الْأَذَانِ وَعَلَى الْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ مَعًا وَأَمَّا عَلَى الصَّلَاةِ وَحْدَهَا فَكَرِهَهُ مَالِكٌ، قَالَ ابْنُ شَاسٍ جَازَتْ عَلَى الْأَذَانِ لِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ لَا يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ أَمَّا جَمْعُهُ مَعَ الصَّلَاةِ فَالْأُجْرَةُ عَلَى الْأَذَانِ فَقَطْ، وَأَجَازَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ الْإِجَارَةَ عَلَى الْإِمَامَةِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَكَلَّفَ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَرَوَى أَشْهَبٌ عَنْ مَالِكٍ لَا بَأْسَ بِالْأَجْرِ عَلَى تَرَاوِيحِ رَمَضَانَ وَكَرِهَهُ فِي الْفَرِيضَةِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَفِي «الدُّرَرِ» وَيُفْتَى الْيَوْمَ بِصِحَّتِهَا لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ وَالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ وَيُجْبَرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى دَفْعِ الْأُجْرَةِ وَيُحْبَسُ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالْمِائَةِ: وَلَا يَجُوزُ فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُكَايَسَةٍ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِوَضَانِ فِيهَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ أَجْرَ الصَّلَاةِ لَهُ فَإِذَا أَخَذَ عَنْهَا عِوَضًا اجْتَمَعَ لَهُ العوضان اهـ. وَهُوَ تَعْلِيلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَاهٍ قَدَّمَهُ فِي الْفَرْقِ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَةِ عَلَى أَنَّ فِي كَوْنِهِ مِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ الْأَصْلِ نَظَرًا لَا نُطِيلُ فِيهِ فَانْظُرْهُ فَقَدْ نَبَّهْتُكَ إِلَيْهِ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْكَرَاهَةَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَانَتْ قَدْ حَدَثَتْ بَيْنَ ابْنِ عَرَفَةَ وَالدَّكَّالِيِّ وَهِيَ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى تُونُسَ فِي حُدُودِ سَنَةِ سَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ رَجُلٌ زَاهِدٌ مِنَ الْمَغْرِبِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ الدَّكَّالِيُّ فَكَانَ لَا يُصَلِّي مَعَ الْجَمَاعَةِ وَلَا يَشْهَدُ الْجُمْعَةَ مُعْتَلًّا بِأَنَّ أَئِمَّةَ تُونُسَ يَأْخُذُونَ الْأُجُورَ عَلَى الْإِمَامَةِ وَذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي فَاعِلِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ وَشَاعَ أَمْرُهُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَحَدَثَ خِلَافٌ بَيْنَ النَّاسِ فَخَرَجَ إِلَى الْمَشْرِقِ فَارًّا بِنَفْسِهِ وَبَلَغَ أَنَّهُ ذَهَبَ لِمِصْرَ فَكَتَبَ ابْنُ عَرَفَةَ إِلَى أَهْلِ مِصْرَ أَبْيَاتًا هِيَ:
يَا أَهْلَ مِصْرَ وَمَنْ فِي الدِّينِ شَارَكَهُمْ | تَنَبَّهُوا لِسُؤَالٍ مُعْضِلٍ نَزَلَا |
لُزُومُ فِسْقِكِمُ أَوْ فِسْقِ مَنْ زَعَمَتْ | أَقْوَالُهُ أَنَّهُ بِالْحَقِّ قَدْ عَمِلَا |
فِي تَرْكِهِ الْجُمَعَ وَالْجُمَعَاتِ خَلْفَكُمُ | وَشَرْطُ إِيجَابِ حُكْمِ الْكُلِّ قَدْ حَصَلَا |
إِنْ كَانَ شَأْنُكُمُ التَّقْوَى فَغَيْرُكُمُ | قَدْ بَاءَ بِالْفِسْقِ حَتَّى عَنْهُ مَا عَدَلَا |
وَإِنْ يَكُنْ عَكْسُهُ فَالْأَمْرُ مُنْعَكِسٌ | قُولُوا بِحَقٍّ فَإِنَّ الْحَقَّ مَا اعْتُزِلَا |
فَيُقَالُ إِنَّ أَهْلَ مِصْرَ أَجَابُوهُ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا:
مَا كَانَ مِنْ شِيَمِ الْأَبْرَارِ أَنْ يَسِمُوا | بِالْفِسْقِ شَيْخًا عَلَى الْخَيْرَاتِ قَدْ جبلا |
لَا لَا وَلَكِنْ إِذَا مَا أَبْصَرُوا خَلَلًا | كَسَوْهُ مِنْ حُسْنِ تَأْوِيلَاتِهِمْ حُلَلَا |
أَلَيْسَ قَدْ قَالَ فِي «الْمِنْهَاجِ» صَاحِبُهُ | يَسُوغُ ذَاكَ لِمَنْ قَدْ يَخْتَشِي زَلَلَاُُُُ |
وَأَصَحُّ مَا فِي هَذَا الْخِلَافِ: مَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ وَذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهَا الصُّبْحُ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَهُوَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، لِأَنَّ الشَّائِعَ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا الصُّبْحُ، وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا الْعَصْرُ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَنُسِبَ إِلَى عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَالْحَسَنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةٍ، وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَحُجَّتُهُمْ مَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حِينَ نَسِيَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ مِنْ شِدَّةِ الشُّغْلِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ:
«شَغَلُونَا- أَيِ الْمُشْرِكُونَ- عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، أَضْرَمَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ نَارًا».
وَالْأَصَحُّ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَوَّلُهُمَا لِمَا فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» أَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ أَمَرَتَا كَاتِبَيْ مُصْحَفَيْهِمَا أَنْ يَكْتُبَا قَوْلَهُ تَعَالَى: حَافَظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ وَأَسْنَدَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ تُسْنِدْهُ حَفْصَةُ، فَإِذَا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ الْوُسْطَى هِيَ الْعَصْرَ، بِحُكْمِ عَطْفِهَا عَلَى الْوُسْطَى تَعَيَّنَ كَوْنُهَا الصُّبْحَ، هَذَا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ مَسَالِكِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَأَفْضَلِيَّةُ الصُّبْحِ ثَابِتَةٌ بِالْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى مُخَصِّصًا لَهَا بِالذِّكْرِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الْإِسْرَاء: ٧٨] وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةَ النَّهَارِ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَتَوَسُّطُهَا بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ
ظَاهِرٌ، لِأَنَّ وَقْتَهَا بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَالظُّهْرُ وَالْعَصْرُ نَهَارِيَّتَانِ، وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ لَيْلِيَّتَانِ، وَالصُّبْحُ وَقْتٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، حَتَّى إِنَّ الشَّرْعَ عَامَلَ نَافِلَتَهُ مُعَامَلَةَ نَوَافِلِ النَّهَارِ فَشَرَعَ فِيهَا الْإِسْرَارَ، وَفَرِيضَتَهُ مُعَامَلَةَ فَرَائِضِ اللَّيْلِ فَشَرَعَ فِيهَا الْجَهْرَ.
وَمن جِهَة الْوِصَايَة بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، هِيَ أَجْدَرُ الصَّلَوَاتِ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا الصَّلَاةُ الَّتِي تَكْثُرُ الْمُثَبِّطَاتُ عَنْهَا، بِاخْتِلَافِ الْأَقَالِيمِ وَالْعُصُورِ وَالْأُمَمِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَقَدْ تَشُقُّ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْأُخْرَى عَلَى طَائِفَةٍ دُونَ أُخْرَى، بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْأَقَالِيمِ وَالْفُصُولِ.
أَهْلِ الْكِتَابِ وَلِحَدِيثِ أَبِي حَبَّةَ الْبَدْرِيِّ، وَقَدْ عَدَّهَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِي عِدَادِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا دُفِعَ
إِلَى مُنَاقَضَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْمَدِينَةِ.
وَقَدْ عُدَّتِ الْمِائَةَ وَإِحْدَى فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الطَّلَاقِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْحَشْرِ، فَتَكُونُ نَزَلَتْ قَبْلَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ، وَكَانَتْ غَزْوَةُ النَّضِيرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ فَنُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ آخِرَ سَنَةِ ثَلَاثٍ أَوْ أَوَّلَ سَنَةِ أَرْبَعٍ.
وَعَدَدُ آيَاتِهَا ثَمَانٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ تسع آيَات.
أغراضها
تَوْبِيخُ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّعْجِيبُ مِنْ تَنَاقُضِ حَالِهِمْ إِذْ هُمْ يَنْتَظِرُونَ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ فَلَمَّا أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ كَفَرُوا بِهَا.
وَتَكْذِيبُهُمْ فِي ادِّعَائِهِمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ التَّمَسُّكَ بِالْأَدْيَانِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا.
وَوَعِيدُهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ.
وَالتَّسْجِيلُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ.
وَالثَّنَاءُ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
وَوَعْدُهُمْ بِالنَعِيمِ الْأَبَدِيِّ وَرِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ وَإِعْطَائِهِ إِيَّاهُمْ مَا يُرْضِيهِمْ.
وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِالْقُرْآنِ وَفَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ بِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ وَمَا فِيهِ مِنْ فضل وَزِيَادَة.
[١- ٣]
[سُورَة الْبَيِّنَة (٩٨) : الْآيَات ١ إِلَى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣)
اسْتَصْعَبَ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ تَحْصِيلُ الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْأَرْبَعِ
الصفحة التالية