رَاجِعَةٌ إِلَى عُمُومِ الدَّعْوَةِ وَهُوَ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ تَتَنَاوَلَهُ أَفْهَامُ مَنْ يَأْتِي مِنَ النَّاسِ فِي عُصُورِ انْتِشَارِ الْعُلُومِ فِي الْأُمَّةِ. الثَّالِثُ أَنَّ السَّلَفَ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ يَعْنُونَ مَعَانِيَهُ وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ الشاطبي لَا نقضت عَجَائِبُهُ بِانْحِصَارِ أَنْوَاعِ مَعَانِيهِ. الرَّابِعُ أَنَّ مِنْ تَمَامِ إِعْجَازِهِ أَنْ يَتَضَمَّنَ مِنَ الْمَعَانِي مَعَ إِيجَازِ لَفْظِهِ مَا لَمْ تَفِ بِهِ الْأَسْفَارُ الْمُتَكَاثِرَةُ.
الْخَامِسُ أَنَّ مِقْدَارَ أَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ ابْتِدَاءً لَا يَقْضِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ مَفْهُومًا لَدَيْهِمْ فَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى الْمَعَانِي الْأَسَاسِيَّةِ فَقَدْ يَتَهَيَّأُ لِفَهْمِهِ أَقْوَامٌ، وَتُحْجَبُ عَنْهُ أَقْوَامٌ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. السَّادِسُ أَنَّ عَدَمَ تَكَلُّمِ السَّلَفِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ فِيمَا لَيْسَ رَاجِعًا إِلَى مَقَاصِدِهِ فَنَحْنُ نُسَاعِدُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا فَلَا نُسَلِّمُ وُقُوفَهُمْ فِيهَا عِنْدَ
ظَوَاهِرِ الْآيَاتِ بَلْ قَدْ بَيَّنُوا وَفَصَّلُوا وَفَرَّعُوا فِي عُلُومٍ عُنُوا بِهَا، وَلَا يَمْنَعُنَا ذَلِك أَن نقفي عَلَى آثَارِهِمْ فِي عُلُومٍ أُخْرَى رَاجِعَةٍ لِخِدْمَةِ الْمَقَاصِدِ الْقُرْآنِيَّةِ أَوْ لِبَيَانِ سَعَةِ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ذِكْرُهُ لِإِيضَاحِ الْمَعْنَى فَذَلِكَ تَابِعٌ لِلتَّفْسِيرِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْعُلُومَ الْعَقْلِيَّةَ إِنَّمَا تَبْحَثُ عَنْ أَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ التَّفْسِيرِ لَكِنَّهُ تَكْمِلَةٌ لِلْمَبَاحِثِ الْعِلْمِيَّةِ وَاسْتِطْرَادٌ فِي الْعِلْمِ لِمُنَاسَبَةِ التَّفْسِيرِ لِيَكُونَ مُتَعَاطِي التَّفْسِيرِ أَوْسَعَ قَرِيحَةً فِي الْعُلُومِ.
وَذَهَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَوَاصِمِ» إِلَى إِنْكَارِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْعُلُومِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى غَيْرِ هَاتِهِ الْعُلُومِ وَذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ فِي تَحْقِيرِ الْفَلْسَفَةِ لِأَجْلِ مَا خُولِطَتْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَاتِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَهُوَ مُفْرِطٌ فِي ذَلِكَ مُسْتَخِفٌّ بِالْحُكَمَاءِ.
وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ عَلَاقَةَ الْعُلُومِ بِالْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ:
الْأُولَى:
عُلُومٌ تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ كَأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَالْفِقْهِ وَالتَّشْرِيعِ وَالِاعْتِقَادِ وَالْأُصُولِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْبَلَاغَةِ.
الثَّانِيَةُ:
عُلُومٌ تَزِيدُ الْمُفَسِّرَ علما كالحكمة والهيأة وَخَوَاصِّ الْمَخْلُوقَاتِ.
الثَّالِثَةُ:
عُلُومٌ أَشَارَ إِلَيْهَا أَوْ جَاءَتْ مُؤَيِّدَةً لَهُ كَعِلْمِ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ وَالطِّبِّ وَالْمَنْطِقِ.
الرَّابِعَةُ:
عُلُومٌ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِهِ إِمَّا لِبُطْلَانِهَا كَالزَّجْرِ وَالْعِيَافَةِ وَالْمِيثُولُوجْيَا، وَإِمَّا لِأَنَّهَا لَا تُعِينُ عَلَى خِدْمَتِهِ كَعِلْمِ الْعَرُوضِ وَالْقَوَافِي.
مُسَافِرًا لِأَنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ فِي الِاهْتِدَاءِ لِجِهَةِ الْكَعْبَةِ فَرُبَّمَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ سُقُوطَ الِاسْتِقْبَالِ عَنْهُ، وَفِي مُعْظَمِ هَاتِهِ الْآيَةِ مَعَ قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ زِيَادَةُ اهْتِمَامٍ بِأَمْرِ الْقِبْلَةِ يُؤَكِّدُ قَوْلَهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [الْبَقَرَة:
١٤٧].
وَقَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ زِيَادَةُ تَحْذِيرٍ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ.
وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَأُعِيدَ لَفْظُ الْجُمْلَةِ السَّالِفَةِ لِيُبْنَى عَلَيْهِ التَّعْلِيل بقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ.
وَقَوله: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ الْآيَةَ. وَالْمَقْصِدُ التَّعْمِيمُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي السَّفَرِ لِلْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ تَخْصِيصُهُ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَصَلَ مِنْ تَكْرِيرِ مُعْظَمِ الْكَلِمَاتِ تَأْكِيدٌ لِلْحُكْمِ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْله لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ.
وَقَدْ تَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِاسْتِقْبَالِ النَّبِيءِ الْكَعْبَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِاسْتِقْبَالِ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ مَرَّتَيْنِ. وَتَكَرَّرَ إِنَّهُ الْحَقُّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتَكَرَّرَ تَعْمِيمُ الْجِهَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ تَطَرُّقِ التَّسَاهُلِ فِي ذَلِكَ تَقْرِيرًا لِلْحَقِّ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ، وَزِيَادَةً فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ التَّأْكِيدَ، مِنْ زِيَادَةِ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ، وَمِنْ جُمَلٍ مُعْتَرِضَةٍ، لِزِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِحُكْمِ الِاسْتِقْبَالِ: وَهِيَ جُمْلَةُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ الْآيَاتِ، وَجُمْلَةُ: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَجُمْلَة: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ الْآيَاتِ، وَفِيهِ إِظْهَارُ أَحَقِّيَّةِ الْكَعْبَةِ بِذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْحَقِّ لَا يَزِيدُهُ إِنْكَارُ الْمُنْكِرِينَ إِلَّا تَصْمِيمًا، وَالتَّصْمِيمُ يَسْتَدْعِي إِعَادَةَ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى مَا صُمِّمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ تَدُلُّ عَلَى التَّحَقُّقِ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ.
وَقَدْ ذُكِرَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنْ بَيَانِ فَوَائِدِ هَذَا التَّحْوِيلِ وَمَا حَفَّ بِهِ، مَا يَدْفَعُ قَلِيلَ السَّآمَةِ الْعَارِضَةِ لِسَمَاعِ التَّكْرَارِ، فَذَكَرَ قَوْلَهُ: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ إِلَخْ، وَذكر قَوْله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ إِلَخْ.
وَمُرَاعَاةِ الْإِحْسَانِ لِلَّذِي بَطَّأَ بِهِ جُهْدُهُ، وَهَذَا الْمَقْصِدُ مِنْ أَشْرَفِ الْمَقَاصِدِ التَّشْرِيعِيَّةِ. وَلَقَدْ كَانَ مِقْدَارُ الْإِصَابَةِ وَالْخَطَأِ فِيهِ هُوَ مِيزَانَ ارْتِقَاءِ الْأُمَمِ وَتَدَهْوُرِهَا، وَلَا تَجِدُ شَرِيعَةً ظَهَرَتْ وَلَا دُعَاةَ خَيْرٍ دَعَوْا إِلَّا وَهُمْ يَجْعَلُونَ لِتَنْوِيلِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ حَظًّا مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِي أَهْلِ الثَّرْوَةِ وموضعا عَظِيمًا مِنْ تَشْرِيعِهِمْ أَوْ دَعْوَتِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتُونَ بَيْنَ مُقَارِبٍ وَمُقَصِّرٍ أَوْ آمِلٍ وَمُدَبِّرٍ، غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَجِدُ شَرِيعَةً سَدَّدَتِ السَّهْمَ لِهَذَا الْغَرَضِ. وَعَرَفَتْ كَيْفَ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُسْتَحَبِّ فِيهِ وَالْمُفْتَرَضِ. وَمثل هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُبَارَكَةِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَصَرَّفَتْ فِي
نِظَامِ الثَّرْوَةِ الْعَامَّةِ تَصَرُّفًا عَجِيبًا أَقَامَتْهُ عَلَى قَاعِدَةِ تَوْزِيعِ الثَّرْوَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ بِكِفَايَةِ الْمُحْتَاجِ مِنَ الْأُمَّةِ مَؤُونَةَ حَاجَتِهِ، عَلَى وُجُوهٍ لَا تَحْرِمُ الْمُكْتَسِبَ لِلْمَالِ فَائِدَةَ اكْتِسَابِهِ وَانْتِفَاعِهِ بِهِ قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ.
فَأَوَّلُ مَا ابْتَدَأَتْ بِهِ تَأْمِينُ ثِقَةِ الْمُكْتَسِبِ- بِالْأَمْنِ عَلَى مَالِهِ- مِنْ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ مُنْتَزِعٌ إِذْ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [النِّسَاء: ٢٩]
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»
، سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ مِائَةُ أَلْفِ نَفْسٍ أَوْ يَزِيدُونَ وَتَنَاقَلُوهُ فِي آفَاقِ الْإِسْلَامِ حَتَّى بَلَغَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، فَكَانَ مِنْ قَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ قَاعِدَةُ حِفْظِ الْأَمْوَالِ لَا يَسْتَطِيعُ مُسْلِمٌ إِبْطَالهَا.
وَقد أتبعت إِعْلَانُ هَذِهِ الثِّقَةِ بِحِفْظِ الْأَمْوَالِ بِتَفَارِيعِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُعَامَلَاتِ وَالتَّوْثِيقَاتِ، كَمَشْرُوعِيَّةِ الرَّهْنِ فِي السّلف والتوثّق بِالْإِشْهَادِ كَمَا تُصَرِّحُ بِهِ الْآيَاتُ الْآتِيَةُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ تَنْصِيصًا وَاسْتِنْبَاطًا.
ثُمَّ أَشَارَتْ إِلَى أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِهَا أَلَّا تَبْقَى الْأَمْوَالُ مُتَنَقِّلَةً فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ عَائِلَةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْأُمَّةِ بَلِ الْمَقْصِدُ دَوَرَانُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْفَيْءِ: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ [الْحَشْر: ٧]، فَضَمِيرُ يَكُونُ عَائِدٌ إِلَى مَا أَفَاءَ اللَّهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَالًا أَيْ كَيْلَا يَكُونَ الْمَالُ دُولَةً. وَالدُّولَةُ مَا يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ مِنَ الْمَالِ، أَيْ شَرَعْنَا صَرْفَهُ لِمَنْ سَمَّيْنَاهُمْ دُونَ أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ الْجَيْشِ حَقٌّ فِيهِ، لِيَنَالَ الْفُقَرَاءُ مِنْهُ حُظُوظَهُمْ فَيُصْبِحُوا أَغْنِيَاءَ فَلَا يَكُونُ
يَعْلَمُ السَّامِعُ أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا عَظِيمًا فِي يَوْمٍ فِيهِ نُعَيْمٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ قَدَّمَ فِي التَّفْصِيلِ ذِكْرَ سِمَةِ أَهْلِ الْعَذَابِ تَعْجِيلًا بِمُسَاءَتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ أَكَفَرْتُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يُحْذَفُ مِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ لِظُهُورِهِ: لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ مُسْتَفْهِمٍ، وَذَلِكَ الْقَوْلُ هُوَ جَوَابُ أَمَّا، وَلذَلِك لم تدحل الْفَاءُ عَلَى أَكَفَرْتُمْ لِيَظْهَرَ أَنْ لَيْسَ هُوَ الْجَوَابُ وَأَنَّ الْجَوَابَ حُذِفَ بِرُمَّتِهِ.
وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ مَجْهُولٌ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ يَقُولُهُ أَهْلُ الْمَحْشَرِ لَهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوهُمْ فِي الدُّنْيَا مُؤْمِنِينَ، ثُمَّ رَأَوْهُمْ وَعَلَيْهِمْ سِمَةُ الْكُفْرِ، كَمَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْحَوْضِ «فَلَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ ثُمَّ يُخْتَلَجُونَ دوني، فَأَقُول: أصيحابي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ»
وَالْمُسْتَفْهِمُ سَلَفُهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ أَوْ رَسُولِهِمْ، فَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَعَ كِنَايَتِهِ عَنْ مَعْنَى التَّعَجُّبِ.
وَيحْتَمل أنّه يَقُوله تَعَالَى لَهُمْ، فَالِاسْتِفْهَامُ مَجَازٌ عَنِ الْإِنْكَارِ وَالتَّغْلِيطِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ تَغْيِيرُهُمْ شَرِيعَةَ أَنْبِيَائِهِمْ وَكِتْمَانُهُمْ مَا كَتَمُوهُ فِيهَا، أَوْ كُفْرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِمُوسَى وَعِيسَى، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ [آل عمرَان: ٩٠] وَهَذَا هُوَ الْمَحْمَلُ الْبَيِّنُ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ وَلَفْظُهُ يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّهُ مَسُوقٌ لِوَعِيدِ أُولَئِكَ. وَوَقَعَتْ تَأْوِيلَاتٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَعُوا بِهَا فِيمَا حَذَّرَهُمْ مِنْهُ الْقُرْآنُ، فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ: الَّذِينَ
قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»
مِثْلَ أَهْلِ الرِّدَّةِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى ذَلِكَ، فَمَعْنَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَأَوَّلَ الْآيَةَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَهُوَ فِي ثَالِثَةِ الْمَسَائِلِ مِنْ سَمَاعِهِ مِنْ كِتَابِ
الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُحَارِبِينَ مِنَ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ: «مَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَشَدُّ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِلَافِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ» يَوْمَ
وَالْمُخَاطَبُ هُنَا وُلَاةُ الْأُمُورِ لَا مَحَالَةَ، وَذَلِكَ يُرَجِّحُ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالشِّقَاقُ مَصْدَرٌ كَالْمُشَاقَّةِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الشِّقِّ- بِكَسْرِ الشِّينِ- أَيِ النَّاحِيَةِ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَصِيرُ فِي نَاحِيَةٍ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِ، كَمَا قَالُوا فِي اشْتِقَاقِ الْعَدُوِّ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ عَدْوَةِ الْوَادِي. وَعِنْدِي أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الشَّقِّ- بِفَتْحِ الشِّينِ- وَهُوَ الصَّدْعُ وَالتَّفَرُّعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: شَقَّ عَصَا الطَّاعَةِ، وَالْخِلَافُ شِقَاقٌ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٧] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ وَأَضَافَ الشِّقَاقَ إِلَى (بَيْنِ). إِمَّا لِإِخْرَاجِ لَفْظِ (بَيْنِ) عَنِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَى مَعْنَى الْبُعْدِ الَّذِي يَتَبَاعَدُهُ الشَّيْئَانِ، أَيْ شِقَاقُ تَبَاعُدٍ، أَيْ تَجَافٍ، وَإِمَّا عَلَى وَجْهِ التَّوَسُّعِ، كَقَوْلِهِ «بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
يَا سَارِقَ اللَّيْلَةَ أَهْلَ الدَّارِ وَمَنْ يَقُولُ بِوُقُوعِ الْإِضَافَةِ عَلَى تَقْدِيرٍ (فِي) يَجْعَلُ هَذَا شَاهِدًا لَهُ كَقَوْلِهِ: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْف: ٧٨]، وَالْعَرَبُ يَتَوَسَّعُونَ فِي هَذَا الظَّرْفِ كَثِيرًا، وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ٩٤] فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ.
وَضَمِيرُ بَيْنِهِما عَائِدٌ إِلَى الزَّوْجَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ:
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النِّسَاءِ: ٤].
وَالْحَكَمُ- بِفَتْحَتَيْنِ- الْحَاكِمُ الَّذِي يُرْضَى لِلْحُكُومَةِ بِغَيْرِ وَلَايَةٍ سَابِقَةٍ، وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَكَّمُوهُ فَحَكَمَ، وَهُوَ اسْمٌ قَدِيمٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، كَانُوا لَا يُنَصِّبُونَ الْقُضَاةَ، وَلَا يَتَحَاكَمُونَ إِلَّا إِلَى السَّيْفِ، وَلَكِنَّهُمْ قَدْ يَرْضَوْنَ بِأَحَدِ عُقَلَائِهِمْ يَجْعَلُونَهُ حَكَمًا فِي بَعْضِ حَوَادِثِهِمْ، وَقَدْ تَحَاكَمَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ لَدَى هَرِمِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِّ، وَهِيَ الْمُحَاكَمَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأَعْشَى فِي قَصِيدَتِهِ الرَّائِيَةِ الْقَائِلِ فِيهَا:

عَلْقَمَ مَا أَنْتَ إِلَى عَامِرٍ النَّاقِضِ الْأَوْتَارِ وَالْوَاتِرِ
وَتَحَاكَمَ أَبْنَاءُ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ إِلَى الْأَفْعَى الْجُرْهُمِيِّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
حَقِيقَةٌ. وَإِظْهَارُ فِعْلِ يَشْهَدُونَ مَعَ وُجُودِ حَرْفِ الْعَطْفِ لِلتَّأْكِيدِ. وَحَرْفُ (لَكِنْ) بِسُكُونِ النُّونِ مُخَفَّفُ لَكِنَّ الْمُشَدَّدَةِ النُّونِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَخَوَاتِ (إِنَّ) وَإِذَا خُفِّفَتْ بَطُلَ عَمَلُهَا.
وَقَوْلُهُ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً يَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَقَعَ تَحْوِيلٌ فِي تَرْكِيبِ الْجُمْلَةِ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ الَّذِي يَعْقُبُهُ التَّفْصِيلُ، لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: يَشْهَدُ بِإِنْزَالِ مَا أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ بِعِلْمِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ لَمْ يُفَدِ الْمَشْهُودُ بِهِ إِلَّا ضِمْنًا مَعَ الْمَشْهُودِ فِيهِ إِذْ جِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِيُوصِلَ بِصِلَةٍ فِيهَا إِيمَاءٌ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُذْكَرِ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّهَادَةِ الَّذِي هُوَ حَقُّ مَدْخُولِ الْبَاءِ بَعْدَ مَادَّةِ شَهِدَ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ مُكَمِّلَةَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ التَّحْوِيلِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: «مَوْقِعُ قَوْلِهِ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ مِنْ قَوْلِهِ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ مَوْقِعُ الْجُمْلَةِ الْمُفَسِّرَةِ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلشَّهَادَةِ وَأَنَّ شَهَادَتَهُ بِصِحَّتِهِ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ». فَلَعَلَّهُ يَجْعَلُ جُمْلَةَ لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ مُسْتَقِلَّةً بِالْفَائِدَةِ، وَأَنَّ مَعْنَى بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ بِصِحَّةِ مَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ، وَمَا ذَكَرْتُهُ أَعْرَقُ فِي الْبَلَاغَةِ.
وَمَعْنَى أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أَيْ مُتَلَبِّسًا بِعِلْمِهِ، أَيْ بَالِغًا الْغَايَةَ فِي بَابِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، شَأْنُ مَا يَكُونُ بِعِلْمٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ مُعْجِزٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَكَمَا أَعْجَزَ الْبُلَغَاءَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ أَعْجَزَ الْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَصْلُهُ: كَفَى اللَّهُ شَهِيدًا كَقَوْلِهِ:
كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا أَوْ يُضَمَّنُ (كَفَى) مَعْنَى اقْتَنِعُوا، فَتَكُونُ الْبَاء للتعدية.
[١٦٧]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٦٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً
وَالْجَزَاءُ الْعِوَضُ عَنْ عَمَلٍ، فَسَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ جَزَاءً، لِأَنَّهُ تَأْدِيبٌ وَعُقُوبَةٌ إِلَّا أَنَّهُ شُرِعَ عَلَى صِفَةِ الْكَفَّارَاتِ مِثْلَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ. وَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهُ الْغُرْمَ إِذْ لَيْسَ الصَّيْدُ بِمُنْتَفَعٍ بِهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَغْرَمَ قَاتِلُهُ لِيَجْبُرَ مَا أَفَاتَهُ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا الصَّيْدُ مِلْكُ اللَّهِ تَعَالَى أَبَاحَهُ فِي الْحِلِّ وَلَمْ يُبِحْهُ لِلنَّاسِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، فَمَنْ تَعَدَّى عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْمُتَعَدِّي جَزَاءً. وَجَعَلَهُ جَزَاءً يَنْتَفِعُ بِهِ ضِعَافُ عَبِيدِهِ.
وَقَدْ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ مَقْصِدَ التَّشْرِيعِ فِي ذَلِكَ هُوَ الْعُقُوبَةُ قَوْلُهُ عَقِبَهُ لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ جَزَاءً وَلَمْ يُسَمَّ بِكَفَّارَةٍ لِأَنَّهُ رُوعِيَ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِمِثْلِ الْعَمَلِ فَسُمِّيَ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ مَأْخُوذٌ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُوَافَقَةُ قَالَ تَعَالَى: جَزاءً وِفاقاً [النبأ: ٢٦].
وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِثْلُ مَا قَتَلَ الصَّائِدُ، وَذَلِكَ الْمِثْلُ مِنَ النَّعَمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّيْدَ إِمَّا مِنَ الدَّوَابِّ وَإِمَّا مِنَ الطَّيْرِ، وَأَكْثَرُ صَيْدِ الْعَرَبِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَهِيَ الْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ وَبَقَرُ الْوَحْشِ وَالْأَرْوَى وَالظِّبَاءُ وَمِنْ ذَوَاتِ الْجَنَاحِ النَّعَامُ وَالْأَوِزُّ، وَأَمَّا الطَّيْرُ الَّذِي يَطِيرُ فِي الْجَوِّ فَنَادِرٌ صَيْدُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُصَادُ إِلَّا بِالْمِعْرَاضِ، وَقَلَّمَا أَصَابَهُ الْمِعْرَاضُ سِوَى الْحَمَامِ الَّذِي بِمَكَّةَ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهَا، فَمُمَاثَلَةُ الدَّوَابِّ لِلْأَنْعَامِ هَيِّنَةٌ. وَأَمَّا مُمَاثَلَةُ الطَّيْرِ لِلْأَنْعَامِ فَهِيَ مُقَارَبَةٌ وَلَيْسَتْ مُمَاثَلَةً فَالنَّعَامَةُ تُقَارِبُ الْبَقَرَةَ أَوِ الْبَدَنَةَ، وَالْأَوِزُّ يُقَارِبُ السَّخْلَةَ، وَهَكَذَا. وَمَا لَا نَظِيرَ لَهُ كَالْعُصْفُورِ فِيهِ الْقِيمَةُ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: الْمِثْلُ الْقِيمَةُ فِي جَمِيعِ مَا يُصَابُ مِنَ الصَّيْدِ. وَالْقِيمَةُ عِنْدَ مَالِكٍ طَعَامٌ.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: دَارهم. فَإِذَا كَانَ الْمَصِيرُ إِلَى الْقِيمَةِ فَالْقِيمَةُ عِنْدَ مَالِكٍ طَعَامٌ يُتَصَدَّقُ بِهِ، أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ يَوْمًا، وَلِكَسْرِ الْمُدِّ يَوْمًا كَامِلًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَشْتَرِي بِالْقِيمَةِ هَدْيًا إِنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى طَعَامًا، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْجَزَاءَ هَلْ يَكُونُ أقلّ ممّا يجزىء فِي الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا.
فَقَالَ مَالك: لَا يجزىء أَقَلُّ مِنْ ثَنِيِّ الْغَنَمِ أَوِ الْمَعِزِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ. فَمَا لَا يجزىء أَنْ يَكُونَ هَدْيًا مِنَ الْأَنْعَامِ لَا يَكُونُ جَزَاءً، فَمَنْ أَصَابَ مِنَ
الْقُطْبُ الرَّازِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» الْقَبِيلَ الأول، ونحا التفتازانيّ الْقَبِيلَ الثَّانِي، وَالْأَظْهَرُ مَا نحاه التفتازانيّ: أَنَّهُمَا اسْتِعَارَتَانِ تَمْثِيلِيَّتَانِ، وَأَمَّا كَافُ التَّشْبِيهِ فَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمُشَابَهَةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي مَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ لَا إِلَى مُشَابَهَةِ الْحَالَيْنِ بِالْحَالَيْنِ، فَمَوْرِدُ كَافِ التَّشْبِيهِ غَيْرُ مَوْرِدِ تَمْثِيلِ الْحَالَيْنِ. وَبَيْنَ الِاعْتِبَارَيْنِ بَوْنٌ خَفِيٌّ.
وَالْمُرَادُ: بِ الظُّلُماتِ ظلمَة الْقَبْر لمناسبة لِلْمَيِّتِ، وَبِقَرِينَةِ ظَاهِرِ فِي مِنْ حَقِيقَةِ الظَّرْفِيَّةِ وَظَاهِرِ حَقِيقَةِ فِعْلِ الْخُرُوجِ.
وَلَقَدْ جَاءَ التَّشْبِيهُ بَدِيعًا: إِذْ جَعَلَ حَالَ الْمُسْلِمِ، بَعْدَ أَنْ صَارَ إِلَى الْإِسْلَامِ، بِحَالِ مَنْ كَانَ عَدِيمَ الْخَيْرِ، عَدِيمَ الْإِفَادَةِ كَالْمَيِّتِ، فَإِنَّ الشِّرْكَ يَحُولُ دُونَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيَصْرِفُ صَاحِبَهُ عَنِ السَّعْيِ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُ وَنَجَاتُهُ، وَهُوَ فِي ظُلْمَةٍ لَوْ أَفَاقَ لَمْ يَعْرِفْ أَيْنَ يَنْصَرِفُ، فَإِذَا هَدَاهُ اللَّهُ إِلَى الْإِسْلَامِ تَغَيَّرَ حَالَهُ فَصَارَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَعْلَمُ الصَّالِحَ مِنَ الْفَاسِدِ، فَصَارَ كَالْحَيِّ وَصَارَ يَسْعَى إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ، وَيَتَنَكَّبُ عَنْ سَبِيلِ
الْفَسَادِ، فَصَارَ فِي نُورٍ يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا التَّمْثِيلِ تَفْضِيلُ أَهْلِ اسْتِقَامَةِ الْعُقُولِ عَلَى أَضْدَادِهِمْ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: يَمْشِي بِهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ. وَالنَّاسُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الْهَيْئَة الْمُشبه بِهَا هُمُ الْأَحْيَاءُ الَّذِينَ لَا يَخْلُو عَنْهُمُ الْمُجْتَمَعُ الْإِنْسَانِيُّ. وَالنَّاسُ الْمُقَدَّرُ فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ هُمْ رُفَقَاءُ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ جَاءَ الْمُرَكَّبُ التَّمْثِيلِيُّ تَامًّا صَالِحًا لِاعْتِبَارِ تَشْبِيهِ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ، وَلِاعْتِبَارِ تَشْبِيهِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، كَمَا قَدْ عَلِمْتَهُ وَذَلِكَ أَعْلَى التَّمْثِيلِ.
وَجُمْلَةُ: لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِإِضَافَةِ (مَثَلُ)، أَيْ ظُلُمَاتٌ لَا يُرْجَى لِلْوَاقِعِ فِيهَا تَنُّورٌ بِنُورٍ مَا دَامَ فِي حَالَةِ الْإِشْرَاكِ.
الْمَقَامِ اسْتِعْمَالَ فَاءِ التَّعْلِيلِ، فَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ إِظْهَارَ مَا فِيهِ مِنَ الصَّغَارِ وَالْحَقَارَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا فَذَهَبَتْ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْهَا إِلَى التَّكَبُّرِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ أَشَدُّ فِي إِثْبَاتِ الصَّغَارِ لَهُ مِنْ نَحْوِ: إِنَّكَ صَاغِرٌ، أَوْ قَدْ صَغُرْتَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٦]، وَقَوْلِهِ آنِفًا: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَالصَّاغِرُ الْمُتَّصِفُ بِالصَّغَارِ وَهُوَ الذُّلُّ وَالْحَقَارَةُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ الصَّغَارُ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ جِبِلَّتَهُ صَارَتْ عَلَى غَيْرِ مَا يُرْضِي اللَّهَ، وَهُوَ صَغَارُ الْغَوَايَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ هَذَا: فَبِما أَغْوَيْتَنِي [الْأَعْرَاف: ١٦].
[١٤، ١٥]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٥]
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)
لَمَّا كَوَّنَ اللَّهُ فِيهِ الصَّغَارَ وَالْحَقَارَةَ بَعْدَ عِزَّةِ الْمَلَكِيَّةِ وَشَرَفِهَا انْقَلَبَتْ مَرَامِي هِمَّتِهِ إِلَى التَّعَلُّقِ بِالسَّفَاسِفِ (إِذَا مَا لَمْ تَكُنْ إِبِلٌ فَمَعْزًى) فَسَأَلَ النَّظِرَةَ بِطُولِ الْحَيَاةِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، إِذْ كَانَ يَعْلَمُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ الْحَوَادِثِ الْبَاقِيَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعَالَمِ الْبَاقِي، فَلَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ ظَنَّ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْعَدَمِ فَلِذَلِكَ سَأَلَ النَّظِرَةَ إِبْقَاءً لِمَا كَانَ لَهُ مِنْ قَبْلُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ، وَبَدَرَ مِنْ إِبْلِيسَ طَلَبُ النَّظِرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أَيْ إِنَّكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْبَاقِيَةِ.
وَقَدْ أَفَادَ التَّأْكِيدُ بِإِنَّ وَالْإِخْبَارُ بِصِيغَةِ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أَنَّ إِنْظَارَهُ أَمْرٌ قَدْ قَضَاهُ اللَّهُ
وَقَدَّرَهُ مِنْ قَبْلِ سُؤَالِهِ، أَيْ تَحَقَّقَ كَوْنُكَ مِنَ الْفَرِيقِ الَّذِينَ أُنْظِرُوا إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقًا وَقَدَّرَ بَقَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَكَشَفَ لِإِبْلِيسَ أَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنْظَرِينَ مِنْ قَبْلِ حُدُوثِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِمُغَيِّرٍ مَا قَدَّرَهُ لَهُ، فَجَوَابُ اللَّهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ تَحَقَّقَ، وَلَيْسَ
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إِبْرَاهِيم: ٣١] فَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ كَمَا هُنَا.
وَ (كُلُّ) مُسْتَعْمَلٍ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ، أَيْ: بِجَمْعٍ عَظِيمٍ مِنَ السَّحَرَةِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ النَّوْعِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِكُلِّ ساحِرٍ وَقَرَأَ جمزة، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: بِكُلِّ سَحَّارٍ، عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي مَعْرِفَةِ السِّحْرِ، فَيَكُونُ وَصْفُ عَلِيمٍ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ وَصْفَ عَلِيمٍ الَّذِي هُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةٍ الْمَعْرِفَةِ بِالسِّحْرِ، وَحُذِفُ مُتَعَلِّقِ عَلِيمٍ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ أَفْعَالِ السَّجَايَا. وَالْمَقَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ قُوَّةُ عِلْمِ السحر لَهُ.
[١١٣- ١١٦]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١١٣ إِلَى ١١٦]
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)
عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَجاءَ السَّحَرَةُ عَلَى جُمْلَةِ: قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ [الْأَعْرَاف: ١١١، ١١٢] وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ. وَالتَّقْدِيرُ:
قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ إِلَخْ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ فَحَشَرُوا وَجَاءَ السَّحَرَةُ مِنَ الْمَدَائِنِ فَحَضَرُوا عِنْدَ فِرْعَوْنَ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: السَّحَرَةُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ. أَيِ السَّحَرَةُ الْمَذْكُورُونَ، وَكَانَ حُضُورُ السَّحَرَةِ عِنْدَ فِرْعَوْنَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي عَيَّنَهُ مُوسَى لِلِقَاءِ السَّحَرَةِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ طَهَ.
وَجُمْلَةُ: قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بِتَقْدِيرِ سُؤَالِ مَنْ يَسْأَلُ: مَاذَا صَدَرَ مِنَ السَّحَرَةِ حِينَ مَثُلُوا بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ؟.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ إِنَّ لَنا لَأَجْراً ابْتِدَاءً بِحَرْفِ (إِنَّ) دُونَ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ قَبْلَ (إِنَّ).
وَالْإِشَارَةُ تُفِيدُ الْعِنَايَةَ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَبِالْخَبَرِ. وَالتَّسْبِيبُ يَقْتَضِي أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا فِي نِعْمَةٍ فَغَيَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالنِّقْمَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَرَى عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَسْلُبُ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا مِنْ جُمْلَةِ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتَسَبَّبُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي زَوَالِ النِّعْمَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [الْقَصَص: ٥٨].
وَهَذَا إِنْذَارٌ لِقُرَيْشٍ يَحِلُّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ بَطِرُوا النِّعْمَةَ.
فَقَوْلُهُ: لَمْ يَكُ مُغَيِّراً مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، لِأَنَّ نَفْيَ الْكَوْنِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ يَقْتَضِي تَجَدُّدَ النَّفْي ومنفيّه.
و «التَّغْيِير» تَبْدِيلُ شَيْءٍ بِمَا يُضَادُّهُ فَقَدْ يَكُونُ تَبْدِيلَ صُورَةِ جِسْمٍ كَمَا يُقَالُ: غَيَّرْتُ دَارِي، وَيَكُونُ تَغْيِيرَ حَالٍ وَصِفَةٍ وَمِنْهُ تَغْيِيرُ الشَّيْبِ أَيْ صِبَاغُهُ، وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمُخَالِفُ، فَتَغْيِيرُ النِّعْمَةِ إِبْدَالُهَا بِضِدِّهَا وَهُوَ النِّقْمَةُ وَسُوءُ الْحَالِ، أَيْ تَبْدِيلُ حَالَةٍ حَسَنَةٍ بِحَالَةٍ سَيِّئَةٍ.
وَوَصْفُ النِّعْمَةِ بِ أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ أَصْلَ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّهِ.
وَمَا بِأَنْفُسِهِمْ مَوْصُولٌ وَصِلَةٌ، وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مَا اسْتَقَرَّ وَعَلِقَ بهم. وَمَا صدق مَا النِّعْمَةُ الَّتِي أنعم الله عَلَيْهِمْ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ وَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّغْيِيرِ تَغْيِيرُ سَبَبِهِ. وَهُوَ الشُّكْرُ بِأَنْ يُبَدِّلُوهُ بِالْكُفْرَانِ.
ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ تَكُونُ صَالِحَةً ثُمَّ تَتَغَيَّرُ أَحْوَالُهَا بِبَطَرِ النِّعْمَةِ فَيَعْظُمُ فَسَادُهَا، فَذَلِكَ تَغْيِيرُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِصْلَاحَهُمْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ هُدَاةً لَهُمْ، فَإِذَا أَصْلَحُوا اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ مِثْلَ قَوْمِ يُونُسَ وَهُمْ أَهْلُ (نِينَوَى)، وَإِذَا كَذَّبُوا وَبَطِرُوا النِّعْمَةَ غَيَّرَ اللَّهُ مَا بِهِمْ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَى عَذَابٍ وَنِقْمَةٍ. فَالْغَايَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ حَتَّى لِانْتِفَاءِ تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْأَقْوَامِ هِيَ غَايَةٌ مُتَّسِعَةٌ، لِأَنَّ الْأَقْوَامَ إِذَا غَيَّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ هُدًى أَمْهَلَهُمُ اللَّهُ زَمَنًا ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ فَإِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ فَقَدْ نَبَّهَهُمْ إِلَى اقْتِرَابِ الْمُؤَاخَذَةِ ثُمَّ أَمْهَلَهُمْ مُدَّةً لِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ وَالنَّظَرِ فَإِذَا أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ غَيَّرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ بِإِبْدَالِهَا بِالْعَذَابِ أَوِ الذُّلِّ أَوِ الْأَسْرِ كَمَا فَعَلَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ فَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْأَشُورِيِّينَ.
وَيَدْخُلُ فِي الْمُشْرِكِينَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ عَلِمَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِفَاقَهُمْ وَالَّذِينَ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ نِفَاقَهُمْ بِتَحَقُّقِ الصِّفَاتِ الَّتِي أُعْلِنَتْ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا.
وَزِيَادَةُ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى لِلْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِقْصَاءِ أَقْرَبِ الْأَحْوَالِ إِلَى الْمَعْذِرَةِ، كَمَا هُوَ مُفَادُ (لَوِ) الْوَصْلِيَّةِ، أَيْ فَأَوْلَى إِنْ لَمْ يَكُونُوا أُولِي قُرْبَى. وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ لِقَطْعِ الْمَعْذِرَةِ عَنِ الْمُخَالِفِ، وَتَمْهِيدٍ لِتَعْلِيمِ مَنِ اغْتَرَّ بِمَا حَكَاهُ الْقُرْآنُ مِنِ اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشُّعَرَاء: ٨٦]. وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ:
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التَّوْبَة: ١١٤] إِلَخْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى (لَوْ) الِاتِّصَالِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آل عمرَان [٩١].
[١١٤]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١١٤]
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)
مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا كانَ للنبيء [التَّوْبَة: ١١٣] إِلَخْ. وَهِيَ مِنْ تَمَامِ الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى [التَّوْبَة: ١١٣] إِذْ كَانَ شَأْنُ مَا لَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ لَا يَنْبَغِيَ لِغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَحْكَامِهِمْ مُتَّحِدَةٌ إِلَّا مَا خُصَّ بِهِ نَبِيُّنَا مِنْ زِيَادَةِ الْفَضْلِ. وَهَذِهِ مِنْ مَسْأَلَةِ (أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا) فَلَا جرم مَا كَانَ مَا وَرَدَ مِنِ اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ قَدْ يُثِيرُ تَعَارُضًا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، فَلِذَلِكَ تَصَدَّى الْقُرْآنُ لِلْجَوَابِ عَنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا مَا رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ.
وَالْمَوْعِدَةُ: اسْمٌ لِلْوَعْدِ. وَالْوَعْدُ صَدَرَ مِنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ لَا مَحَالَةَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاعْتِذَارُ لِإِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ هُوَ الَّذِي وَعَدَ أَبَاهُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَكَانَ اسْتِغْفَارُهُ لَهُ
لِلْوَفَاءِ بِوَعْدِهِ لَكَانَ يَتَّجِهُ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى الْوَعْدِ بِذَلِكَ وَعَلَى الْوَفَاءِ بِهِ مَا اتَّجَهَ عَلَى وُقُوعِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ. فَالتَّفْسِيرُ الصَّحِيحُ أَنَّ أَبَا إِبْرَاهِيمَ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ بِالْإِيمَانِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ لِأَنَّهُ ظَنَّهُ مُتَرَدِّدًا فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لَمَّا قَالَ لَهُ: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مَرْيَم: ٤٦] فَسَأَلَ اللَّهَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ لَعَلَّهُ يَرْفُضُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.
(الْعَذَاب) هُنَا نَكِرَةٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى نَكِرَةٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. فَأَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَلَيْسَ مَقْطُوعًا بِنُزُولِهِ بِهِمْ وَلَكِنَّهُ مَظْنُونٌ مِنْ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِنَاءً عَلَى مَا عَلِمَهُ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِإِيمَانِ قَوْمِهِ وَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْحِرْصِ فِي التَّبْلِيغِ، فَعَلِمَ أَنَّ شَأْنَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَتْرُكَ مَنْ عَصَوْهُ دُونَ عُقُوبَةٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ فِي كَلَامِهِ الْآتِي إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ [هود: ٣٣] عَلَى مَا يَأْتِي هُنَالِكَ. وَكَانَ الْعَذَابُ شَامِلًا لِعَذَابِ الْآخِرَةِ أَيْضًا إِنْ بَقَوْا عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ يَقْرِنُ الْوَعِيدَ بِالدَّعْوَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي كَلَامِهِ الْآتِي وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [هود: ٣٣]، وَقَدْ تَبَادَرَ إِلَى أَذْهَانِ
قَوْمِهِ عَذَابُ الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ فَلِذَلِكَ قَالُوا فِي كَلَامِهِمُ الْآتِي فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود: ٣٢]. وَلَعَلَّ فِي كَلَامِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَا تُفِيدُهُمْ أَنَّهُ تَوَعَّدَهُمْ بِعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الطوفان.
[٢٧]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ٢٧]
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧)
عَطَفَ قَوْلَ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ بِالْفَاءِ عَلَى فعل أَرْسَلْنا [هود: ٢٥] لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ بَادَرُوهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُجَادَلَةِ الْبَاطِلَةِ لَمَّا قَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [هود: ٢٥] إِلَى آخِرِهِ. وَلَمْ تَقَعْ حِكَايَةُ ابْتِدَاءِ مُحَاوَرَتِهِمْ إِيَّاهُ بِ (قَالَ) مُجَرَّدًا عَنِ الْفَاءِ كَمَا وَقَعَ فِي الْأَعْرَافِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُحَاوَرَتِهِ إِيَّاهُمْ هُنَا لَمْ يَقَعْ بِلَفْظِ الْقَوْلِ فَلَمْ يُحْكَ جَوَابُهُمْ بِطَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ بِخِلَافِ آيَةِ الْأَعْرَافِ.
وَالْمَلَأُ: سَادَةُ الْقَوْمِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ
النَّاشِئِ عَنِ الشَّكْوَى
أَثَرًا جَسَدِيًّا نَاشِئًا عَنْ عِبَادَةٍ مِثْلَ تَفَطُّرِ أَقْدَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ.
وَالْبَثُّ: الْهَمُّ الشَّدِيدُ، وَهُوَ التَّفْكِيرُ فِي الشَّيْءِ الْمُسِيءِ. وَالْحُزْنُ: الْأَسَفُ عَلَى فَائِتٍ. فَبَيْنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ، وَقَدِ اجْتَمَعَا لِيَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّهُ كَانَ مُهْتَمًّا بِالتَّفْكِيرِ فِي مَصِيرِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا يَعْتَرِضُهُ مِنَ الْكَرْبِ فِي غُرْبَتِهِ وَكَانَ آسِفًا عَلَى فِرَاقِهِ.
وَقَدْ أَعْقَبَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
لِيُنَبِّهَهُمْ إِلَى قُصُورِ عُقُولِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَقَاصِدِ الْعَالِيَةِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ دُونَ مَرْتَبَةِ أَنْ يَعْلَمُوهُ أَوْ يَلُومُوهُ، أَيْ أَنَا أَعْلَمُ عِلْمًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُونَهُ وَهُوَ عِلْمُ النُّبُوءَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فَهِيَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوءَةِ الْأُولَى. وَحُكِيَ مِثْلُهَا عَنْ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
وَفِي هَذَا تَعْرِيض برد تعرضهم بِأَنَّهُ يَطْمَعُ فِي الْمُحَالِ بِأَنَّ مَا يَحْسَبُونَهُ مُحَالًا سَيَقَعُ.
ثُمَّ صَرَّحَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا يَعْلَمُهُ وَكَاشَفَهُمْ بِمَا يُحَقِّقُ كَذِبَهُمُ ادِّعَاءَ ائْتِكَالَ الذِّئْبِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ أَذِنَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ عِنْدَ تَقْدِيرِ انْتِهَاءِ الْبَلْوَى فَقَالَ: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ.
فَجُمْلَةُ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
مَا يُثِيرُ فِي أَنْفُسِهِمْ تَرَقُّبَ مُكَاشَفَتِهِ عَلَى كَذِبِهِمْ فَإِنَّ صَاحِبَ الْكَيْدِ كَثِيرُ الظُّنُونِ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المُنَافِقُونَ: ٤].
وَالتَّحَسُّسُ- بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ-: شِدَّةُ التَّطَلُّبِ وَالتَّعَرُّفِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّجَسُّسِ- بِالْجِيمِ- فَهُوَ التَّطَلُّبُ مَعَ اخْتِفَاءٍ وَتَسَتُّرٍ.
وَالرَّوْحُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ: النَّفَسُ- بِفَتْحِ الْفَاءِ- اسْتُعِيرَ لِكَشْفِ الْكَرْبِ لِأَنَّ الْكَرْبَ وَالْهَمَّ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا الْغَمُّ وَضِيقُ النَّفَسِ وضيق الصَّدْر، كَذَلِك يُطْلَقُ التَّنَفُّسُ وَالتَّرَوُّحُ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، وَمِنْهُ اسْتِعَارَةُ قَوْلِهِمْ: تَنَفَّسَ الصُّبْحُ إِذَا زَالَتْ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ.
وَهَذَا تَأْصِيلٌ لِكَوْنِ عَالَمِ الْحَقَائِقِ غَيْرَ خَاضِعٍ لِعَالَمِ الْأَوْهَامِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ».
وَفِيهِ «لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَدَمُهُ يَشْخُبُ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ»
. وَمَعْنَى فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ اسْقُطُوا لَهُ سَاجِدِينَ، وَهَذِهِ الْحَالُ لِإِفَادَةِ نَوْعِ الْوُقُوعِ، وَهُوَ الْوُقُوعُ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً [سُورَة يُوسُف: ١٠٠].
وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِتَعْظِيمٍ يُنَاسِبُ أَحْوَالَ الْمَلَائِكَةِ وَأَشْكَالَهُمْ تَقْدِيرًا لِبَدِيعِ الصُّنْعِ وَالصَّلَاحِيَةِ لِمُخْتَلِفِ الْأَحْوَالِ الدَّالِّ عَلَى تَمَامِ عِلْمِ اللَّهِ وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ.
وَأَمْرُ الْمَلَائِكَة السُّجُود لَا يُنَافِي تَحْرِيمَ السُّجُودِ فِي الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْمَنْعَ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الْإِشْرَاكِ وَالْمَلَائِكَةُ مَعْصُومُونَ مِنْ تَطَرُّقِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ امْتَازَتْ بِنِهَايَةِ مَبَالِغِ الْحَقِّ وَالصَّلَاحِ، فَجَاءَتْ بِمَا لم تجىء بِهِ الشَّرَائِعُ السَّالِفَةُ لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بُلُوغَ أَتْبَاعِهَا أَوْجَ الْكَمَالِ فِي الْمَدَارِكِ، وَلَمْ يَكُنِ السُّجُودُ مِنْ قَبْلُ مَحْظُورًا فَقَدْ سَجَدَ يَعْقُوبُ وَأَبْنَاؤُهُ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَكَانُوا أَهْلَ إِيمَانٍ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَلَا تُقَاسُ أَحْكَامُهُ عَلَى تَكَالِيفِ عَالَمِ الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ عُنْوَانٌ عَلَى طَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ.
وكُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ، أَيْ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنِ السُّجُودِ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْأَعْرَافِ.
إِلَى ضِدِّهَا وَهُوَ حِكْمَةُ السُّكُونِ فِي اللَّيْلِ، كَمَا قَالَ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٦٧].
ثُمَّ ذُكِرَتْ حِكْمَةٌ أُخْرَى حَاصِلَةٌ مِنْ كِلْتَا الْآيَتَيْنِ. وَهِيَ حِكْمَةُ حِسَابِ السِّنِينَ، وَهِيَ فِي آيَةِ اللَّيْلِ أَظْهَرُ لِأَنَّ جُمْهُورَ الْبَشَرِ يَضْبُطُ الشُّهُورَ وَالسِّنِينَ بِاللَّيَالِي، أَيْ حِسَابِ الْقَمَرِ.
وَالْحِسَابُ يَشْمَلُ حِسَابَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالْفُصُولِ فَعَطْفُهُ عَلَى عَدَدَ السِّنِينَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِلتَّعْمِيمِ بَعْدَ ذِكْرِ الْخَاصِّ اهْتِمَامًا بِهِ.
وَجُمْلَةُ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا تَذْيِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ بِاعْتِبَار مَا سيق لَهُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ لِلشَّرِّ وَالْخَيْرِ والموعود بِهِمَا أَجَلًا يَنْتَهِيَانِ إِلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ الْأَجَلَ مَحْدُودٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَعْدُوهُ، فَلَا يُقَرِّبُهُ اسْتِعْجَالٌ وَلَا يُؤَخِّرُهُ اسْتِبْطَاءٌ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا لَا إِبْهَامَ فِيهِ وَلَا شَكَّ عِنْدَهُ.
إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدَى (١)........
فَلَا تَحْسَبُوا ذَلِكَ وَعْدًا سُدَى.
وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ وَالتَّمْيِيزُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَصْلِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ لِأَنَّ التَّبْيِينَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْتِبَاسِ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ صَدْرُ [هُودٍ: ١].
وَالتَّفْصِيلُ فِي الْأَشْيَاءِ يَكُونُ فِي خَلْقِهَا، وَنِظَامِهَا، وَعِلْمِ اللَّهِ بِهَا، وَإِعْلَامِهِ بِهَا.
فَالتَّفْصِيلُ الَّذِي فِي عِلْمِ اللَّهِ وَفِي خَلْقِهِ وَنَوَامِيسِ الْعَوَالَمِ عَامٌّ لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ مُقْتَضَى الْعُمُومِ هُنَا. وَأَمَّا مَا فَصَّلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ فَذَلِكَ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى. يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرَّعْد: ٢] وَقَوْلُهُ: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: ٩٧]. وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ عَلَى أَلْسِنَةِِِِِ
_________
(١) صدر بَيت وَتَمَامه: «وكلا ذَلِك وَجه وَقبل». وَهُوَ لعبد الله بن الزِّبَعْرَى.
وأَعْتَدْنا: أَعْدَدْنَا، أبدل الدَّال الأولى تَاءً لِقُرْبِ الْحَرْفَيْنِ، وَالْإِعْدَادُ: التَّهْيِئَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارا [الْكَهْف: ٢٩]. وَجَعَلَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ ضَمِيرَ الْجَلَالَةِ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمَائِرِ الْمُشْرِكِينَ.
وَالنُّزُلُ- بِضَمَّتَيْنِ-: مَا يُعَدُّ لِلنَّزِيلِ وَالضَّيْفِ مِنَ الْقِرَى. وَإِطْلَاقُ اسْمِ النُّزُلِ عَلَى الْعَذَابِ اسْتِعَارَةٌ عَلَاقَتُهَا التَّهَكُّمُ، كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مرداة طحونا
[١٠٣، ١٠٤]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ١٠٣ إِلَى ١٠٤]
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤)
اعْتِرَاضٌ بِاسْتِئْنَافٍ ابْتِدَائِيٍّ أَثَارَهُ مَضْمُونُ جُمْلَةِ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ...
فَإِنَّهُمْ لَمَّا اتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ مَنْ لَيْسُوا يَنْفَعُونَهُمْ فَاخْتَارُوا الْأَصْنَامَ وَعَبَدُوهَا وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهَا بِمَا أَمْكَنَهُمْ مِنَ الْقُرْبِ اغْتِرَارًا بِأَنَّهَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ وَهِيَ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا فَكَانَ عَمَلُهُمْ خَاسِرًا وَسَعْيُهُمْ بَاطِلًا. فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ قَوْلُهُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ... إِلَخْ.
وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَقُولِ بِإِصْغَاءِ السَّامِعِينَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الِافْتِتَاحِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ فِي غَرَض مهمّ، وَكَذَلِكَ افْتِتَاحُهُ بِاسْتِفْهَامِهِمْ عَنْ إِنْبَائِهِمُ اسْتِفْهَامًا مُسْتَعْمَلًا فِي الْعَرْضِ لِأَنَّهُ

[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٢٣]

لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)
الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَالٌ مُكَمِّلَةٌ لِمَدْلُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٩- ٢٠] كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء: ٢١] إِلَخْ.. فَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ هُمْ مَعَ قُرْبِهِمْ يُسْأَلُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ وَلَا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا يَفْعَلُ، أَيْ لَمْ يَبْلُغْ بِهِمْ قُرْبُهُمْ إِلَى حَدِّ الْإِدْلَالِ عَلَيْهِ وَانَتِصَابِهِمْ لِتَعَقُّبِ أَفْعَالِهِ. فَلَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ مُشْعِرًا بِفَاعِلٍ حُذِفَ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، أَيْ لَا يَسْأَلُ سَائِلٌ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّا يَفْعَلُ. وَكَانَ مِمَّنْ يَشْمَلُهُمُ الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ هُمْ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، صَحَّ كَوْنُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ حَالًا مِنْ مَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٩]، عَلَى أَنَّ جملَة لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ تَمْهِيدٌ لجملة وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَهُ عَلَى جملَة وَهُمْ يُسْئَلُونَ اقْتَضَتْهُ مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ عَنْ تنزيهه تَعَالَى على الشُّرَكَاءِ فَكَانَ انْتِقَالًا بَدِيعًا بِالرُّجُوعِ إِلَى بَقِيَّةِ أَحْوَالِ الْمُقَرَّبِينَ.
فَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ مَعَ قُرْبِهِمْ وَرِفْعَةِ شَأْنِهِمْ يُحَاسِبُهُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَهُمْ يَخَافُونَ التَّقْصِيرَ فِيمَا كُلِّفُوا بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَلِذَلِكَ كَانُوا لَا يَسْتَحْسِرُونَ وَلَا يَفْتُرُونَ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ لَيْسَ ضمير وَهُمْ يُسْئَلُونَ بِرَاجِعٍ إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضمير يَصِفُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٢] لِأَنَّ أُولَئِكَ لَا جَدْوَى لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ إِذْ لَا يَتَرَدَّدُ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ أَحَدٌ، وَلَا بِرَاجِعٍ إِلَى آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء: ٢١] لِعَدَمِ صِحَّةِ سُؤَالِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ مَا دَعَانَا إِلَى اعْتِبَارِ جملَة لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ حَالًا مِنْ مَنْ عِنْدَهُ [الْأَنْبِيَاء: ١٩].
(٢٧)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا حُكِيَ عَنْ صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ تَصْدِيقِ دَعْوَةِ نُوحٍ وَمَا لَفَّقُوهُ مِنَ الْبُهْتَانِ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْجُنُونِ، مِمَّا يُثِيرُ سُؤَالَ مَنْ يَسْأَلُ عَمَّاذَا صَنَعَ نُوحٌ حِينَ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ قَالَ: رَبِّ انْصُرْنِي إِلَخْ.
وَدُعَاؤُهُ بِطَلَبِ النَّصْرِ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَدَّ فِعْلَهُمْ مَعَهُ اعْتِدَاءً عَلَيْهِ بِوَصْفِهِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ.
وَالنَّصْرُ: تَغْلِيبُ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُعْتَدِي، فَقَدْ سَأَلَ نُوحٌ نَصْرًا مُجْمَلًا كَمَا حُكِيَ هُنَا، وَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا رَجَاءَ فِي إِيمَانِ قَوْمِهِ إِلَّا مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ هُودٍ، فَلَا رَجَاءَ فِي أَنْ يَكُونَ نَصْرُهُ بِرُجُوعِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ، فَسَأَلَ نوح حينذاك نَصْرًا خَاصًّا وَهُوَ اسْتِئْصَالُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ نُوحٍ [٢٦، ٢٧] وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ
. فَالتَّعْقِيبُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ تَعْقِيبٌ بِتَقْدِيرِ جُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ كَمَا عَلِمْتَ، وَهُوَ
إِيجَازٌ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ إِلَخْ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٦٣].
وَالْبَاءُ فِي بِما كَذَّبُونِ سَبَبِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النَّصْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ الدُّعَاءِ، أَيْ نَصْرًا كَائِنًا بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ، فَجَعَلَ حَظَّ نَفْسِهِ فِيمَا اعْتَدَوْا عَلَيْهِ مُلْغًى وَاهْتَمَّ بِحَظِّ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ لِأَنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الرَّسُولِ اسْتِخْفَافٌ بِمَنْ أَرْسَلَهُ.
وَجُمْلَةُ أَنِ اصْنَعِ جُمْلَةٌ مفسره لجملة فَأَوْحَيْنا لِأَنَّ فِعْلَ أَوْحَيْنَا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ جُمْلَةِ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فِي سُورَةِ هُودٍ
عَنْ بَعْضٍ. وَفِي هَذَا السَّتْرِ مِنَنٌ كَثِيرَةٌ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ الَّتِي يَجِبُ إِخْفَاؤُهَا.
وَتَقْدِيمُ الِاعْتِبَارِ بِحَالَةِ سَتْرِ اللَّيْلِ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِحَالَةِ النَّوْمِ لِرَعْيِ مُنَاسِبَةِ اللَّيْلِ بِالظِّلِّ كَمَا تَقَدَّمَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً فِي سُورَةِ النَّبَأِ [٨- ١٠]، فَإِنَّ نِعْمَةَ النَّوْمِ أَهَمُّ مِنْ نِعْمَةِ السَّتْرِ، وَلِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ نِعْمَةِ خَلْقِ الْأَزْوَاجِ وَبَيْنَ النَّوْمِ أَشَدُّ.
وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ اسْتِدْلَالًا وَامْتِنَانًا فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ الْخَالِقِ، وَهِيَ أَيْضًا تَذْكِيرٌ بِنِعَمِهِ، فَإِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيَاتٍ جَمَّةً لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حُصُولُ الظُّلْمَةِ مِنْ دِقَّةِ نِظَامِ دَوَرَانِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ وَمِنْ دِقَّةِ نِظَامِ خَلْقِ الشَّمْسِ، وَلِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ النَّهَارِ مِنْ تَغَيُّرِ دَوَرَانِ الْأَرْضِ وَمِنْ فَوَائِدِ نُورِ الشَّمْسِ، ثُمَّ مَا فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنْ نِظَامِ النَّوْمِ الْمُنَاسِبِ لِلظُّلْمَةِ حِينَ تَرْتَخِي أَعْصَابُ النَّاسِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ بِالنَّوْمِ تَجَدُّدُ نَشَاطِهِمْ، وَمِنَ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى التَّسَتُّرِ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَمِنْ نِظَامِ النَّهَارِ مِنْ تَجَدُّدِ النَّشَاطِ وَانْبِعَاثِ النَّاس لِلْعَمَلِ وَسَآمَتِهِمْ مِنَ الدَّعَةِ، مَعَ مَا هُوَ مُلَائِمٌ لِذَلِكَ مِنَ النُّورِ الَّذِي بِهِ إِبْصَارُ مَا يَقْصِدُهُ الْعَامِلُونَ.
وَالسُّبَاتُ لَهُ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ فِي اللُّغَةِ نَاشِئَةٌ عَنِ التَّوَسُّعِ فِي مَادَّةِ السَّبْتِ وَهُوَ الْقَطْعُ.
وَأَنْسَبُ الْمَعَانِي بِمَقَامِ الِامْتِنَانِ هُوَ مَعْنَى الرَّاحَةِ وَإِنْ كَانَ فِي كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ اعْتِبَارٌ بِدَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيّ السبات بِالْمَوْتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ نَاظِرًا فِي ذَلِكَ إِلَى مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً.
وَإِعَادَةُ فِعْلِ جَعَلَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً دُونَ أَنْ يُعَادَ فِي قَوْلِهِ وَالنَّوْمَ سُباتاً مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ تَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّهُ جَعْلٌ مُخَالِفٌ لِجَعْلِ اللَّيْلِ لِبَاسًا. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ نُشُوراً، وَالنُّشُورُ: بَعْثُ الْأَمْوَاتِ، وَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلتَّذْكِيرِ بِالْبَعْثِ وَتَعْرِيضٌ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَنْ أَحَالُوهُ، بِتَقْرِيبِهِ بِالْهُبُوبِ فِي النَّهَارِ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصْبَحَ «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ إِذْ أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»
. وَالنُّشُورُ: الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً [الْفرْقَان: ٤٠]. وَهُوَ هُنَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ الْبُرُوزُ وَالِانْتِشَارُ فَيَكُونُ ضِدَّ
مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير: ٢٧، ٢٨].
وَلِهَذَا خُولِفَ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ مَا فِي سُورَةِ يُونُسَ [٦٧] إِذْ قَالَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ لِأَنَّ آيَةَ يُونُسَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ وَالِامْتِنَانِ فَخَاطَبَ بِهَا جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ فَجَاءَتْ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ، وَجُعِلَتْ دَلَالَتُهَا لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَدِلَّةَ الْقُرْآنِ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَضَالٌّ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهَا بِفعل يَسْمَعُونَ [يُونُس: ٦٧] الْمُؤْذِنِ بِالِامْتِثَالِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى طَلَبِ الْهُدَى.
وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَمَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّعْجِيبِ وَالتَّوْبِيخِ فَجُعِلَ مَا فِيهَا آيَاتٍ لِمَنِ الْإِيمَانُ مِنْ شَأْنهمْ ليُفِيد بمفهومه أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ مِنْهُ دَلَالَةٌ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمُ الْإِنْصَافُ وَالِاعْتِرَافُ وَلِذَلِكَ أُوثِرَ فِيهِ فِعْلُ يُؤْمِنُونَ.
وَجَاءَ مَا فِي اللَّيْلِ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ بِصِيغَةِ التَّعْلِيلِ بِاللَّامِ بِقَوْلِهِ لِيَسْكُنُوا فِيهِ، وَمَا فِي النَّهَارِ بِصِيغَةِ مَفْعُولِ الْجَعْلِ بِقَوْلِهِ مُبْصِراً تَفَنُّنًا، وَلِمَا يُفِيدُهُ مُبْصِراً مِنَ الْمُبَالَغَةِ.
وَالْمَعْنَى عَلَى التَّعْلِيلِ وَالْمَفْعُولُ وَاحِدٌ فِي الْمَآلِ. وَبِهَذَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «التَّقَابُلُ مُرَاعًى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهَكَذَا النَّظْمُ الْمَطْبُوعُ غَيْرُ الْمُتَكَلَّفِ» أَيْ فَفِي الْآيَةِ احْتِبَاكٌ إِذِ الْمَعْنَى:
جَعَلْنَا اللَّيْلَ مُظْلِمًا لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا لِيَنْتَشِرُوا فِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا قُرِّرَ هُنَا يَأْتِي فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ عَدَا مَا هُوَ مِنْ وُجُوهِ الْفُرُوقِ الْبَلَاغِيَّةِ
فَارْجِعْ إِلَيْهَا هُنَالك.
[٨٧]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٨٧]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧)
عَطْفٌ عَلَى وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً [النَّمْل: ٨٣]، عَادَ بِهِ السِّيَاقُ إِلَى الْمَوْعِظَةِ وَالْوَعِيدِ فَإِنَّهُمْ لما ذكرُوا ب «يَوْم يحشرون إِلَى النَّارِ» ذُكِّرُوا أَيْضًا بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ يَوْمُ النَّفْخِ فِي الصُّورِ، تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِإِثْبَاتِ وُقُوع الْبَعْث وإنذارا بِمَا يَعْقُبُهُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ آتُوهُ داخِرِينَ وَقَوْلُهُ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ.
(أَمَّا إِنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ)
وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نُوَاحِي مَكَّةَ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الرّوم: ١- ٣] فَقَالَ نَاسٌ مَنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي بَكْرٍ: فَذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، زَعَمَ صَاحِبُكُمْ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ أَفَلَا نُرَاهِنُكَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: بَلَى- وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ- وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: كَمْ تَجْعَلُ الْبِضْعَ ثَلَاثَ سِنِينَ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ فَسَمِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَسَطًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ. فَسَمَّى أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ سِتَّ سِنِينَ فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُشْرِكُونَ وَتَوَاضَعُوا الرِّهَانَ فَمَضَتْ سِتُّ السِّنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: «أَلَا أَخْفَضْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَا جَعَلْتَهُ إِلَى دُونِ الْعَشْرِ فَإِنَّ الْبِضْعَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ»
. وَعَابَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الَّذِي رَاهَنَ أَبَا بَكْرٍ هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَأَنَّهُمْ جَعَلُوا الرِّهَانَ خَمْسَ قَلَائِصَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ جَعَلُوا الْأَجَلَ سِتَّةَ أَعْوَامٍ غَيَّرُوهُ فَجَعَلُوهُ تِسْعَةَ أَعْوَامٍ وَازْدَادُوا فِي عَدَدِ الْقَلَائِصِ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَلَّقَ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَقَالَ لَهُ: أَعْطِنِي كَفِيلًا بِالْخَطَرِ إِنْ غُلِبْتَ، فَكَفَلَ بِهِ ابْنه عبد الرحمان، وَكَانَ عبد الرحمان أَيَّامَئِذٍ مُشْرِكًا بَاقِيًا بِمَكَّةَ. وَأَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْخُرُوجَ إِلَى أُحُدٍ طلبه عبد الرحمان بِكَفِيلٍ فَأَعْطَاهُ كَفِيلًا. ثُمَّ مَاتَ أُبَيُّ بِمَكَّةَ مِنْ جُرْحٍ جَرَحَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا غَلَبَ الرُّومُ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ أَخَذَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطَرَ مِنْ وَرَثَةِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ. وَقَدْ كَانَ تَغَلُّبُ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَوَرَدَ الْخَبَرُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ. وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ».
وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّ الْمُدَّةَ بَيْنَ انْهِزَامِ الرُّومِ وَانْهِزَامِ الْفُرْسِ سَبْعُ سِنِينَ بِتَقْدِيمِ السِّينِ وَأَنَّ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا تِسْعٌ
هُوَ تَصْحِيفٌ. وَقَدْ كَانَ غَلَبُ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ فِي سَلْطَنَةِ هِرَقْلَ قَيْصَرِ الرُّومِ، وَبِإِثْرِهِ جَاءَ هِرَقْلُ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ وَنَزَلَ حِمْصَ وَلَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ جَاءُوا تُجَّارًا إِلَى الشَّامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي مُخَاطَرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ وَتَقْرِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا احْتَجَّ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ الْعُقُودِ الرِّبَوِيَّةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ
عَلَيْهِمْ خُلْعَةُ النبوءة
لِأَجْلِ خَتْمِ النُّبُوَّةِ بِهِ كَانَ ذَلِكَ غَضًّا فِيهِ دُونَ سَائِرِ الرُّسُلِ وَذَلِكَ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ قَطْعَ النُّبُوءَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَرَفَ عِيسَى عَنِ التَّزَوُّجِ.
فَلَا تَجْعَلْ قَوْلَهُ: وَخَاتِمَ النَّبِيئِينَ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ الِاسْتِدْرَاكِ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّهُ تَكْمِيلٌ وَاسْتِطْرَادٌ بِمُنَاسَبَةِ إِجْرَاءِ وَصْفِ الرِّسَالَةِ عَلَيْهِ. وببيان هَذِه الْحِكْمَةِ يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ التَّذْيِيلِ بِجُمْلَةِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً إِذْ أَظْهَرَ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فِيمَا قَدَّرَهُ مِنَ الْأَقْدَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ:
ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الْمَائِدَة: ٩٧].
وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ النَّبِيئِينَ وَأَنه لَا نبيء بَعْدَهُ فِي الْبَشَرِ لِأَنَّ النَّبِيئِينَ عَامٌّ فَخَاتَمُ النَّبِيئِينَ هُوَ خَاتَمُهُمْ فِي صِفَةِ النُّبُوءَةِ. وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى نَصِّيَّةِ الْآيَةِ أَنَّ الْعُمُومَ دِلَالَتُهُ عَلَى الْأَفْرَادِ ظَنِّيَّةٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ مُخَصَّصٍ. وَقَدْ تَحَقَّقْنَا عَدَمَ الْمُخَصَّصِ بِالِاسْتِقْرَاءِ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَعُرِفَ ذَلِكَ وَتَوَاتَرَ بَيْنَهُمْ وَفِي الْأَجْيَالِ مِنْ بَعْدِهِمْ وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَرَدَّدُوا فِي تَكْفِيرِ مُسَيْلِمَةَ وَالْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ فَصَارَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ كَافِرٌ خَارِجٌ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ. وَهَذَا النَّوْع من الْإِجْمَاع مُوجب الْعلم الضَّرُورِيّ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ جَمِيع عُلَمَائِنَا وَلَا يدْخل هَذَا النَّوْعُ فِي اخْتِلَافِ بَعْضِهِمْ فِي حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ إِذِ الْمُخْتَلِفُ فِي حُجِّيَّتِهِ هُوَ الْإِجْمَاعُ الْمُسْتَنِدُ لِنَظَرٍ وَأَدِلَّةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ بِخِلَافِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ فِي خَاتِمَةِ كِتَابِ «الِاقْتِصَادِ فِي الِاعْتِقَادِ» مُخَالَفَةً لِهَذَا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ قِلَّةِ تَحْرِيرٍ. وَقَدْ حَمَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ حَمْلَةً غَيْرَ مُنْصِفَةٍ وَأَلْزَمَهُ إِلْزَامًا فَاحِشًا يُنَزَّهُ عَنْهُ عِلْمُهُ وَدِينُهُ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا.
وَلِذَلِكَ لَا يَتَرَدَّدُ مُسْلِمٌ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يُثْبِتُ نُبُوءَةً لِأَحَدٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي إِخْرَاجِهِ مِنْ حَظِيرَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا تُعْرَفُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَقْدَمَتْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا

[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٥٩]

وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ [يس:
٥٥] وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى سَلامٌ قَوْلًا [يس: ٥٨]، أَيْ وَيُقَالُ: امْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ، عَلَى الضِّدِّ مِمَّا يُقَالُ لِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: سَلَامٌ يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ قَوْلًا، وَيُقَالُ لِلْمُجْرِمِينَ: امْتَازُوا، فَتَكُونُ مِنْ توزيع الخطابين على مخاطبين فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: ٢٩].
وَامْتَازَ مُطَاوِعُ مَازَهَ، إِذَا أَفْرَدَهُ عَمَّا كَانَ مُخْتَلِطًا مَعَهُ، وُجِّهَ الْأَمْرُ إِلَيْهِمْ بِأَنْ يَمْتَازُوا مُبَالَغَةً فِي الْإِسْرَاعِ بِحُصُولِ الْمَيْزِ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرُ تَكْوِينٍ فَعُبِّرَ عَنْ مَعْنَى. فَيَكُونُ الْمَيْزُ بِصَوْغِ الْأَمْرِ مِنْ مَادَّةِ الْمُطَاوَعَةِ، فَإِنَّ قَوْلَكَ: لِتَنْكَسِرَ الزُّجَاجَةُ أَشَدُّ فِي الْإِسْرَاعِ بِحُصُولِ الْكَسْرِ فِيهَا مِنْ أَنْ تَقُولَ: اكْسِرُوا الزُّجَاجَةَ. وَالْمُرَادُ: امْتِيَازُهُمْ بِالِابْتِعَادِ عَنِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِيرُوا إِلَى النَّارِ فَيَؤُولُ إِلَى مَعْنَى: ادْخُلُوا النَّارَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَحْشَرِ يَنْتَظِرُونَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى آنِفًا: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ [يس: ٥٥]، فَلَمَّا حُكِيَ مَا فِيهِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ حِينَ يُقَالُ لِأَصْحَابِ النَّارِ: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [يس: ٥٤]، حُكِيَ ذَلِكَ ثُمَّ قِيلَ لِلْمُشْرِكِينَ وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ.
وَتَكْرِيرُ كَلِمَةِ الْيَوْمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُخَاطَبِينَ فِيهِ وَهُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا يَجْحَدُونَ وُقُوعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَ تَأْكِيدِ ذَكْرِهِ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ [يس: ٥٤] وَقَوْلِهِ: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ [يس: ٥٥] وَقَوْلِهِ:
امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ.
وَنِدَاؤُهُمْ بِعُنْوَانِ: الْمُجْرِمُونَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةٍ مَيْزِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ، فَاللَّامُ فِي الْمُجْرِمُونَ مَوْصُولَةٌ، أَيْ أَيُّهَا الَّذين أجرموا.
وَفِيهِ حَذْفُ لَا النَّافِيَةِ بَعْدَ أَنْ، وَهُوَ شَائِعٌ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: ١٥٥- ١٥٧]، وَكَقَوْلِهِ: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا [النِّسَاء: ١٣٥]. وَعَادَةُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» تَقْدِيرُ: كَرَاهِيَةَ أَنْ تَفْعَلُوا كَذَا. وَتَقْدِيرُ (لَا) النَّافِيَةِ أَظْهَرُ لِكَثْرَةِ التَّصَرُّفِ فِيهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِالْحَذْفِ وَالزِّيَادَةِ.
وَالْمَعْنَى: لِئَلَّا تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ. وَظَاهِرُ الْقَوْلِ أَنَّهُ الْقَوْلُ جَهْرَةً وَهُوَ شَأْنُ الَّذِي ضَاقَ صَبْرُهُ عَنْ إِخْفَاءِ نَدَامَتِهِ فِي نَفسه فيصرح بِمَا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ فَتَكُونُ هَذِهِ النَّدَامَةُ الْمُصَرَّحُ بِهَا زَائِدَةً عَلَى الَّتِي أَسَرَّهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا بَاطِنًا فِي النَّفْسِ. وَتَنْكِيرُ نَفْسٌ لِلنَّوْعِيَّةِ، أَيْ أَنْ يَقُولَ صِنْفٌ مِنَ النُّفُوسِ وَهِيَ نُفُوسُ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير: ١٤]. وَقَوْلُ لَبِيدٍ:
أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا يُرِيدُ نَفْسَهُ.
وَحَرْفُ (يَا) فِي قَوْله: يَا حَسْرَتى اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الْحَسْرَةِ بِالْعَاقِلِ الَّذِي يُنَادَى لِيُقْبِلَ، أَيْ هَذَا وَقْتُكِ فَاحْضُرِي، وَالنِّدَاءُ مِنْ رَوَادِفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ يَا حَسْرَتِي احْضُرِي فَأَنَا مُحْتَاجٌ إِلَيْكِ، أَيْ إِلَى التَّحَسُّرِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ كَالْمَثَلِ لِشِدَّةِ التَّحَسُّرِ.
وَالْحَسْرَةُ: النَّدَامَةُ الشَّدِيدَةُ. وَالْأَلِفُ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحْدَهُ يَا حَسْرَتَايَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْأَلِفِ الَّتِي جُعِلَتْ عِوَضًا عَنِ الْيَاءِ فِي قَوْلهم: يَا حَسْرَتى. وَالْأَشْهَرُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ الْيَاءَ الَّتِي بَعْدَ الْأَلْفِ مَفْتُوحَةٌ. وَتَعْدِيَةُ الْحَسْرَةِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ كَمَا هُوَ غَالِبُهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ التَّحَسُّرِ مِنْ مَدْخُولِ عَلى.
وَالذَّرْءُ: بَثُّ الْخَلْقِ وَتَكْثِيرُهُ، فَفِيهِ مَعْنَى تَوَالِي الطَّبَقَاتِ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ إِذْ لَا مَنْفَعَةَ لِلنَّاسِ مِنْ أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ بِاعْتِبَارِهَا أَزْوَاجًا سِوَى مَا يَحْصُلُ مِنْ نَسْلِهَا.
وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: يَذْرَؤُكُمْ لِلْمُخَاطَبِينَ بَقَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمْ. وَمُرَادُ شُمُولِهِ لِجَعْلِ أَزْوَاجٍ مِنَ الْأَنْعَامِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ لِأَنَّ ذِكْرَ أَزْوَاجِ الْأَنْعَامِ لَمْ يَكُنْ هَمَلًا بَلْ مُرَادًا مِنْهُ زِيَادَةُ الْمِنَّةِ فَإِنَّ ذَرْءَ نَسْلِ الْإِنْسَانِ نِعْمَةٌ لِلنَّاسِ وَذَرْءَ نَسْلِ الْأَنْعَامِ نِعْمَةٌ أُخْرَى لِلنَّاسِ، وَلِذَلِكَ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْأَزْوَاجِ فِي جَانِبِ الْأَنْعَامِ عَنْ ذِكْرِ الذَّرْءِ إِذْ لَا مَنْفَعَةَ لِلنَّاسِ فِي تَزَاوُجِ الْأَنْعَامِ سِوَى مَا يَحْصُلُ مِنْ نَسْلِهَا. وَإِذْ كَانَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ جَمَاعَةِ الْعُقَلَاءِ وَكَانَ ضَمِيرَ خِطَابٍ فِي حِينِ أَنَّ الْأَنْعَامَ لَيْسَتْ عُقَلَاءَ وَلَا مُخَاطَبَةً، فَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ الضَّمِيرِ تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ إِذْ لَمْ يُذْكَرْ ضَمِيرٌ صَالِحٌ لِلْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَأَنْ يُقَالَ: يَذَرَاكِ بِكَسْرِ الْكَافِ عَلَى تَأْوِيلِ إِرَادَةِ خِطَابِ الْجَمَاعَةِ.
وَجَاءَ فِيهِ تَغْلِيبُ الْخِطَابِ عَلَى الْغَيْبَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِيهِ تَغْلِيبَانِ وَهُوَ تَغْلِيبٌ دَقِيقٌ إِذِ اجْتَمَعَ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ نَوْعَانِ مِنَ التَّغْلِيبِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْكَشَّافُ وَالسَّكَّاكِيُّ فِي مَبْحَثِ التَّغْلِيبِ مِنَ «الْمِفْتَاحِ».
وَضَمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْجَعْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ جَعَلَ لَكُمْ، أَيْ فِي الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨]. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَذْرَؤُكُمْ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ وَالتَّجَدُّدُ أَنْسَبُ بِالِامْتِنَانِ.
وَحَرْفُ (فِي) مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ تَشْبِيهًا لِلسَّبَبِ بِالظَّرْفِ فِي احْتِوَائِهِ عَلَى مُسَبَّبَاتِهِ
كَاحْتِوَاءِ الْمَنْبَعِ عَلَى مَائِهِ وَالْمَعْدِنِ عَلَى تُرَابِهِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: ١٧٩].
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
خَبَرٌ ثَالِثٌ أَوْ رَابِعٌ عَنِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى: ٩].
وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَالنَّتِيجَةِ لِلدَّلِيلِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ مَا هُوَ نِعَمٌ عَظِيمَةٌ تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُمَاثِلُهُ
رِسَالَةِ نُوحٍ الْعَامَّةِ وَقَدْ كَانَتْ رِسَالَةُ هُودٍ وَرِسَالَةُ صَالِحٍ قَبْلَ رِسَالَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَأْتِي بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِمْ إِشَارَةٌ إِجْمَالِيَّةٌ إِلَى أُمَمٍ أُخْرَى مِنَ الْعَرَبِ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى [الْأَحْقَاف: ٢٧] الْآيَةَ.
وَأَخُو عَادٍ هُوَ هُودٌ وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَعَبَّرَ عَنْهُ هُنَا بِوَصْفِهِ دُونَ اسْمِهِ الْعَلَمِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ هُنَا ذِكْرُ التَّمْثِيلِ وَالْمَوْعِظَةِ لِقُرَيْشٍ بِأَنَّهُمْ أَمْثَالُ عَادٍ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَةِ رَسُولٍ مَنْ أُمَّتِهِمْ.
وَالْأَخُ يُرَادُ بِهِ الْمُشَارِكُ فِي نَسَبِ الْقَبِيلَةِ، يَقُولُونَ: يَا أَخَا بَنِي فُلَانٍ، وَيَا أَخَا الْعَرَبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْمُلَازِمُ وَالْمُصَاحِبُ، يُقَالُ: أَخُو الْحَرْبِ وَأَخُو عَزَمَاتٍ.
وَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا»
وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشُّعَرَاء: ١٦٠، ١٦١]. وَلَمْ يَكُنْ لُوطٌ مِنْ نَسَبِ قَوْمِهِ أَهْلِ سَدُومَ.
وإِذْ أَنْذَرَ اسْمٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي، وَهِيَ هُنَا نَصْبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَخَا عَادٍ، أَيِ اذْكُرْ زَمَنَ إِنْذَارِهِ قَوْمَهُ فَهِيَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. وَذِكْرُ الْإِنْذَارِ هُنَا دُونَ الدَّعْوَةِ أَوِ الْإِرْسَالِ لِمُنَاسَبَةِ تَمْثِيلِ حَالِ قَوْمِ هُودٍ بِحَالِ قوم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الْأَحْقَاف: ٣].
وَالْأَحْقَافُ: جَمْعُ حِقْفٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ الرَّمْلُ الْعَظِيمُ الْمُسْتَطِيلُ وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِلَادُ الْمُسَمَّاةُ بِالْأَحْقَافِ مَنَازِلَ عَادٍ وَكَانَتْ مُشْرِفَةً عَلَى الْبَحْرِ بَيْنَ عُمَانَ وَعَدَنَ. وَفِي مُنْتَهَى الْأَحْقَافِ أَرْضُ حَضْرَمَوْتَ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ عَادٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٦٥].
وَجُمْلَةُ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَنْذَرَ وَجُمْلَةِ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ الْمُفَسَّرَةِ بِهَا. وَقَدْ فُسِّرَتْ جُمْلَةُ أَنْذَرَ بجملة أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِلَخْ.
وَ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةٌ لِأَنَّ أَنْذَرَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.
فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ جُمْلَةِ اصْلَوْها وَالْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ تَعْلِيلًا لَهَا.
وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلِمَةِ إِنَّما قَصْرُ قَلْبٍ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا لَقَوْهُ مِنَ الْعَذَابِ ظُلْمٌ لَمْ يَسْتَوْجِبُوا مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَزَعِ.
وَعُدِيَّ تُجْزَوْنَ إِلَى مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بِدُونِ الْبَاءِ خِلَافًا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطّور: ١٩] لِيَشْمَلَ الْقَصْرُ مَفْعُولَ الْفِعْلِ الْمَقْصُورِ، أَيْ تُجْزَوْنَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ لَا أَكْثَرَ مِنْهُ فَيَنْتَفِيَ الظُّلْمُ عَنْ مِقْدَارِ الْجَزَاءِ كَمَا انْتَفَى الظُّلْمُ عَنْ أَصْلِهِ، وَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ لَمْ يُعَلَّقْ مَعْمُولُ الْفِعْلِ بِالْبَاءِ إِذْ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ نفس الْفِعْل.
[١٧- ١٩]
[سُورَة الطّور (٥٢) : الْآيَات ١٧ إِلَى ١٩]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَالَ الْمُكَذِّبِينَ وَمَا يُقَالُ لَهُمْ، فَمِنْ شَأْنِ السَّامِعِ أَنْ
يَتَسَاءَلَ عَنْ حَالِ أَضْدَادِهِمْ وَهُمُ الْفَرِيقُ الَّذِينَ صدقُوا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَخَاصَّةً إِذْ كَانَ السَّامِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَادَةُ الْقُرْآنِ تَعْقِيبُ الْإِنْذَارِ بِالتَّبْشِيرِ وَعَكْسِهِ، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَجُمْلَةِ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطّور: ٣٠].
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَتَنْكِيرُ جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ لتعظيم، أَيْ فِي أَيَّةِ جَنَّاتٍ وَأَيِّ نَعِيمٍ.
وَجَمْعُ جَنَّاتٍ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ.
وَالْفَاكِهُ: وَصْفٌ مِنْ فَكِهَ كَفَرِحَ، إِذَا طَابَتْ نَفْسُهُ وَسُرَّ.
وَيُسْتَعْمَلُ فِي قُرْبِ الزَّمَانِ بِتَشْبِيهِ الزَّمَانِ بِالْمَكَانِ كَمَا هُنَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٥].
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ إِلَى التَّقْدِيمِ الْمَفْهُومِ مِنْ «قَدَّمُوا» عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ:
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨].
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ تَعْرِيفٌ بِحِكْمَةِ الْأَمْرِ بِالصَّدَقَةِ قَبْلَ نجوى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرْغَبَ فِيهَا الرَّاغِبُونَ.
وخَيْرٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ تَفْضِيلٍ، أَصْلُهُ: أَخْيَرُ وَهُوَ الْمُزَاوِجُ لِقَوْلِهِ: وَأَطْهَرُ أَيْ ذَلِكَ أَشَدُّ خَيْرِيَّةً لَكُمْ مِنْ أَنْ تناجوا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُونِ تَقْدِيمِ صَدَقَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي كُلٍّ خَيْرٌ. كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢٧١].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ وَهُوَ مُقَابِلُ الشَّرِّ، أَيْ تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ النَّجْوَى فِيهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَهُوَ تَحْصِيلُ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى فِي حِينِ إِقْبَالِهِمْ على رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَحْصُلُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْمُنَاجَاةِ مَا لَا يَحْصُلُ مِثْلُهُ بِدُونِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ.
وَأَمَّا أَطْهَرُ فَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ لَا مَحَالَةَ، أَيْ أَطْهَرُ لَكُمْ بِمَعْنَى: أَشَدُّ طُهْرًا، وَالطُّهْرُ هُنَا مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ طُهْرُ النَّفْسِ وَزَكَاؤُهَا لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ أَنْوَارٌ رَبَّانِيَّةٌ مِنْ رِضَى اللَّهِ عَنْهُ فَتَكُونُ نَفْسُهُ زَكِيَّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَة: ١٠٣]. وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الصَّدَقَةُ زَكَاةً.
وَصِفَةُ هَذِهِ الصَّدَقَةِ أَنَّهَا كَانَتْ تُعْطَى لِلْفَقِيرِ حِينَ يَعْمِدُ الْمُسْلِمُ إِلَى الذَّهَابِ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنَاجِيَهُ.
وَعَذَرَ اللَّهُ الْعَاجِزِينَ عَنْ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تَتَصَدَّقُونَ بِهِ قَبْلَ النَّجْوَى غَفَرَ اللَّهُ لَكُمُ الْمَغْفِرَةَ الَّتِي كَانَتْ تَحْصُلُ لَكُمْ لَوْ تَصَدَّقْتُمْ لِأَنَّ مَنْ نَوَى أَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ عَلَى نِيَّتِهِ.
وَأَمَّا اسْتِفَادَةُ أَنَّ غَيْرَ الْوَاجِدِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي النَّجْوَى بِدُونِ صَدَقَةٍ فَحَاصِلَةٌ
صِرَاطًا مُعْوَجًّا فِي تَأَمُّلِهِ وَتَرَسُّمِهِ آثَارَ السَّيْرِ فِي الطَّرِيقِ غَيْرِ الْمُسْتَقِيمِ خَشْيَةَ أَنْ يَضِلَّ فِيهِ، بِحَالِ الْمُكِبِّ عَلَى وَجْهِهِ يَتَوَسَّمُ حَالَ الطَّرِيقِ وَقَرِينَةُ ذَلِكَ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: سَوِيًّا الْمُشْعِرِ بِأَنَّ مُكِبًّا أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِ السَّوِيِّ وَهُوَ المنحني المطاطئ يَتَوَسَّمُ الْآثَارَ اللَّائِحَةَ مِنْ آثَارِ السَّائِرِينَ لَعَلَّهُ يَعْرِفُ الطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى الْمَقْصُودِ.
فَالْمُشْرِكُ يَتَوَجَّهُ بِعِبَادَتِهِ إِلَى آلِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا يَدْرِي لَعَلَّ بَعْضَهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَأَعْطَفَ عَلَى بَعْضِ الْقَبَائِلِ مِنْ بَعْضٍ، فَقَدْ كَانَتْ ثَقِيفٌ يَعْبُدُونَ الْلَّاتَ، وَكَانَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ يَعْبُدُونَ مَنَاةَ وَلِكُلِّ قَبِيلَةٍ إِلَهٌ أَوْ آلِهَةٌ فَتَقَّسَمُوا الْحَاجَاتِ عِنْدَهَا وَاسْتَنْصَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِآلِهَتِهِمْ وَطَمِعُوا فِي غَنَائِهَا عَنْهُمْ وَهَذِهِ حَالَةٌ يَعْرِفُونَهَا فَلَا يَمْتَرُونَ فِي أَنَهُمْ مَضْرَبُ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ حَالُ أَهْلِ الْإِشْرَاكِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، أَلَا تَسْمَعُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يُوسُف: ٣٩]. وَيُنَوِّرُ هَذَا التَّفْسِيرَ أَنَّهُ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الْأَنْعَام: ١٥٣] وَقَوْلُهُ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يُوسُف: ١٠٨]، فَقَابَلَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الْمُشَبَّهَ بِهِ الْإِسْلَامُ بِالسُّبُلِ الْمُتَفَرِّقَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا تَعْدَادُ الْأَصْنَامِ، وَجَعَلَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ الْإِسْلَامَ مُشَبَّهًا بِالسَّبِيلِ وَسَالِكُهُ يَدْعُو بِبَصِيرَةٍ ثُمَّ قَابَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ:
وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يُوسُف: ١٠٨].
فَالْآيَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ اسْتِعَارَاتٍ تَمْثِيلِيَّةٍ فَقَوْلُهُ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ تَشْبِيه لحَال الْمُشرك فِي تَقَسُّمِ أَمْرِهِ بَيْنَ الْآلِهَةِ طَلَبًا لِلَّذِي يَنْفَعُهُ مِنْهَا الشَّاكِّ فِي انْتِفَاعِهِ بِهَا، بِحَالِ السَّائِرِ قَاصِدًا أَرْضًا مُعَيَّنَةً لَيْسَتْ لَهَا طَرِيقٌ جَادَّةٌ فَهُوَ يَتَتَبَّعُ بِنْيَاتِ الطَّرِيقِ الْمُلْتَوِيَةِ وَتَلْتَبِسُ عَلَيْهِ وَلَا يُوقِنُ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي تُبَلِّغُ إِلَى مَقْصِدِهِ فَيَبْقَى حَائِرًا مُتَوَسِّمًا يَتَعَرَّفُ آثَارَ أَقْدَامِ النَّاسِ وَأَخْفَافِ الْإِبِلِ فَيَعْلَمُ بِهَا أَنَّ الطَّرِيقَ مَسْلُوكَةٌ أَوْ مَتْرُوكَةٌ.
وَفِي ضِمْنِ هَذِهِ التَّمْثِيلِيَّةِ تَمْثِيلِيَّةٌ أُخْرَى مَبْنِيَّة عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ بِتَشْبِيهِ حَالِ الْمُتَحَيِّرِ الْمُتَطَلَّبِ لِلْآثَارِ فِي الْأَرْضِ بِحَالِ الْمُكِبِّ عَلَى وَجْهِهِ فِي شِدَّةِ اقْتِرَابِهِ مِنَ الْأَرْضِ.
وَقَوله: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا تَشْبِيهٌ لِحَالِ الَّذِي آمَنَ بِرَبٍّ وَاحِدٍ الْوَاثِقُ بِنَصْرِ رَبِّهِ وَتَأْيِيدِهِ وَبِأَنَّهُ مُصَادِفٌ لِلْحَقِّ، بِحَالِ الْمَاشِي فِي طَرِيقٍ جَادَّةٍ وَاضِحَةٍ لَا يَنْظُرُ إِلَّا إِلَى اتِّجَاهِ وَجْهِهِ فَهُوَ مُسْتَوٍ فِي سَيْرِهِ.
الرِّجَالِ فِي مُعْتَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ أَوْفَقُ بِطَرْحِ التَّكَلُّفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَذَلِكَ أَحْلَى الْمُعَاشَرَةِ.
وَالْكَأْسُ: إِنَاءٌ مُعَدٌّ لِشُرْبِ الْخَمْرِ وَهُوَ اسْمٌ مُؤَنَّثٌ تَكُونُ مِنْ زُجَاجٍ وَمِنْ فِضَّةٍ وَمِنْ ذَهَبٍ، وَرُبَّمَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ الْكَأْسَ الزُّجَاجَةُ فِيهَا الشَّرَابُ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى أَنَّ لَهَا شَكْلًا مُعَيَّنًا يُمَيِّزُهَا عَنِ الْقَدَحِ وَعَنِ الْكُوبِ وَعَنِ الْكُوزِ، وَلَمْ أَجِدْ فِي قَوَامِيسِ اللُّغَةِ التَّعْرِيفَ بِالْكَأْسِ بِأَنَّهَا: إِنَاءُ الْخَمْرِ وَأَنَّهَا الْإِنَاءُ مَا دَامَ فِيهِ الشَّرَابُ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِصِنْفٍ مِنَ الْآنِيَةِ.
وَقَدْ يُطْلِقُونَ عَلَى الْخَمْرِ اسْمَ الْكَأْسِ وَأُرِيدَ بالكأس الْجِنْس إِذا الْمَعْنَى: وَأَكْؤُسًا.
وَعُدِلَ عَنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ لِأَنَّ كَأْسًا بِالْإِفْرَادِ أَخَفُّ مِنْ أَكْؤُسٍ وَكُؤُوسٍ وَلِأَنَّ هَذَا الْمُرَكَّبَ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَدِهَاقٌ: اسْمُ مَصْدَرِ دَهَقَ مِنْ بَابِ جَعَلَ أَوِ اسْمُ مَصْدَرِ أَدْهَقَ، وَلِكَوْنِهِ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرًا لَمْ يَقْتَرِنْ بِعَلَامَةِ تَأْنِيثٍ.
وَالدَّهْقُ وَالْإِدْهَاقُ مَلْءُ الْإِنَاءِ مِنْ كَثْرَةِ مَا صُبَّ فِيهِ.
وَوَصْفُ الْكَأْسِ بِالدَّهْقِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ الْكَأْسَ مُدْهَقَةٌ لَا دَاهِقَةٌ.
وَمُرَكَّبُ (كَأْسٌ دِهَاقٌ) يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ قَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ: اسْقِنَا كَأْسًا دِهَاقًا، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ «كَأْسًا»، وَمَعْنَاهُ مَمْلُوءَةٌ خَمْرًا، أَيْ دُونَ تَقْتِيرٍ لِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ عَزِيزَةً فَلَا يَكِيلُ الْحَانَوِيُّ لِلشَّارِبِ إِلَّا بِمِقْدَارٍ فَإِذَا كَانَتِ الْكَأْسُ مَلْأَى كَانَ ذَلِكَ أَسَرَّ لِلشَّارِبِ.
وَقَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدًا إِلَى الْكَأْسِ، فَتَكُونُ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ بِتَشْبِيهِ تَنَاوُلِ النَّدَامَى لِلشَّرَابِ مِنَ الْكَأْسِ بِحُلُولِهِمْ فِي الْكَأْسِ عَلَى طَرِيقِ الْمَكْنِيَّةِ، وَحَرْفُ (فِي) تَخْيِيلٌ أَوْ تَكُونُ (فِي) لِلتَّعْلِيلِ كَمَا
فِي الْحَدِيثِ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ»
الْحَدِيثَ، أَيْ مِنْ أَجْلِ هِرَّةٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْمَعُونَ لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا مِنْهَا أَوْ عِنْدَهَا، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ صِفَةً ثَانِيَةً لِ «كَأْسًا». وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ سَلِيمَةٌ مِمَّا تُسَبِّبُهُ خَمْرُ الدُّنْيَا مِنْ آثَارِ


الصفحة التالية
Icon