خِلَافٌ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، مَنَعَ ذَلِكَ الْفَرَّاءُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَأَجَازَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٌ. وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْجُمْلَةَ الْحَالِيَّةَ تَسْتَغْنِي بِالضَّمِيرِ عَنِ الْوَاوِ وَبِالْوَاوِ عَنِ الضَّمِيرِ فَإِذَا كَانَتْ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ لِصَاحِبِهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى ضَمِيرِهِ أَوْ ضَمِيرِ سَبَبِيِّهِ فَاسْتَغْنَتْ عَنِ الْوَاوِ نَحْوُ الْآيَةِ وَنَحْوُ جَاءَ زَيْدٌ يَدُهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ أَبُوهُ يُرَافِقُهُ، وَإِلَّا وَجَبَتِ الْوَاوُ إِذْ لَا رَابِطَ حِينَئِذٍ غَيْرُهَا نَحْوُ جَاءَ زَيْدٌ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ وَقَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا:
فَخَالَطَ سَهْلَ الْأَرْضِ لَمْ يَكْدَحِ الصَّفَا | بِهِ كَدْحَةٌ وَالْمَوْتُ خَزْيَانُ يَنْظُرُ |
[٣٧]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٣٧]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)
جَاءَ بِالْفَاءِ إِيذَانًا بِمُبَادَرَةِ آدَمَ بِطَلَبِ الْعَفْوِ. وَالتَّلَقِّي اسْتِقْبَالُ إِكْرَامٍ وَمَسَرَّةٍ قَالَ تَعَالَى:
وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٣] وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ صِيغَةُ تَفَعَّلَ مَنْ لَقِيَهُ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى التَّكَلُّفِ لِحُصُولِهِ وَتَطَلُّبِهِ وَإِنَّمَا يُتَكَلَّفُ وَيُتَطَلَّبُ لِقَاءُ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ بِخِلَافِ لَاقَى فَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمُلَاقَى مَحْبُوبًا بَلْ تَقُولُ لَاقَى الْعَدْوَ. وَاللِّقَاءُ الْحُضُورُ نَحْوُ الْغَيْرِ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَفِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً [الْأَنْفَال: ٤٥] الْآيَةَ فَالتَّعْبِيرُ بِتَلَقَّى هُنَا مُؤَذِنٌ بِأَنَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي أَخَذَهَا آدَمُ كَلِمَاتٌ نَافِعَةٌ لَهُ
فَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَلِمَاتِ زَجْرٍ وَتَوْبِيخٍ بَلْ كَلِمَاتُ عَفْو ومغفرة ورضى وَهِيَ إِمَّا كَلِمَاتٌ لُقِّنَهَا آدَمُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَقُولَهَا طَالِبًا الْمَغْفِرَةَ وَإِمَّا كَلِمَاتُ إِعْلَامٍ مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ عَفَا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ أَهْبِطَهُ مِنَ الْجَنَّةِ اكْتِفَاءً بِذَلِكَ فِي الْعُقُوبَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَلِمَاتُ عَفْوٍ عَطْفُ فَتابَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ إِذْ لَوْ كَانَتْ كَلِمَاتِ تَوْبِيخٍ لَمَا صَحَّ التَّسَبُّبُ.
وَتَلَقِّي آدَمَ لِلْكَلِمَاتِ إِمَّا بِطَرِيقِ الْوَحْيُُِ
عَنْ مَالِكٍ قَالَ:
«وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ هُوَ مَنْسُوخٌ فَقَالَ النَّحَّاسُ: «مَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ بَيَّنَ مَا النَّاسِخُ، وَالَّذِي يُبَيِّنُهُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ لَهَا عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا نَفَقَةَ حَوْلٍ، وَالسُّكْنَى مِنْ مَالِ الْمُتَوَفَّى، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ نَسْخٌ أَيْضًا عَنِ الْوَارِثِ» يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا نَسَخَ وُجُوبَ ذَلِكَ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ نَسَخَ كُلَّ حَقٍّ فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ الْمِيرَاثِ، فَيَكُونُ النَّاسِخُ هُوَ الْمِيرَاثَ، فَإِنَّهُ نَسَخَ كُلَّ حَقٍّ فِي الْمَالِ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ.
وَعِنْدِي أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي فِي «مُدَوَّنَةِ سَحْنُونٍ» بَعِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَأَنَّ مَا نَحَاهُ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ، وَأَنَّ النَّسْخَ عَلَى ظَاهِرِ الْمُرَادِ مِنْهُ، وَالنَّاسِخَ لِهَذَا الْحُكْمِ هُوَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَقَّ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، بَعْدَ جِهَازِهِ وَقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ، إِلَّا الْمِيرَاثَ فَنَسَخَ بِذَلِكَ كُلَّ مَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ أَنْ يُدْفَعَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ مِثْلَ الْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ [الْبَقَرَة: ١٨٠] الْآيَةَ، وَمِثْلَ الْوَصِيَّةِ بِسُكْنَى الزَّوْجَةِ وَإِنْفَاقِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [الْبَقَرَة:
٢٤٠] وَنُسِخَ مِنْهُ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَلَّا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»
هَذَا إِذَا حُمِلَ الْوَارِثُ فِي الْآيَةِ عَلَى وَارِثِ الْمَيِّتِ أَيْ إِنَّ ذَلِكَ
حَقٌّ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ أَيًّا كَانُوا بِمَعْنَى أَنَّهُ مَبْدَأُ الْمَوَارِيثِ. وَإِذَا حُمِلَ الْوَارِثُ عَلَى مَنْ هُوَ بِحَيْثُ يَرِثُ الْمَيِّتَ لَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ مَالًا، أَعْنِي قَرِيبَهُ، بِمَعْنَى أَنَّ عَلَيْهِ إِنْفَاقَ ابْنِ قَرِيبِهِ، فَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِوَضْعِ بَيْتِ الْمَالِ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرَعَتْ هَذَا الْحُكْمَ فِي وَقْتِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ، لِإِقَامَةِ أَوَدِ نِظَامِهِمْ بِتَرْبِيَةِ أَطْفَالِ فُقَرَائِهِمْ، وَكَانَ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ أَقْرَبَهُمْ مِنَ الطِّفْلِ فَكَمَا كَانَ يَرِثُ قَرِيبَهُ، لَوْ تَرَكَ مَالًا وَلَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا فَكَذَلِكَ عَلَيْهِ أَن يُقَام بِبَيِّنَةٍ، كَمَا كَانَ حُكْمُ الْقَبِيلَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي ضَمِّ أَيْتَامِهِمْ وَدَفْعِ دِيَاتِهِمْ، فَلَمَّا اعْتَزَّ الْإِسْلَامُ صَار لِجَامِعَةِ الْمُسْلِمِينَ مَالٌ، كَانَ حَقًّا عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ بِتَرْبِيَةِ أَبْنَاءِ فُقَرَائِهِمْ،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَنْ تَرَكَ كَلًّا، أَوْ ضَيَاعًا، فَعَلَيَّ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَارِثِهِ»
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إِطْعَامِ الْفَقِيرِ وَبَيْنَ إِرْضَاعِهِ، وَمَا هُوَ إِلَّا نَفَقَةٌ، وَلِمَثَلِهِ وُضِعَ بَيْتُ الْمَالِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ لِأَنَّهُ مُتَفَرِّعٌ عَنْهُ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْوَالِدَةِ وَالْمَوْلُودِ لَهُ الْوَاقِعَيْنِ فِي الْجُمَلِ قَبْلَ هَذِهِ.
وَالْمُخَاطَبُ بِ يُشْعِرُكُمْ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَالْمُؤْمِنُونَ،
وَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ قَوْلَهُ: لَا يُؤْمِنُونَ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ-. وَالْمُخَاطَبُ بِ يُشْعِرُكُمْ الْمُشْرِكُونَ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، وَحَمْزَةَ، وَخَلَفٍ لَا تُؤْمِنُونَ- بِتَاءِ الْخِطَابِ-، وَتَكُونُ جُمْلَةُ وَما يُشْعِرُكُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَمر الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ.
وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّشْكِيكِ وَالْإِيقَاظِ، لِئَلَّا يَغُرَّهُمْ قَسَمُ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تُرَوَّجُ عَلَيْهِمْ تُرَّهَاتُهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ فِي الِاسْتِفْهَامِ شَيْءٌ مِنَ الْإِنْكَارِ وَلَا التَّوْبِيخِ وَلَا التَّغْلِيظِ إِذْ لَيْسَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ وَلَا فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يُؤْثَرُ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا يَقْتَضِي إِرَادَةَ توبيخهم وَلَا تغليطهم، إِذْ لَمْ يَثْبُتُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ طَمِعُوا فِي حُصُولِ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أَنْ يُجَابُوا إِلَى إِظْهَارِ آيَةٍ حَسَبَ مُقْتَرَحِهِمْ، وَكَيف والمسلمون يقرأون قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَات رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ وَهِيَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٩٦، ٩٧] وَهِيَ نَازِلَةٌ قَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ كَذِبَ الْمُشْرِكِينَ فِي الدِّينِ وَتَلَوُّنَهُمْ فِي اخْتِلَاقِ الْمَعَاذِيرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ تَحْقِيقُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَسِيقَ الْخَبَرُ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مِنْ شَأْنه أَن يهيّء نَفْسَ السَّامِعِ لِطَلَبِ جَوَابِ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ فَيَتَأَهَّبُ لِوَعْيِ مَا يَرُدُّ بَعْدَهُ.
وَالْإِشْعَارُ: الْإِعْلَامُ بِمَعْلُومٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْفَى وَيَدِقَّ. يُقَالُ: شَعَرَ فُلَانٌ بِكَذَا، أَيْ عَلِمَهُ وَتَفَطَّنَ لَهُ، فَالْفِعْلُ يَقْتَضِي مُتَعَلِّقًا بِهِ بَعْدَ مَفْعُولِهِ وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ، فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ. وَالتَّقْدِيرُ: بِأَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَحَذْفُ الْجَارِّ مَعَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ حَذْفٌ مُطَّرِدٌ.
وَهَمْزَةُ (أَنَّ) مَفْتُوحَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَالْمَعْنَى أَمُشْعِرٌ يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، أَيْ بِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ.
بِشَرَرِهَا فَيُرَوِّعُهُمُ الْمَنْظَرُ، أَوْ يُشَاهِدُونَهَا عَنْ بُعْدٍ لَا تَتَّضِحُ مِنْهُ الْأَشْيَاءُ وَتَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مَخَائِلُ تَوَقُّعِهِمْ أَنَّهُمْ بالغون إِلَيْهِ فيزدادون رَوْعًا وَتَهْوِيلًا، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ جَهَنَّمَ تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا فِي أَثْنَاءِ حِكَايَةِ حَالِهِمْ، أَوْ فِي خِتَامِ حِكَايَةِ حَالِهِمْ.
فَضَمِيرُ إِنَّها عَائِدٌ إِلَى جَهَنَّمَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كَمَا يُقَالُ لِلَّذِي يُسَاقُ إِلَى الْقَتْلِ وَقَدْ رَأَى رَجُلًا بِيَدِهِ سَيْفٌ فَاضْطَرَبَ لِرُؤْيَتِهِ فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّهُ الْجَلَّادُ.
وَإِجْرَاءُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهَا لِزِيَادَةِ التَّرْوِيعِ وَالتَّهْوِيلِ، فَإِنْ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ الشَّرَرَ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُ فَوَصَفَهُ لَهُمْ لِتَأْكِيدِ التَّرْوِيعِ وَالتَّهْوِيلِ بِتَظَاهُرِ السَّمْعِ مَعَ الرُّؤْيَةِ. وَإِنْ كَانُوا عَلَى بُعْدٍ مِنْهُ فَالْوَصْفُ لِلْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ الْفَظِيعَةِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَا يَشُكُّونَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ رَأَوْهُ أَوْ أُخْبِرُوا بِهِ.
وَالشَّرَرُ: اسْمُ جَمْعِ شَرَرَةٍ: وَهِيَ الْقِطْعَةُ الْمُشْتَعِلَةُ مِنْ دَقِيقِ الْحَطَبِ يَدْفَعُهَا لَهَبُ النَّارِ
فِي الْهَوَاءِ مِنْ شِدَّةِ الْتِهَابِ النَّارِ.
وَالْقَصْرُ: الْبِنَاءُ الْعَالِي. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْجِنْسِ، أَيْ كَالْقُصُورِ لِأَنَّهُ شُبِّهَ بِهِ جَمْعٌ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ مِثْلُ تَعْرِيفِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ [الْحَدِيد: ٢٥]، أَيِ الْكُتُبَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ، أَيْ كُلِّ شَرَرَةٍ كَقَصْرٍ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ فِي عِظَمِ حَجْمِهِ.
وَقَوله: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ تَشْبِيه لَهُ فِي حَجْمِهِ وَلَوْنِهِ وَحَرَكَتِهِ فِي تَطَايُرِهِ بِجِمَالَاتٍ صُفْرٍ. وَضَمِيرُ كَأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى شَرَرٍ.
وَالْجِمَالَاتُ: بِكَسْرِ الْجِيمِ جَمْعُ جِمَالَةٍ، وَهِيَ اسْمُ جَمْعِ طَائِفَةٍ مِنَ الْجِمَالِ، أَيْ تُشْبِهُ طَوَائِفَ مِنَ الْجِمَالِ مُتَوَزِّعَةً فِرَقًا، وَهَذَا تَشْبِيهٌ مُرَكَّبٌ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ فِي هَيْئَةِ الْحَجْمِ مَعَ لَوْنِهِ مَعَ حَرَكَتِهِ. وَالصُّفْرَةُ: لَوْنُ الشَّرَرِ إِذَا ابْتَعَدَ عَنْ لَهِيبِ نَارِهِ.
وَعُدِلَ عَنِ اسْمِ اللَّهِ الْعَلَمِ إِلَى صِفَةِ رَبِّكَ لِمَا يُؤْذِنُ وَصْفُ الرَّبِّ مِنَ الرَّأْفَةِ بِالْمَرْبُوبِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ، مَعَ مَا يَتَأَتَّى بِذِكْرِهِ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِضَافَةً مُؤْذِنَةً بِأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِرُبُوبِيَّتِهِ عِنْدَهُ رَدًّا عَلَى الَّذِينَ جَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَرْبَابًا مَنْ دُونِ اللَّهِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلًا لِلتَّوْحِيدِ فِي الْإِسْلَامِ.
وَجِيءَ فِي وَصْفِ الرَّبِّ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ الَّذِي خَلَقَ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَيُتْلَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِمَا تُفِيدُهُ الْمَوْصُولِيَّةُ من الْإِيمَاء
إِي عِلَّةِ الْخَبَرِ، وَإِذَا كَانَتْ عِلَّةُ الْإِقْبَالِ عَلَى ذِكْرِ اسْمِ الرَّبِّ هِيَ أَنَّهُ خَالِقٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ الْإِقْبَالِ عَلَى ذِكْرِ غَيْرِهِ الَّذِي لَيْسَ بِخَالِقٍ، فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُقْبِلُونَ عَلَى اسْمِ اللَّاتِ وَاسْمِ الْعُزَّى، وَكَوْنُ اللَّهِ هُوَ الْخَالِقَ يَعْتَرِفُونَ بِهِ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: ٢٥] فَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ مقَام ابْتِدَاء كتاب الْإِسْلَامِ دِينِ التَّوْحِيدِ كَانَ مُقْتَضِيًا لِذِكْرِ أَدَلِّ الْأَوْصَافِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ.
وَجُمْلَةُ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ الَّذِي خَلَقَ بَدَلَ مُفَصَّلٍ مِنْ مُجْمَلٍ إِنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ مَفْعُولٌ، أَوْ بَدَلَ بَعْضٍ إِنْ قُدِّرَ لَهُ مَفْعُولٌ عَامٌّ، وَسُلِكَ طَرِيقُ الْإِبْدَالِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ ابْتِدَاءً لِإِقَامَةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى افْتِقَارِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا إِلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الشُّرُوعِ فِي تَأْسِيسِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ. فَفِي الْإِجْمَالِ إِحْضَارٌ لِلدَّلِيلِ مَعَ الِاخْتِصَارِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِفَادَةِ التَّعْمِيمِ ثُمَّ يَكُونُ التَّفْصِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا مِنَ الَّذِي خَلَقَ إِذَا قُدِّرَ لِفِعْلِ خَلَقَ الْأَوَّلِ مَفْعُولٌ دَلَّ عَلَيْهِ بَيَانُهُ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ.
وَعَدَمُ ذِكْرِ مَفْعُولٍ لِفِعْلِ خَلَقَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيِ الَّذِي هُوَ الْخَالِقُ وَأَنْ يَكُونَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ خَلَقَ كُلَّ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ اعْتِمَادًا عَلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ خَلَقَ الْإِنْسانَ، فَهَذِهِ مَعَانٍ فِي الْآيَةِ.