حُصُولِ الْجَوَابِ مُتَوَقِّفًا عَلَى حُصُولِ الشَّرْطِ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ مَا هُوَ إِلَّا خَبَرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ، إِذْ حَاصِلُهُ الْإِخْبَارُ بِتَوَقُّفِ حُصُولِ الْجَزَاءِ عَلَى حُصُولِ الشَّرْطِ فَلَا جَرَمَ كَانَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ قَابِلًا لِلتَّوْكِيدِ وَقَلَّمَا خَلَا فِعْلُ الشَّرْطِ مَعَ إِمَّا عَنْ نُونِ التَّوْكِيدِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً نِعَالَ لَنَا | إِنَّا كَذَلِكَ مَا نَحْفَى وَنَنْتَعِلُ |
وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ مَنْ شَرْطِيَّةٌ بِدَلِيلِ دُخُولِ الْفَاءِ فِي جَوَابِهَا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْفَاءَ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ كَثِيرًا فَذَلِكَ عَلَى مُعَامَلَتِهِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فَلْتُحْمَلْ هُنَا عَلَى الشُّرْطِيَّةِ اخْتِصَارًا لِلْمَسَافَةِ.
وَأُظْهِرَ لَفْظَ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ: هُدايَ وَهُوَ عَيْنُ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ: مِنِّي هُدىً فَكَانَ الْمَقَامُ لِلضَّمِيرِ الرَّابِطِ لِلشَّرْطِيَّةِ الثَّانِيَةِ بِالْأَوْلَى لَكِنَّهُ أُظْهِرَ اهْتِمَامًا بِالْهُدَى لِيَزِيدَ رُسُوخًا فِي أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى حَدِّ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: ١٥، ١٦] وَلِتَكُونَ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا لَا تَشْتَمِلُ عَلَى عَائِدٍ يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ مُعَادٍ حَتَّى يَتَأَتَّى تَسْيِيرُهَا مَسِيرَ الْمَثَلِ أَوِ النَّصِيحَةِ فَتُلْحَظُ فَتُحْفَظُ وَتَتَذَكَّرُهَا النُّفُوسُ لِتُهَذَّبَ وَتَرْتَاضَ كَمَا أَظْهَرَ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الْإِسْرَاء: ٨١] لِتَسِيرَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ مَسِيرَ الْمَثَلِ وَمِنْهُ قَوْلُ بَشَّارٍ:
إِذَا بَلَّغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ | بِرَأْيِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ |
وَلَا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً | مَكَانُ الْخَوَافِي قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ |
وَأَدْنِ إِلَى الشُّورَى الْمُسَدَّدَ رَأْيُهُ | وَلَا تُشْهِدِ الشُّورَى امْرَأً غَيْرَ كَاتِمِ |
وَقَوْلُهُ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [الْبَقَرَة: ٢٢٨].
وَتَأْنِيثُ اسْمِ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِ: وَعَشْراً لِمُرَاعَاةِ اللَّيَالِي، وَالْمُرَادُ: اللَّيَالِي بِأَيَّامِهَا إِذْ لَا تَكُونُ لَيْلَةٌ بِلَا يَوْمٍ وَلَا يَوْمٌ بِلَا لَيْلَةٍ، وَالْعَرَبُ تَعْتَبِرُ اللَّيَالِيَ فِي التَّارِيخِ وَالتَّأْجِيلِ، يَقُولُونَ: كَتَبَ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ فِي شَهْرِ كَذَا، وَرُبَّمَا اعْتَبَرُوا الْأَيَّامَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٦] وَقَالَ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَة: ١٨٤] لِأَنَّ عَمَلَ الصِّيَامِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْيَوْمِ لَا فِي اللَّيْلَةِ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَالْعَرَبُ تُجْرِي أَحْكَامَ التَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ فِي أَسْمَاءِ الْأَيَّامِ إِذَا لَمْ تَجْرِ عَلَى لَفْظٍ مَذْكُورٍ، بِالْوَجْهَيْنِ قَالَ تَعَالَى: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه: ١٠٣- ١٠٤] فَأَرَادَ بِالْعَشْرِ: الْأَيَّامَ وَمَعَ ذَلِكَ جَرَّدَهَا مِنْ عَلَامَةِ تَذْكِيرِ الْعَدَدِ، لِأَنَّ الْيَوْمَ يُعْتَبَرُ مَعَ لَيْلَتِهِ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مَنُوطَةً بِالْأَمَدِ الَّذِي يَتَحَرَّكُ فِي مِثْلِهِ الْجَنِينُ تَحَرُّكًا بَيِّنًا، مُحَافَظَةً عَلَى أَنْسَابِ الْأَمْوَاتِ فَإِنَّهُ جَعَلَ عِدَّةَ الطَّلَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ دَلَالَةً ظَنِّيَّةً وَهُوَ الْأَقْرَاءُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ يَعْلَمُ حَالَ مُطَلَّقَتِهِ مِنْ طُهْرٍ وَعَدَمِهِ، وَمِنْ قُرْبَانِهِ إِيَّاهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَعَدَمِهِ، وَكَذَلِكَ الْعُلُوقُ لَا يَخْفَى فَلَوْ أَنَّهَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ نَسَبًا وَهُوَ يُوقِنُ بِانْتِفَائِهِ، كَانَ لَهُ فِي اللِّعَانِ مَنْدُوحَةٌ، أَمَّا الْمَيِّتُ فَلَا يُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهِ، فَجُعِلَتْ عِدَّتُهُ أَمَدًا مَقْطُوعًا بِانْتِفَاءِ الْحَمْلِ فِي مِثْلِهِ وَهُوَ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ وَالْعَشَرَةُ، فَإِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَمَا بَيْنَ اسْتِقْرَارِ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ إِلَى نَفْخِ الرُّوحِ فِي الْجَنِينِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْجَنِينُ عَقِبَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ يَقْوَى تَدْرِيجًا، جُعِلَتِ الْعَشْرُ اللَّيَالِي الزَّائِدَةَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهَرِ، لِتَحَقُّقِ تَحَرُّكِ الْجَنِينِ تَحَرُّكًا بَيِّنًا، فَإِذَا مَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ حَصَلَ الْيَقِينُ بِانْتِفَاءِ الْحَمْلِ إِذْ لَوْ كَانَ
ثَمَّةَ حَمْلٌ لَتَحَرَّكَ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ يَتَحَرَّكُ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَزِيدَتْ عَلَيْهَا الْعَشْرُ احْتِيَاطًا لِاخْتِلَافِ حَرَكَاتِ الْأَجِنَّةِ قُوَّةً وَضَعْفًا، بِاخْتِلَافِ قُوَى الْأَمْزِجَةِ.
وَعُمُومُ الَّذِينَ فِي صِلَتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَزْوَاجِ، يَقْتَضِي عُمُومَ هَذَا الْحُكْمِ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ، سَوَاءٌ كُنَّ حَرَائِرَ أَمْ إِمَاءً، وَسَوَاءٌ كُنَّ حَوَامِلَ أَمْ غَيْرَ حَوَامِلَ، وَسَوَاءٌ كُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ أَمْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِنَّ، فَأَمَّا الْإِمَاءُ فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ عِدَّتَهُنَّ عَلَى نِصْفِ عِدَّةِ الْحَرَائِرِ قِيَاسًا عَلَى تَنْصِيفِ الْحَدِّ، وَالطَّلَاقِ، وَعَلَى تَنْصِيفِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَلَمْ يَقُلْ بِمُسَاوَاتِهِنَّ لِلْحَرَائِرِ، فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ إِلَّا الْأَصَمُّ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ
أَوْ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: ١٠٩]. وَالْمَعْنَى: وَنَحْنُ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ، أَيْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، كِنَايَةً عَنْ تَقْلِيبِ أَجْسَادِهِمْ كُلِّهَا. وَخَصَّ مِنْ أَجْسَادِهِمْ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ لِأَنَّهَا سَبَبُ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْعِبْرَةِ بِالْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الْأَعْرَاف: ١١٦]، أَيْ سَحَرُوا النَّاسَ بِمَا تُخَيِّلُهُ لَهُمْ أَعْيُنُهُمْ.
وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٨].
وَأَقُولُ: هَذَا الْوَجْه يناكده قَوْلُهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ مَرَّتَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي، فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِأَنَّهَا الْحَيَاةُ الْأُولَى فِي الدُّنْيَا.
وَالتَّقْلِيبُ مَصْدَرُ قَلَّبَ الدَّالِّ عَلَى شِدَّةِ قَلْبِ الشَّيْءِ عَنْ حَالِهِ الْأَصْلِيَّةِ. وَالْقَلْبُ يَكُونُ بِمَعْنَى جَعْلِ الْمُقَابِلِ لِلنَّظَرِ مِنَ الشَّيْءِ غَيْرَ مُقَابِلٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها [الْكَهْف: ٤٢]، وَقَوْلِهِمْ: قَلَبَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [الْبَقَرَة: ١٤٤] وَيَكُونُ بِمَعْنَى تَغْيِيرِ حَالَةِ الشَّيْءِ إِلَى ضِدِّهَا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ قَلْبَ ذَاتِ الشَّيْءِ.
وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلتَّشْبِيهِ فِي مَحَلِّ حَالٍ مِنْ ضَمِيرِ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: ١٠٩]، وَ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: لَا يُؤْمِنُونَ مِثْلَ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ السِّيَاقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الْأَنْعَام: ٦٦]، أَيْ أَنَّ الْمُكَابَرَةَ سَجِيَّتُهُمْ فَكَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا فِي الْمَاضِي بِآيَةِ الْقُرْآنِ وَفِيهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يُؤْمِنُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِآيَةٍ أُخْرَى إِذَا جَاءَتْهُمْ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ مُعْتَرِضًا بِالْعَطْفِ بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ التَّشْبِيهَ لِلتَّقْلِيبِ فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي نُقَلِّبُ، أَيْ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عَنْ فِطْرَةِ الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ كَمَا قَلَّبْنَاهَا فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ إِذْ جَمَحُوا عَنِ
وَجُمْلَةُ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ بَيَانٌ لِلْفَصْلِ بِأَنَّهُ الْفَصْلُ فِي النَّاسِ كُلِّهِمْ لِجَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُسِيئِينَ كُلِّهِمْ، فَلَا جَرَمَ جُمِعَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ قَالَ تَعَالَى:
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الْوَاقِعَة: ٤٩، ٥٠].
وَالْمُخَاطَبُونَ بِضَمِيرِ جَمَعْناكُمْ: الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ سَبَقَ الْكَلَامُ لِتَهْدِيدِهِمْ وَهُمُ الْمُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّ عَطْفَ وَالْأَوَّلِينَ عَلَى الضَّمِيرِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِجَمِيعِ
الْمُكَذِّبِينَ مِثْلَ الضَّمَائِرِ الَّتِي قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُكَذِّبِينَ فَلَا يُقَالُ لَهُمْ:
جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ.
وَالْمَعْنَى: جَمَعْنَاكُمْ وَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ.
وَقَدْ أُنْذِرُوا بِمَا حَلَّ بِالْأَوَّلِينَ أَمْثَالِهِمْ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ [المرسلات: ١٦]. فَأُرِيدَ تَوْقِيفُهُمْ يَوْمَئِذٍ عَلَى صِدْقِ مَا كَانُوا يُنْذَرُونَ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ مَصِيرِهِمْ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ أَمْثَالُهُمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يتَعَلَّق الْغَرَض يَوْمئِذٍ بِذِكْرِ الْأُمَمِ الَّتِي جَاءَتْ مِنْ بَعْدِهِمْ.
وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الضَّمِيرِ فُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ فَكَانَ تَخَلُّصًا إِلَى تَوْبِيخِ الْحَاضِرِينَ عَلَى مَا يَكِيدُونَ بِهِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق: ١٥- ١٧] وَأَنَّ كَيْدَهُمْ زَائِلٌ وَأَنَّ سُوءَ الْعُقْبَى عَلَيْهِمْ.
وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ، أَيْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ الْيَوْمَ كَمَا كَانَ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا، أَيْ كَيْدٌ بِدِينِي وَرَسُولِي فَافْعَلُوهُ.
وَالْأَمْرُ لِلتَّعْجِيزِ، وَالشَّرْطُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّذْكِيرِ بِسُوءِ صَنِيعِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْعَجْزِ عَنِ الْكَيْدِ يَوْمَئِذٍ حَيْثُ مُكِّنُوا مِنَ الْبَحْثِ عَمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِنَ الْكَيْدِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِيعُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ سُجِّلَ عَلَيْهِمُ الْعَجْزُ. وَهَذَا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يُعَذَّبُونَهُ إِذْ هُوَ مِنْ نَوْعِ الْعَذَابِ النَّفْسَانِيِّ وَهُوَ أَوْقَعُ عَلَى الْعَاقِلِ مِنَ الْعَذَاب الجسماني.
[٤٠]
[سُورَة المرسلات (٧٧) : آيَة ٤٠]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠)
تَكْرِيرٌ لِلْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ كَاتِّصَالِ نَظِيرِهِ الْمَذْكُور آنِفا.
بِالْقَلَمِ إِيمَاءٌ إِلَى اسْتِمْرَارِ صِفَةِ الْأُمِّيَّةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا وَصْفٌ مُكَمِّلٌ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى:
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: ٤٨].
وَهَذِهِ آخِرُ الْخَمْسِ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَار حراء.
[٦- ١٠]
[سُورَة العلق (٩٦) : الْآيَات ٦ إِلَى ١٠]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِظُهُورِ أَنَّهُ فِي غَرَضٍ لَا اتِّصَالَ لَهُ بِالْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَحَرْفُ كَلَّا رَدْعٌ وَإِبْطَالٌ، وَلَيْسَ فِي الْجُمْلَة الَّتِي قبله مَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ وَالرَّدْعَ، فَوُجُودُ كَلَّا فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّدْعِ هُوَ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى الْآيَةَ.
وَحَقُّ كَلَّا أَنْ تَقَعَ بَعْدَ كَلَامٍ لِإِبْطَالِهِ وَالزَّجْرِ عَنْ مَضْمُونِهِ، فَوُقُوعُهَا هُنَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ الْآتِي بَعْدَهَا حَقِيقٌ بِالْإِبْطَالِ وَبِرَدْعِ قَائِلِهِ، فَابْتُدِئَ الْكَلَامُ بِحَرْفِ الرَّدْعِ لِلْإِبْطَالِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَنْ يُفْتَتَحَ الْكَلَامُ بِحَرْفِ نَفْيٍ لَيْسَ بَعْدَهُ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَلِيَ الْحَرْفَ كَمَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَلَا وَأَبِيك ابْنة العامر | يّ لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرّ |
، لَا نَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ شَيْءٍ بَلَغَهُ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى الْآيَاتِ اهـ.