وَالسُّكْنَى اتِّخَاذُ الْمَكَانِ مَقَرًّا لِغَالِبِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ.
وَالْجَنَّةُ قِطْعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ فِيهَا الْأَشْجَارٌ الْمُثْمِرَةٌ وَالْمِيَاهُ وَهِيَ أَحْسَنُ مَقَرٍّ لِلْإِنْسَانِ إِذَا لَفَحَهُ حَرُّ الشَّمْسِ وَيَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا جَاعَ وَيَشْرَبُ مِنَ الْمِيَاهِ الَّتِي يَشْرَبُ مِنْهَا الشَّجَرُ وَيَرُوقُهُ مَنْظَرُ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَالْجَنَّةُ تَجَمَعُ مَا تَطْمَحُ إِلَيْهِ طَبِيعَةُ الْإِنْسَانِ مِنَ اللَّذَّاتِ.
وَتَعْرِيفُ (الْجَنَّةِ) تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهِيَ جَنَّةٌ مَعْهُودَةٌ لِآدَمَ يُشَاهِدُهَا إِذَا كَانَ التَّعْرِيفُ فِي (الْجَنَّةِ) حِكَايَةً لِمَا يُرَادِفُهُ فِيمَا خُوطِبَ بِهِ آدَمُ، أَوْ أُرِيدَ بِهَا الْمَعْهُودُ لَنَا إِذَا كَانَتْ حِكَايَةُ قَوْلِ اللَّهِ لَنَا بِالْمَعْنَى وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْجَنَّةِ فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ أَنَّهَا جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُصَدِّقِينَ رُسُلَهُ وَجَزَمُوا بِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ عَالَمِ الْغَيْبِ أَيْ فِي السَّمَاءِ وَأَنَّهَا أَعَدَّهَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْخَيْرِ بَعْدَ الْقِيَامَةِ وَهَذَا الَّذِي تَقَلَّدَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَأَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ ظَوَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا تَعْدُو أَنَّهَا ظَوَاهِرُ كَثِيرَةٌ لَكِنَّهَا تُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ تَأْثِيرٌ فِي الْعَقِيدَةِ.
وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ وَالْمُعْتَزِلَةُ عَدَا الْجُبَّائِيَّ إِلَى أَنَّهَا جَنَّةٌ فِي الْأَرْضِ خَلَقَهَا اللَّهُ لِإِسْكَانِ آدَمَ وَزَوْجِهِ، وَنَقَلَ الْبَيْضَاوِيُّ عَنْهُمْ
أَنَّهَا بُسْتَانٌ فِي فِلَسْطِينَ أَوْ هُوَ بَيْنَ فَارِسَ وَكِرْمَانَ، وَأَحْسَبُ أَن هَذَا ناشىء عَنْ تَطَلُّبِهِمْ تَعْيِينَ الْمَكَانِ الَّذِي ذُكِرَ مَا يُسَمَّى فِي التَّوْرَاةِ بِاسْمِ عَدْنٍ.
فَفِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ «وَأَخَذَ الرَّبُّ الْإِلَهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا- ثُمَّ قَالَتْ- فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الْإِلَهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَ الْأَرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ جَنَّةَ عَدْنٍ لَيْسَتْ فِي الْأَرْضِ لَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ شُرَّاحُ التَّوْرَاةِ أَنَّ جَنَّةَ عَدْنٍ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ ظَاهِرُ وَصْفِ نَهْرِ هَذِهِ الْجَنَّةِ الَّذِي يَسْقِيهَا بِأَنَّهُ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ فَيَسْقِي الْجَنَّةَ وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيصير أَرْبَعَة رُؤُوس اسْمُ الْوَاحِدِ (قَيْشُونُ) وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ الْحُوَيْلَةِ وَهُمْ مِنْ بَنِي كُوشٍ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ مِنَ التَّكْوِينِ وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّانِي (جَيْحُونُ) وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضٍ كُوشٍ، وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّالِثِ (حِدَّا قِلْ) وَهُوَ الْجَارِي شَرْقَ أَشُورْ (دِجْلَةَ). وَالنَّهْرُ الرَّابِعُ الْفُرَاتُ.
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ضَبْطِ عَدْنٍ هَذِهِ. وَرَأَيْتُ فِي كِتَابِ عَبْدِ الْحَقِّ الْإِسْلَامِيِّ السِّبْتِيِّ الَّذِي كَانَ
وَجُمْلَةُ يُرْضِعْنَ خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ التَّشْرِيعُ، وَإِثْبَاتُ حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ لِلْوَالِدَاتِ وَالْإِيجَابِ عَلَيْهِنَّ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ بَعْدَ أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَلِأَنَّهُ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا فَإِنَّ الضَّمِيرَ شَامِلٌ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيبِ كَمَا يَأْتِي، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى إِيجَابِ إِرْضَاعِ الْوَلَدِ عَلَى أُمِّهِ، وَلَكِنْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطَّلَاق:
٦] وَلِأَنَّهُ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ أَجْرُ الرَّضَاعَةِ، وَالزَّوْجَةُ فِي الْعِصْمَةِ لَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ وَكِسْوَةٌ لِأَجْلِ الرَّضَاعَةِ، بَلْ لِأَجْلِ الْعِصْمَةِ.
وَقَوْلُهُ: أَوْلادَهُنَّ صَرَّحَ بِالْمَفْعُولِ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا، إِيمَاءً إِلَى أَحَقِّيَّةِ الْوَالِدَاتِ بِذَلِكَ وَإِلَى تَرْغِيبِهِنَّ فِيهِ لِأَنَّ فِي قَوْله: أَوْلادَهُنَّ تذكيرا لَهُنَّ بِدَاعِي الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ، فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ- وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ- لَيْسَتِ الْآيَةُ وَارِدَةً إِلَّا لِبَيَانِ إِرْضَاعِ الْمُطَلَّقَاتِ أَوْلَادَهُنَّ، فَإِذَا رَامَتِ الْمُطَلَّقَةُ إِرْضَاعَ وَلَدِهَا فَهِيَ أَوْلَى بِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِغَيْرِ أَجْرٍ أَمْ طَلَبَتْ أَجْرَ مِثْلِهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْأَبَ إِذَا وَجَدَ مَنْ تُرْضِعَ لَهُ غَيْرَ الْأُمِّ بِدُونِ أَجْرٍ وَبِأَقَلَّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ، لَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ تَأَوَّلَ الْوَالِدَاتُ عَلَى الْعُمُومِ، سَوَاءٌ كُنَّ فِي الْعِصْمَةِ أَوْ بَعْدَ الطَّلَاقِ
كَمَا فِي الْقُرْطُبِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْفُرْسِ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» أَنَّ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» : إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ومحمول عَلَى عُمُومِهِ فِي ذَاتِ الزَّوْجِ وَفِي الْمُطَلَّقَةِ مَعَ عُسْرِ الْأَبِ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى مَالِكٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ: يُرْضِعْنَ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ لِبَعْضِ الْوَالِدَاتِ، وَالْأَمْرُ عَلَى النَّدْبِ وَالتَّخْيِيرِ لِبَعْضِهِنَّ وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَفِي هَذَا اسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ مُطْلَقُ الطَّلَبِ وَلَا دَاعِي إِلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ إِرْضَاعِ الْأُمِّ وَلَدَهَا فِي الْعِصْمَةِ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِغَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْوَالِدَاتِ اللَّائِي فِي الْعِصْمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ الْآيَةَ، فَإِنَّ اللَّائِي فِي الْعِصْمَةِ لَهُنَّ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ بِالْأَصَالَةِ.
وَالْحَوْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْعَامُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ تَحَوُّلِ دَوْرَةِ الْقَمَرِ أَوِ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهِ مِنْ مَبْدَأٍ مُصْطَلَحٍ عَلَيْهِ، إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى السَّمْتِ الَّذِي ابْتَدَأَ مِنْهُ، فَتِلْكَ الْمُدَّةُ الَّتِي مَا بَيْنَ الْمَبْدَأِ وَالْمَرْجَعِ تُسَمَّى حَوْلًا.
بِهَؤُلَاءِ (يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ) قَدِ انْكَشَفُوا عَنْكَ»، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حَاضِرًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ «امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ» إِلَى آخَرَ الْخَبَرِ.
وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنْ سَبِّ أَصْنَامِهِمْ هُوَ أَنَّ السَّبَّ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدَّعْوَةِ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِظْهَارِ اسْتِحَالَةِ أَنْ تَكُونَ الْأَصْنَامُ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ الْحَقُّ عَنِ الْبَاطِلِ، وَيَنْهَضُ بِهِ الْمُحِقُّ وَلَا يَسْتَطِيعُهُ الْمُبْطِلُ، فَأَمَّا السَّبُّ فَإِنَّهُ مَقْدُورٌ لِلْمُحِقِّ وَلِلْمُبْطِلِ فَيَظْهَرُ بِمَظْهَرِ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا.
وَرُبَّمَا اسْتَطَاعَ الْمُبْطِلُ بِوَقَاحَتِهِ وَفُحْشِهِ مَا لَا يَسْتَطِيعُهُ الْمُحِقُّ، فَيَلُوحُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ تَغَلَّبَ عَلَى الْمُحِقِّ. عَلَى أَنَّ سَبَّ آلِهَتِهِمْ لَمَّا كَانَ يَحْمِي غَيْظَهُمْ وَيَزِيدُ تَصَلُّبَهُمْ قَدْ عَادَ مُنَافِيًا لِمُرَادِ اللَّهِ مِنَ الدَّعْوَةِ، فَقَدْ قَالَ لِرَسُولِهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»، وَقَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً»، فَصَارَ السَّبُّ عائقا من الْمَقْصُودِ
مِنَ الْبِعْثَةِ، فَتَمَحَّضَ هَذَا السَّبُّ لِلْمَفْسَدَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَشُوبًا بِمَصْلَحَةٍ. وَلَيْسَ هَذَا مِثْلُ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ إِذا خيف إفضاؤه إِلَى مَفْسَدَةٍ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ مَصْلَحَةٌ بِالذَّاتِ وَإِفْضَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ بِالْعَرْضِ. وَذَلِكَ مَجَالٌ تَتَرَدَّدُ فِيهِ أَنْظَارُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ بِحَسَبِ الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَتَحَقُّقًا وَاحْتِمَالًا. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَعَارُضِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ كُلِّهَا.
وَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: حُكْمُهَا بَاقٍ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَمَتَى كَانَ الْكَافِرُ فِي مَنَعَةٍ وَخِيفَ أَنَّهُ إِنْ سَبَّ الْمُسْلِمُونَ أَصْنَامَهُ أَوْ أُمُورَ شَرِيعَتِهِ أَنْ يَسُبَّ هُوَ الْإِسْلَامَ أَوِ النَّبِيءَ- عَلَيْهِ الصّلاة والسّلام- أَو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحِلَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسُبَّ صُلْبَانَهُمْ وَلَا كَنَائِسَهُمْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْثِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ اهـ، أَيْ عَلَى زِيَادَةِ الْكُفْرِ. وَلَيْسَ مِنَ السَّبِّ إِبْطَالُ مَا يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ مِنْ عَقَائِدِهِمْ فِي مَقَامِ الْمُجَادَلَةِ وَلَكِنَّ السَّبَّ أَنْ نُبَاشِرَهُمْ فِي غَيْرِ مُقَامِ الْمُنَاظَرَةِ بِذَلِكَ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا يَصْدُرُ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا وُصِفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فِي الْقُرْآنِ وُصِفَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْد: ٤٣] وَقَوْلِهِ: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [الْأَحْقَاف: ١٠]، فَلَمَّا كَانَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ آنِفًا صَارُوا مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِ انْسَلَخَ عَنْهُمْ وَصْفُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَبَقِيَ الْوَصْف بذلك خَاصّا بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَلَمَّا دَعَا اللَّهُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمَسِيحَ إِلَى الْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعَدَهُمْ بِمُضَاعَفَةِ ثَوَابِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ، أَعْلَمَهُمْ أَنَّ إِيمَانَهُمْ يُبْطِلُ مَا يَنْتَحِلُهُ أَتْبَاعُ الْمَسِيحِيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ لِأَنْفُسِهِمْ بِدَوَامِهِمْ عَلَى مُتَابَعَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيُغَالِطُوا النَّاسَ بِأَنَّهُمْ إِنْ فَاتَهُمْ فَضْلُ الْإِسْلَامِ لَمْ يَفُتْهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْفَضْلِ بِاتِّبَاعِ عِيسَى مَعَ كَوْنِهِمْ لَمْ يُغَيِّرُوا دِينَهُمْ.
وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ.
قَالَ الْفَخْرُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ وَلَيْسَ لِلْمُفَسِّرِينَ كَلَامٌ وَاضِحٌ فِي اتِّصَالِهَا بِمَا قبلهَا اه أَي هَلْ هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الْحَدِيد: ٢٨] الْآيَةَ، أَوْ مُتَّصِلَةُ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْحَدِيد:
٢٧، ٢٨]. يُرِيدُ الْوَاحِدِيُّ أَنَّ اتِّصَالَ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ.
فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ تَعْلِيلِيَّةً فَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا مَعْلُولًا بِمَا قَبْلَهَا، وَعَلَيْهِ فَحَرْفُ (لَا) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَائِدًا لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْوِيَةِ.
وَالْمُعَلَّلُ هُوَ مَا يَرْجِعُ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ وَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ أَوْ قَوْلُهُ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ إِلَى غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْحَدِيد: ٢٧، ٢٨].
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى جَعْلِ (لَا) زَائِدَةً. وَأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْإِثْبَاتِ، أَيْ لِأَنْ
يَعْلَمَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَرَأَ لِيَعْلَمَ، وَقَرَأَ أَيْضًا لِكَيْ يَعْلَمَ (وَقِرَاءَتُهُ تَفْسِيرٌ).
وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالْأَخْفَشِ، وَدَرَجَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي
فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يُقَدَّرُ الْكَلَامُ الْمُعَوِّضُ عَنْهُ تَنْوِينُ يَوْمَئِذٍ يَوْمَ إِذْ يُقَالُ لَهُمْ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ [المرسلات: ١٦].
وَالْمُرَادُ بِالْمُكَذِّبِينَ: الْمُخَاطَبُونَ فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَسْجِيلِ أَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ، وَالْمَعْنَى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لَكُمْ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي مَوْقِعِ الْجُمْلَةِ يقدر الْمَحْذُوف المعرض عَنْهُ التَّنْوِينُ: يَوْمَ إِذِ النُّجُومُ طُمِسَتْ [المرسلات: ٨] إِلَخْ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِنَظِيرَتِهَا الَّتِي تَقَدَّمَتْ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُكَذِّبِينَ جَمِيعُ الْمُكَذِّبِينَ الشَّامِلُ لِلسَّامِعِينَ.
وَعَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ فَتَقْرِيرُ مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ حَاصِلٌ لِأَنَّ الْيَوْمَ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَلِأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ يَصْدُقُ بِالْأَحْيَاءِ وبأهل الْمَحْشَر.
[٢٠- ٢٣]
[سُورَة المرسلات (٧٧) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢٣]
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣)
تَقْرِيرٌ أَيْضًا يَجْرِي فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، جِيءَ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ تَعْدَادِ الْخِطَابِ فِي مَقَامِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ.
وَكُلٌّ مِنَ التَّقْرِيرِ وَالتَّقْرِيعِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ تَرْكِ الْعَطْفِ لِشَبَهِهِ بِالتَّكْرِيرِ فِي أَنَّهُ تَكْرِيرُ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَكْرِيرَ لَفْظٍ، وَالتَّكْرِيرُ شَبِيهٌ بِالْأَعْدَادِ الْمَسْرُودَةِ فَكَانَ حَقُّهُ تَرْكَ الْعَطْفِ فِيهِ.
وَقَدْ جَاءَ هُنَا التَّقْرِيرُ عَلَى ثُبُوتِ الْإِيجَادِ بَعْدَ الْعَدَمِ إِيجَادًا مُتْقَنًا دَالًّا عَلَى كَمَالِ الْحِكْمَةِ وَالْقُدْرَةِ لِيُفْضَى بِذَلِكَ التَّقْرِيرِ إِلَى التَّوْبِيخِ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْإِعَادَةِ وَإِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ بِإِمْكَانِهِ بِإِعَادَةِ الْخلق كَمَا بدىء أَوَّلَ مَرَّةٍ وَكَفَى بِذَلِكَ مُرَجِّحًا لِوُقُوعِ هَذَا الْمُمْكِنِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ تَجْرِي عَلَى وِفْقِ الْإِرَادَةِ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ إِيجَادِ الْمُمْكِنِ عَلَى عَدَمِهِ.
وَالْمَاءُ: هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ. وَالْمَهِينُ: الضَّعِيفُ فَعِيلٌ مِنْ مَهُنَ، إِذَا ضَعُفَ، وَمِيمُهُ أَصْلِيَّةٌ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَادَّةِ هَانَ.
مَنَّ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ مَنَّ الْحَبْلَ، إِذَا قَطَعَهُ فَهُوَ مَنِينٌ، أَيْ مَقْطُوعٌ أَوْ مُوشِكٌ على التقطع.
[٧، ٨]
[سُورَة التِّين (٩٥) : الْآيَات ٧ إِلَى ٨]
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨)
تَفْرِيعٌ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ تَقْوِيمِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ رَدِّهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ
الْفَاء من الْكَلَام مُسَبَّبٌ عَنِ الْبَيَانِ الَّذِي قَبْلَ الْفَاءِ، أَيْ فَقَدْ بَانَ لَكَ أَنَّ غَيْرَ الَّذِينَ آمَنُوا هُمُ الَّذِينَ رُدُّوا إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ، فَمَنْ يُكَذِّبُ مِنْهُمْ بِالدِّينِ الْحَقِّ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ.
وَ (مَا) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، وَالِاسْتِفْهَامُ تَوْبِيخِيٌّ، وَالْخِطَابُ لِلْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: ٤] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنِ اسْتُثْنِيَ مِنْهُ الَّذِينَ آمَنُوا بَقِيَ الْإِنْسَانُ الْمُكَذِّبُ.
وَضَمِيرُ الْخِطَابِ الْتِفَاتٌ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَمَا يُكَذِّبُهُ. وَنُكْتَةُ الِالْتِفَاتِ هُنَا أَنَّهُ أَصْرَحُ فِي مُوَاجَهَةِ الْإِنْسَانِ الْمُكَذِّبِ بِالتَّوْبِيخِ.
وَمَعْنَى يُكَذِّبُكَ يَجْعَلُكَ مُكَذبا، أَي لاعذر لَكَ فِي تَكْذِيبِكَ بِالدِّينِ.
وَمُتَعَلَّقُ التَّكْذِيبِ: إِمَّا مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ، أَيْ يَجْعَلُكَ مُكَذِّبًا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِمَّا الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ، أَيْ يَجْعَلُكَ مُكَذِّبًا بِدِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ مُكَذِّبًا بِالْجَزَاءِ إِنْ حُمِلَ الدِّينُ عَلَى مَعْنَى الْجَزَاءِ وَجُمْلَةُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ للتهديد والوعيد.
و (الدَّين) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمِلَّةِ والشريعة، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: ١٩] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً [آل عمرَان: ٨٥].
وَعَلَيْهِ تَكُونُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ فَمَنْ يُكَذِّبُكَ بَعْدَ هَذَا بِسَبَبِ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الدِّينِ فَاللَّهُ يَحْكُمُ فِيهِ. وَمَعْنَى يُكَذِّبُكَ: يَنْسُبُكُ لِلْكَذِبِ بِسَبَبِ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الدِّينِ أَوْ مَا أَنْذَرْتَ بِهِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَأُسْلُوبُ هَذَا التَّرْكِيبِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَنْسُبُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَجِيئَهُمْ بِهَذَا الدِّينِ.


الصفحة التالية
Icon