَثْنَى يُعْرَبُ بَدَلًا مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إِنْشَاءُ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمَقَالَةِ الَّتِي أَبْطَلَهَا الدَّلِيلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أَيْ عَمَّا يَصِفُونَهُ بِهِ مِنْ وُجُودِ الشَّرِيكِ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ.
وَوَصْفُهُ هُنَا بِرَبِّ الْعَرْشِ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَهُوَ شَيْءٌ لَا يُنَازِعُونَ فِيهِ بَلْ هُوَ خَالِقُ أَعْظَمِ السَّمَاوَاتِ وَحَاوِيَهَا وَهُوَ الْعَرْشُ تَعْرِيضًا بِهِمْ بِإِلْزَامِهِمْ لَازِمَ قَوْلِهِمْ بِانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ أَنْ يَلْزَمَ انْتِفَاءَ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيُّ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا قَالُوهُ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ أَنْ يَتَسَاءَلُوا إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ دَعْوَتِهِ فِي الْبُطْلَانِ وَالزَّيْفِ فَمَاذَا دَعَاهُ إِلَى الْقَوْلِ بِهَا؟ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ أَصَابَهُ خَلَلٌ فِي عَقْلِهِ فَطَلَبَ مَا لَمْ يَكُنْ ليناله مثله من التفضل عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى الضَّلَالِ فَقَدْ طَمِعَ فِيمَا لَا يَطْمَعُ عَاقِلٌ فِي مِثْلِهِ فَدَلَّ طَمَعُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَجْنُونٌ.
وَالتَّنْوِينُ فِي جِنَّةٌ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْجُنُونِ، وَهَذَا اقْتِصَادٌ مِنْهُمْ فِي حَالِهِ حَيْثُ احْتَرَزُوا مِنْ أَنْ يُوَرِّطُوا أَنْفُسَهَمْ فِي وَصْفِهِ بِالْخَبَالِ مَعَ أَنَّ الْمُشَاهَدَ مِنْ حَالِهِ يُنَافِي ذَلِكَ فَأَوْهَمُوا قَوْمَهُمْ أَنَّ بِهِ جُنُونًا خَفِيفا لَا يَبْدُو آثَارُهُ وَاضِحَةً.
وَقَصَرُوهُ عَلَى صِفَةِ الْمَجْنُونِ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَيْسَ بِرَسُولٍ مِنَ اللَّهِ.
وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ أَمْرًا لِقَوْمِهِمْ بِانْتِظَارِ مَا يَنْكَشِفُ عَنْهُ أَمْرُهُ بَعْدَ زَمَانٍ: إِمَّا شِفَاءٌ مِنَ الْجِنَّةِ فَيَرْجِعُ إِلَى الرُّشْدِ، أَوِ ازْدِيَادُ الْجُنُونِ بِهِ فَيَتَّضِحُ أَمْرُهُ فَتَعْلَمُوا أَنْ لَا اعْتِدَادَ بِكَلَامِهِ.
وَالْحِينُ: اسْمٌ لِلزَّمَانِ غَيْرِ الْمَحْدُودِ.
وَالتَّرَبُّصُ: التَّوَقُّفُ عَنْ عَمَلٍ يُرَادُ عَمَلُهُ وَالتَّرَيُّثُ فِيهِ انْتِظَارًا لِمَا قَدْ يُغْنِي عَنِ الْعَمَلِ أَوِ انْتِظَارًا لِفُرْصَةٍ تُمَكِّنُ مِنْ إِيقَاعِهِ عَلَى أَتْقَنِ كَيْفِيَّةٍ لِنَجَاحِهِ، وَهُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِالْبَاءِ الَّتِي هِيَ لِلتَّعْدِيَةِ وَمَعْنَاهَا السَّبَبِيَّةُ، أَيْ كَانَ تَرَبُّصُ الْمُتَرَبِّصِ بِسَبَبِ مَدْخُولِ الْبَاءِ. وَالْمُرَادُ: بِسَبَبِ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالٍ، فَهُوَ عَلَى نِيَّةِ مُضَافٍ حُذِفَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٩٨] فَانْظُرْهُ مَعَ مَا هُنَا.
[٢٦، ٢٧]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٧]
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
وَأَنَّهُمْ عَقِبَ ذَلِكَ صَائِرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ يَوْمَ الْبَعْثِ مَصِيرًا لَا إِحَالَةَ فِيهِ وَلَا بُعْدَ، كَمَا يَزْعُمُونَ، فَلَمَّا صَارَ قَبْضُ الظِّلِّ مَثَلًا لِمَصِيرِ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ بِالْبَعْثِ وُصِفَ الْقَبْضُ بِيَسِيرٍ تَلْمِيحًا إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: ٤٤].
وَفِي هَذَا التَّمْثِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحَيَاةَ فِي الدُّنْيَا كَظِلٍّ يَمْتَدُّ وَيَنْقَبِضُ وَمَا هُوَ إِلَّا ظِلٌّ.
فَهَذَانِ الْمَحْمِلَانِ فِي الْآيَةِ مِنْ معجزات الْقُرْآن العملية.
[٤٧]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٤٧]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧)
مُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِ الظِّلِّ وَالضَّحَاءِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ظَاهِرَةٌ، فَاللَّيْلُ يُشْبِهُ الظِّلَّ فِي أَنَّهُ ظُلْمَةٌ تَعْقُبُ نُورَ الشَّمْسِ.
وَمَوْرِدُ الِاسْتِدْلَالِ الْمَقْصِدُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ، أَيْ لَا يُشْرِكُهُ غَيْرُهُ فِي جَعْلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. أَمَّا كَوْنُ الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ بِخَلْقِ اللَّهِ فَهُمْ يُقِرُّونَ بِهِ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ عَلَى الْإِجْمَالِ أُبْطِلَتْ شَرِكَتُهُمْ بِقَصْرِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَزْمَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ إِذَا بَطُلَ تَصَرُّفُهُمْ فِي بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ اخْتَلَّتْ حَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُمْ إِذِ الْإِلَهِيَّةُ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ.
ولَكُمُ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلَ أَيْ مِنْ جُمْلَةِ مَا خُلِقَ لَهُ اللَّيْلُ أَنَّهُ يَكُونُ لِبَاسًا لَكُمْ. وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّيْلَ خُلِقَ لِذَلِكَ فَقَطْ لِأَنَّ اللَّيْلَ عَوْدُ الظَّلَمَةِ إِلَى جَانِبٍ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ الْمُحْتَجِبِ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ بِاسْتِدَارَاتِهِ فَتَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ فَوَائِدُ جَمَّةٌ مِنْهَا مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ... [الْفرْقَان: ٦٢] إِلَخْ.
وَقَدْ رَجَعَ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ.
ولِباساً مُشَبَّهٌ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ سَاتِرًا لَكُمْ يَسْتُرُ بَعْضَكُمْ
الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ نُورَ النَّهَارِ سَبَبُ الْإِبْصَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ مِنْ أَبْصَرَهُ، إِذَا جَعَلَهُ بَاصِرًا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ تَعْلِيل للتعجيب مِنْ حَالِهِمْ إِذْ لَمْ يَسْتَدِلُّوا بِاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَلَا عَلَى الْبَعْثِ.
وَوَجْهُ كَوْنِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةً كَمَا اقْتَضَاهُ الْجَمْعُ هُوَ أَنَّ فِي نِظَامِ اللَّيْلِ آيَاتٍ عَلَى الِانْفِرَادِ بِخَلْقِ الشَّمْسِ وَخَلْقِ نُورِهَا الْخَارِقِ لِلظُّلُمَاتِ، وَخَلْقِ الْأَرْضِ، وَخَلْقِ نِظَامِ دَوَرَانِهَا الْيَوْمِيِّ تُجَاهَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ وَهِيَ الدَّوْرَةُ الَّتِي تُكَوِّنُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَفِي خَلْقِ طَبْعِ الْإِنْسَانِ بِأَنْ يَتَلَقَّى الظُّلْمَةَ بِطَلَبِ السُّكُونِ لِمَا يَعْتَرِي الْأَعْصَابَ مِنَ الْفُتُورِ دُونَ بَعْضِ الدَّوَابِّ الَّتِي تَنْشَطُ فِي اللَّيْلِ كَالْهَوَامِّ وَالْخَفَافِيشِ وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى تَعَاقُبِ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، فَتِلْكَ آيَاتٌ وَفِي كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا دَقَائِقُ وَنُظُمٌ عَظِيمَةٌ لَوْ بُسِطَ الْقَوْلُ فِيهَا لَأَوْعَبَ مُجَلَّدَاتٍ مِنَ الْعُلُومِ.
وَفِي جَعْلِ النَّهَارِ مُبْصِرًا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى الوحدانية ودقة صنع تُقَابِلُ مَا تَقَدَّمَ فِي آيَاتِ
جَعْلِ اللَّيْلِ سَكَنًا. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا إِحَالَةَ وَلَا اسْتِبْعَادَ فِي الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ نَظِيرُ بَعْثِ الْيَقَظَةِ بَعْدَ النَّوْمِ، وَفِي جَلِيلِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَدَقِيقِهَا عِدَّةُ آيَاتٍ فَهَذَا وَجْهُ جَعْلِ ذَلِكَ آيَاتٍ وَلَمْ يُجْعَلْ آيَتَيْنِ.
وَمَعْنَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لِنَاسٍ شَأْنُهُمُ الْإِيمَانُ وَالِاعْتِرَافُ بِالْحُجَّةِ وَلِذَلِكَ جُعِلَ الْإِيمَانُ صِفَةً جَارِيَةً عَلَى قَوْمٍ لِمَا قُلْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَنَّ إِنَاطَةَ الْحُكْمِ بِلَفْظ (قوم) يومىء إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التَّوْبَة: ٥٦]، أَيِ الْفَرَقُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُونَ مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَفْرَقُونَ، أَيْ فِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِمَنْ مَنْ شِعَارُهُمُ التَّدَبُّرُ وَالِاتِّصَافُ، أَيْ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ.
وَلِكَوْنِ الْإِيمَانِ مَقْصُودًا بِهِ أَنَّهُ مَرْجُوٌّ مِنْهُمْ جِيءَ فِيهِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّ فِي ذَلِكَ آيَاتٍ لِلَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْفَحْوَى وَالْأَوْلَوِيَّةِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِمَنْ يُرْجَى مِنْهُمُ الْإِيمَانُ عِنْدَ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ
عَلَى الْإِخْبَارِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَضَمَائِرُ الْجَمْعِ عَائِدَةٌ إِلَى الرُّومِ.
وغَلَبِهِمْ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَحُذِفَ مَفْعُولُ سَيَغْلِبُونَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: سَيَغْلِبُونَ الَّذِينَ غَلَبُوهُمْ، أَيِ الْفُرْسَ إِذْ لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ سَيَغْلِبُونَ قَوْمًا آخَرِينَ لِأَنَّ غَلَبَهُمْ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ وَإِنْ كَانَ يَرْفَعُ مِنْ شَأْنِهِمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ مَعَرَّةَ غَلَبِ الْفُرْسِ إِيَّاهُمْ، لَكِنِ الْقِصَّةُ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ وَلِأَنَّ تَمَامَ الْمِنَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَغْلِبَ الرُّومُ الْفُرْسَ الَّذِينَ ابْتَهَجَ الْمُشْرِكُونَ بِغَلَبِهِمْ وَشَمِتُوا لِأَجْلِهِ بِالْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفَائِدَةُ ذِكْرِ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ تِلْكَ الْهَزِيمَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهَا بِحَيْثُ لَا يُظَنُّ نَصْرٌ لَهُمْ بَعْدَهَا، فَابْتَهَجَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فَالْوَعْدُ بِأَنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ الِانْهِزَامِ فِي أَمَدٍ غَيْرِ طَوِيلٍ تَحَدٍّ بِهِ الْقُرْآنُ الْمُشْرِكِينَ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهُمُ الْغَلَبَ عَلَى الْفُرْسِ تَقْدِيرًا خَارِقًا للْعَادَة معْجزَة لنبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَامَةً لِلْمُسْلِمِينَ.
وَلَفْظُ بِضْعِ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَدٍ قَلِيلٍ لَا يَتَجَاوَزُ الْعَشَرَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٤٢]. وَهَذَا أَجَلٌ لِرَدِّ الْكَرَّةِ لَهُمْ عَلَى الْفُرْسِ.
وَحِكْمَةُ إِبْهَامِ عَدَدِ السِّنِينَ أَنَّهُ مُقْتَضَى حَالِ كَلَامِ الْعَظِيمِ الْحَكِيمِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى
الْمَقْصُودِ إِجْمَالًا وَأَنْ لَا يَتَنَازَلَ إِلَى التَّفْصِيلِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْحَشْوِ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَلِيَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ رَجَاءٌ فِي مُدَّةٍ أَقْرَبَ مِمَّا ظَهَرَ فَفِي ذَلِكَ تَفْرِيجٌ عَلَيْهِمْ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْجِهَةِ الرَّابِعَةِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ وَصَحِيحَةٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ فَارِسَ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ مِثْلَهُمْ فَكَانَتْ فَارِسُ يَوْمَ نَزَلَتْ الم غُلِبَتِ الرُّومُ قَاهِرِينَ لِلرُّومِ فَذَكَرُوهُ لِأَبِي بَكْرٍ فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
لِوَاحِدٍ) وَالْقَاسِمُ، وَوُلِدَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ، وَكُلُّهُمْ مَاتُوا صِبْيَانًا وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مَوْجُودٌ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ.
وَالْمَنْفِيُّ هُوَ وَصْفُ الْأُبُوَّةِ الْمُبَاشِرَةِ لِأَنَّهَا الْغَرَضُ الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ وَالَّذِي وَهِمَ فِيهِ مَنْ وَهِمَ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى كَوْنِهِ جَدًّا لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَمُحْسِنٍ أَبْنَاءِ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِمَقْصُودٍ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ نَفْيُ أُبُوَّتِهِ لَهُمْ بِمَعْنَى الْأُبُوَّةِ الْعُلْيَا، أَوِ الْمُرَادُ أُبُوَّةُ الصُّلْبِ دُونَ أُبُوَّةِ الرَّحِمِ.
وَإِضَافَةُ (رِجَالٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَالْعُدُولُ عَنْ تَعْرِيفِهِ بِاللَّامِ لِقَصْدِ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الْخَائِضِينَ فِي قَضِيَّةِ تَزَوُّجِ زَيْنَبَ إِخْرَاجًا لِلْكَلَامِ فِي صِيغَةِ التَّغْلِيطِ وَالتَّغْلِيظِ.
وَأَمَّا تَوْجِيهُهُ بِأَنَّهُ كَالِاحْتِرَازِ عَنْ أَحْفَادِهِ وَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ رِجالِكُمْ وَأَمَّا الْأَحْفَادُ فَهُمْ مِنْ رِجَالِهِ فَفِيهِ سَمَاجَةٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ تَوْجِيهٌ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ أَعْنِي الْمُنَافِقِينَ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الصِّلَةُ الشَّبِيهَةُ بِصِلَةِ الْأُبُوَّةِ الثَّابِتَةِ بِطَرِيقَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَاب: ٦] كَمَا تَقَدَّمَ.
وَاسْتِدْرَاكُ قَوْلِهِ: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ لِرَفْعِ مَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ نَفْيِ أُبُوَّتِهِ، مِنِ انْفِصَالِ صِلَةِ التَّرَاحُمِ وَالْبِرِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمَّةِ فَذُكِّرُوا بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَالْأَبِ لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ فِي شَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ، وَفِي بِرِّهِمْ وَتَوْقِيرِهِمْ إِيَّاهُ، شَأْن كل نبيء مَعَ أُمَّتِهِ.
وَالْوَاوُ الدَّاخِلَةُ عَلَى لكِنْ زَائِدَةٌ ولكِنْ عَاطِفَةٌ وَلَمْ تَرِدْ لكِنْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَاطِفَةً إِلَّا مُقْتَرِنَةٌ بِالْوَاوِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُرَادِيُّ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ». وَحَرْفُ لكِنْ مُفِيدٌ الِاسْتِدْرَاكَ.
وَعَطْفُ صِفَةِ وَخَاتم النَّبِيئِينَ عَلَى صِفَةِ رَسُولَ اللَّهِ تَكْمِيلٌ وَزِيَادَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِمَقَامِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِي انْتِفَاءِ أُبُوَّتهِ لِأَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ حِكْمَةً قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَهِيَ إِرَادَةُ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا مِثْلَ الرُّسُلِ أَوْ أَفْضَلَ فِي جَمِيع خَصَائِصه.
وَإِذ قَدْ كَانَ الرُّسُلُ لَمْ يَخْلُ عَمُودُ أَبْنَائِهِمْ مِنْ نَبِيءٍ كَانَ كَوْنُهُ خَاتَمَ النَّبِيئِينَ مُقْتَضِيًا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَبْنَاءٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَحْيَاءً بَعْدَ وَفَاتِهِ وَلَمْ تُخْلَعْ
بِالْقَوْلِ فَلِذَلِكَ قِيلَ مَعْنَى يَدَّعُونَ يَتَمَنَّوْنَ. يُقَالُ: ادْعُ عَلَيَّ مَا شِئْتَ، أَيْ تَمَنَّ عَلَيَّ، وَفُلَانٌ فِي خَيْرٍ مَا ادَّعَى، أَيْ فِي خَيْرٍ مَا يَتَمَنَّى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
فِي سُورَة فصّلت [٣١].
[٥٨]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٥٨]
سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)
اسْتِئْنَافُ قَطْعٍ عَنْ أَنَّ يُعْطَفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهِ، وَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالْعِنَايَةِ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ جَانِبِ الْقُدْسِ إِذْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ سَلَامُ اللَّهِ بِكَلَامٍ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ قَوْلٌ مِنَ اللَّهِ: إِمَّا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِمَّا بِخَلْقِ أَصْوَاتٍ يُوقِنُونَ بِأَنَّهَا مَجْعُولَةً لِأَجْلِ أَسْمَاعِهِمْ كَمَا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ حِينَ نَادَاهُ مِنْ جَانِبِ الطَّوْرِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَبَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ بِمَا حَبَاهُمْ بِهِ مِنَ النَّعِيمِ مُشِيرًا إِلَى أُصُولِ أَصْنَافِهِ، أَخْبَرَ بِأَنَّ لَهُمْ مَا هُوَ أَسْمَى وَأَعْلَى وَهُوَ التَّكْرِيمُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: ٧٢].
وسَلامٌ مَرْفُوع فِي جَمِيع الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ. وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ وَرَفْعُهُ لِلدَّلَالَةِ على الدَّوَام والتحقق، فَإِنَّ أَصْلَهُ النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ نِيَابَةً عَنِ الْفِعْلِ مثل قَوْله: فَقالُوا سَلاماً [الذاريات: ٢٥]. فَلَمَّا أُرِيدَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الدَّوَامِ جِيءَ بِهِ مَرْفُوعًا مِثْلَ قَوْلِهِ: قالَ سَلامٌ [هود: ٦٩]، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: ٢].
وَحَذْفُ خَبَرِ سَلامٌ لِنِيَابَةِ الْمَفْعُولِ الْمُطلق وَهُوَ قَوْله قَوْلًا عَنِ الْخَبَرِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: سَلَامٌ يُقَالُ لَهُمْ قَوْلًا مِنَ اللَّهِ، وَالَّذِي اقْتَضَى حَذْفَ الْفِعْلِ وَنِيَابَةَ الْمَصْدَرِ عَنْهُ هُوَ اسْتِعْدَادُ الْمَصْدَرِ لِقَبُولِ التَّنْوِينِ الدَّالِّ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَالَّذِي اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مَنْصُوبًا دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ مَرْفُوعًا هُوَ مَا يُشْعِرُ بِهِ النَّصْبَ مِنْ كَوْنِ الْمَصْدَرِ جَاءَ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَتَنْوِينُ رَبٍّ لِلتَّعْظِيمِ، وَلِأَجِلِ ذَلِكَ عُدِلَ عَنْ إِضَافَةِ رَبٍّ إِلَى ضَمِيرِهِمْ، وَاخْتِيرَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ بِوَصْفِ الرَّبِّ لِشِدَّةِ مُنَاسَبَتِهِ لِلْإِكْرَامِ وَالرِّضَى عَنْهُمْ بِذِكْرِ أَنَّهُمْ عَبَدُوهُ فِي الدُّنْيَا فَاعْتَرفُوا بربوبيته.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ فَلَيْسَتْ مِنْ حَقِيقَةِ النَّصْرِ الْمَنْفِيِّ وَهَذِهِ الْفِقْرَةُ أَكْثَرُ حَظٍّ فِيهَا هُوَ حَظّ الْمُشْركين.
[٥٥]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٥٥]
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥)
أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ هُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: ١٨]. وَالْحَظُّ لِلْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اتَّبَعُوا الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر: ١٧، ١٨].
وأَحْسَنَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى كَامِلِ الْحُسْنِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى تَفْضِيلِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ حُسْنٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣].
وَإِضَافَةُ أَحْسَنَ إِلَى مَا أُنْزِلَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ.
وَالْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ هُوَ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ قَبْلُ بِنَوْعَيْهِ وَكُلُّهُ بَغْتَةٌ إِذْ لَا يَتَقَدَّمُهُ إِشْعَارٌ، فَعَذَابُ الدُّنْيَا يَحِلُّ بَغْتَةً وَعَذَابُ الْآخِرَةِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَظْهَرُ بَوَارِقُهُ عِنْدَ الْبَعْثِ وَقَدْ أَتَاهُمْ عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَأْتِيهِمْ عَذَابُ الْآخِرَةِ يَوْم الْبَعْث.
[٥٦- ٥٨]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ٥٦ إِلَى ٥٨]
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
أَنْ تَقُولَ تَعْلِيل لِلْأَوَامِرِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر: ٥٤] واتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ [الزمر: ٥٥] عَلَى حَذْفِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَعَ (أَنْ) وَهُوَ كَثِيرٌ.
فَطْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَالْأَنْعَامِ مِنْ أَعْجَبِ أَحْوَالِ خَلْقِ الْأَرْضِ. وَيَجُوزُ كَوْنُهَا خَبَرًا ثَالِثًا عَنْ ضَمِيرِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى: ٩].
وَالْمَعْنَى: قَدَّرَ فِي تَكْوِينِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ أَزْوَاجًا لِأَفْرَادِهِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ مُقَارِنًا لِأَصْلِ تَكْوِينِ النَّوْعِ جِيءَ فِيهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ. وَالْخِطَابُ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ. وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَعْمُولَاتِ جَعَلَ لِيُعْرَفَ أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ صِفَةٌ لِ أَزْواجاً، وَلِيَكُونَ التَّعْلِيلُ بِهِ مُلَاحَظًا فِي الْمَعْطُوفِ بَقَوْلِهِ وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً.
وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ وَهُوَ الَّذِي يَنْضَمُّ إِلَى فَرْدٍ فَيَصِيرُ كِلَاهُمَا زَوْجًا لِلْآخَرِ وَالْمُرَادُ هُنَا: الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنَ النَّاسِ، أَيْ جَعَلَ لِمَجْمُوعِكُمْ أَزْوَاجًا، فَلِلذُّكُورِ أَزْوَاجٌ مِنَ الْإِنَاثِ، وَلِلنِّسَاءِ أَزْوَاجٌ مِنَ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ لِأَجْلِ الْجَمِيعِ لِأَنَّ بِذَلِكَ الْجَعْلِ حَصَلَتْ لَذَّةُ التَّأَنُّسِ وَنِعْمَةُ النَّسْلِ.
وَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ مِنْ نَوْعِكُمْ، وَمِنْ بَعْضِكُمْ، كَقَوْلِهِ: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النُّور: ٦١] وَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النِّسَاء: ٢٩]. وَكَوْنُ الْأَزْوَاجِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَالٌ فِي
النِّعْمَةِ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ لَفَاتَ نَعِيمُ الْأُنْسِ، وَأَمَّا زَعْمُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَتَزَوَّجُ جِنِّيَّةً أَوْ غُولًا فَذَلِكَ مِنَ التَّكَاذِيبِ وَتَخَيُّلَاتِ بَعْضِهِمْ، وَرُبَّمَا عَرَضَ لِبَعْضِ النَّاسِ خَبَالٌ فِي الْعَقْلِ خَاصٌّ بِذَلِكَ فَتَخَيَّلَ ذَلِكَ وَتَحَدَّثَ بِهِ فَرَاجَ عَنْ كُلِّ أَبْلَهَ.
وَقَوْلُهُ: وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً عَطْفٌ عَلَى أَزْواجاً الْأَوَّلِ فَهُوَ كَمَفْعُولٍ لِ جَعَلَ وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلَ مِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا، أَيْ جَعَلَ مِنْهَا أَزْوَاجًا بَعْضَهَا لِبَعْضٍ.
وَفَائِدَةُ ذِكْرِ أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ دُونَ أَزْوَاجِ الْوَحْشِ: أَنَّ فِي أَنْوَاعِ الْأَنْعَامِ فَائِدَةً لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهَا تَعِيشُ مَعَهُ وَلَا تَنْفِرُ مِنْهُ وَيَنْتَفِعُ بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَلُحُومِهَا وَنَسْلِهَا وَعَمَلِهَا مِنْ حَمْلٍ وَحَرْثٍ، فَبِجَعْلِهَا أَزْوَاجًا حَصَلَ مُعْظَمُ نَفْعِهَا لِلْإِنْسَانِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَذْهَبْتُمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَأَذْهَبْتُمْ بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَام التوبيخي.
[٢١]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢١]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١)
سِيقَتْ قِصَّةُ هُودٍ وَقَوْمِهِ مَسَاقَ الْمَوْعِظَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الْأَحْقَاف: ٣] مَعَ مَا أُعْقِبَتْ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْأَحْقَاف:
٤] الَّذِي يُقَابِلُهُ قَوْلُ هُودٍ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ثُمَّ قَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: ٩] الَّذِي يُقَابِلُهُ قَوْلُهُ: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، ذَلِكَ كُلُّهُ
بِالْمَوْعِظَةِ بِحَالِ هُودٍ مَعَ قَوْمِهِ. وَسِيقَتْ أَيْضًا مَسَاقَ الْحُجَّةِ عَلَى رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى عِنَادِ قَوْمِهِ بِذِكْرِ مِثَالٍ لِحَالِهِمْ مَعَ رَسُولِهِمْ بِحَالِ عَادٍ مَعَ رَسُولِهِمْ. وَلَهَا أَيْضًا مَوْقِعُ التسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا تَلَقَّاهُ بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْعِنَادِ وَالْبُهْتَانِ لِتَكُونَ مَوْعِظَةً وَتَسْلِيَةً مَعًا يَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهِ.
وَلَا تَجِدُ كَلِمَةً أَجْمَعَ لِلْمَعْنَيَيْنِ مَعَ كَلِمَةِ اذْكُرْ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ لِمَعْنَى الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ بِأَنْ يُرَادَ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ لِقَوْمِهِ، وَلِمَعْنَى الذُّكْرِ بِالضَّمِّ بِأَنْ يَتَذَكَّرَ تِلْكَ الْحَالَةَ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَقَدَّمَتْ لَهُ وَأَمْثَالُهَا لِأَنَّ فِي التَّذَكُّرِ مَسْلَاةً وَأُسْوَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ فِي سُورَةِ ص [١٧]. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ آنِفًا قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ تَذَكَّرُوا مَا يَعْرِفُونَ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ مِمَّا قَصَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ مِنْ قَبْلُ وَتَذَكَّرَ هُوَ لَا مَحَالَةَ أَحْوَالَ رُسُلٍ كَثِيرِينَ ثُمَّ جَاءَتْ قِصَّةُ هُودٍ مِثَالًا لِذَلِكَ. وَمُشْرِكُو مَكَّةَ إِذَا تَذَكَّرُوا فِي حَالِهِمْ وَحَالِ عَادٍ وَجَدُوا الْحَالَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ فَيَجْدُرُ بِهِمْ أَنْ يَخَافُوا مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ عَادٍ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ الْأُمَمِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِينَ جَاءَهُمْ رَسُولٌ بَعْدَ
وَ (أَمْ) مُنْقَطِعَةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أَمْ بَعْدَهَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّهَكُّمِ.
وَالتَّقْدِير: بل أأنتم لَا تُبْصِرُونَ.
وَمَعْنَى لَا تُبْصِرُونَ: لَا تُبْصِرُونَ الْمَرْئِيَّاتِ كَمَا هِيَ فِي الْوَاقِعِ فَلَعَلَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ نَارًا كَمَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تَقُولُونَ: بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٥] أَيْ فَلَا نَرَاكَ، وَتَقُولُونَ: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا [الْحجر: ١٥].
وَجِيءَ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مُخْبَرًا عَنْهُ بِخَبَر فعلي منفي لِإِفَادَةِ تَقَوِّيِ الْحُكْمِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ:
أَمْ لَا تُبْصِرُونَ، لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ تَقَوِيًّا، وَلَا: أَمْ لَا تُبْصِرُونَ أَنْتُمْ، لِأَنَّ مَجِيءَ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ
بَعْدَ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ يُفِيدُ تَقْرِيرَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْحُكْمِ وَتَقْوِيَتَهُ وَهُوَ أَشَدُّ تَوْكِيدًا، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ.
وَجُمْلَةُ اصْلَوْها مُسْتَأْنَفَةٌ هِيَ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ الْمُتَرَقَّبَةِ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّغْلِيظِ السَّابِقَيْنِ، أَيْ ادْخُلُوهَا فَاصْطَلُوا بِنَارِهَا يُقَالُ: صَلِيَ النَّارَ يَصْلَاهَا، إِذَا قَاسَى حَرَّهَا.
وَالْأَمْرُ فِي اصْلَوْها إِمَّا مُكَنًّى بِهِ عَنِ الدُّخُولِ لِأَنَّ الدُّخُولَ لَهَا يَسْتَلْزِمُ الِاحْتِرَاقَ بِنَارِهَا، وَإِمَّا مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّنْكِيلِ. وَفُرِّعَ عَلَى اصْلَوْها أَمْرٌ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ صَبْرِهِمْ عَلَى حَرِّهَا وَبَيْنَ عَدَمِ الصَّبْرِ وَهُوَ الْجَزَعُ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا لَا يُخَفَّفَانِ عَنْهُمْ شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ [إِبْرَاهِيم: ٢١] لِأَنَّ جُرْمَهُمْ عَظِيمٌ لَا مَطْمَعَ فِي تَخْفِيفِ جَزَائِهِ.
وسَواءٌ عَلَيْكُمْ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ.
وَجُمْلَةُ سَواءٌ عَلَيْكُمْ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْهَا وَلَمْ تُعْطَفْ.
وَجُمْلَةُ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ اصْلَوْها إِذْ كَلِمَةُ إِنَّما مُرَكَّبَةٌ من (إنّ) و (مَا) الْكَافَّةِ، فَكَمَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِ (إِنَّ) وَحْدَهَا كَذَلِكَ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهَا مَعَ (مَا) الْكَافَّةِ، وَعَلَيْهِ فَجُمْلَتَا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قَالَ لي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا تَرَى دِينَارًا؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ، قَالَ فَنِصْفُ دِينَارٍ؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ:
فَكَمْ؟ قُلْتُ: شَعِيرَةٌ»
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَيْ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: إِنَّكَ لَزَهِيدٌ فَنَزَلَتْ:
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ [المجادلة: ١٣] الْآيَةَ. قَالَ: «فَبِيَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ»
. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اه.
قُلْتُ: عَلِيُّ بْنُ عَلْقَمَةَ الْأَنْمَارِيُّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَقَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: صَحَّحُوا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ غَيْرِي». وَسَاقَ حَدِيثًا.
وَمَحْمَلُ
قَوْلِ عَلِيٍّ «فَبِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ»
، أَنَّهُ أَرَادَ التَّخْفِيفَ فِي مِقْدَارِ الصَّدَقَةِ مِنْ دِينَارٍ إِلَى زِنَةِ شَعِيرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَهِيَ جُزْءٌ مِنَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ جُزْءا من أَجزَاء الدِّينَارِ.
وَفَعْلُ ناجَيْتُمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: ٩٨].
وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَقَدِّمُوا لِلْوُجُوبِ، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ وَرَجَّحَهُ بِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَبِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا بِفَقْدِهِ يَزُولُ الْوُجُوبُ. وَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ نُسِخَتْ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ فَرِيقٌ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ وَهُوَ يُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنْ فَرَضَ الزَّكَاةِ كَانَ سَابِقًا عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ شَرْعَ الزَّكَاةِ أَبْطَلَ كُلَّ حَقٍّ كَانَ وَاجِبًا فِي الْمَالِ.
وبَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ مَعْنَاهُ: قَبْلَ نَجْوَاكُمْ بِقَلِيلٍ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ جَرَتْ مَجْرَى الْمِثْلِ لِلْقُرْبِ مِنَ الشَّيْءِ قُبَيْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ. شَبَّهَتْ هَيْئَةَ قُرْبِ الشَّيْءِ مِنْ آخَرٍ بِهَيْئَةِ وُصُولِ الشَّخْصِ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ يَرِدُ هُوَ عَلَيْهِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.
وَ (بَلْ) لِلْاضْرَابِ أَوِ الْإِبْطَالِ عَمَّا تَضْمَّنَهُ الْاسْتِفْهَامَانِ السَّابِقَانِ أَوْ لِلْانْتِقَالِ مِنْ غَرَضِ التَّعْجِيزِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ عِنَادِهِمْ.
يُقَالُ: لَجَّ فِي الْخُصُومَةِ مِنْ بَابِ سَمَّعَ، أَيِ اشْتَدَّ فِي النِّزَاعِ وَالْخِصَامِ، أَيِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ يَكْتَنِفُهُمُ الْعُتُوُّ وَالنُّفُورُ، أَيْ لَا يَتْرُكُ مَخْلَصًا لِلْحَقِّ إِلَيْهِمْ، فَالظَّرْفِيَّةُ مَجَازِيَّةٌ، وَالْعُتُوُّ: التَّكَبُّرُ وَالطُّغْيَانُ.
وَالنُّفُورُ: هُوَ الْاشْمِئْزَازُ مِنَ الشَّيْءِ وَالْهُرُوبُ مِنْهُ.
وَالْمَعْنَى: اشْتَدُّواْ فِي الْخِصَام متلبسين بِالْكِبْرِ عَنِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ حِرْصًا عَلَى بَقَاءِ سِيَادَتِهِمْ وَبِالنُّفُورِ عَنِ الْحَقِّ لِكَرَاهِيَةِ مَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ وَمَا أَلِفُوهُ من الْبَاطِل.
[٢٢]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢٢]
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢)
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَوْ لِرَجُلَيْنِ: كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ، لِأَنَّهُ جَاءَ مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِهِ: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ [الْملك: ٢٠] وَقَوْلِهِ: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [الْملك: ٢١] وَمَا اتَّصَلَ ذَلِكَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي سِيقَ مَسَاقَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ [الْملك: ٢٠] أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ [الْملك: ٢١]، وَذَلِكَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ مَنَاحِيهِمْ وَلَكِنْ لَمْ يُعَرِّجْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى بَيَانِ كَيْفَ يَتَعَيَّنُ التَّمْثِيلُ الْأَوَّلُ لِلْكَافِرِينَ وَالثَّانِي لِلْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يَظْهَرَ وَجْهُ إِلْزَامِ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ مَثَلِ السَّوْءِ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ مِنَ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ لَمْ يَتَّضِحْ إِلْزَامُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ حَالَهُمْ حَالُ التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ، فَيَخَالُ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ خَصْمَهُ هُوَ مَضْرِبُ الْمَثَلِ السُّوءِ. وَيَتَوَهَّمُ أَنَّ الْكَلَامَ وَرَدَ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ الْمُنْصِفِ نَحْوُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤] بِذَلِكَ يَنْبُو عَنْهُ الْمَقَامُ هُنَا لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا وَارِدٌ فِي مَقَامِ الْمُحَاجَّةِ وَالْاسْتِدْلَالِ وَهُنَالِكَ فِي مَقَامِ الْمُتَارَكَةِ أَوِ الْاسْتِنْزَالِ.
وَالَّذِي انْقَدَحَ لِي: أَنَّ التَّمْثِيلَ جَرَى عَلَى تَشْبِيهِ حَالِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ بِحَالَةِ مَشْيِ إِنْسَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَعَلَى تَشْبِيهِ الدِّينِ بِالطَّرِيقِ الْمَسْلُوكَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ مَشْيِ الْمُكِبِّ عَلَى وَجْهِهِ مَشْيًا عَلَى صِرَاطٍ مُعْوَجٍّ، وَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ اسْتِعَارَةٌ أُخْرَى بِتَشْبِيهِ حَالِ السَّالِكِ
وَتَقْدِيمُ خَبَرِ إِنَّ عَلَى اسْمِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ تَنْوِيهًا بِالْمُتَّقِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَفَازِ: الْجَنَّةُ وَنَعِيمُهَا. وَأُوثِرَتْ كَلِمَةُ مَفازاً عَلَى كَلِمَةِ: الْجَنَّةِ، لِأَنَّ فِي اشْتِقَاقِهِ إِثَارَةَ النَّدَامَةِ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [النبأ: ١٨] وَبِقُولِهِ:
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ: ٣٠].
وَأُبْدِلَ حَدائِقَ مِنْ مَفازاً بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ مَكَانِ الْفَوْزِ، أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْفَوْزِ.
وَالْحَدَائِقُ: جَمْعُ حَدِيقَةٍ وَهِيَ الْجَنَّةُ مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ ذَوَاتِ السَّاقِ الْمَحُوطَةِ بِحَائِطٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ حَضَائِرَ.
وَالْأَعْنَابُ: جَمْعُ عِنَبٍ وَهُوَ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى شَجَرَةِ الْكَرْمِ وَيُطْلَقُ عَلَى ثَمَرِهَا.
وَالْكَوَاعِبُ: جَمْعُ كَاعِبٍ، وَهِيَ الْجَارِيَةُ الَّتِي بَلَغَتْ سِنَّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَنَحْوَهَا.
وَوُصِفَتْ بِكَاعِبٍ لِأَنَّهَا تَكَعَّبَ ثَدْيُهَا، أَيْ صَارَ كَالْكَعْبِ، أَيِ اسْتَدَارَ وَنَتَأَ، يُقَالُ: كَعَبَتْ مِنْ بَابِ قَعَدَ، وَيُقَالُ: كَعَّبَتْ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ كَاعِبٌ وَصْفًا خَاصًّا بِالْمَرْأَةِ لَمْ تَلْحَقْهُ هَاءُ التَّأْنِيثِ وَجُمِعَ عَلَى فَوَاعِلَ.
وَالْأَتْرَابُ: جَمْعُ تِرْبٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ: هُوَ الْمُسَاوِي غَيْرَهُ فِي السِّنِّ، وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى الْإِنَاثِ. قِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ التُّرَابِ فَقِيلَ لِأَنَّهُ حِينَ يُولَدُ يَقَعُ عَلَى التُّرَابِ مِثْلَ الْآخَرِ، أَوْ لِأَنَّ التِّرْبَ يَنْشَأُ مَعَ لِدَتِهِ فِي سِنِّ الصِّبَا يَلْعَبُ بِالتُّرَابِ.
وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنَ التَّرَائِبِ تَشْبِيهًا فِي التَّسَاوِي بِالتَّرَائِبِ وَهِيَ ضُلُوعُ الصَّدْرِ فَإِنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ.
وَتَقَدَّمَ الْأَتْرَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عُرُباً أَتْراباً فِي الْوَاقِعَةِ [٣٧]، فَيَجُوزُ أَن يكون وصفهن بِالْأَتْرَابِ بِالنِّسْبَةِ بَيْنَهُنَّ فِي تَسَاوِي السِّنِّ لِزِيَادَةِ الْحُسْنِ، أَيْ لَا تَفُوتُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ غَيْرَهَا، أَيْ فَلَا تَكُونُ النَّفْسُ إِلَى إِحْدَاهُنَّ أَمْيَلَ مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى فَتَكُونُ بَعْضُهُنَّ أَقَلَّ مَسَرَّةً فِي نَفْسِ الرَّجُلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَصْفُ بِالنِّسْبَةِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ لِأَنَّ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَى


الصفحة التالية
Icon