يَهُودِيًّا وَأَسْلَمَ وَأَلَّفَ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ سَمَّاهُ «الْحُسَامُ الْمَحْدُودُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ» كَتَبَهُ بِغِيدِنَ وَضَبَطَهُ بِالْعَلَامَاتِ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَلَعَلَّ النُّقْطَةَ عَلَى حَرْفِ الْعَيْنِ سَهْوٌ مِنَ النَّاسِخِ فَذَلِكَ هُوَ مَنْشَأُ قَوْلِ الْقَائِلِينَ أَنَّهَا بِعَدْنٍ أَوْ بِفِلَسْطِينَ أَوْ بَيْنَ فَارِسَ وَكِرْمَانَ، وَالَّذِي أَلْجَأَهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ جَنَّةَ الثَّوَابِ دَارُ كَمَالٍ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَحْصُلَ فِيهَا الْعِصْيَانُ وَأَنَّهَا دَارُ خُلْدٍ لَا يَخْرُجُ سَاكِنُهَا، وَهُوَ التجاء بِلَا ملجىء لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ سُكَّانٍ الْجَنَّةِ لَا لِتَأْثِيرِ الْمَكَانِ وَكُلُّهُ جَعْلُ الله تَعَالَى عِنْد مَا أَرَادَهُ.
وَاحْتَجَّ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّ أَلْ فِي (الْجَنَّةِ) لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ وَلَا مَعْهُودَ غَيْرَهَا، وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ كَوْنُهَا لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَمْلِ عَلَى الْجِنْسِ بِأَنْوَاعِهِ الثَّلَاثَةِ، إِذْ لَا مَعْنَى لِلْحَمْلِ عَلَى أَنَّهَا لَامُ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهَا قَدْ نِيطَ بِهَا فِعْلُ السُّكْنَى وَلَا مَعْنَى لِتَعَلُّقِهِ بِالْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ نَحْوِ الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَلَا مَعْنَى لِلْحَمْلِ عَلَى الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ إِذِ الْفَرْدُ مِنَ الْحَقِيقَةِ هُنَا مَقْصُودٌ مُعَيَّنٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِسْكَانِ جَزَاء وإكرام فَلَا بُد أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِجَنَّةٍ مَعْرُوفَةٍ، وَلَا مَعْنَى لِلْحَمْلِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ لِظُهُورِ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْجَزَاءَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأَمْرٍ مُعَيَّنٍ مَعْهُودٍ وَلَا مَعْهُودَ إِلَّا الْجنَّة الْمَعْرُوفَة لَا سِيمَا وَهُوَ اصْطِلَاحُ الشَّرْعِ.
وَقد يُقَال يخْتَار أَنَّ اللَّامَ لِلْعَهْدِ وَلَعَلَّ الْمَعْهُودَ لِآدَمَ هُوَ جَنَّةٌ فِي الْأَرْضِ مُعَيَّنَةٍ أُشِيرَ إِلَيْهَا بِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَلِذَلِكَ أَخْتَارُ أَنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْقَصَصَ لَنَا حُكِيَ بِالْأَلْفَاظِ الْمُتَعَارَفَةِ لَدَيْنَا تَرْجَمَةٌ لِأَلْفَاظِ اللُّغَةِ الَّتِي
خُوطِبَ بِهَا آدَمُ أَوْ عَنِ الْإِلْهَامِ الَّذِي أُلْقِيَ إِلَى آدَمَ فَيَكُونُ تَعْرِيفُ (الْجَنَّةِ) مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى مُتَعَارَفِنَا فَيَكُونُ آدَمُ قَدْ عَرَفَ الْمُرَادَ مِنْ مَسْكَنِهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ غَيْرِ التَّعْرِيفِ وَيَكُونُ قَدْ حُكِيَ لَنَا ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيفِ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَنَّةِ الْمُقْتَرِنَ فِي كَلَامِنَا بِلَامِ التَّعْرِيفِ يَدُلُّ عَلَى عَيْنِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ الْآخَرُ الَّذِي عَرَفَ بِهِ آدَمُ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ قُلْنَا لَهُ اسْكُنِ الْبُقْعَةَ الَّتِي تُسَمُّونَهَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ بِالْجَنَّةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي أُسْكِنَهَا آدَمُ هِيَ الْجَنَّةُ الْمَعْدُودَةُ دَارًا لِجَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ.
وَمَعْنَى الْأَكْلِ مِنَ الْجَنَّةِ مِنْ ثَمَرِهَا لِأَنَّ الْجَنَّةَ تَسْتَلْزِمُ ثِمَارًا وَهِيَ مِمَّا يُقْصَدُ بِالْأَكْلِ وَلِذَلِكَ تُجْعَلُ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً بِتَنْزِيلِ بَعْضِ مَا يَحْوِيهِ الْمَكَانُ مُنْزِلَةَ بَعْضٍ لِذَلِكَ الْمَكَانِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَكْلَ الْمَأْذُونَ فِيهِ أَكْلُ مَا تُثْمِرُهُ تِلْكَ الْجَنَّةُ كَقَوْلِكَ هَذَا الثَّمَرُ مِنْ خَيْبَرَ.
وَحَوْلُ الْعَرَبِ قَمَرِيٌّ وَكَذَلِكَ أَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ.
وَوَصْفُ الْحَوْلَيْنِ بِكَامِلَيْنِ تَأْكِيدٌ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَوْلًا وَبَعْضَ الثَّانِي لِأَنَّ إِطْلَاقَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فِي الْأَزْمَانِ وَالْأَسْنَانِ، عَلَى بَعْضِ الْمَدْلُولِ، إِطْلَاقٌ شَائِعٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَيَقُولُونَ: هُوَ ابْنُ سَنَتَيْنِ وَيُرِيدُونَ سَنَةً وَبَعْضَ الثَّانِيَةِ، كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [الْبَقَرَة: ١٩٧].
وَقَوْلُهُ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«بَيَانٌ لِمَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْحُكْمُ كَقَوْلِهِ: هَيْتَ لَكَ [يُوسُف: ٢٣]، فَلَكَ بَيَانٌ لِلْمُهَيَّتِ لَهُ أَيْ هَذَا الْحُكْمُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْإِرْضَاعَ» أَيْ فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ، بِتَقْدِيرِ هَذَا الْحُكْمِ لِمَنْ أَرَادَ.
قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: «وَقَدْ يُصَرَّحُ بِهَذَا الْمُبْتَدَأُ فِي بَعْضِ التَّرَاكِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النِّسَاء: ٢٥] وَمَا صدق (مَنْ) هُنَا مَنْ يُهِمُّهُ ذَلِكَ: وَهُوَ الْأَبُ وَالْأُمُّ وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا مِنْ وَلِيِّ الرَّضِيعِ وَحَاضِنِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَسْتَحِقُّهُ مَنْ أَرَادَ إِتْمَامَ الرَّضَاعَةِ، وَأَبَاهُ الْآخَرُ، فَإِنْ أَرَادَا مَعًا عَدَمَ إِتْمَامِ الرَّضَاعَةِ فَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ أَرادا فِصالًا الْآيَةَ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الرَّضَاعَ حَوْلَيْنِ رَعْيًا لِكَوْنِهِمَا أَقْصَى مُدَّةٍ يَحْتَاجُ فِيهَا الطِّفْلُ لِلرَّضَاعِ إِذَا عَرَضَ لَهُ مَا اقْتَضَى زِيَادَةَ إِرْضَاعِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَلَيْسَ فِي نَمَائِهِ مَا يَصْلُحُ لَهُ الرَّضَاعَ
بَعْدُ، وَلَمَّا كَانَ خِلَافُ الْأَبَوَيْنِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ لَا يَنْشَأُ إِلَّا عَنِ اخْتِلَافِ النَّظَرِ فِي حَاجَةِ مِزَاجِ الطِّفْلِ إِلَى زِيَادَةِ الرَّضَاعِ، جَعَلَ اللَّهُ الْقَوْلَ لِمَنْ دَعَا إِلَى الزِّيَادَةِ، احْتِيَاطًا لِحِفْظِ الطِّفْلِ. وَقَدْ كَانَتِ الْأُمَمُ فِي عُصُورِ قِلَّةِ التَّجْرِبَةِ وَانْعِدَامِ الْأَطِبَّاءِ، لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَا يَقُومُ لِلطِّفْلِ مَقَامَ الرَّضَاعِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذا فطموه أَعْطَوْهُ الطَّعَامَ، فَكَانَتْ أَمْزِجَةُ بَعْضِ الْأَطْفَالِ بِحَاجَةٍ إِلَى تَطْوِيلِ الرَّضَاعِ، لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى هَضْمِ الطَّعَامِ وَهَذِهِ عَوَارِضُ تَخْتَلِفُ. وَفِي عَصْرِنَا أَصْبَحَ الْأَطِبَّاءُ يَعْتَاضُونَ لِبَعْضِ الصِّبْيَانِ بِالْإِرْضَاعِ الصِّنَاعِيِّ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَحَ لِلصَّبِيِّ مِنْ لَبَنِ أُمِّهِ، مَا لَمْ تَكُنْ بِهَا عَاهَةٌ أَوْ كَانَ اللَّبَنُ غَيْرَ مُسْتَوْفٍ الْأَجْزَاءَ الَّتِي بهَا تَمام تَغْذِيَةُ أَجْزَاءِ بَدَنِ الطِّفْلِ، وَلِأَنَّ الْإِرْضَاعَ الصِّنَاعِيَّ يَحْتَاجُ إِلَى فَرْطِ حَذَرٍ فِي سَلَامَةِ اللَّبَنِ مِنَ الْعُفُونَةِ: فِي قِوَامِهِ وَإِنَائِهِ. وَبِلَادُ الْعَرَبِ شَدِيدَةُ الْحَرَارَةِ فِي غَالِبِ السَّنَةِ وَلَمْ يَكُونُوا يُحْسِنُونَ حِفْظَ أَطْعِمَتِهِمْ مِنَ التَّعَفُّنِ بِالْمُكْثِ، فَرُبَّمَا كَانَ فِطَامُ الْأَبْنَاءِ فِي الْعَامِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ يَجُرُّ مَضَارَّ لِلرُّضَعَاءِ،
مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سبّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ إِنْ صَدَرَ مِنْهُمْ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ كُفْرِهِمْ فَلَا يُعَدُّ سَبًّا وَإِنْ تَجَاوَزُوا ذَلِكَ عُدَّ سَبًّا، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْفُقَهَاءُ بِقَوْلِهِمْ: «مَا بِهِ كُفْرٌ وَغَيْرُ مَا بِهِ كُفْرٍ».
وَقَدِ احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِمَسْأَلَةِ سَدِّ الذَّرَائِعِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: «مَنَعَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَحَدًا أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا جَائِزًا يُؤَدِّي إِلَى مَحْظُورٍ وَلِأَجْلٍ هَذَا تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ وَهُوَ كُلُّ عَقْدٍ جَائِزٍ فِي الظَّاهِرِ يُؤَوَّلُ أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَحْظُورٍ». وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٦٣] عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِه الْآيَة أصل من أصُول إِثْبَات الذّرائع الّتي انْفَرد بهَا مَالِكٌ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَتَابَعَهُ عَلَيْهَا أَحْمَدُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ وَخَفِيَتْ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مَعَ تَبَحُّرِهِمَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ كُلُّ عَمَلٍ ظَاهِرِ الْجَوَازِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَحْظُورٍ اهـ. وَفَسَّرَ الْمَازِرِيُّ فِي بَابِ بُيُوعِ الْآجَالِ مِنْ «شَرْحِهِ لِلتَّلْقِينِ» سَدَّ الذَّرِيعَةِ بِأَنَّهُ مَنْعُ مَا يَجُوزُ لِئَلَّا يُتَطَرَّقَ بِهِ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ اهـ. وَالْمُرَادُ: سَدُّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ، كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْقَرَافِيُّ فِي «تَنْقِيحِ الْفُصُولِ» وَفِي «الْفَرْقِ الثَّامِنِ وَالْخَمْسِينَ» فَقَالَ: الذَّرِيعَةُ: الْوَسِيلَةُ إِلَى الشَّيْءِ. وَمَعْنَى سَدِّ الذَّرَائِعِ حَسْمُ مَادَّةِ وَسَائِلِ الْفَسَادِ.
وَأَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الذَّرَائِعَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مُعْتَبَرٌ إِجْمَاعًا كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي
طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي أَطْعِمَتِهِمْ وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَئِذٍ. وَثَانِيهَا: مُلْغًى إِجْمَاعًا كَزِرَاعَةِ الْعِنَبِ فَإِنَّهَا لَا تُمْنَعُ لِخَشْيَةِ الْخَمْرِ، وَكَالشَّرِكَةِ فِي سُكْنَى الدُّورِ خَشْيَةَ الزِّنَا. وَثَالِثُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَبُيُوعِ الْآجَالِ، فَاعْتَبَرَ مَالِكٌ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الذَّرِيعَةَ فِيهَا وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ اهـ. وَعَنَى بِالْمُخَالِفِ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَنْدَرِجُ تَحْتَ قَاعِدَةِ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ، فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ
«الْكَشَّافِ» وَابْنُ عَطِيَّةَ وَابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ»، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ (لَا) قَدْ تَقَعُ زَائِدَةً وَهُوَ مَا أَثْبَتَهُ الْأَخْفَشُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ [طه: ٩٢، ٩٣] وَقَوْلُهُ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الْأَعْرَاف: ١٢] وَقَوْلُهُ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الْوَاقِعَة: ٧٥] وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٥] عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَاتٍ، وَرُوِيَ أَنَّ الْعَرَبَ جَعَلَتْهَا حَشْوًا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ أَنْشَدَهُ أَبُو عُمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ:

أَبَى جُودُهُ لَا الْبُخْلَ وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ «نَعَمْ» مِنْ فَتًى لَا يَمْنَعُ الْجُودَ قَائِلُهُ
فِي رِوَايَةٍ بِنَصْبِ (الْبُخْلَ)، الْبُخْلَ وَأَنَّ الْعَرَبَ فَسَّرُوا الْبَيْتَ بِمَعْنَى أَبَى جُودُهُ الْبُخْلَ (١).
وَالْمَعْنَى: عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْمُعَلَّلَ هُوَ تَبْلِيغُ هَذَا الْخَبَرِ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ أُعْطِيَ غَيْرَهُمْ فَلَا يَتَبَجَّحُوا بِأَنَّهُمْ عَلَى فَضْلٍ لَا يَنْقُصُ عَنْ فضل غَيرهم إِذا كَانَ لِغَيْرِهِمْ فَضْلٌ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِتَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ.
وَعِنْدِي: أَنَّهُ لَا يُعْطِي مَعْنًى لِأَنَّ إِخْبَارَ الْقُرْآن بِأَن الْمُسلمين أَجْرَيْنِ لَا يُصَدِّقُ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا يَسْتَقِرُّ بِهِ عِلْمُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا فَضْلَ لَهُمْ فَكَيْفَ يُعَلَّلُ إِخْبَارُ اللَّهِ بِهِ بِأَنَّهُ يُزِيلُ عِلْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِفَضْلِ أَنْفُسِهِمْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا فَضْلَ لَهُمْ.
وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ (لَا) نَافِيَةٌ، وَقَرَّرَهُ الْفَخْرُ بِأَنَّ ضَمِيرَ يَقْدِرُونَ عَائِدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ (أَيْ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَأَصْلُهُ أَنْ لَا تَقْدِرُوا) وَإِذَا انْتَفَى عِلْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ثَبَتَ ضِدُّ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِمْ أَيْ كَيْفَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، وَيَكُونُ يَقْدِرُونَ مُسْتَعَارًا لِمَعْنَى: يَنَالُونَ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، فَهُوَ الَّذِي فَضَّلَهُمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ الْفَضْلِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
_________
(١) وَرُوِيَ الْبَيْت بخفض الْبُخْل فَيكون (لَا) محكية وَهِي مُضَافَة إِلَى الْبُخْل، أَي لَا الَّتِي تقال عِنْد الْبُخْل بالبذل وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر لِأَنَّهُ مُنَاسِب لمقابلته بِكَلِمَة «نعم».
وَهَذَا الْوَصْفُ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ عَنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ خَلَقَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ الضَّعِيفِ إِنْسَانًا شَدِيدَ الْقُوَّةِ عَقْلًا وَجِسْمًا.
وَحَرْفُ مِنْ لِلِابْتِدَاءِ لِأَنَّ تَكْوِينَ الْإِنْسَانِ نَشَأَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ النَّخْلَةَ مِنْ نُوَاةٍ تَوْزَرِيَّةٍ.
وَجُعِلَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ تَخَلُّقُهُ إِلَّا بِذَلِكَ الْمَاءِ إِذَا لَاقَى بُوَيْضَاتِ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ، فَاقْتَصَرَتِ الْآيَةُ عَلَى مَا هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْوِينَ الْجَنِينِ مِنْ مَاءِ الْمَرْأَةِ وَمَاءِ الرَّجُلِ.
وَقَوْلُهُ: فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ الْخَلْقِ عَلَى سَبِيلِ الْإِدْمَاجِ مَعَ مُنَاسَبَتِهِ لِأَنَّ لَهُ دَخْلًا فِي تَبْيِينِ إِمْكَانِ الْإِعَادَةِ إِذْ شَدِيدُ الْقُدْرَةِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءُ، وَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ فَنِعْمَ الْقادِرُونَ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ الْآتِيَيْنِ.
وَالْقَرَارُ: مَحَلُّ الْقُرُورِ وَالْمُكْثِ.
ومَكِينٍ: صِفَةٌ لِ قَرارٍ، أَيْ مَكَانٍ مُتَمَكِّنٍ فِي ذَلِكَ فَهُوَ فَعِيلٌ مَنْ مَكُنَ مَكَانَةً، إِذَا ثَبَتَ وَرَسَخَ.
وَوُصِفَ الْقَرَارُ بِالْمَكِينِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، أَيْ مَكِينُ الْحَالِ وَالْمُسْتَقَرُّ فِيهِ.
فَالتَّقْدِيرُ: مَكِينٌ فِيهِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَرَارِ الْمَكِينِ: الرَّحِمُ.
وَالْقَدَرُ: بِفَتْحِ الدَّالِّ الْمِقْدَارُ الْمُعَيَّنُ الْمَضْبُوطُ، وَالْمُرَادُ مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ وَهُوَ مُدَّةُ الْحَمْلِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ فَقَدَرْنا بِتَشْدِيدِ الدَّالِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ مِنْ قَدَرَ الْمُتَعَدِّي وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَالُ: قَدَّرَ بِالتَّشْدِيدِ تَقْدِيرًا فَهُوَ مُقَدَّرٌ، وَقَدَرَ
بِالتَّخْفِيفِ قَدْرًا فَهُوَ قَادِرٌ، إِذَا جَعَلَ الشَّيْءَ عَلَى مِقْدَارٍ مُنَاسِبٍ لِمَا جُعِلَ لَهُ.
وَالْمَعْنَى: فَقَدَّرْنَا الْخَلْقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس: ١٩] وَقَوْلِهِ:
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفرْقَان: ٢].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «الدِّينُ» بِمَعْنَى الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَة: ٤] وَقَوْلِهِ: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ [الانفطار: ١٥] وَتَكُونُ الْبَاءُ صِلَةَ (يُكَذِّبُ) كَقَوْلِهِ:
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [الْأَنْعَام: ٦٦] وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ (١) [الْأَنْعَام: ٥٧].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مَا) مَوْصُولَة وَمَا صدقهَا المكذب، فَهِيَ بِمَعْنَى (مَنْ)، وَهِيَ فِي مَحَلِّ مُبْتَدَأٍ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي يُكَذِّبُكَ عَائِدٌ إِلَى (مَا) وَهُوَ الرَّابِطُ لِلصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَي ينسبك إِلَى الْكَذِب بِسَبَبِ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ
الْإِسْلَامِ أَوْ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ.
وَحُذِفَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ بَعْدُ فَبُنِيَتْ بَعْدُ عَلَى الضَّمِّ وَالتَّقْدِيرُ: بَعْدَ تَبَيُّنِ الْحَقِّ أَوْ بَعْدَ تَبَيُّنِ مَا ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَسْفَلِ سَافِلِينَ.
وَجُمْلَةُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا عَنْ (مَا) وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ فِيهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ دَلِيلًا عَلَى الْخَبَرِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنْ (مَا) الْمَوْصُولَةِ وَحُذِفَ إِيجَازًا اكْتِفَاءً بِذِكْرِ مَا هُوَ كَالْعِلَّةِ لَهُ فَالتَّقْدِيرُ فَالَّذِي يُكَذِّبُكَ بِالدِّينِ يَتَوَلَّى اللَّهُ الِانْتِصَافَ مِنْهُ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ.
وَ «أَحْكَمُ» يَجُوزُ أَن يكون مأخودا مِنَ الْحُكْمِ، أَيْ أَقْضَى الْقُضَاةِ، وَمَعْنَى التَّفْضِيلِ أَنَّ حُكْمَهُ أَسَدُّ وَأَنْفَذُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الْحِكْمَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَقْوَى الْحَاكِمِينَ حِكْمَةً فِي قَضَائِهِ بِحَيْثُ لَا يُخَالِطُ حُكْمَهُ تَفْرِيطٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَنَوْطُ الْخَبَرِ بِذِي وَصْفٍ يُؤْذِنُ بِمُرَاعَاةِ خَصَائِصِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ الْوَصْفُ فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ، عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَفُوقُ قَضَاؤُهُ كُلَّ قَضَاءٍ فِي خَصَائِصِ الْقَضَاءِ وَكَمَالَاتِهِ، وَهِيَ: إِصَابَةُ الْحَقِّ، وَقَطْعُ دَابِرِ الْبَاطِلِ، وَإِلْزَامُ كُلِّ مَنْ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالِامْتِثَالِ لِقَضَائِهِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِهِ.
_________
(١) فِي المطبوعة: (قل أَرَأَيْتُم إِن كنت على بَيِّنَة من رَبِّي وكذبتم بِهِ) وَهُوَ خطأ.


الصفحة التالية
Icon