[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٤٠]

يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)
انْتِقَالٌ مِنْ مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَوْعِظَةِ الْكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبِذَلِكَ تَتِمُّ مَوْعِظَةُ الْفِرَقِ الْمُتَقَدَّمُ ذِكْرُهَا، لِأَنَّ فَرِيقَ الْمُنَافِقين لَا يعدو أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ، وَوُجِّهَ الْخِطَابُ هُنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ أشهر الْأُمَم المتدينة ذَاتِ الْكِتَابِ الشَّهِيرِ وَالشَّرِيعَةِ الْوَاسِعَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ جَاءَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ فَكَانَتْ هَاتِهِ السُّورَةُ الَّتِي هِيَ فُسْطَاطُهُ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْغَرَضِ الَّذِي جَاءَ لِأَجْلِهِ، وَقَدْ جَاءَ الْوَفَاءُ بِهَذَا الْغَرَضِ عَلَى أَبْدَعِ الْأَسَالِيبِ وَأَكْمَلِ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ فَكَانَتْ فَاتِحَتُهَا فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذَا الْكِتَابِ وَآثَارِ هَدْيِهِ وَمَا يكْتَسب متبوه مِنَ الْفَلَّاحِ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَبِالتَّحْذِيرِ مِنْ سُوءِ مَغَبَّةِ مَنْ يُعْرِضُ عَنْ هَدْيِهِ وَيَتَنَكَّبُ طَرِيقَهُ، وَوَصَفَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ أَحْوَالَ النَّاسِ تُجَاهَ تَلَقِّي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ، بَعْدَ ذَلِكَ أَقْبَلَ عَلَى أَصْنَافِ أُولَئِكَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَقَدِ انْحَصَرَ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ مِنَ النَّاسِ الْمُتَلَقِّينَ لِهَذَا الْكِتَابِ بِالنِّسْبَةِ لِحَالِهِمْ تُجَاهَ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي صِنْفَيْنِ لِأَنَّهُمْ إِمَّا مُشْرِكٌ أَوْ مُتَدَيِّنٌ أَيْ كِتَابِيٌّ، إِذْ قَدِ انْدَرَجَ صِنْفُ الْمُنَافِقِينَ فِي الصِّنْفِ الْمُتَدَيِّنِ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْيَهُودِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، فَدَعَا الْمُشْرِكِينَ إِلَى عِبَادَتِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الْبَقَرَة: ٢١]. فَالنَّاسُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ غَالِبًا كَمَا تَقَدَّمَ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ كُلَّ النَّاسِ فَقَوْلُهُ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يَخْتَصُّ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ إِذْ لَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ بِدَاخِلِينَ فِي ذَلِكَ، وَذَكَّرَهُمْ بِدَلَائِلِ الصَّنْعَةِ وَهِيَ خَلْقُ أُصُولِهِمْ وَبِأُصُولِ نِعَمِ الْحَيَاةِ وَهِيَ خَلْقُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ لِإِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ، وَعَجِبَ مِنْ كُفْرِهِمْ مَعَ ظُهُورِ دَلَائِلِ إِثْبَاتِ الْخَالِقِ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَذَكَّرَهُمْ بِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَهِيَ نِعْمَةُ تَكْرِيمِ أَصْلِهِمْ وَتَوْبَتُهُ عَلَى أَبِيهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ اقْتِصَارٌ عَلَى الْقَدْرِ الثَّابِتِ فِي فِطْرَتِهِمْ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِمْ مِنَ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مَرْجِعًا
فِي الْمُحَاوَرَةِ وَالْمُجَادَلَةِ يَقْتَنِعُونَ بِهِ، وَخَاطَبَهُمْ فِي شَأْنِ إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ خِلَالَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي تُدْرِكُهُ أَذْوَاقُهُمُ الْبَلَاغِيَّةُ فَقَالَ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٣] الْآيَاتِ. وَلَمَّا قَضَى ذَلِكَ كُلَّهَ حَقَّهُ أَقْبَلَ بِالْخِطَابِ هُنَا عَلَى الصِّنْفِ الثَّانِي وَهُمْ أَهْلُ الشَّرَائِعِ وَالْكِتَابِ وَخَصَّ مِنْ
الزِّينَةَ، وَيُقَالُ حِدَادٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ تَرْكُ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْوَفَاةِ الزِّينَةَ وَالطِّيبَ وَمَصْبُوغَ الثِّيَابِ إِلَّا الْأَبْيَضَ، وَتَرْكُ الْحُلِيِّ، وَهُوَ وَاجِبٌ بِالسُّنَّةِ
فَفِي الصَّحِيحِ «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إِلَّا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، فَجَعَلَ الْإِحْدَادَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا غَيْرُ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَالْحِكْمَةُ مِنَ الْإِحْدَادِ سَدُّ ذَرِيعَةِ كُلِّ مَا يُوَسْوِسُ إِلَى الرِّجَالِ مِنْ رُؤْيَةِ مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ الْمُعْتَدَّةِ، حَتَّى يَبْتَعِدُوا عَنِ الرَّغْبَةِ فِي التَّعَجُّلِ بِمَا لَا يَلِيقُ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَرَبِيعَةُ وَعَطَاءٌ: لَا إِحْدَادَ عَلَى مُطَلَّقَةٍ، أَخْذًا بِصَرِيحِ الْحَدِيثِ، وَبِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ يَرْقُبُهَا مُطَلِّقُهَا وَيَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَسَى أَنْ تَتَسَاهَلَ فِيهِ، بِخِلَافِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَابْنُ سِيرِينَ: تُحِدُّ الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقَ الثَّلَاثِ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا فِي عِدَّةٍ يُحْفَظُ فِيهَا النَّسَبُ، وَالزَّوْجَةُ الْكِتَابِيَّةُ كَالْمُسْلِمَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ، تُجْبَرُ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، لِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ كِنَانَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا، وُقُوفًا عِنْدَ
قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»
فَوَصَفَهَا بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ مُتَمَسَّكٌ ضَئِيلٌ، لِأَنَّ مَوْرِدَ الْوَصْفِ لَيْسَ مَوْرِدَ التَّقْيِيدِ، بَلْ مَوْرِدُ التَّحْرِيضِ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ.
وَقَدْ شَدَّدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الْإِحْدَادِ،
فَفِي «الْمُوَطَّأِ» :«أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا، أَفَتُكَحِّلُهُمَا- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا لَا» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا «إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوَلِ»
(١). وَقَدْ أَبَاحَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ فِي مُدَّةِ
إِحْدَادِهَا عَلَى أَبِي سَلَمَةَ أَنْ تَجْعَلَ الصَّبْرَ فِي عَيْنَيْهَا
_________
(١) فسر هَذَا فِي «الْمُوَطَّأ» بِأَن الْمَرْأَة كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا توفّي زَوجهَا دخلت حفضا- بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون الْفَاء وَهُوَ بَيت ردىء ولبست شَرّ ثِيَابهَا وَلم تمسس طيبا وَلَا شَيْئا حَتَّى يمر بهَا سنة ثمَّ تُؤْتى بِدَابَّة شَاة أَو طَائِر أَو حمَار فتفتض بِهِ أَي تمسح جلدهَا بِهِ وَتخرج وَهِي فِي شَرّ منظر فتعطى
وَالْمَعْنَى: إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا وَارْكَعُوا لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَرْكَعُونَ كَمَا كُنِّيَ عَنْ عَدَمِ الْإِيمَانِ لِمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: ٤٢- ٤٤] إِلَى آخِرِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات: ٤٦].
وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا يُفِيدُ تَهْدِيدَهُمْ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى التَّكْذِيبِ أَوْ عَلَى الْإِجْرَامِ، وَكِلَاهُمَا سَبَبٌ لِلتَّهْدِيدِ بِجَزَاءِ السُّوءِ فِي يَوْمِ الْفَصْلِ.
وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ مَعْنَى الْمُصَلِّينَ لِلَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاة.
[٤٩]
[سُورَة المرسلات (٧٧) : آيَة ٤٩]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِثْلُ نَظِيرِهَا الْمُوَالِيَةِ هِيَ لَهُ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِقَوْلِهِ:
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ [المرسلات: ٤٨] وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِ (الْمُكَذِّبِينَ) إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ وَصْفِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ أَوْ لَكُمْ فَهِيَ تهديد ناشىء عَنْ جُمْلَةِ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ، وَيَكُونُ الْيَوْمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِ يَوْمَئِذٍ الزَّمَانُ الَّذِي يُفِيدُهُ إِذا مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا الَّذِي يُجَازَى فِيهِ بِالْوَيْلِ لِلْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَتُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا
وَتَأْكِيدًا لِنَظِيرِهَا الْمَذْكُورِ ثَانِيًا فِي هَذِه السُّورَة.
[٥٠]
[سُورَة المرسلات (٧٧) : آيَة ٥٠]
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)
الْفَاء فصيحة تنبىء عَنْ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى تَعْيِينِ هَذَا الْمُقَدَّرِ مَا تَكَرَّرَ فِي آيَاتِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: ٤٩] فَإِنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِالْقُرْآنِ وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ وُقُوعِ الْبَعْثِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ التَّعْجِيبِيِ مِنْ حَالِهِمْ، أَيْ إِذَا لَمْ يُصَدِّقُوا بِالْقُرْآنِ مَعَ وُضُوحِ حُجَّتِهِ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِحَدِيثِ غَيْرِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ لِأَنَّ الْحَالَةَ الْعَجِيبَةَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُسْتَفْهَمَ عَنْ وُقُوعِهَا اسْتِفْهَامَ تَحْقِيقٍ وَتَثْبِيتٍ لِنَبَئِهَا إِذْ لَا يَكَادُ يُصَدِّقُ بِهِ، فَاسْتِعْمَالُ الِاسْتِفْهَامِ فِي التَّعْجِيبِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي التَّرْكِيبِ. وَمَجِيءُ الِاسْتِفْهَامِ فِي التَّعْجِيبِ كَثِيرٌ نَحْوُ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ [الْغَاشِيَةِ: ١].
وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: أَعْجَبُ مَا حَصَلَ لَكَ مِنَ الْعِلْمِ قَالَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً لِأَنَّهَا حِكَايَةُ أَمْرٍ وَقَعَ فِي الْخَارِجِ وَالْخِطَابُ فِي أَرَأَيْتَ لِغَيْرٍ مُعَيَّنٍ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَبْدِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِطْلَاقُ الْعَبْدِ هُنَا على معنى الْوَاحِد مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَيْ شَخْصٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الْإِسْرَاء: ٥]، أَيْ رِجَالًا. وَعَدَلَ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ لِأَنَّ التَّعْجِيبَ مِنْ نَفْسِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ خُصُوصِيَّةِ الْمُصَلِّي. فَشُمُولُهُ لِنَهْيِهِ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْقَعُ، وَصِيغَةُ
الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَنْهى لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ وَإِلَّا فَإِنَّ نَهْيَهُ قَدْ مَضَى.
وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَحْذُوفٌ يُغْنِي عَنْهُ تَعْلِيقُ الظَّرْفِ بِفِعْلِ يَنْهى أَي نَهَاهُ عَن صلَاته.
[١١- ١٢]
[سُورَة العلق (٩٦) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٢]
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢)
تَعْجِيبٌ آخَرُ من حَال مَفْرُوض وُقُوعُهُ، أَيْ أَتَظُنُّهُ يَنْهَى أَيْضًا عَبْدًا مُتَمَكِّنًا مِنَ الْهُدَى فَتَعْجَبُ مِنْ نَهْيِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتَهُ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ عَلَى الْهُدَى أَيَنْهَاهُ عَنِ الْهُدَى، أَوْ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ آمِرًا بِالتَّقْوَى أَيَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الظَّنُّ بِهِ فَيَعْجَبُ الْمُخَاطَبُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَنْهَى عَنِ الصَّلَاةِ وَهِيَ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ نَهَى عَنِ الْهُدَى، وَيُوشِكُ أَنْ يَنْهَى عَنْ أَن يَأْمر أحد بِالتَّقْوَى.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ وَأَتَى بِحَرْفِ الشَّرْطِ الَّذِي الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ فِعْلِ الشَّرْطِ مُجَارَاةً لِحَالِ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا.


الصفحة التالية
Icon