وَالْإِتْيَانُ (١) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ بِحَرْفِ الشَّرْطِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ إِيذَانٌ بِبَقِيَّةٍ مِنْ عِتَابٍ عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِ الْهُدَى الْأَوَّلِ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ مُحَاوَلَةَ هَدْيِكُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا جَدْوَى لَهَا كَمَا يَقُولُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِمَا أَوْصَاهُ بِهِ فَغَضِبَ عَلَيْهِ ثُمَّ اعْتَذَرَ لَهُ فَرَضِيَ عَنْهُ: إِنْ أَوْصَيْتُكَ يَوْمًا آخَرَ بِشَيْءٍ فَلَا تَعُدْ لِمِثْلِ فَعْلَتِكَ، يُعَرِّضُ لَهُ بِأَنَّ تَعَلُّقَ الْغَرَضِ بِوَصِيَّتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَمْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ إِذْ لَعَلَّهُ قَلِيلُ الْجَدْوَى، وَهَذَا وَجْهٌ بَلِيغٌ فَاتَ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» حَجَبَهُ عَنْهُ تَوْجِيهُ تَكَلُّفِهِ لِإِرْغَامِ الْآيَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ دَلِيلًا لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِعَدَمِ وُجُوبِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِهُدَى الْعَقْلِ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ مَعَ كَوْن هُدَى اللَّهِ تَعَالَى النَّاسَ وَاجِبًا عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ التَّكَلُّفُ كَثِيرٌ فِي «كِتَابِهِ» وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِرُسُوخِ
قَدَمِهِ فِي الْعِلْمِ، فَكَانَ تَقْرِيرُهُ هَذَا كَالِاعْتِذَارِ عَنِ الْقَوْلِ بِعَدَمِ وُجُوبِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ عَلَى أَنَّ الْهُدَى لَا يَخْتَصُّ بِالْإِيمَانِ الَّذِي يُغْنِي فِيهِ الْعَقْلُ عَنِ الرِّسَالَةِ عِنْدَهُمْ بَلْ مُعْظَمُهُ هُدَى التَّكَالِيفِ وَكَثِيرٌ مِنْهَا لَا قِبَلَ لِلْعَقْلِ بِإِدْرَاكِهِ، وَهُوَ عَلَى أُصُولِهِمْ أَيْضًا وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ إِبْلَاغُهُ لِلنَّاسِ فَيَبْقَى الْإِشْكَالُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِحَرْفِ الشَّكِّ هُنَا بِحَالِهِ فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ أَسْعَدَ بِمَذْهَبِنَا أَيُّهَا الْأَشَاعِرَةَ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْهُدَى كُلِّهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَوْ شِئْنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ الْبَيْضَاوِيُّ وَلَكِنَّا لَا نَرَاهَا وَارِدَةً لِأَجْلِهِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الْآيَةَ هُوَ فِي مَعْنَى الْعَهْدِ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى آدَمَ فَلَزِمَ ذُرِّيَّتَهُ أَنْ يَتْبَعُوا كُلَّ هُدًى يَأْتِيهِمْ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هُدًى يَأْتِي مِنَ اللَّهِ فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الْعَذَابَ
_________
(١) اعْلَم أَن أصل تَكْرِير الْكَلِمَة أَو الْجُمْلَة فِي الْكَلَام أَن يكون مَكْرُوها لما يورثه التكرير من سماجة السَّامع، لِأَن الْمَقْصُود من الْكَلَام تجدّد الْمعَانِي غير أَن تِلْكَ الْكَرَاهَة مُتَفَاوِتَة، فتكرير الْمُفْردَات لَا مندوحة عَنهُ، فَكَانَ اخْتِلَاف الْإِخْبَار عَنْهَا والأوصاف دافعا لكَرَاهَة تكريرها، وَلذَلِك لَا يعد تكريرها عَيْبا إِلَّا إِذا كثر فِي كَلَام غير طَوِيل نَحْو:

لَا أرى الْمَوْت يسْبق الْمَوْت شَيْء نغّص الْمَوْت ذَا الْغنى والفقيرا
وَلذَلِك عدت كَثْرَة التكرير مُنَافِيَة للفصاحة. وَأما تَكْرِير الْجمل فِي الْكَلَام الْقَرِيب فأصله السماجة إِلَّا إِذا حصل من التكرير نُكْتَة بلاغية فَحِينَئِذٍ يغالب النشاط الْحَاصِل من التكرير أَو التأثر والانزعاج تِلْكَ السماجة فيدحضها. وَذَلِكَ كتكرير التهويل فِي «قربا مربط النعامة مني» وتكرير التطريب فِي إِعَادَة اسْم المحبوب فيقصد الْمُتَكَلّم تَجْدِيد ذَلِك التأثر فِي السَّامع حبا فِيهِ أَو نكاية وَذَلِكَ تَابع لحالة السامعين فِي ذَلِك الْمقَام بِحَيْثُ لَا يسأمون من التكرير لأَنهم يتطلبونه ويحمدونه لما يَتَجَدَّد لَهُم عِنْده من الانفعال الْحسن.
سِيرِينَ إِلَّا أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: عِدَّتُهُنَّ مِثْلُ الْحَرَائِرِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَقَالَتْ طَوَائِفُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَإِنَّ إِجْمَاعَ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى تَنْصِيفِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي الْأَمَةِ الْمُتَوَفَّى زَوْجُهَا لَمِنْ مُعْضِلَاتِ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، فَبِنَا أَنْ نَنْظُرَ إِلَى حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَإِلَى حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ التَّنْصِيفِ لِذِي الرِّقِّ، فِيمَا نَصِفُ لَهُ فِيهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَنَرَى بِمَسْلَكِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِحِكْمَةٍ تُحَقِّقُ النَّسَبَ أَوْ عَدَمَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِقَصْدِ الْإِحْدَادِ عَلَى الزَّوْجِ، لَمَّا نَسَخَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْإِحْدَادِ حَوْلًا كَامِلًا، أَبْقَى لَهُنَّ ثُلُثَ الْحَوْلِ، كَمَا أَبْقَى لِلْمَيِّتِ حَقَّ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَيْسَ لَهَا حِكْمَةٌ غَيْرُ هَذَيْنِ إِذْ لَيْسَ فِيهَا مَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ مِنْ حِكْمَةِ انْتِظَارِ نَدَامَةِ الْمُطَّلِقِ، وَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي بِصَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ، لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالشَّرِيعَةِ أَنْ تُقَرِّرَ أَوْهَامَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَتَبْقَى مِنْهُ تُرَاثًا سَيِّئًا، وَلِأَنَّهُ قَدْ عُهِدَ مِنْ تَصَرُّفِ الْإِسْلَامِ إِبْطَالُ تَهْوِيلِ أَمْرِ الْمَوْتِ وَالْجَزَعِ لَهُ، الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الشَّرِيعَةِ، وَلِأَنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ مِنَ الْوَفَاةِ وَضْعُ حَمْلِهَا، فَلَوْ كَانَتْ عِدَّةَ غَيْرِ الْحَامِلِ لِقَصْدِ اسْتِبْقَاءِ الْحُزْنِ لَاسْتَوَتَا فِي الْعِدَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ حِكْمَةَ عِدَّةِ الْوَفَاةِ هِيَ تَحَقُّقُ الْحَمْلِ أَوْ عَدَمُهُ، فَلْنَنْقُلِ النَّظَرَ إِلَى الْأَمَةِ نَجِدْ فِيهَا وَصَفَّيْنِ: الْإِنْسَانِيَّةُ وَالرِّقُّ، فَإِذَا سَلَكْنَا إِلَيْهِمَا طَرِيقَ تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ، وَجَدْنَا الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ لِتَعْلِيلِ الِاعْتِدَادِ الَّذِي حِكْمَتُهُ تَحَقُّقُ النَّسَبِ هُوَ وَصْفُ الْإِنْسَانِيَّةِ إِذِ الْحَمْلُ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ بِاخْتِلَافِ أَصْنَافِ النِّسَاءِ وَأَحْوَالُهُنَّ الِاصْطِلَاحِيَّةُ أَمَّا الرِّقُّ فَلَيْسَ وَصْفًا صَالِحًا لِلتَّأْثِيرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا نُصِّفَتْ لِلْعَبْدِ أَحْكَامٌ تَرْجِعُ إِلَى الْمُنَاسِبِ التَّحْسِينِيِّ: كَتَنْصِيفِ الْحَدِّ لِضَعْفِ مُرُوءَتِهِ، وَلِتَفَشِّي السَّرِقَةِ فِي الْعَبِيدِ، فَطُرِدَ حُكْمُ التَّنْصِيفِ لَهُمْ فِي غَيْرِهِ.
وَتَنْصِيفُ عِدَّةِ الْأَمَةِ فِي الطَّلَاقِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ، لِعِلَّةِ الرَّغْبَةِ فِي مُرَاجَعَةِ أَمْثَالِهَا، فَإِذَا جَاءَ رَاغِبٌ فِيهَا بَعْدَ قُرْأَيْنِ تَزَوَّجَتْ، وَيَطَّرِدُ بَابُ التَّنْصِيفِ أَيْضًا. فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ عِدَّةُ
الْوَفَاةِ لِلْأَمَةِ كَمِثْلِ الْحُرَّةِ، وَلَيْسَ فِي تَنْصِيفِهَا أَثَرٌ، وَمُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ.
وَأَمَّا الْحَوَامِلُ فَالْخِلَافُ فِيهِنَّ قَوِيٌّ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ عِدَّتَهُنَّ مِنَ الْوَفَاةِ وَضْعُ حَمْلِهِنَّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالك، عُمَرَ وَابْنِهِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرُ: «لَوْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا وَزَوْجَهَا عَلَى سَرِيرِهِ لَمْ يُدْفَنْ لَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ» وَحُجَّتُهُمْ
الْإِيمَانِ أَوَّلَ مَا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَيَصِيرُ هَذَا التَّشْبِيهُ فِي قُوَّةِ الْبَيَانِ لِلتَّقْلِيبِ الْمَجْعُولِ حَالًا مِنِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ بِأَنَّ سَبَبَ صُدُورِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ لَا يَزَالُ قَائِمًا لِأَنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمْ إِصْلَاحَ قُلُوبِهِمْ.
وَجَوَّزَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ مَعَانِيهَا، وَخُرِّجَ
عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩٨]. فَالْمَعْنَى: نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ لِأَنَّهُمْ عَصَوْا وَكَابَرُوا فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالْقُرْآنِ أَوَّلَ مَا تَحَدَّاهُمْ، فَنَجْعَلُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ مُسْتَمِرَّةَ الِانْقِلَابِ عَنْ شَأْنِ الْعُقُولِ وَالْأَبْصَارِ، فَهُوَ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى عَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِعْثَةِ رَسُولِهِ، وَاسْتِخْفَافِهِمْ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّكْذِيبِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ الصَّادِقِ.
وَتَقْدِيمُ الْأَفْئِدَةِ عَلَى الْأَبْصَارِ لِأَنَّ الْأَفْئِدَةَ بِمَعْنَى الْعُقُولِ، وَهِيَ مَحَلُّ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، فَإِذَا لَاحَ لِلْقَلْبِ بَارِقُ الِاسْتِدْلَالِ وَجَّهَ الْحَوَاسَّ إِلَى الْأَشْيَاءِ وَتَأَمَّلَ مِنْهَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ وَعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ بِالْأَفْئِدَةِ عَنِ الْأَبْصَارِ لِأَنَّ الْأَفْئِدَةَ تَخْتَصُّ بِإِدْرَاكِ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ، مِثْلُ آيَةِ الْأُمِّيَّةِ وَآيَةِ الْإِعْجَازِ. وَلَمَّا لَمْ تَكُفَّهُمُ الْآيَاتُ الْعَقْلِيَّةُ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَفْئِدَتِهِمْ لِأَنَّهَا مُقَلَّبَةٌ عَنِ الْفِطْرَةِ وَسَأَلُوا آيَاتٍ مَرْئِيَّةً مُبْصَرَةً، كَأَنْ يَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَيُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ، أخبر الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَوْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ مُبْصَرَةٌ لَمَا آمَنُوا لِأَنَّ أَبْصَارَهُمْ مُقَلَّبَةٌ أَيْضًا مِثْلُ تَقْلِيبِ عُقُولِهِمْ.
وَذُكِّرَ أَوَّلَ مَعَ أَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مَرَّةٍ إِضَافَةَ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ لِأَنَّ أَصْلَ «أَوَّلَ» اسْمُ تَفْضِيلٍ. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى النَّكِرَةِ تَعَيَّنَ فِيهِ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ، كَمَا تَقُولُ: خَدِيجَةُ أَوَّلُ النِّسَاءِ إِيمَانًا وَلَا تَقُولُ أُولَى النِّسَاءِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَرَّةِ مَرَّةٌ مِنْ مَرَّتَيْ مَجِيءِ الْآيَاتِ، فَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ مَجِيءُ الْقُرْآنِ، وَالْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَجِيءُ الْآيَةِ الْمُقْتَرَحَةِ، وَهِيَ مَرَّةٌ مَفْرُوضَةٌ.

[سُورَة المرسلات (٧٧) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٤]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِتَامَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ تَقْرِيعٌ لِلْمُشْرِكِينَ حُكِيَ لَهُمْ فِيهِ نَعِيمُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي لَا يُشَاهِدُهُ الْمُشْرِكُونَ لِبُعْدِهِمْ عَنْ مَكَانِهِ فَيُحْكَى لَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِيمَا يُقَالُ لَهُمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ وَتَنْدِيمًا لَهُمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِمَّا بَادَرَ إِلَيْهِ الْمُتَّقُونَ الْمُؤْمِنُونَ فَفَازُوا، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الَّذِي حُذِفَ فِعْلُهُ عِنْدَ قَوْله: انْطَلِقُوا
[المرسلات: ٢٩] إِلَخْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا ابْتِدَاءَ كَلَامٍ مُسْتَأْنَفٍ انْتَقَلَ بِهِ إِلَى ذِكْرِ نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ تَنْوِيهًا بشأنهم وتعريضا بترغيب مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمَوْجُودِينَ فِي الْإِقْلَاعِ عَنْهُ لِيَنَالُوا كَرَامَةَ الْمُتَّقِينَ.
وظِلالٍ: جَمْعُ ظِلٍّ، وَهِيَ ظِلَالٌ كَثِيرَةٌ لِكَثْرَةِ شَجَرِ الْجَنَّةِ وَكَثْرَةِ الْمُسْتَظِلِّينَ بِظِلِّهَا، وَلِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ظِلًّا يَتَمَتَّعُ فِيهِ هُوَ وَمَنْ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَوْقَعُ فِي النَّعِيمِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُتَّقِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَّقِينَ كَوْنٌ فِي ظِلَالٍ.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ وَهِيَ ظَرْفِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلظِّلَالِ لِأَنَّ الْمُسْتَظِلَّ يَكُونُ مَظْرُوفًا فِي الظِّلِّ، وَظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْعُيُونِ وَالْفَوَاكِهِ تَشْبِيهًا لِكَثْرَةِ مَا حَوْلَهُمْ مِنَ الْعُيُونِ وَالْفَوَاكِهِ بِإِحَاطَةِ الظُّرُوفِ، وَقَوْلُهُ: مِمَّا يَشْتَهُونَ صِفَةُ فَواكِهَ. وَجَمْعُ فَواكِهَ الْفَوَاكِهُ وَغَيْرُهَا، فَالتَّبْعِيضُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ (مِنْ) تَبْعِيضٌ مِنْ أَصْنَافِ الشَّهَوَاتِ لَا مِنْ أَصْنَافِ الْفَوَاكِهِ فَأَفَادَ أَنَّ تِلْكَ الْفَوَاكِهَ مَضْمُومَةٌ إِلَى مَلَاذٍ أُخْرَى مِمَّا اشْتَهَوْهُ.
وَجُمْلَةُ كُلُوا وَاشْرَبُوا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَالتَّقْدِيرُ: مَقُولًا لَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ كَرَامَتُهُمْ بِعَرْضٍ تَنَاوَلَ النَّعِيمَ عَلَيْهِمْ كَمَا يَفْعَله المضيف لضيوفه فَالْأَمْرُ فِي كُلُوا وَاشْرَبُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: ذُكِرَ أَنَّ آيَةَ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى وَمَا بَعْدَهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِيمَا بَلَغْنَا: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ رَقَبَتَهُ.
فَجَعَلَ الطَّبَرِيُّ مَا أُنْزِلَ فِي أَبِي جَهْلٍ مَبْدُوءًا بِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ: أَنَّ النَّازِلَ فِي أَبِي جَهْلٍ بَعْضُهُ مَقْصُودٌ وَهُوَ مَا أَوَّلُهُ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى إِلَخْ، وَبَعْضُهُ تَمْهِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ وَهُوَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى إِلَى الرُّجْعى
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى آخَرِ السُّورَةِ نَزَلَتْ عَقِبَ الْخَمْسِ الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ وَجَعَلُوا مِمَّا يُنَاكِدُهُ ذِكْرُ الصَّلَاةِ فِيهَا. وَفِيمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مِنْ قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَكَانَ الْإِسْرَاءُ بَعْدَ الْبَعْثَةِ بِسِنِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَاتِ الْخَمْسِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَنَزَلَ بَيْنَهُنَّ قُرْآنٌ آخَرُ ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِلْحَاقِهَا، وَقَالَ بَعْضٌ آخَرُ: لَيْسَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَأَنَا لَا أَرَى مُنَاكَدَةً تُفْضِي إِلَى هَذِهِ الْحَيْرَةِ وَالَّذِي يُسْتَخْلَصُ مِنْ مُخْتَلِفِ الرِّوَايَاتِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ وَمَا عَقِبَهُ مِنَ الْحَوَادِثِ أَنَّ الْوَحْيَ فَتَرَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ الْخَمْسِ الْأَوَائِلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَتِلْكَ الْفَتْرَةِ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الضُّحَى، وَهُنَاكَ فَتْرَةٌ لِلْوَحْيِ هَذِهِ ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ابْتِدَاءَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِأَنَّهَا حَصَلَتْ عَقِبَ نُزُولِ الْآيَاتِ الْخَمْسِ الْأُوَلِ وَلَكِنَّ أَقْوَالَهُمُ اخْتَلَفَتْ فِي مُدَّةِ الْفَتْرَةِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: كَانَتِ الْمُدَّةُ سَنَتَيْنِ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَلَيْسَ تَحْدِيدُ مُدَّتِهَا بِالْأَمْرِ الْمُهِمِّ وَلَكِنَّ الَّذِي يُهِمُّ هُوَ أَنَّا نُوقِنُ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي مُدَّةِ فَتْرَةِ الْوَحْي يرى جِبْرِيل وَيَتَلَقَّى مِنْهُ وَحْيًا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» : ذَكَرَ الْحَرْبِيُّ أَنَّ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ كَانَتْ صَلَاةً قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ (أَيِ الْعَصْرُ) وَصَلَاةً قَبْلَ طُلُوعِهَا (أَيِ الصُّبْحُ)، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ مِثْلَهُ، وَقَالَ:
كَانَ الْإِسْرَاءُ وَفَرْضُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامٍ اهـ. فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ الَّتِي كَانَ يُصليهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاة غَيْرَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بَلْ كَانَتْ هَيْئَةً غَيْرَ مَضْبُوطَةٍ بِكَيْفِيَّةٍ وَفِيهَا سُجُودٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق: ١٩]


الصفحة التالية
Icon