الْمُقَدِّمَةُ الْخَامِسَةُ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ
أَوْلَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِتَطَلُّبِ أَسْبَابِ نُزُولِ آيِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ حَوَادِثُ يُرْوَى أَنَّ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ لِأَجْلِهَا لِبَيَانِ حُكْمِهَا أَوْ لِحِكَايَتِهَا أَوْ إِنْكَارِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَغْرَبُوا فِي ذَلِكَ وَأَكْثَرُوا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُوهِمَ النَّاسَ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ، وَحَتَّى رَفَعُوا الثِّقَةَ بِمَا ذَكَرُوا، بَيْدَ أَنَّا نَجِدُ فِي بَعْضِ آيِ الْقُرْآنِ إِشَارَةً إِلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي دَعَتْ إِلَى نُزُولِهَا وَنَجِدُ لِبَعْضِ الْآيِ أَسْبَابًا ثَبَتَتْ بِالنَّقْلِ دُونَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَأْيَ النَّاقِلِ، فَكَانَ أَمْرُ أَسْبَابِ نُزُولِ الْقُرْآنِ دَائِرًا بَيْنَ الْقَصْدِ وَالْإِسْرَافِ، وَكَانَ فِي غَضِّ النَّظَرِ عَنْهُ وَإِرْسَالِ حَبْلِهِ عَلَى غَارِبِهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ. فَذَلِكَ الَّذِي دَعَانِي إِلَى خَوْضِ هَذَا الْغَرَضِ فِي مُقَدِّمَاتِ التَّفْسِيرِ لِظُهُورِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى تَمْحِيصِهِ فِي أَثْنَاءِ التَّفْسِيرِ، وَلِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ إِعَادَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ عُرُوضِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ، غَيْرُ مُدَّخِرٍ مَا أَرَاهُ فِي ذَلِكَ رَأْيًا يَجْمَعُ شَتَاتَهَا.
وَأَنَا عَاذِرٌ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ فَاسْتَكْثَرُوا مِنْهَا، بِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَصَدَّى لِتَأْلِيفِ كِتَابٍ فِي مَوْضُوعٍ غَيْرِ مُشْبَعٍ تَمْتَلِكُهُ مَحَبَّةُ التَّوَسُّعِ فِيهِ فَلَا يَنْفَكُّ يَسْتَزِيدُ مِنْ مُلْتَقَطَاتِهِ لِيُذْكِيَ قَبَسَهُ، وَيَمُدَّ نَفَسَهُ، فَيَرْضَى بِمَا يَجِدُ رِضَى الصَّبِّ بِالْوَعْدِ، وَيَقُولُ زِدْنِي مِنْ حَدِيثِكَ يَا سَعْدُ، غَيْرَ هَيَّابٍ لِعَاذِلٍ، وَلَا مُتَطَلِّبِ مَعْذِرَةِ عَاذِرٍ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْوَلَعِ إِذَا امْتَلَكَ الْقَلْبَ، وَلَكِنِّي لَا أَعْذِرُ أَسَاطِينَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ تَلَقَّفُوا الرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةَ فَأَثْبَتُوهَا فِي كُتُبِهِمْ وَلَمْ يُنَبِّهُوا عَلَى مَرَاتِبِهَا قُوَّةً وَضَعْفًا، حَتَّى أَوْهَمُوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا تَنْزِلُ آيَاتُهُ إِلَّا لِأَجْلِ حَوَادِثَ تَدْعُو إِلَيْهَا، وَبِئْسَ هَذَا الْوَهْمُ فَإِنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ هَادِيًا إِلَى مَا بِهِ صَلَاحُ الْأُمَّةِ فِي أَصْنَافِ الصَّلَاحِ فَلَا يَتَوَقَّفُ نُزُولُهُ عَلَى حُدُوثِ الْحَوَادِثِ الدَّاعِيَةِ إِلَى تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ.
نَعَمْ إِنَّ الْعُلَمَاءَ تَوَجَّسُوا مِنْهَا فَقَالُوا إِنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لَا يُخَصَّصُ، إِلَّا طَائِفَةٌ شَاذَّةٌ ادَّعَتِ التَّخْصِيصَ بِهَا، وَلَوْ أَنَّ أَسْبَابَ النُّزُولِ كَانَتْ كُلُّهَا مُتَعَلِّقَةً بِآيَاتٍ عَامَّةٍ لَمَا دَخَلَ مِنْ
ذَلِكَ ضُرٌّ عَلَى عُمُومِهَا إِذْ قَدْ أَرَاحَنَا أَئِمَّةُ الْأُصُولِ حِينَ قَالُوا: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَلَكِنَّ أَسْبَابًا كَثِيرَةً رَامَ رُوَاتُهَا تَعْيِينَ مُرَادٍ مِنْ تَخْصِيصِ عَامٍّ أَوْ تَقْيِيدِ مُطْلَقٍ أَوْ إِلْجَاءٍ إِلَى مَحْمَلٍ، فَتِلْكَ هِيَ الَّتِي قَدْ تَقِفُ عُرْضَةً أَمَامَ مَعَانِي التَّفْسِيرِ قَبْلَ التَّنْبِيهِ عَلَى ضَعْفِهَا أَوْ تَأْوِيلِهَا،
وَالضَّمِيرُ فِي وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ رَاجِعٌ إِلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ حُكْمُ التَّحْوِيلِ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمَقَامِ، فَالضَّمِيرُ هُنَا كَالضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ [الْبَقَرَة: ١٤٦].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَمَّا تَعْمَلُونَ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو بِيَاءِ الْغَيْبَة.
وَقَوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: فَوَلُّوا الدَّالِّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ وَامْتِثَالِهِ، أَيْ شَرَعْتُ لَكُمْ ذَلِكَ لِنَدْحَضَ حُجَّةَ الْأُمَمِ عَلَيْكُمْ، وَشَأْنُ تَعْلِيلِ صِيَغِ الطَّلَبِ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ لِلطَّلَبِ بِاعْتِبَارِ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ. فَإِنَّ مَدْلُولَ صِيغَةِ الطَّلَبِ هُوَ إِيجَادُ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ لَا الْإِعْلَامُ بِكَوْنِ الطَّالِبِ طَالَبًا وَإِلَّا لَمَا وَجَبَ الِامْتِثَالُ لِلْآمِرِ فَيُكْتَفَى بِحُصُولِ سَمَاعِ الطَّلَبِ لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَقْصُودًا.
وَالتَّعْرِيفُ فِي (النَّاسِ) لِلِاسْتِغْرَاقِ يَشْمَلُ مُشْرِكِي مَكَّةَ فَإِنَّ مِنْ شُبْهَتِهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَا نَتَّبِعُ هَذَا الدِّينَ إِذْ لَيْسَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّهُ اسْتَقْبَلَ قِبْلَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْحُجَّةُ أَنْ يَقُولُوا إِنَّ مُحَمَّدًا اقْتَدَى بِنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا فَكَيْفَ يَدْعُونَا إِلَى اتِّبَاعِهِ. وَلِجَمِيعِ النَّاسِ مِمَّنْ عَدَاكُمْ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، أَيْ لِيَكُونَ هَذَا الدِّينُ مُخَالِفًا فِي الِاسْتِقْبَالِ لِكُلِّ دِينٍ سَبَقَهُ فَلَا يَدَّعِي أَهْلُ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ أَنَّ الْإِسْلَامَ مُقْتَبِسٌ مِنْهُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ ظُهُورَ الِاسْتِقْبَالِ يَكُونُ فِي أَمْرٍ مُشَاهَدٍ لِكُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْمُخَالَفَةِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ الَّتِي فَضُلَ بِهَا الْإِسْلَامُ غَيْرَهُ لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ بَلْ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَعَلَى هَذَا يكون قَوْله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ نَاظِرًا إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ [الْبَقَرَة: ١٤٤]، وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ [الْبَقَرَة: ١٤٦].
وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى حُجَّةِ النَّاسِ مَعَانٍ أُخَرُ أُرَاهَا بَعِيدَةً.
وَالْحُجَّةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُقْصَدُ بِهِ إِثْبَاتُ الْمُخَالِفِ، بِحَيْثُ لَا يَجِدُ مِنْهُ تَفَصِّيًا، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلَّذِي غَلَبَ مُخَالِفَهُ بِحُجَّتِهِ قَدْ حَجَّهُ، وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ فَهُوَ إِتْيَانُ الْمُحْتَجِّ بِمَا يَظُنُّهُ حُجَّةً وَلَوْ مغالطة يُقَال احْتَجَّ وَيُقَال حَاجَّ إِذَا أَتَى بِمَا يَظُنُّهُ حُجَّةً قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [الْبَقَرَة: ٢٥٨]، فَالْحُجَّةُ لَا تُطْلَقُ حَقِيقَةً إِلَّا عَلَى الْبُرْهَانِ وَالدَّلِيلِ النَّاهِضِ الْمُبَكِّتِ لِلْمُخَالِفِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُهَا عَلَى الشُّبْهَةِ فَمَجَازٌ لِأَنَّهَا تُورَدُ فِي صُورَةِ الْحُجَّةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حُجَّتُهُمْ
مُدَالًا بَيْنَ طَائِفَةِ الْأَغْنِيَاءِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَأْخُذُ قَادَتُهُمُ الْمِرْبَاعَ وَيَأْخُذُ الْغُزَاةُ ثَلَاثَةَ الْأَرْبَاعِ فَيَبْقَى الْمَالُ كُلُّهُ لِطَائِفَةٍ خَاصَّةٍ.
ثُمَّ عَمَدَتْ إِلَى الِانْتِزَاعِ مِنْ هَذَا الْمَالِ انْتِزَاعًا مُنَظَّمًا فَجَعَلَتْ مِنْهُ انْتِزَاعًا جَبْرِيًّا بَعْضَهُ فِي حَيَاةِ صَاحِبِ الْمَالِ وَبَعْضَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَأَمَّا الَّذِي فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ الصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ، وَمِنْهَا الزَّكَاةُ، وَهِيَ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ عُشْرُ الْمَمْلُوكَاتِ أَوْ نِصْفُ عُشْرِهَا أَوْ رُبُعُ عُشْرِهَا.
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَ تَشْرِيعِهَا بِقَوْلِهِ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ»
، وَجَعَلَ تَوْزِيعَ مَا يَتَحَصَّلُ مِنْ هَذَا الْمَالِ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ النَّاسِ وَكِفَايَةِ مُؤَنِ الضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ، فَصَارُوا بِذَلِكَ ذَوِي حَقٍّ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ، غَيْرَ مُهِينِينَ وَلَا مُهَدِّدِينَ بِالْمَنْعِ وَالْقَسَاوَةِ. وَالْتَفَتَ إِلَى الْأَغْنِيَاءِ فَوَعَدَهُمْ عَلَى هَذَا
الْعَطَاءِ بِأَفْضَلِ مَا وُعِدَ بِهِ الْمُحْسِنُونَ، مِنْ تَسْمِيَتِهِ قَرْضًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ تَوْفِيرِ ثَوَابِهِ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآيَاتُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا.
وَيَلْحَقُ بِهَذَا النَّوْعِ أَخْذُ الْخُمُسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ مَعَ أَنَّهَا حَقُّ الْمُحَارِبِينَ، فَانْتَزَعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُمْ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ- إِلَى قَوْلِهِ- إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ [الْأَنْفَال: ٤١] فَحَرَّضَهُمْ عَلَى الرِّضَا بِذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ انْتَزَعَهُ مِنْ أَيْدِي الَّذِينَ اكْتَسَبُوهُ بِسُيُوفِهِمْ وَرِمَاحِهِمْ. وَكَذَلِكَ يَلْحَقُ بِهِ النَّفَقَاتُ الْوَاجِبَةُ غَيْرَ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْظُورٍ فِيهَا إِلَى الِانْتِزَاعِ إِذْ هِيَ فِي مُقَابَلَةِ تَأَلُّفِ الْعَائِلَةِ، وَلَا نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَيْهَا جِبِلِّيٌّ. أَمَّا نَفَقَةُ غَيْرِ الْبَنِينَ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ نَفَقَةَ الْقَرَابَةِ فَهِيَ مِنْ قِسْمِ الِانْتِزَاعِ الْوَاجِبِ، وَمِنَ الِانْتِزَاعِ الْوَاجِبِ الْكَفَّارَاتُ فِي حِنْثِ الْيَمِينِ، وَفِطْرِ رَمَضَانَ، وَالظِّهَارِ، وَالْإِيلَاءِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ. فَهَذَا تَوْزِيعُ بَعْضِ مَالِ الْحَيِّ فِي حَيَاتِهِ.
وَأَمَّا تَوْزِيعُ الْمَالِ بَعْدَ وَفَاةِ صَاحِبِهِ فَذَلِكَ بِبَيَانِ فَرَائِضِ الْإِرْثِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يُعْطُونَ أَمْوَالَهُمْ لِمَنْ يُحِبُّونَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ قَرِيبٍ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ فِي قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [١٨٠]، وَكَانَ بَعْضُ الْأُمَمِ يَجْعَلُ الْإِرْثَ لِلْأَكْبَرِ.
وَجُعِلَ تَوْزِيعُ هَذِهِ الْفَرَائِضِ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ بِالنَّاسِ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ، فَلَمْ تُعْطَ أَمْوَالُهُمْ إِلَّا لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ تَوْزِيعُهُ بِحَسَبِ الْقُرْبِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي
تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» قَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا هَذِهِ لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ. يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَنَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ وَرَوَاهُ أَبُو غَسَّانَ مَالِكٌ الْهَرْوِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُرَادُ الَّذِينَ أَحْدَثُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ كُفْرًا بِالرِّدَّةِ أَوْ بِشَنِيعِ الْأَقْوَالِ الَّتِي تُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ وَنَقْضِ الشَّرِيعَةِ، مِثْلُ الْغُرَابِيَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ النُّبُوءَةَ لَعَلِيٍّ، وَمِثْلُ غُلَاةِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ أَتْبَاعِ حَمْزَةَ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَتْبَاعِ الْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْ بِهِ مَقَالَتُهُ إِلَى الْكُفْرِ تَصْرِيحًا وَلَا لُزُومًا بَيِّنًا مِثْلِ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ فِي حُكْمِ المتأوّلين وَمن يؤول قَوْلَهُمْ إِلَى لَوَازِمَ سَيِّئَةٍ.
وَذَوْقُ الْعَذَابِ مَجَازٌ لِلْإِحْسَاسِ وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ علاقته التَّقْيِيد.
[١٠٨، ١٠٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٠٨ إِلَى ١٠٩]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
تَذْيِيلَاتٌ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تِلْكَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ.
وَالتِّلَاوَةُ اسْمٌ لِحِكَايَةِ كَلَامٍ لِإِرَادَةِ تَبْلِيغِهِ بِلَفْظِهِ وَهِيَ كَالْقِرَاءَةِ إِلَّا أَنَّ الْقِرَاءَةَ تَخْتَصُّ بِحِكَايَةِ كَلَامٍ مَكْتُوبٍ فَيَتَّجِهُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالْإِشَارَةِ هِيَ الْآيَاتُ الْمَبْدُوءَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمرَان: ٥٩] إِلَى هُنَا لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ خُتِمَ بِتَذْيِيلٍ قَرِيبٍ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمرَان:
٥٨] فَيَكُونُ كُلُّ تَذْيِيلٍ مُسْتَقِلًّا بِطَائِفَةِ الْجُمَلِ الَّتِي وَقَعَ هُوَ عَقِبَهَا.
وَخُصَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْإِشَارَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُثْبِتَةِ صِحَّةَ عَقِيدَةِ الْإِسْلَام، والمبطلة لدعازي الْفِرَقِ الثَّلَاثِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
وَالضَّمِيرَانِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِهِ- ومِنْ أَهْلِها عَائِدَانِ عَلَى مَفْهُومَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ:
وَهُمَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، وَاشْتُرِطَ فِي الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الرَّجُلِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ لِيَكُونَا أَعْلَمَ بِدَخْلِيَّةِ أَمْرِهِمَا وَأَبْصَرَ فِي شَأْنِ مَا يُرْجَى مِنْ حَالِهِمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الصِّفَاتُ الَّتِي تُخَوِّلُهُمَا الْحُكْمَ فِي الْخِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. قَالَ ملك: إِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُ حَكَمَيْنِ مِنْ أَهْلِهِمَا فَيُبْعَثُ مِنَ الْأَجَانِبِ، قَالَ ابْنُ الْفُرْسِ: «فَإِذَا بَعَثَ الْحَاكِمُ أَجْنَبِيَّيْنِ مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِ فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ يُنْتَقَضُ الْحُكْمُ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ مَاضٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْهِمَا». قُلْتُ: وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَوْنُهُمَا مِنْ أَهْلِهِمَا مُسْتَحَبٌّ فَلَوْ بُعِثَا مِنَ الْأَجَانِبِ مَعَ وُجُودِ الْأَقَارِبِ صَحَّ.
وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ عِنْدَ نِزَاعِ الزَّوْجَيْنِ النِّزَاعَ الْمُسْتَمِرَّ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالشِّقَاقِ، وَظَاهِرُهَا أَنَّ الْبَاعِثَ هُوَ الْحَاكِمُ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ، لَا الزَّوْجَانِ، لأنّ فعل فَابْعَثُوا مُؤْذِنٌ بِتَوْجِيهِهِمَا إِلَى الزَّوْجَيْنِ، فَلَوْ كَانَا مُعَيَّنَيْنِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لَمَا كَانَ لِفِعْلِ الْبَعْثِ مَعْنًى.
وَصَرِيحُ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَبْعُوثَيْنِ حَكَمَانِ لَا وَكِيلَانِ، وَبِذَلِك قَالَ أئمّة الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَعَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَمَا قَضَى بِهِ الْحَكَمَانِ مِنْ فُرْقَةٍ أَوْ بَقَاءٍ أَوْ مُخَالَعَةٍ يَمْضِي، وَلَا مَقَالَ لِلزَّوْجَيْنِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى التَّحْكِيمِ، نَعَمْ لَا يَمْنَعُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنْ يُوَكِّلَ الزَّوْجَانِ رَجُلَيْنِ عَلَى النَّظَرِ فِي شُؤُونِهِمَا، وَلَا مِنْ أَنْ يُحَكِّمَا حَكَمَيْنِ عَلَى نَحْوِ تَحْكِيمِ الْقَاضِي.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ رَبِيعَةُ فَقَالَ: لَا يَحْكُمُ إِلَّا الْقَاضِي دُونَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ حُكْمِهِمَا
وَشُرُوطِهِ تَفْصِيلٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَتَأَوَّلَتْ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بَعْثُ حَكَمَيْنِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَتَعْيِينُ وَسَائِلِ الزَّجْرِ لِلظَّالِمِ مِنْهُمَا، كَقَطْعِ النَّفَقَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ مُدَّةً حَتَّى يَصْلُحَ حَالُهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ التَّطْلِيقُ إِلَّا بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ، فَيَصِيرَانِ وَكِيلَيْنِ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، فَيُرِيدُ أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ الَّذِي يُقِيمُهُ الْقَاضِي عَنِ الْغَائِبِ. وَهَذَا صَرْفٌ لِلَفْظِ الْحَكَمَيْنِ عَنْ ظَاهِرِهِ، فَهُوَ مِنَ التَّأْوِيلِ. وَالْبَاعِثُ عَلَى تَأْوِيلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ التَّطْلِيقَ بِيَدِ الزَّوْجِ، فَلَوْ رَأَى الْحَكَمَانِ التَّطْلِيقَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَارِهٌ كَانَ ذَلِكَ
(١٦٧)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا أَهْلَ الْكِتَابِ، أَيِ الْيَهُودَ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ الرَّادِّ عَلَى الْيَهُودِ مِنَ التَّحَاوُرِ الْمُتَقَدِّمِ. وَصَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَدِّ الْقَاصِرِ الَّذِي قِيَاسُ مُضَارِعِهِ يَصِدُّ- بِكَسْرِ الصَّادِ-، أَيْ أَعْرَضُوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. أَيِ الْإِسْلَامِ، أَوْ هُوَ مِنْ صَدَّ الْمُتَعَدِّي الَّذِي قِيَاسُ مُضَارِعِهِ- بِضَمِّ الصَّادِ-، أَيْ صَدُّوا النَّاسَ. وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِقَصْدِ التَّكْثِيرِ. فَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ يَتَعَرَّضُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْفِتْنَةِ، وَيُقَوُّونَ أَوْهَامَ الْمُشْرِكِينَ بِتَكْذِيبِهِمُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا الْمُشْرِكِينَ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقِ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْقُرْآنِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، انْتَقَلَ إِلَيْهِ بِمُنَاسَبَةِ الْخَوْضِ فِي مُنَاوَاةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْإِسْلَامِ. وَصَدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ مَشْهُورٌ.
وَالضَّلَالُ الْكُفْرُ لِأَنَّهُ ضَيَاعٌ عَنِ الْإِيمَانِ، الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ، فَإِطْلَاقُ الضَّلَالِ عَلَى الْكُفْرِ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اسْتِعَارَةِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ لِلْإِيمَانِ. وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِالْبَعِيدِ مَعَ أَنَّ الْبُعْدَ مِنْ صِفَاتِ الْمَسَافَاتِ هُوَ اسْتِعَارَةُ الْبُعْدِ لِشِدَّةِ الضَّلَالِ وَكَمَالِهِ فِي نَوْعِهِ، بِحَيْثُ لَا يُدْرَكُ مِقْدَارُهُ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ: أَنْ يُشَبِّهُوا بُلُوغَ الْكَمَالِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَسَافَاتِ وَالنِّهَايَاتِ كَقَوْلِهِمْ: بَعِيدُ الْغَوْرِ، وَبَعِيدُ الْقَعْرِ، وَلَا نِهَايَةَ لَهُ، وَلَا غَايَةَ لَهُ، وَرَجُلٌ بَعِيدُ الْهِمَّةِ، وَبَعِيدُ الْمَرْمَى، وَلَا مُنْتَهَى لِكِبَارِهَا، وَبَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَقَوْلِهِمْ:
هَذَا إِغْرَاقٌ فِي كَذَا.
وَمِنْ بَدِيعِ مُنَاسَبَتِهِ هُنَا أَنَّ الضَّلَالَ الْحَقِيقِيَّ يَكُونُ فِي الْفَيَافِي وَالْمَوَامِي، فَإِذَا اشْتَدَّ التِّيهُ وَالضَّلَالُ بَعُدَ صَاحِبُهُ عَنِ الْمَعْمُورِ، فَكَانَ فِي وَصْفِهِ بِالْبَعِيدِ تَعَاهُدٌ لِلْحَقِيقَةِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ نقلا عرفيا.
الصَّيْدِ مَا هُوَ صَغِيرٌ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ أَقَلَّ مَا يُجْزِي مِنَ الْهَدْيِ مِنَ الْأَنْعَامِ وَبَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ قِيمَةَ مَا صَادَهُ طَعَامًا وَلَا يُعْطِي مِنْ صِغَارِ الْأَنْعَامِ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» : وَكُلُّ شَيْءٍ فُدِيَ فَفِي صِغَارِهِ مِثْلُ مَا يَكُونُ فِي كِبَارِهِ. وَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ مِثْلُ دِيَةِ الْحُرِّ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ: إِذَا كَانَ الصَّيْدُ صَغِيرًا كَانَ جَزَاؤُهُ مَا يُقَارِبُهُ مِنْ صِغَارِ الْأَنْعَامِ لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَضَى فِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ. قَالَ الْحَفِيدُ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ «بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ» : وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيِّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ اه.
وَأَقُولُ: لَمْ يَصِحَّ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ، فَأَمَّا مَا حَكَمَ بِهِ عُمَرُ فَلَعَلَّ مَالِكًا رَآهُ اجْتِهَادًا مِنْ عُمَرَ لَمْ يُوَافِقْهُ عَلَيْهِ لِظُهُورِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ. فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ، وَرَأَى فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْإِطْعَامِ سَعَةً، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الصَّيْدُ لَا مُمَاثِلَ لَهُ مِنْ صِغَارِ الْأَنْعَامِ كَالْجَرَادَةِ وَالْخُنْفُسَاءِ لَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى الْإِطْعَامِ، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ عِنْدَ كَوْنِ الصَّيْدِ أَصْغُرَ مِمَّا يماثله ممّا يجزىء فِي الْهَدَايَا. فَمِنَ الْعَجَبِ قَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ:
إِنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا. وَلَمْ أَدْرِ مَنْ يَعْنِيهِ مِنْ عُلَمَائِنَا فَإِنِّي لَا أَعْرِفُ لِلْمَالِكِيَّةِ مُخَالِفًا لِمَالِكٍ فِي هَذَا. وَالْقَوْلُ فِي الطَّيْرِ كَالْقَوْلِ فِي الصَّغِيرِ وَفِي الدَّوَابِّ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعَظِيمِ مِنَ الْحَيَوَانِ كَالْفِيلِ وَالزَّرَافَةِ فَيَرْجِعُ إِلَى الْإِطْعَامِ. وَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ هَذَا جَزَاءً وَجَعَلَهُ مُمَاثِلًا لِلْمَصِيدِ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ قَتْلُ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَجَبَ عَلَيْهِ جَزَاءٌ لِكُلِّ دَابَّةٍ قَتلهَا، خلافًا لداوود الظَّاهِرِيِّ، فَإِنَّ الشَّيْئَيْنِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ لَا يُمَاثِلُهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تُقْتَلُ أَشْيَاءُ مُخْتَلِفَةُ النَّوْعِ فَكَيْفَ يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ نَوْعٍ مُمَاثِلًا لِجَمِيعِ مَا قَتَلَهُ.
وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ بِإِضَافَة فَجَزاءٌ إِلَى مِثْلُ فَيكون فَجَزاءٌ مَصْدَرًا بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ، وَيَكُونُ مِثْلُ مَا قَتَلَ فَاعِلَ الْمَصْدَرِ أُضِيفَ إِلَيْهِ مَصْدَرُهُ. ومِنَ النَّعَمِ بَيَانُ الْمِثْلِ لَا لِ مَا قَتَلَ. وَالتَّقْدِيرُ: فَمِثْلُ مَا قَتَلَ من النعم يجزىء جَزَاءَ
وَجُمْلَةُ: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، لِأَنَّ التَّمْثِيلَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهَا يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ سُؤَالًا، أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْبَقَاءَ فِي هَذِهِ الضَّلَالَاتِ، وَكَيْفَ لَمْ يَشْعُرُوا بِالْبَوْنِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَإِذَا كَانُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ فِي غَفْلَةٍ عَنِ انْحِطَاطِ حَالِهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَكَيْفَ لَمَّا دَعَاهُمُ الْإِسْلَامُ إِلَى الْحَقِّ وَنَصَبَ لَهُمُ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ بَقَوْا فِي ضَلَالِهِمْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنْهُ وَهُمْ أَهْلُ عُقُولٍ وَفِطْنَةٍ فَكَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُبَيِّنَ لَهُ السَّبَبَ فِي دَوَامِهِمْ عَلَى الضَّلَالِ، وَهُوَ أَنَّ مَا عَمِلُوهُ كَانَ تُزَيِّنُهُ لَهُمُ الشَّيَاطِينُ، هَذَا التَّزْيِينَ الْعَجِيبَ، الَّذِي لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ تَقْرِيبَهُ لَمْ يَجِدْ ضَلَالًا مُزَيَّنًا أَوْضَحَ مِنْهُ وَأَعْجَبَ فَلَا يُشَبَّهُ ضَلَالُهُمْ إِلَّا بِنَفْسِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: (وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا).
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مُشَارٌ بِهِ إِلَى التَّزْيِينِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ زُيِّنَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ لِلْكَافِرِينَ الْعَجِيبِ كَيْدًا وَدِقَّةً زَيَّنَ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ أَعْمَالَهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣].
وَحُذِفَ فَاعِلُ التَّزْيِينِ فَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَجْهُولِ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وُقُوعُ التَّزْيِيِنِ لَا مَعْرِفَةُ مَنْ أَوْقَعَهُ. وَالْمُزَيِّنُ شَيَاطِينُهُمْ وَأَوْلِيَاؤُهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الْأَنْعَام: ١٣٧]، وَلِأَنَّ الشَّيَاطِينَ مِنَ الْإِنْسِ هُمُ الْمُبَاشِرُونَ لِلتَّزْيِينِ، وَشَيَاطِينُ الجنّ هم المسوّلون الْمُزَيِّنُونَ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ [الْأَنْعَام:
١٢١].
[١٢٣]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٢٣]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ
إِجَابَةً لِطِلْبَةِ إِبْلِيسَ، لِأَنَّهُ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يُجِيبَ لَهُ طَلَبًا، وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ: أَنْظَرْتُكَ أَوْ أَجَبْتُ لَكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَكْرِمَةٍ بِاسْتِجَابَةِ طَلَبِهِ، وَلَكِنَّهُ أَعْلَمَهُ أَنَّ مَا سَأَلَهُ أَمْرٌ حَاصِلٌ فَسُؤَالُهُ تَحْصِيل حَاصِل.
[١٦، ١٧]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)
الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الْأَعْرَاف: ١٣]- ثُمَّ قَوْلُهُ- إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [الْأَعْرَاف: ١٥].
فَقَدْ دَلَّ مَضْمُونُ ذَيْنِكَ الْكَلَامَيْنِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ مَقْدِرَةً عَلَى إِغْوَاءِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الْأَعْرَاف: ١٣] وَإِنَّهُ جَعَلَهُ بَاقِيًا مُتَصَرِّفًا بِقُوَاهُ الشِّرِّيرَةُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَأَحَسَّ إِبْلِيسُ أَنَّهُ سَيَكُونُ دَاعِيَةً إِلَى الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ، بِجِبِلَّةٍ قَلَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا قَلْبًا وَهُوَ مِنَ الْمَسْخِ النَّفْسَانِيِّ، وَإِنَّهُ فَاعِلٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ هُوَ ضَلَالٌ وَفَسَادٌ، فَصُدُورُ ذَلِكَ مِنْهُ كَصُدُورِ النَّهْشِ مِنَ الْحَيَّةِ، وَكَتَحَرُّكِ الْأَجْفَانِ عِنْدَ مُرُورِ شَيْءٍ عَلَى الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْعَيْنِ لَا يُرِيدُ تَحْرِيكَهُمَا.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي سَبَبِيَّةٌ وَهِيَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ لَأَقْعُدَنَّ، أَيْ أُقْسِمُ لَهُمْ حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ مِنِّي بِسَبَبِ إِغْوَائِكَ إِيَّايَ. وَاللَّامُ فِي لَأَقْعُدَنَّ لَامُ الْقَسَمِ: قَصْدُ تَأْكِيدِ حُصُولِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقِ الْعَزْمِ عَلَيْهِ.
وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْن فَالْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ بِ نَعَمْ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَحْذُوفَةٌ تَخْفِيفًا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَيْهَا أَيْضًا عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِأَنَّهُمْ وَثِقُوا بِحُصُولِ الْأَجْرِ لَهُمْ، حَتَّى صَيَّرُوهُ فِي حَيِّزِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ، وَيَكُونُ جَوَابُ فِرْعَوْنَ بِ نَعَمْ تَقْرِيرًا لِمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنهُ.
وتنكير لَأَجْراً تنكير تَعْظِيمٍ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْمَلِكِ وَعِظَمِ الْعَمَلِ، وَضَمِيرُ نَحْنُ تَأْكِيدٌ لِضَمِيرِ كُنَّا إِشْعَارًا بِجَدَارَتِهِمْ بِالْغَلَبِ، وَثِقَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالسِّحْرِ، فَأَكَّدُوا ضَمِيرَهُمْ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَدْلُولِهِ، وَلَيْسَ هُوَ بِضَمِيرِ فَصْلٍ إِذْ لَا يُقْصَدُ إِرَادَةُ الْقَصْرِ، لِأَنَّ إِخْبَارَهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْغَالِبِينَ يُغْنِي عَنِ الْقَصْرِ، إِذْ يَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمَغْلُوبَ فِي زَعْمِهِمْ هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَوْلُ فِرْعَوْنَ نَعَمْ إِجَابَةً عَمَّا استفهموا، أَو تَقْرِير لِمَا تَوَسَّمُوا: عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ لَنا لَأَجْراً آنِفًا، فَحَرْفُ (نَعَمْ) يُقَرِّرُ مَضْمُونَ الْكَلَامِ الَّذِي يُجَابُ بِهِ، فَهُوَ تَصْدِيقٌ بَعْدَ الْخَبَرِ، وَإِعْلَامٌ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ، بِحُصُولِ الْجَانِبِ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ،
وَالْمَعْنَيَانِ مُحْتَمَلَانِ هُنَا عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِمْ فَيَتَعَيَّنُ الْمَعْنَى الثَّانِي.
وَعَطْفُ جُمْلَةِ: إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ حَرْفُ الْجَوَابِ إِذِ التَّقْدِيرُ: نَعَمْ لَكُمْ أَجْرٌ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ عَطْفِ التَّلْقِينِ: لِأَنَّ التَّلْقِينَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي كَلَامَيْنِ مِنْ مُتَكَلِّمَيْنِ لَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ.
وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ: قالُوا يَا مُوسى لِوُقُوعِهَا فِي طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمُوسَى، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ الْمَجْمَعِ.
وإِمَّا حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى التَّرْدِيدِ بَيْنَ أَحَدِ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ، وَلَا عَمَلَ لَهُ وَلَا هُوَ مَعْمُولٌ، وَمَا بَعْدَهُ يَكُونُ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ الَّذِي فِي الْكَلَامِ. وَيَكُونُ (إِمَّا) بِمَنْزِلَةِ جُزْءِ كَلِمَةٍ مِثْلَ أَلِ الْمُعَرِّفَةِ، كَقَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا:

هُمَا خُطَّتَا إِمَّا إِسَارٍ وَمِنَّةٍ وَإِمَّا دَمٍ وَالْمَوْتُ بِالْحُرِّ أَجْدَرُ
وَقَوْلُهُ: أَنْ تُلْقِيَ وَقَوْلُهُ: أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ يَجُوزُ كَوْنُهُمَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ إِمَّا إِلْقَاؤُكَ مُقَدَّمٌ وَإِمَّا كَوْنُنَا مُلْقِينَ مُقَدَّمٌ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى
وأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً أَيْ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُضْمِرُهُ النَّاسُ وَمَا يَعْمَلُونَهُ وَيَعْلَمُ مَا يَنْطِقُونَ بِهِ فَهُوَ يُعَامِلُهُمْ بِمَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ. وَذِكْرُ صِفَةِ سَمِيعٌ قَبْلَ صِفَةِ عَلِيمٌ يُومِئُ إِلَى أَنَّ التَّغْيِيرَ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْمُعَرَّضُ بِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِأَقْوَالِهِمْ وَهُوَ دَعْوَتُهُمْ آلِهَةً غَيْرَ الله تَعَالَى.
[٥٤]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٥٤]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)
تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ وَالتَّسْمِيعِ، تَقْرِيرٌ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ، وَخُولِفَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ تَفَنُّنًا فِي الْأُسْلُوبِ، وَزِيَادَةً لِلْفَائِدَةِ، بِذِكْرِ التَّكْذِيبِ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ الْكُفْرِ هُنَاكَ، وَهُمَا سَبَبَانِ لِلْأَخْذِ وَالْإِهْلَاكِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا.
وَذِكْرُ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ هُنَا دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِزِيَادَةِ تَفْظِيعِ تَكْذِيبِهِمْ، لِأَنَّ الِاجْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ مَعَ مُلَاحَظَةِ كَوْنِهِ رَبًّا لِلْمُجْتَرِئِ، يَزِيدُ جَرَاءَتَهُ قُبْحًا لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّهَا جَرَاءَةٌ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ، لِأَنَّ الرَّبَّ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ.
وَعُبِّرَ بِالْإِهْلَاكِ عِوَضَ الْأَخْذِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ لِيُفَسِّرَ الْأَخْذَ بِأَنَّهُ آلَ إِلَى الْإِهْلَاكِ، وَزِيدَ
الْإِهْلَاكُ بَيَانًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ إِهْلَاكُ الْغَرَقِ.
وَتَنْوِينُ كُلٌّ لِلتَّعْوِيضِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: وَكُلُّ الْمَذْكُورِينَ، أَيْ آلُ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ من قبلهم.
[٥٥- ٥٧]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٥٥ إِلَى ٥٧]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتَقَلَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى عُمُومِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى ذِكْرِ كُفَّارٍ آخَرِينَ هُمُ الَّذِينَ بَيَّنَهُمْ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ الْآيَةَ. وَهَؤُلَاءِ عَاهَدُوا
وَطَرِيقُ تَبَيُّنِ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ إِمَّا الْوَحْيُ بِأَنْ نَهَاهُ اللَّهُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ، وَإِمَّا بَعْدَ أَنْ مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ.
وَالتَّبَرُّؤُ: تفعل من برىء مِنْ كَذَا إِذَا تَنَزَّهَ عَنْهُ، فَالتَّبَرُّؤُ مُبَالَغَةٌ فِي الْبَرَاءَةِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ اسْتِئْنَافُ ثَنَاءٍ على إِبْرَاهِيم. ولَأَوَّاهٌ فُسِّرَ بِمُعَانٍ تَرْجِعُ إِلَى الشَّفَقَةِ إِمَّا عَلَى النَّفْسِ فَتُفِيدُ الضَّرَاعَةَ إِلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْفَارَ، وَإِمَّا عَلَى النَّاسِ فَتُفِيدُ الرَّحْمَةَ بِهِمْ وَالدُّعَاءَ لَهُم.
وَلَفظ لَأَوَّاهٌ مِثَالُ مُبَالَغَةٍ: الَّذِي يُكْثِرُ قَوْلَ أَوَّهْ بِلُغَاتِهِ الثَلَاثَ عَشْرَةَ الَّتِي عَدَّهَا فِي «الْقَامُوسِ»، وَأَشْهَرُهَا أَوَّهْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَوَاوٍ مَفْتُوحَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَهَاءٍ سَاكِنَةٍ. قَالَ الْمُرَادِيُّ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» : وَهَذِهِ أَشْهَرُ لُغَاتِهَا. وَهِيَ اسْمُ فِعْلٍ مُضَارِعٍ بِمَعْنَى أَتَوَجَّعُ لِإِنْشَاءِ التَّوَجُّعِ، لَكِنَّ الْوَصْف ب لَأَوَّاهٌ كِنَايَةٌ عَنِ الرَّأْفَةِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ وَالتَّضَرُّعِ حِينَ يُوصَفُ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِهِ وَجَعٌ. وَالْفِعْلُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ (أَوَّاهٌ) حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ ثُلَاثِيًّا لِأَنَّ أَمْثِلَةَ الْمُبَالَغَةِ تُصَاغُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْتِعْمَالِ فِعْلٍ ثُلَاثِيٍّ لَهُ، فَأَثْبَتَهُ قُطْرُبٌ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ النُّحَاةِ.
وَإِتْبَاعُ (لَأَوَّاهٌ) بِوَصْفِ (حَلِيمٌ) هُنَا وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ قَرِينَةٌ عَلَى الْكِنَايَةِ وَإِيذَانٌ بِمُثَارِ التَّأَوُّهِ عِنْدَهُ.
وَالْحَلِيمُ: صَاحِبُ الْحِلْمِ. وَالْحِلْمُ- بِكَسْرِ الْحَاءِ-: صِفَةٌ فِي النَّفْسِ وَهِيَ رَجَاحَةُ الْعَقْلِ وَثَبَاتَةٌ وَرَصَانَةٌ وَتَبَاعُدٌ عَنِ الْعُدْوَانِ. فَهُوَ صِفَةٌ تَقْتَضِي هَذِهِ الْأُمُورَ، وَيَجْمَعُهَا عَدَمُ الْقَسْوَةِ. وَلَا تُنَافِي الِانْتِصَارَ لِلْحَقِّ لَكِنْ بِدُونَ تَجَاوُزٍ لِلْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ فِي الشَّرَائِعِ أَوْ عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ.
قَالَ:
جَزَمُوا بِتَكْذِيبِهِ فَقَدَّمُوا لِذَلِكَ مُقْدِمَاتٍ اسْتَخْلَصُوا مِنْهَا تَكْذِيبَهُ، وَتِلْكَ مُقْدِمَاتٌ بَاطِلَةٌ أَقَامُوهَا عَلَى مَا شَاعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُغَالَطَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي رَوَّجَهَا الْإِلْفُ وَالْعَادَةُ فَكَانُوا يُعِدِّونَ التَّفَاضُلَ بِالسُّؤْدُدِ وَهُوَ شَرَفٌ مُصْطَلَحٌ عَلَيْهِ قِوَامُهُ الشَّجَاعَةُ وَالْكَرَمُ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ أَسْبَابَ السُّؤْدُدِ أَسْبَابًا مَادِّيَّةً جَسَدِيَّةً، فَيُسَوِّدُونَ أَصْحَابَ الْأَجْسَامِ الْبَهِجَةِ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ لِأَنَّهُمْ بِبَسَاطَةِ مَدَارِكِهِمْ الْعَقْلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ حُسْنَ الذَّوَاتِ، وَيُسَوِّدُونَ أَهْلَ الْغِنَى لِأَنَّهُمْ يَطْمَعُونَ فِي نَوَالِهِمْ، وَيُسَوِّدُونَ الْأَبْطَالَ لِأَنَّهُمْ يُعِدُّونَهُمْ لِدِفَاعِ أَعْدَائِهِمْ. ثُمَّ هُمْ يَعْرِفُونَ أَصْحَابَ تِلْكَ الْخِلَالِ إِمَّا بِمُخَالَطَتِهِمْ وَإِمَّا بِمُخَالَطَةِ أَتْبَاعِهِمْ فَإِذَا تَسَامَعُوا بِسَيِّدِ قَوْمٍ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ تَعَرَّفُوا أَتْبَاعَهُ وَأَنْصَارَهُ، فَإِنْ كَانُوا مِنَ الْأَشْرَافِ وَالسَّادَةِ عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَا اتَّبَعُوهُ إِلَّا لَمَّا رَأَوْا فِيهِ مِنْ مُوجِبَاتِ السِّيَادَةِ وَهَذِهِ أَسْبَابٌ مُلَائِمَةٌ لِأَحْوَالِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ إِذْ لَا عِنَايَةَ لَهُمْ بِالْجَانِبِ النَّفْسَانِيِّ مِنَ الْهَيْكَلِ الْإِنْسَانِيِّ.
فَلَمَّا دَعَاهُمْ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَعْوَةً عَلِمُوا مِنْهَا أَنَّهُ يَقُودُهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ فَفَكَّرُوا وَقَدَّرُوا فَرَأَوُا الْأَسْبَابَ الْمَأْلُوفَةَ بَيْنَهُمْ لِلسُّؤْدُدِ مَفْقُودَةً مَنْ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فَجَزَمُوا بِأَنَّهُ غَيْرُ حَقِيقٍ بِالسِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ فَجَزَمُوا بِتَكْذِيبِهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الرِّسَالَةِ بِسِيَادَةٍ
لِلْأُمَّةِ وَقِيَادَةٍ لَهَا.
وَهَؤُلَاء لقصود عُقُولِهِمْ وَضَعْفِ مَدَارِكِهِمْ لَمْ يَبْلُغُوا إِدْرَاكَ أَسْبَابِ الْكَمَالِ الْحَقِّ، فَذَهَبُوا يَتَطَلَّبُونَ الْكَمَالَ مِنْ أَعْرَاضٍ تعرض للنَّاس بِالصَّدَقَةِ مِنْ سَعَةِ مَالٍ، أَوْ قُوَّةِ أَتْبَاعٍ، أَوْ عِزَّةِ قَبِيلَةٍ. وَتِلْكَ أَشْيَاءُ لَا يَطَّرِدُ أَثَرُهَا فِي جَلْبِ النَّفْعِ الْعَامِّ وَلَا إِشْعَارٍ لَهَا بِكَمَالِ صَاحِبِهَا إِذْ يُشَارِكُهُ فِيهَا أَقَلُّ النَّاسِ عُقُولًا، وَالْحَيَوَانُ الْأَعْجَمُ مِثْلُ الْبَقَرَةِ بِمَا فِي ضَرْعِهَا مِنْ لَبَنٍ، وَالشَّاةُ بِمَا عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ صُوفٍ، بَلْ غَالِبُ حَالِهَا أَنَّهَا بِضِدِّ ذَلِكَ.
وَرُبَّمَا تَطَلَّبُوا الْكَمَالَ فِي أَجْنَاسٍ غَيْرِ مَأْلُوفَةٍ كَالْجِنِّ، أَوْ زِيَادَةِ خِلْقَةٍ لَا أَثَرَ لَهَا فِي عَمَلِ الْمُتَّصِفِ بِهَا مِثْلِ جَمَالِ الصُّورَةِ وَكَمَالِ الْقَامَةِ، وَتِلْكَ وَإِنْ كَانَتْ مُلَازِمَةً لِمَوْصُوفَاتِهَا لَكِنَّهَا لَا تُفِيدُهُمْ أَنْ يَكُونُوا مَصَادِرَ كَمَالَاتٍ،
وَفِي خِطَابِهِمْ بِوَصْفِ الْبُنُوَّةِ مِنْهُ تَرْقِيقٌ لَهُمْ وَتَلَطُّفٌ لِيَكُونَ أَبْعَثَ عَلَى الِامْتِثَالِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْيَأْسِ، فَمَوْقِعُ إِنَّ التَّعْلِيلُ. وَالْمَعْنَى: لَا تَيْأَسُوا مِنَ الظَّفَرِ بِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُعْتَلِّينَ بِطُولِ
مُدَّةِ الْبُعْدِ الَّتِي يَبْعُدُ مَعَهَا اللِّقَاءُ عَادَةً. فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا شَاءَ تَفْرِيجَ كُرْبَةٍ هَيَّأَ لَهَا أَسْبَابَهَا، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاسِعُ الْقُدْرَةِ لَا يُحِيلُ مِثْلَ ذَلِكَ فَحَقُّهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي سَبَبِهِ وَيَعْتَمِدَ عَلَى اللَّهِ فِي تَيْسِيرِهِ، وَأَمَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ فَهُمْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْأُمُورِ الْغَالِبَةِ فِي الْعَادَةِ وَيُنْكِرُونَ غَيْرَهَا.
وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ بِخُلْفٍ عَنْهُ وَلَا تَأْيَسُوا- وَإنَّهُ لَا يَأْيَسُ بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْيَاءِ الثَّانِيَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ [سُورَة يُوسُف: ٨٠].
[٨٨]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ٨٨]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨)
الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى كَلَامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ فَارْتَحَلُوا إِلَى مِصْرَ بِقَصْدِ اسْتِطْلَاقِ بِنْيَامِينَ مِنْ عَزِيزِ مِصْرَ ثُمَّ بِالتَّعَرُّضِ إِلَى التَّحَسُّسِ مِنْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَوَصَلُوا مِصْرَ، فَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ إِلَخْ... وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا وَجْهُ دُعَائِهِمْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِوَصْفِ الْعَزِيزِ.
وَأَرَادُوا بِمَسِّ الضُّرِّ إِصَابَتَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ إِطْلَاقُ مَسِّ الضُّرِّ عَلَى الْإِصَابَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٧].
وَالْبِضَاعَةُ تَقَدَّمَتْ آنِفًا. وَالْمُزْجَاةُ: الْقَلِيلَةُ الَّتِي لَا يُرْغَبُ فِيهَا فَكَأَنَّ صَاحِبَهَا يُزْجِيهَا، أَي يَدْفَعهَا بكفة لِيَقْبَلَهَا الْمَدْفُوعَةُ إِلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِهَا مَالٌ
وَقَوْلُهُ هُنَا أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٤] وَاسْتَكْبَرَ، لِأَنَّهُ أَبَى أَنَّ يَسْجُدَ وَأَنْ يُسَاوِيَ الْمَلَائِكَةَ فِي الرِّضَى بِالسُّجُودِ. فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ عَصَى وَأَنَّهُ تَرَفَّعَ عَنْ مُتَابَعَةِ غَيْرِهِ.
وَجُمْلَةُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ. وَمَعْنَاهُ أَيُّ شَيْءٍ ثَبَتَ لَكَ، أَيْ مُتَمَكِّنًا مِنْكَ، لِأَنَّ اللَّامَ تُفِيدُ الْمِلْكَ. وأَلَّا تَكُونَ مَعْمُولٌ لِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ (فِي). وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مُطَّرِدٌ مَعَ (أَنْ). وَحَرْفُ (أَنْ) يُفِيدُ الْمَصْدَرِيَّةَ. فَالتَّقْدِيرُ فِي انْتِفَاءِ كَوْنِكَ مِنَ السَّاجِدِينَ.
وَقَوْلُهُ: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ جُحُودٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَشَدُّ فِي النَّفْيِ مِنْ (لَا أَسْجُدُ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ فِي آخر الْعُقُود [الْمَائِدَة: ١١٦].
وَقَوْلُهُ: لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ تَأْيِيدٌ لِإِبَايَتِهِ مِنَ السُّجُودِ بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنْ ذَلِكَ الطِّينِ حَقِيرٌ ذَمِيمٌ لَا يَسْتَأْهِلُ السُّجُودَ. وَهَذَا ضَلَالٌ نَشَأَ عَنْ تَحْكِيمِ الْأَوْهَامِ بِإِعْطَاءِ الشَّيْءِ حُكْمَ وَقْعِهِ فِي الْحَاسَّةِ الْوَهْمِيَّةِ دُونَ وَقْعِهِ فِي الْحَاسَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَإِعْطَاءُ حُكْمٍ مَا مِنْهُ التَّكْوِينُ لِلشَّيْءِ الْكَائِنِ. فَشَتَّانَ بَيْنَ ذِكْرِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ:
إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَبَيْنَ مَقْصِدِ الشَّيْطَانِ مِنْ حِكَايَةِ ذَلِكَ فِي تَعْلِيلِ امْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِلْمَخْلُوقِ مِنْهُ بِإِعَادَةِ اللَّهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي وَصَفَ بِهَا الْمَلَائِكَةَ. وَزَادَ فَقَالَ مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي سُورَةِ ص [٧٦] إِذْ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ
طِينٍ
وَلَمْ يُحْكَ عَنْهُ هُنَا.
وَبِمَجْمُوعِ مَا حُكِيَ عَنْهُ هُنَا وَهُنَاكَ كَانَ إِبْلِيسُ مُصَرِّحًا بِتَخْطِئَةِ الْخَالِقِ، كَافِرًا بِصِفَاتِهِ، فَاسْتَحَقَّ الطَّرْدَ مِنْ عَالَمِ الْقُدُسِ. وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي سُورَةِ ص.
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ أَمْرِهِ بِالْخُرُوجِ بِالْفَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ تَفَرَّعَ عَلَى جَوَابِهِ الْمُنْبِئِ عَنْ كَفْرِهِ وَعَدَمِ تَأَهُّلِهِ لِلْبَقَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ.
الرُّسُلِ وَبِمَا خَلَقَ فِي النَّاسِ مِنْ إِدْرَاكِ الْعُقُولِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا فَصَّلَهُ لِلنَّاسِ الْإِرْشَاد إِلَى التَّوْحِيدِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْإِنْذَارِ عَلَى الْعِصْيَانِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ.
وَانْتَصَبَ كُلَّ شَيْءٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ فَصَّلْناهُ لِاشْتِغَالِ الْمَذْكُورِ بِضَمِيرِ مفعول الْمَحْذُوف.
[١٣، ١٤]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٤]
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤)
لَمَّا كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ جَارِيًا فِي طَرِيقِ التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْكُفْرِ وَالسَّيِّئَاتِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: عَذاباً أَلِيماً [الْإِسْرَاء: ٩- ١٠] وَمَا عَقَّبَهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ وَمَا أُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ التَّذْكِيرِ ثَمَّ بِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ تَفْصِيلًا، وَكَانَ أَهَمُّ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِالْأَعْمَالِ كُلِّهَا، فَأَعْقَبَ ذِكْرَ مَا فَصَّلَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى تَفْصِيلِ أَعْمَالِ النَّاسِ تَفْصِيلًا لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَلَا الْإِخْفَاءَ وَهُوَ التَّفْصِيلُ الْمُشَابِهُ لِلتَّقْيِيدِ بِالْكِتَابَةِ، فَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَكُلَّ إِنسانٍ إِلَخْ عَلَى قَوْلِهِ: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [الْإِسْرَاء: ١٢] عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَاصِّ. وَالْمَعْنَى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ قَدَّرْنَا لَهُ عمله فِي علمنَا فَهُوَ عَامِلٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا.
وَالطَّائِرُ: أُطْلِقَ عَلَى السَّهْمِ، أَوِ الْقِرْطَاسِ الَّذِي يُعَيَّنُ فِيهِ صَاحِبُ الْحَظِّ فِي عَطَاءٍ أَوْ قُرْعَةٍ لِقِسْمَةٍ أَوْ أَعْشَارِ جَزُورِ الْمَيْسِرِ، يُقَالُ: اقْتَسَمُوا الْأَرْضَ فَطَارَ لِفُلَانٍ كَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ: «اقْتَسَمَ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ... » وَذَكَرَتْ قِصَّةَ وَفَاتِهِ.
بِمَعْنَى: أَتُحِبُّونَ أَنْ نُنَبِّئَكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، وَهُوَ عَرْضُ تَهَكُّمٍ لِأَنَّهُ مُنْبِئُهُمْ بِذَلِكَ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَاهُمْ.
وَفِي قَوْلِهِ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا إِلَى آخِرِهِ... تَمْلِيحٌ إِذْ عَدَلَ فِيهِ عَنْ طَرِيقِةِ الْخِطَابِ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِأَنَّكُمُ الْأَخْسَرُونَ أَعْمَالًا، إِلَى طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ بِحَيْثُ يَسْتَشْرِفُونَ إِلَى مَعْرِفَةِ هَؤُلَاءِ الْأَخْسَرِينَ فَمَا يُرَوِّعُهُمْ إِلَّا أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْهُمْ هُمْ أَنْفُسُهُمْ.
وَالْمَقُولُ لَهُمْ: الْمُشْرِكُونَ، تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا غَفَلُوا عَنْهُ مِنْ خَيْبَةِ سَعْيِهِمْ.
وَنُونُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ فِي قَوْلِهِ نُنَبِّئُكُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نُونُ الْعَظَمَةِ رَاجِعَةً إِلَى ذَاتِ اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ فِي الْحِكَايَةِ. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: هَلْ يُنَبِّئُكُمُ اللَّهُ، أَيْ سَيُنَبِّئُكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ رَاجِعَةً إِلَى الرَّسُول صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم وَإِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَاجِعَةً لِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ بدل من بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا وَفِي هَذَا الْإِطْنَابِ زِيَادَةُ التَّشْوِيقِ إِلَى مَعْرِفَةِ هَؤُلَاءِ الْأَخْسَرِينَ حَيْثُ أَجْرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَوْصَافِ مَا يَزِيدُ السَّامِعَ حِرْصًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ وَالْأَحْوَالِ.
وَالضَّلَالُ: خَطَأُ السَّبِيلِ. شَبَّهَ سَعْيَهُمْ غَيْرَ الْمُثْمِرِ بِالسَّيْرِ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ مُوَصِّلَةٍ.
وَالسَّعْيُ: الْمَشْيُ فِي شِدَّةٍ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [١٩]، أَيْ عَمِلُوا
وَالسُّؤَالُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُحَاسَبَةِ، وَطَلَبِ بَيَانِ سَبَبِ الْفِعْلِ، وَإِبْدَاءِ الْمَعْذِرَةِ عَنْ فِعْلِ بَعْضِ مَا يُفْعَلُ، وَتَخَلُّصٍ مِنْ مَلَامٍ أَوْ عِتَابٍ عَلَى مَا يُفْعَلُ. وَهُوَ مِثْلُ السُّؤَالِ
فِي الْحَدِيثِ «كُلُّكُمْ رَاع وكلكم مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ»
. فَكَوْنُهُمْ يُسْأَلُونَ كِنَايَةً عَنِ الْعُبُودِيَّةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِمَظِنَّةِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى مَا يُفْعَلُ وَمَا لَا يفعل وبمظنة التَّعَرُّض لِلْخَطَأِ فِي بَعْضِ مَا يُفْعَلُ.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا نَفْيَ سُؤَالِ الِاسْتِشَارَةِ أَوْ تَطَلُّبِ الْعِلْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي [الْبَقَرَةِ: ٣٠]، وَلَا سُؤَالَ الدُّعَاءِ، وَلَا سُؤَالَ الِاسْتِفَادَةِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِثْلَ أَسْئِلَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ أَوِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنِ الْحِكَمِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ فِي النُّظُمِ الْكَوْنِيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِنْبَاطٌ وَتَتَبُّعٌ وَلَيْسَ مُبَاشَرَةً بِسُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا لِتَطُلُّبِ
مُخَلِّصٍ مِنْ مَلَامٍ. وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِإِلَهِيَّةِ الْمُقَرَّبِينَ الَّتِي زَعَمَهَا الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَزَعَمُوهُمْ بَنَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، بِطَرِيقَةِ انْتِفَاءِ خَاصِّيَّةِ الْإِلَهِ الْحَقِّ عَنْهُمْ إِذْ هُمْ يُسْأَلُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ وَشَأْنُ الْإِلَهِ أَنْ لَا يُسْأَلَ. وَتُسْتَخْرَجُ مِنْ جملَة لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ كِنَايَةٌ عَنْ جَرَيَانِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ بِحَيْثُ إِنَّهَا لَا مَجَالَ فِيهَا لِانْتِقَادِ مُنْتَقِدٍ إِذَا أَتْقَنَ النَّاظِرُ التَّدَبُّرَ فِيهَا أَوْ كُشِفَ لَهُ عَمَّا خَفِي مِنْهَا.
[٢٤]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٢٤]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤)
جُمْلَةُ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ [الْأَنْبِيَاء:
٢١]. أُكِّدَ ذَلِكَ الْإِضْرَابُ الِانْتِقَالِيُّ بِمِثْلِهِ اسْتِعْظَامًا
وَفُرِّعَ عَلَى الْأَمْرِ بِصُنْعِ الْفُلْكِ تَفْصِيلُ مَا يَفْعَلُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْفُلْكِ فَوُقِّتَ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ بِوَقْتِ الِاضْطِرَارِ إِلَى إِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحَيَوَانِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى فارَ التَّنُّورُ وَمَعْنَى زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فِي سُورَةِ هُودٍ [٤٠].
وَالزَّوْجُ: اسْمٌ لِكُلِّ شَيْءٍ لَهُ شَيْءٌ آخَرُ مُتَّصِلٌ بِهِ بِحَيْثُ يَجْعَلُهُ شَفْعًا فِي حَالَةٍ مَا.
وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَإِنَّمَا عُبِّرَ هُنَالِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْنَا احْمِلْ فِيها [هود: ٤٠] وَهُنَا بِقَوْلِهِ: فَاسْلُكْ فِيها لِأَنَّ آيَةَ سُورَةِ هُودٍ حَكَتْ مَا خَاطَبَهُ اللَّهُ بِهِ عِنْدَ حُدُوثِ الطُّوفَانِ وَذَلِكَ وَقْتٌ ضَيِّقٌ فَأُمِرَ بِأَنْ يَحْمِلَ فِي السَّفِينَةِ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ إِبْقَاءَهُمْ، فَأُسْنِدَ الْحَمْلُ إِلَى نُوحٍ تَمْثِيلًا لِلْإِسْرَاعِ بِإِرْكَابِ مَا عُيِّنَ لَهُ فِي السَّفِينَةِ حَتَّى كَأَنَّ حَالَهُ فِي إِدْخَالِهِ إِيَّاهُمْ حَالُ مَنْ يَحْمِلُ شَيْئًا لِيَضَعَهُ فِي مَوْضِعٍ، وَآيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ حَكَتْ مَا خَاطَبَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ قَبْلِ حُدُوثِ الطُّوفَانِ إِنْبَاءً بِمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَ حُدُوثِ الطُّوفَانِ فَأَمَرَهُ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُدْخِلُ فِي السَّفِينَةِ مَنْ عَيَّنَ اللَّهُ إِدْخَالَهُمْ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّة.
وَمعنى فَاسْلُكْ أَدْخِلْ، وَفِعْلُ (سَلَكَ) يَكُونُ قَاصِرًا بِمَعْنَى دَخَلَ وَمُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى أَدْخَلَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: ٤٢]. وَقَوْلُ الْأَعْشَى:
كَمَا سَلَكَ السَّكِّيَّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٣٧].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ بِإِضَافَةِ كُلٍّ إِلَى زَوْجَيْنِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِالتَّنْوِينِ كُلٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ زَوْجَيْنِ مَفْعُولَ فَاسْلُكْ، وَتَنْوِينُ كُلٍّ تَنْوِينُ عِوَضٍ يُشْعِرُ بِمَحْذُوفٍ أُضِيفَ إِلَيْهِ كُلٍّ. وَتَقْدِيرُهُ: مِنْ كُلِّ مَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَحْمِلَهُ فِي السَّفِينَة.
اللِّبَاسِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بِهِ عَنِ النَّهَارِ حَقِيقِيًّا، وَالْمِنَّةُ فِي أَنَّ النَّهَارَ يَنْتَشِرُ فِيهِ النَّاسُ لِحَوَائِجِهِمْ وَاكْتِسَابِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ بَعْثُ الْأَجْسَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيه البليغ.
[٤٨- ٥٠]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٤٨ إِلَى ٥٠]
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠)
اسْتِدْلَالٌ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ وَامْتِنَانٌ بِتَكْوِينِ الرِّيَاحِ وَالْأَسْحِبَةِ وَالْمَطَرِ. وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنْ حَيْثُ مَا فِي الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ حَالِ النُّشُورِ وَالِامْتِنَانِ بِهِ فَانْتَقَلَ إِلَى مَا فِي الرِّيَاحِ مِنَ النُّشُورِ بِذِكْرِ وَصْفِهَا بِأَنَّهَا نُشُرٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، أَوْ لِكَوْنِهَا كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ. وَمَرْدُودُ الِاسْتِدْلَالِ قَصْرُ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِبْطَالًا لِادِّعَاءِ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِنَفْيِ الشَّرِكَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَاتِ وَذَلِكَ مَا لَا يُنْكِرُهُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً [الْفرْقَان: ٤٧] إِلَخْ..
وَأُطْلِقَ عَلَى تَكْوِينِ الرِّيَاحِ فِعْلُ أَرْسَلَ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي بَعْثِ شَيْءٍ وَتَوْجِيهِهِ، لِأَنَّ حَرَكَةَ الرِّيَاحِ تُشْبِهُ السَّيْرَ. وَقَدْ شَاعَ اسْتِعْمَالُ الْإِرْسَالِ فِي إِطْلَاقِ الْعَنَانِ لِخَيْلِ السباق.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَال بدقيق صنع اللَّهِ فِي تَكْوِينِ الرِّيَاحِ، فَالْعَامَّةُ يَعْتَبِرُونَ بِمَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ
مُشَاهَدَتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَالْخَاصَّةُ يُدْرِكُونَ كَيْفِيَّةَ حُدُوثِ الرِّيَاحِ وَهُبُوبِهَا واختلافها، وَذَلِكَ ناشىء عَنِ الْتِقَاءِ حَرَارَةِ جَانِبٍ مِنَ الْجَوِّ بِبُرُودَةِ جَانِبٍ آخَرَ. ثُمَّ إِنَّ الرِّيَاحَ بِهُبُوبِهَا حَارَّةً مَرَّةً وَبَارِدَةً أُخْرَى تُكَوِّنُ الْأَسْحِبَةَ وَتُؤْذِنُ بِالْمَطَرِ فَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِأَنَّهَا نُشُرٌ بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَرْسَلَ الرِّياحَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ الرِّيحَ
وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٣] وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِكَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ لِإِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ وَهُوَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨]، وَذَلِكَ هُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ. وَأَمَّا النَّفْخَةُ الْأُولَى فَهِيَ نَفْخَةٌ يَعْنِي بِهَا الْإِحْيَاءَ، أَيْ نَفْخَ الْأَرْوَاحِ فِي أَجْسَامِهَا وَهِيَ سَاعَةُ انْقِضَاءِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهُمْ يُصْعَقُونَ، وَلِهَذَا فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ عَقِبَهُ حُصُولُ الْفَزَعِ وَهُوَ الْخَوْفُ مِنْ عَاقِبَةِ الْحِسَابِ وَمُشَاهَدَةِ مُعَدَّاتِ الْعَذَابِ، فَكُلُّ أَحَدٍ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مُعَذَّبًا، فَالْفَزَعُ حَاصِلٌ مِمَّا بَعْدَ النَّفْخَةِ وَلَيْسَ هُوَ فَزَعًا مِنَ النَّفْخَةِ لِأَنَّ النَّاسَ حِينَ النَّفْخَةِ أَمْوَاتٌ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النَّمْل: ٨٩] وَقَوْلُهُ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى إِلَى قَوْلِهِ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الْأَنْبِيَاء: ١٠١- ١٠٣] وَذَلِكَ بِأَنْ يُبَادِرَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ. قَالَ تَعَالَى وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٣] وَقَالَ هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
[يُونُس: ٦٤].
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ فَفَزِعَ مَعَ أَنَّ النفخ مُسْتَقْبل، للإشعار بِتَحَقُّقِ الْفَزَعِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ كَقَوْلِهِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١] لِأَنَّ الْمُضِيَّ يَسْتَلْزِمُ التَّحَقُّقَ فَصِيغَةُ الْمَاضِي كِنَايَةٌ عَنِ التَّحَقُّقِ، وَقَرِينَةُ الِاسْتِقْبَالِ ظَاهِرَةٌ مِنَ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ يُنْفَخُ.
وَالدَّاخِرُونَ: الصَّاغِرُونَ. أَيِ الْأَذِلَّاءُ، يُقَالُ: دَخَرَ بِوَزْنِ مَنَعَ وَفَرِحَ وَالْمَصْدَرُ الدَّخَرُ بِالتَّحْرِيكِ وَالدُّخُورُ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ الظَّاهِرُ فِي آتَوْهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالْإِتْيَانُ إِلَى اللَّهِ الْإِحْضَارُ فِي مَكَانِ قَضَائِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ على تَقْدِير: ءاتون فِيهِ وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ (كُلٌّ) الْمُعَوَّضُ عَنْهُ التَّنْوِينُ، تَقْدِيرُهُ: مَنْ فَزِعَ مِمَّن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ آتُوهُ دَاخِرِينَ. وَأَمَّا مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ بِأَنَّهُ شَاءَ أَنْ لَا يَفْزَعُوا فَهُمْ لَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ آتَوْهُ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ أَتَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ
فَهَذَا يَرَوْنَهُ مَنْسُوخًا بِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْقِمَارِ نَهْيًا مُطْلَقًا لَمْ يُقَيَّدْ بِغَيْرِ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُرَاهَنَةَ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ جَرَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ إِذْ لَمْ يَكُنْ شَرْعٌ بِمَكَّةَ أَيَّامَئِذٍ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى إِبَاحَةِ الْمُرَاهِنَةِ وَأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُرَاهَنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ تَشْرِيعٌ أُنُفٌ وَلَيْسَ مِنَ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ.
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ أَمْرُ التَّقْدِيرِ وَالتَّكْوِينِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْغَلَبَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ قَبْلَ أَنْ يَقَعَا، أَيْ مِنْ قَبْلِ غَلَبِ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ وَهُوَ الْمُدَّةُ الَّتِي مِنْ يَوْمِ غَلَبِ الْفُرْسِ عَلَيْهِمْ وَمِنْ بَعْدِ غَلَبِ الرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ. فَهُنَالِكَ مُضَافَانِ إِلَيْهِمَا مَحْذُوفَانِ. فَبُنِيَتْ قَبْلُ وبَعْدُ عَلَى الضَّمِّ لِحَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِافْتِقَارِ مَعْنَاهُمَا إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافَيْنِ إِلَيْهِمَا فَأَشْبَهَتَا الْحَرْفَ فِي افْتِقَارِ مَعْنَاهُ إِلَى الِاتِّصَالِ بِغَيْرِهِ. وَهَذَا الْبِنَاءُ هُوَ الْأَفْصَحُ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِذَا حُذِفَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ وبَعْدُ وَقُدِّرَ لِوُجُودِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تُقْصَدُ إِضَافَتُهُمَا بَلْ أُرِيدَ بِهِمَا الزَّمَنُ السَّابِقُ وَالزَّمَنُ اللَّاحِقُ فَإِنَّهُمَا يُعْرَبَانِ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ النَّكِرَاتِ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْرُبَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَوْ يَزِيدُ بْنُ الصَّعْقِ:
حَلِيمٌ إِذَا مَا الْحِلْمُ زَيَّنَ أَهْلَهُ مَعَ الْحِلْمِ فِي عَيْنِ الْعَدو مهيب
فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلًا أَكَادُ أَغَصُّ بِالْمَاءِ الْحَمِيمِ
أَيْ وَكُنْتُ فِي زَمَنٍ سَبَقَ لَا يَقْصِدُ تَعْيِينَهُ، وَجَوَّزَ الْفَرَّاءُ فِيهِمَا مَعَ حَذْفِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَنْ تَبْقَى فِيهِمَا حَرَكَةُ الْإِعْرَابِ بِدُونِ تَنْوِينٍ، وَدَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ هِشَامٍ وَأَنْكَرَهُ الزَّجَاجُ وَجَعَلَ مِنَ الْخَطَإِ رِوَايَةَ قَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ:
وَمِنْ قَبْلِ نَادَى كُلُّ مَوْلًى قَرَابَةً فَمَا عَطَفَتْ مَوْلًى عَلَيْهِ الْعَوَاطِفُ
بِكَسْرِ لَامِ «قَبْلِ» رَادًّا قَوْلَ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ رُوِيَ بِكَسْرٍ دُونَ تَنْوِينٍ يُرِيدُ الزَّجَاجُ، أَيِ الْوَاجِبُ أَنْ يُرْوَى بِالضَّمِّ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ الْأَمْرُ لِإِبْطَالِ تَطَاوُلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَهَجَهُمْ غَلَبُ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّهُمْ عَبَدَةُ أَصْنَامٍ مِثْلَهُمْ لِاسْتِلْزَامِهِ الِاعْتِقَادَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْغَلَبَ مِنْ نَصْرِ الْأَصْنَامِ عُبَّادَهَا، فَبَيَّنَ لَهُمْ بُطْلَانَ ذَلِكَ وَأَنَّ التَّصَرُّفَ لِلَّهِ وَحْدَهُ فِي
الْبَابِيَّةُ وَالْبَهَائِيَّةُ وَهُمَا نِحْلَتَانِ مُشْتَقَّةٌ ثَانِيَتُهُمَا مِنَ الْأُولَى. وَكَانَ ظُهُورُ الْفِرْقَةِ الْأُولَى فِي بِلَادِ فَارِسَ فِي حُدُودِ سَنَةِ مِائَتَيْنِ وَأَلْفٍ وَتَسَرَّبَتْ إِلَى الْعِرَاقِ وَكَانَ الْقَائِمُ بِهَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ شِيرَازٍ يَدْعُوهُ أَتْبَاعُهُ السَّيِّدَ عَلِي مُحَمَّد، كَذَا اشْتُهِرَ اسْمُهُ، كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مِنْ غُلَاةِ الشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّةِ. أَخَذَ عَنْ رَجُلٍ
مِنَ الْمُتَصَوِّفِينَ اسْمُهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ زَيْنُ الدِّينِ الْأَحْسَائِيُّ الَّذِي كَانَ يَنْتَحِلُ التَّصَوُّفَ بِالطَّرِيقَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُتَلَقَّاةُ عَنِ الْحَلَّاجِ. وَكَانَتْ طَرِيقَتُهُ تُعْرَفُ بِالشَّيْخِيَّةِ، وَلَمَّا أَظْهَرَ نِحْلَتَهُ عَلِيُّ مُحَمَّد هَذَا لَقَّبَ نَفْسَهُ بَابَ الْعِلْمِ فَغَلَبَ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَابِ. وَعُرِفَتْ نِحْلَتُهُ بِالْبَابِيَّةِ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ النُّبُوءَةَ وَزَعَمَ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِكِتَابٍ اسْمُهُ «الْبَيَانُ» وَأَنَّ الْقُرْآنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرَّحْمَن: ٣- ٤].
وَكِتَابُ «الْبَيَانِ» مُؤَلَّفٌ بِالْعَرَبِيَّةِ الضَّعِيفَةِ وَمَخْلُوطٌ بِالْفَارِسِيَّةِ. وَقَدْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فَقتل سَنَةَ ١٢٦٦ فِي تَبْرِيزَ.
وَأَمَّا الْبَهَائِيَّةُ فَهِيَ شُعْبَة بن الْبَابِيَّةِ تُنْسَبُ إِلَى مُؤَسِّسِهَا الْمُلَقَّبِ بِبَهَاءِ اللَّهِ وَاسْمُهُ مِيرْزَا حُسَيْن عَلَي مِنْ أَهْلِ طَهْرَانَ تَتَلْمَذَ لِلْبَابِ بِالْمُكَاتَبَةِ وَأَخْرَجَتْهُ حُكُومَةُ شَاهِ الْعَجَمِ إِلَى بَغْدَادٍ بَعْدَ قَتْلِ الْبَابِ. ثُمَّ نَقَلَتْهُ الدَّوْلَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ مِنْ بَغْدَادٍ إِلَى أَدِرْنَةَ ثُمَّ إِلَى عَكَّا، وَفِيهَا ظَهَرَتْ نِحْلَتُهُ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ نُبُوءَةَ الْبَابِ وَقَدِ الْتَفَّ حَوْلَهُ أَصْحَابُ نِحْلَةِ الْبَابِيَّةِ وَجَعَلُوهُ خَلِيفَةَ الْبَابِ فَقَامَ اسْمُ الْبَهَائِيَّةِ مَقَامَ اسْمُ الْبَابِيَّةِ فَالْبَهَائِيَّةُ هُمُ الْبَابِيَّةُ. وَقَدْ كَانَ الْبَهَاءُ بَنَى بِنَاءً فِي جَبَلِ الْكَرْمَلِ لِيَجْعَلَهُ مَدْفَنًا لِرُفَاتِ (الْبَابِ) وَآلَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ سَجَنَتْهُ السَّلْطَنَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ فِي سِجْنِ عَكَّا فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ سَبْعَ سَنَوَاتٍ وَلَمْ يُطْلَقْ مِنَ السجْن إِلَّا عِنْد مَا أُعْلِنَ الدُّسْتُورُ التُّرْكِيُّ فَكَانَ فِي عِدَادِ الْمَسَاجِينِ السِّيَاسِيِّينَ الَّذِينَ أُطْلِقُوا يَوْمَئِذٍ فَرَحَلَ منتقلا فِي أوروبا وأَمِيرِكَا مُدَّةَ عَامَيْنِ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَيْفَا فَاسْتَقَرَّ بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَنَةَ ١٣٤٠ وَبَعْدَ مَوْتِهِ نَشَأَ شِقَاقٌ بَيْنَ أَبْنَائِهِ وَإِخْوَتِهِ فَتَفَرَّقُوا فِي الزِّعَامَةِ وَتَضَاءَلَتْ نِحْلَتُهُمْ.
فَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُتَّبِعًا لِلْبَهَائِيَّةِ أَوِ الْبَابِيَّةِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْإِسْلَامِ مُرْتَدٌّ عَنْ دِينِهِ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ. وَلَا يَرِثُ مُسْلِمًا وَيَرِثُهُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَنْفَعُهُمْ قَوْلُهُمْ: إِنَّا مُسْلِمُونَ وَلَا نُطْقُهُمْ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الرِّسَالَةَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا بِمَجِيءِ رَسُولٍ مِنْ بَعْدِهِ. وَنَحْنُ كَفَّرْنَا الْغُرَابِيَّةَ مِنَ الشِّيعَةِ

[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٦٠ إِلَى ٦٢]

أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)
إِقْبَالٌ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ الَّذِينَ جَمَعَهُمُ الْمَحْشَرُ غَيْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ عُجِّلُوا إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَشْمَلُ هَذَا جَمِيعَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ مِنْ مُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَعَلَّهُ شَامِلٌ لِأَهْلِ الْأَعْرَافِ، وَهُوَ إِشْهَادٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَخُوطِبُوا بِعُنْوَانِ بَنِي آدَمَ لِأَنَّ مَقَامَ التَّوْبِيخِ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الشَّيْطَانَ يَقْتَضِي تَذْكِيرَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّيْطَانُ عَدُوًّا لَهُ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
لَئِنْ كَانَ لِلْقَبْرَيْنِ قَبْرٍ بجلق وقبر بصيدا الَّذِي عِنْدَ حَارِبِ
وَلِلْحَارِثِ الْجَفْنِيِّ سيد قومه ليلتمس بِالْجَيْشِ دَارَ الْمُحَارِبِ
يَعْنِي بِلَادَ مَنْ حَارَبَ أُصُولَهُ.
وَالْعَهْدُ: الْوِصَايَةُ، ووصاية الله بني آدَمُ بِأَلَّا يَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ هِيَ مَا تَقَرِّرَ وَاشْتَهِرَ فِي الْأُمَمِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ فِي الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ فَلَا يَسَعُ إِنْكَارُهُ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَحَّ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ فِي حَالِهِمُ الشَّبِيهَةِ بِحَالِ مَنْ يَجْحَدُ هَذَا الْعَهْدَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَعْهَدْ تَوَالِي الْعَيْنِ وَالْهَاءِ وَهُمَا حَرْفَانِ مُتَقَارِبَا الْمَخْرَجِ مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ إِلَّا أَنَّ تَوَالِيَهُمَا لَمْ يُحْدِثْ ثِقْلًا فِي النُّطْقِ بِالْكَلِمَةِ يُنَافِي الْفَصَاحَةَ بِمُوجَبِ تَنَافُرِ الْحُرُوفِ لِأَنَّ انْتِقَالَ النُّطْقِ فِي مَخْرَجِ الْعَيْنِ مِنْ وَسَطِ الْحَلْقِ إِلَى مَخْرَجِ الْهَاءِ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ خَفَّفَ النُّطْقَ بِهِمَا، وَكَذَلِكَ الِانْتِقَالُ مِنْ سُكُونٍ إِلَى حَرَكَةٍ زَادَ ذَلِكَ خِفَّةً.
وَمَثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَان: ٢٦] الْمُشْتَمِلُ عَلَى حَاءٍ وَهِيَ مِنْ وَسَطِ الْحَلْقِ وَهَاءٍ وَهِيَ مَنْ أَقْصَاهُ إِلَّا أَنَّ الْأُولَى سَاكِنَةٌ وَالثَّانِيَةَ مُتَحَرِّكَةٌ وَهُمَا مُتَقَارِبَا الْمَخْرَجِ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا مِنْ تَنَافُرِ الْحُرُوفِ، وَمُثِّلَ لَهُ بِقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:
وَ (مَا) فِي (مَا فَرَّطْتُ) صدرية، أَيْ عَلَى تَفْرِيطِي فِي جَنْبِ اللَّهِ.
وَالتَّفْرِيطُ: التَّضْيِيعُ وَالتَّقْصِيرُ، يُقَالُ: فَرَطَهُ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقَالَ: فَرَّطَ فِيهِ. وَالْجَنْبُ
وَالْجَانِبُ مُتَرَادِفَانِ، وَهُوَ نَاحِيَةُ الشَّيْءِ وَمَكَانُهُ وَمِنْهُ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النِّسَاء: ٣٦] أَيِ الصَّاحِبُ الْمُجَاوِرُ.
وَحَرْفُ فِي هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ فَرَّطْتُ فَلَا يَكُونُ لِلْفِعْلِ مَفْعُولٌ وَيَكُونُ الْمُفَرَّطُ فِيهِ هُوَ جَنْبُ اللَّهِ، أَيْ جِهَتُهُ وَيَكُونُ الْجَنْبُ مُسْتَعَارًا لِلشَّأْنِ وَالْحَقِّ، أَيْ شَأْنِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَوَصَايَاهُ تَشْبِيهًا لَهَا بِمَكَانِ السَّيِّدِ وَحِمَاهُ إِذَا أُهْمِلَ حَتَّى اعْتُدِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَقْفَرَ، كَمَا قَالَ سَابِقٌ الْبَرْبَرِيُّ:
كَرِيمٌ مَتَى أَمْدَحْهُ أَمْدَحْهُ وَالْوَرَى مَعِي وَإِذَا مَا لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِي
أَمَا تَتَّقِينَ اللَّهَ فِي جَنْبِ وَامِقٍ لَهُ كَبِدٌ حَرَّى عَلَيْكِ تقطّع
أَو تكون جُمْلَةَ فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ تَمْثِيلًا لِحَالِ النَّفْسِ الَّتِي أُوقِفَتْ لِلْحِسَابِ وَالْعِقَابِ بِحَالِ الْعَبْدِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِ سَيِّدُهُ حِرَاسَةَ حِمَاهُ وَرِعَايَةَ مَاشِيَتِهِ فَأَهْمَلَهَا حَتَّى رُعِيَ الْحِمَى وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَأُحْضِرَ لِلثِّقَافِ فَيَقُولُ: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ سَيِّدِي. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ إِبْقَاءُ الْجَنْبِ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ التَّمْثِيلَ يَعْتَمِدُ تَشْبِيهَ الْهَيْئَةِ بِالْهَيْئَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً وَفِعْلُ فَرَّطْتُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَحَدِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ إِلَى الْمَوْصُولِ، وَحَذْفُهُ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ، وَيَكُونُ الْمَجْرُورُ بِ فِي حَالًا مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ، أَيْ كَائِنًا مَا فَرَّطْتُهُ فِي جَانِبِ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ النَّدَامَةِ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ قَبُولِ مَا جَاءَهَا بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْهُدَى فَكَانَتْ تَسْخَرُ مِنْهُ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ فَرَّطْتُ، أَيْ فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ تَفْرِيطَ السَّاخِرِ لَا تَفْرِيطَ الْغَافِلِ، وَهَذَا إِقْرَارٌ بِصُورَةِ التَّفْرِيطِ.
شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي تَدْبِيرِهِ وَإِنْعَامِهِ.
وَمَعْنَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ، فَأُقْحِمَتْ كَافُ التَّشْبِيهِ عَلَى (مِثْلِ) وَهِيَ بِمَعْنَاهُ لِأَنَّ مَعْنَى الْمثل هُوَ الشبيه، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْكَافَ مُفِيدَةٌ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْمِثْلِ، وَهُوَ مِنَ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ بِاللَّفْظِ الْمُرَادِفِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وحسّنه أَن الموكّد اسْمٌ فَأَشْبَهَ مَدْخُولَ كَافِ التَّشْبِيهِ الْمُخَالِفِ لِمَعْنَى الْكَافِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ الثِّقَلُ الَّذِي فِي قَوْلِ خِطَامٍ الْمُجَاشِعِيِّ:
وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْنْ (١) وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَثَلُ وَاقِعًا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ فَالْكَافُ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِهِ فَكَأَنَّهُ نَفَى الْمِثْلَ عَنْهُ تَعَالَى بِجُمْلَتَيْنِ تَعْلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ كَيْفَ يُبْطِلُونَ مُمَاثَلَةَ الْأَصْنَامِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ رَأْيُ ثَعْلَبٍ وَابْنِ جِنِّيٍّ وَالزَّجَّاجِ وَالرَّاغِبِ وَأَبِي الْبَقَاءِ وَابْنِ عَطِيَّةَ.
وَجَعَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» وَجْهًا ثَانِيًا، وَقَدَّمَ قَبْلَهُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ غَيْرَ مَزِيدَةٍ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَيْسَ شَبِيهَ مِثْلِهِ شَيْءٌ وَالْمُرَادُ: لَيْسَ شِبْهَ ذَاتِهِ شَيْءٌ، فَأَثْبَتَ لِذَاتِهِ مِثْلًا ثُمَّ نَفَى عَنْ ذَلِكَ الْمِثْلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُمَاثِلٌ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ الْمُمَاثِلِ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ بِطَرِيقِ لَازِمِ اللَّازِمِ لِأَنَّهُ إِذَا نَفَى الْمِثْلَ عَنْ مِثْلِهِ فَقَدِ انْتَفَى الْمِثْلُ عَنْهُ إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَمَّا اسْتَقَامَ قَوْلُكَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِثْلَ مِثْلِهِ. وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ: فُلَانٌ قَدْ أَيْفَعَتْ لِدَاتُهُ، أَيْ أَيْفَعَ هُوَ فكني بإيفاع لداغته عَنْ إِيفَاعِهِ. وَقَوْلِ رُقَيْقَةَ بِنْتِ صَيْفِيٍّ (٢) فِي حَدِيثِ سُقْيَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ «أَلَا وَفِيهِمُ الطَّيِّبُ الطَّاهِر لداته» اهـ. أَيْ وَيَكُونُ مَعَهُمُ الطَّيِّبُ الطَّاهِرُ يَعْنِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنِ الْمُنِيرِ فِي «الِانْتِصَافِ»، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: هُوَ كَقَوْلِكَ لَيْسَ
لِأَخِي زَيْدٍ أَخٌ، تُرِيدُ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ لِزَيْدٍ أَخٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِزَيْدٍ أَخٌ لَكَانَ زَيْدٌ أَخًا
_________
(١) رجز وَقَبله:
لم يبْق من آي بهَا تحيين غير حطام ورمادي كفتين.
(٢) هِيَ رقيقَة بقافين بِصِيغَة التصغير بنت صَيْفِي (وَالصَّوَاب أبي صَيْفِي) بن هِشَام بن عبد الْمطلب.
وَمَعْنَى خَلَتِ النُّذُرُ سَبَقَتِ النُّذُرُ أَيْ نُذُرُ رُسُلٍ آخَرِينَ. وَالنُّذُرُ: جَمْعُ نِذَارَةٍ بِكَسْرِ النُّونِ. ومِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ بِمَعْنَى قَرِيبًا مِنْ زَمَانِهِ وَبَعِيدًا عَنْهُ، فَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مَعْنَاهُ الْقُرْبُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ: ٤٦]، أَيْ قَبْلَ الْعَذَابِ قَرِيبًا مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الْفرْقَان: ٣٨]، وَقَالَ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النِّسَاء: ١٦٤]. وَأَمَّا الَّذِي مِنْ خَلْفِهِ فَنُوحٌ فَقَدْ قَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: ٦٩]، وَهَذَا مُرَاعَاةً لِلْحَالَةِ الْمَقْصُودِ تَمْثِيلُهَا فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: ٩] أَيْ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ رُسُلٌ مِثْلَ مَا خَلَتْ بِتِلْكَ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، أَيْ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ بِسَبَبِ شِرْكِكُمْ. وَعَذَابُ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ يَحْتَمِلُ الْوَعِيدَ بِعَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبِعَذَابِ يَوْمِ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الَّذِي عُجِّلَ لَهُمْ. وَوُصِفَ الْيَوْمُ بِالْعِظَمِ بِاعْتِبَارِ مَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْعَظِيمَةِ، فَالْوَصْفُ مجَاز عَقْلِي.
[٢٢]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢٢]
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢)
جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [الْأَحْقَاف: ٢١]، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِعْلُ قالُوا مَفْصُولًا عَلَى طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ. وَالْمَجِيءُ مُسْتَعَارٌ لِلْقَصْدِ بِطَلَبِ أَمْرٍ عَظِيمٍ، شُبِّهَ طَرُوُّ الدَّعْوَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يَدْعُو بِهَا بِمَجِيءٍ جَاءَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
وَالْأَفْكُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ: الصَّرْفُ، وَأَرَادُوا بِهِ مَعْنَى التَّرْكُ، أَيْ لِنَتْرُكَ عِبَادَةَ آلِهَتِنَا. وَهَذَا الْإِنْكَارُ تَعْرِيضٌ بِالتَّكْذِيبِ فَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَيْهِ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَصَرَّحُوا بِتَكْذِيبِهِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور فاكِهِينَ بِصِيغَة اسْمِ الْفَاعِلِ، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ فَكِهِينَ بِدُونِ أَلِفٍ.
وَالْبَاءُ فِي بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ للسبية، وَالْمَعْنَى: أَنَّ رَبَّهُمْ أَرْضَاهُمْ بِمَا يُحِبُّونَ.
وَاسْتِحْضَارُ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ رَبُّهُمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى عَظِيمِ مَا آتَاهُمْ إِذِ الْعَطَاءُ يُنَاسِبُ حَالَ الْمُعْطِي، وَفِي إِضَافَةِ (رَبٍّ) إِلَى ضَمِيرِهِمْ تَقْرِيبٌ لَهُمْ وَتَعْظِيمٌ وَجُمْلَةُ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ حَالِيَّةٌ، أَوْ عاطفة على فاكِهِينَ الَّذِي هُوَ حَالٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقَدْ وَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ: إِظْهَارُ التَّبَايُنِ بَيْنَ حَالِ الْمُتَّقِينَ وَحَالِ الْمُكَذِّبِينَ زِيَادَةً فِي الِامْتِنَانِ فَإِنَّ النِّعْمَةَ تَزْدَادُ حُسْنَ وَقْعٍ فِي النَّفْسِ عِنْدَ مُلَاحَظَةِ ضِدِّهَا.
وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ وِقَايَتَهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ عَدْلٌ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَرِفُوا مَا يُوجِبُ الْعِقَابَ.
وَأَمَّا مَا أُعْطُوهُ مِنَ النَّعِيمِ فَذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ وَإِكْرَامٌ مِنْهُ لَهُمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: رَبُّهُمْ مَا تَقَدَّمَ قُبَيْلَهُ.
وَجُمْلَةُ كُلُوا وَاشْرَبُوا إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْضًا، تَقْدِيرُهُ: يُقَالُ لَهُمْ، أَوْ مَقُولًا لَهُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ مُقَابِلُ مَا يُقَالُ لِلْمُكَذِّبِينَ اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطّور: ١٦].
وَحَذْفُ مَفْعُولِ كُلُوا وَاشْرَبُوا لِإِفَادَةِ النَّعِيمِ، أَيْ كُلُوا كل مَا يُؤْكَلُ وَاشْرَبُوا كُلَّ مَا يُشْرَبُ، وَهُوَ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، أَيْ مِمَّا تَشْتَهُونَ.
وهَنِيئاً اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَقَعَ وَصْفًا لِمَصْدَرَيْنِ لِفِعْلَيْ كُلُوا
وَاشْرَبُوا
، أَكْلًا وَشُرْبًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يُؤَنَّثِ الْوَصْفُ لِأَنَّ فَعِيلًا إِذَا كَانَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ يَلْزَمُ الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ سَالِمٌ مِمَّا يُكَدِّرُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ.
وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ الْعَمَل الَّذِي كُنْتُم تعملونه وَهُوَ الْعَمَلِ الصَّالح الَّذِي يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ: الْمُتَّقِينَ وَفِي هَذَا الْقَوْلِ زِيَادَةُ كَرَامَةٍ لَهُمْ
بِدِلَالَةِ الْفَحْوَى لِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ إِرَادَةَ مناجاته الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَتْ عَبَثًا بَلْ لِتَحْصِيلِ عِلْمٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: رَحِيمٌ فَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ مَا فَاتَ غَيْرَ الْوَاجِدِ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفس إشعارا لَهُ بِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تَنْفَعُهُ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخ.
[١٣]
[سُورَة المجادلة (٥٨) : آيَة ١٣]
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣)
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا: وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ جَمْعٍ مِنْ سَلَفِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ الْقَادِرِينَ عَلَى تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ النَّجْوَى شَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَمْسَكُوا عَنْ مُنَاجَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْقَطَ اللَّهُ وُجُوبَ هَذِهِ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ قِيلَ: لَمْ يَعْمَلْ بِهَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَعَلَّ غَيْرَهُ لَمْ يحْتَج إِلَى نجوى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقْتَصَدَ مِمَّا كَانَ يُنَاجِيهِ لِأَدْنَى مُوجِبٍ.
فَالْخِطَابُ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَادِرِينَ عَلَى تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْمُنَاجَاةِ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَوْ ثَقُلَ عَلَيْهِمْ.
وَالْإِشْفَاقُ توقع حُصُول مَالا يَبْتَغِيهِ وَمَفْعُولُ أَأَشْفَقْتُمْ هُوَ أَنْ تُقَدِّمُوا أَيْ مِنْ أَنْ تُقَدِّمُوا، أَيْ أَأَشْفَقْتُمْ عَاقِبَةَ ذَلِكَ وَهُوَ الْفَقْرُ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا فَسَقَطَ وُجُوبُ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ لِمَنْ يُرِيدُ مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللَّوْمِ عَلَى تَجَهُّمِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ فَوَائِدَ لِنَفْعِ الْفُقَرَاءِ.
وَقَدْ حَصَلَ فِي الْآيَةِ إِيجَازُ حَذْفٍ إِذِ اسْتُغْنِيَ عَنْ وَصْفِ الطَّرِيقِ بِالْالْتِوَاءِ فِي التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ مُقَابَلَتِهِ بِالْاسْتِقَامَةِ فِي التَّمْثِيلِ الثَّانِي.
وَالْفَاء الَّتِي فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْعِبَرِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، وَالْاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ.
وَالْمُكِبُّ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَكَبَّ، إِذَا صَارَ ذَا كَبٍّ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ أَصْلُهَا لِإِفَادَةِ الْمَصِيرِ فِي الشَّيْءِ مِثْلُ هَمْزَةِ: أَقْشَعَ السَّحَابُ، إِذَا دَخَلَ فِي حَالَةِ الْقَشْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَنْفَضَ الْقَوْمُ إِذَا هَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ، وَأَرْمَلُواْ إِذَا فَنِيَ زَادُهُمْ، وَهِيَ أَفْعَالٌ قَلِيلَةٌ فِيمَا جَاءَ فِيهِ الْمُجَرَّدُ مُتَعَدِّيًا وَالْمَهْمُوزُ قَاصِرًا.
وأَهْدى مُشْتَقٌّ مِنَ الْهُدَى، وَهُوَ مَعْرِفَةُ الطَّرِيقِ وَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ لِأَنَّ الَّذِي يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ لَا شَيْءَ عِنْدَهُ مِنَ الْاهْتِدَاءِ فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣] فِي قَوْلِ كثير من الْأَئِمَّة. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ تَهَكُّمٍ أَوْ تَمْلِيحٍ بِحَسَبِ الْمَقَامِ.
وَالسَّوِيُّ: الشَّدِيدُ الْاسْتِوَاءِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ قَالَ تَعَالَى: أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا [مَرْيَم: ٤٣]. وَ (أَمْ) فِي قَوْلِهِ: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا حَرْفُ عَطْفٍ وَهِيَ (أَمْ) الْمُعَادِلَةُ لِهَمْزَةِ
الْاسْتِفْهَامِ. وَ (مَنْ) الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا أَوْ قَوْلِهِ: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا مَوْصُولَتَانِ وَمَحْمَلَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا فَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ وَفَرِيقُ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: أُرِيدَ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ أُرِيدَ بِالْأُولَى أَبُو جَهْلٍ، وَبِالثَّانِيَةِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَو أَبُو بَكْرٍ أَوْ حَمْزَةُ رَضِيَ الله عَنْهُمَا.
[٢٣]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢٣]
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (٢٣)
هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ تَوْجِيهِ اللَّهِ تَعَالَى الْخِطَابَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِلتَّبْصِيرِ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْوَعِيدِ أَوِ التَّهْدِيدِ إِلَى خِطَابِهِمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا سَيُذْكَرُ تَفَنُّنًا فِي الْبَيَانِ وَتَنْشِيطًا لِلْأَذْهَانِ حَتَّى كَأَنَّ الْكَلَامَ صَدَرَ مِنْ قَائِلَيْنِ وترفيعا لقدر نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعْطَائِهِ حَظًّا مِنَ التَّذْكِيرِ مَعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ [الدُّخان:
٥٨].
الْعَرْبَدَةِ مِنْ هَذَيَانٍ، وَكَذِبٍ وَسِبَابٍ، وَاللَّغْوُ وَالْكَذِبُ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تَعْرِضُ لِمَنْ تَدِبُّ الْخَمْرُ فِي رُؤُوسِهِمْ، أَيْ فَأَهْلُ الْجَنَّةِ يُنَعَّمُونَ بِلَذَّةِ السُّكْرِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَلَا تَأْتِي الْخَمْرُ عَلَى كَمَالَاتِهِمُ النَّفْسِيَّةِ كَمَا تَأْتِي عَلَيْهَا خَمْرُ الدُّنْيَا.
وَكَانَ الْعَرَبُ يَمْدَحُونَ مَنْ يُمْسِكُ نَفْسَهُ عَنِ اللَّغْوِ وَنَحْوِهِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، قَالَ عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ:
وَلَسْنَا بِشَرْبٍ أُمَّ عَمْرٍو إِذَا انْتَشَوْا ثِيَابُ النَّدَامَى بَيْنَهُمْ كَالْغَنَائِمِ
وَلَكِنَّنَا يَا أُمَّ عَمْرٍو نَدِيمُنَا بِمَنْزِلَةِ الرَّيَّانِ لَيْسَ بِعَائِمِ
وَكَانَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ مِمَّنْ حَرَّمَ الْخَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ:
فَإِنَّ الْخَمْرَ تَفْضَحُ شَارِبِيهَا وَتَجْنِيهِمْ بِهَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَا
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ ضَمِيرُ فِيها إِلَى مَفازاً بِاعْتِبَارِ تَأْوِيلِهِ بِالْجَنَّةِ لِوُقُوعِهِ فِي مُقَابَلَةِ جَهَنَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً [النبأ: ٢١] أَوْ لِأَنَّهُ أَبْدَلَ حَدائِقَ مِنْ مَفازاً وَهَذَا الْمَعْنَى نَشَأَ عَنْ أُسْلُوبِ نَظْمِ الْكَلَامِ حَيْثُ قُدِّمَ حَدائِقَ وَأَعْناباً إِلَخْ، وَأُخِّرَ وَكَأْساً دِهاقاً حَتَّى إِذَا جَاءَ ضَمِيرُ (فِيهَا) بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ إِرْجَاعُهُ إِلَى الْكَأْسِ وَإِلَى الْمَفَازِ كَمَا عَلِمْتَ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ مَعَ وَفْرَةِ الْمَعَانِي مِمَّا عَدَّدْنَاهُ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ مِنْ جَانِبِ الْأُسْلُوبِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، أَيْ لَا يَسْمَعُونَ فِي الْجَنَّةِ الْكَلَامَ السَّافِلَ وَلَا الْكَذِبَ، فَلَمَّا أَحَاطَ بِأَهْلِ جَهَنَّمَ أَشَدُّ الْأَذَى بِجَمِيعِ حَوَاسِّهِمْ مِنْ جَرَّاءَ حَرْقِ النَّارِ وَسَقْيِهِمُ الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ لِيَنَالَ الْعَذَابُ بَوَاطِنَهُمْ كَمَا نَالَ ظَاهِرَ أَجْسَادِهِمْ، كَذَلِكَ نَفَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَقَلَّ الْأَذَى وَهُوَ أَذَى سَمَاعِ مَا يَكْرَهُهُ النَّاسُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ الْأَذَى.
وَكُنِّيَ عَنِ انْتِفَاءِ اللَّغْوِ وَالْكِذَّابِ عَنْ شَارِبِي خَمْرِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ اللَّغْوَ وَالْكِذَّابَ فِيهَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا لَغْوٌ وَكَذِبٌ لَسَمِعُوهُ وَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ أَيْ لَا منار بِهِ فَيُهْتَدَى بِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ لَطِيفِ الْكِنَايَةِ، وَالَّذِي فِي الْآيَةِ أَحْسَنُ مِمَّا وَقَعَ فِي بَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مُنَزَّهَةٌ أَسْمَاعُهُمِِْ


الصفحة التالية
Icon