الْمُقَدِّمَةُ السَّادِسَةُ فِي الْقِرَاءَاتِ
لَوْلَا عِنَايَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِذِكْرِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ حَتَّى فِي كَيْفِيَّاتِ الْأَدَاءِ، لَكُنْتُ بِمَعْزِلٍ عَنِ التَّكَلُّمِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ عِلْمَ الْقِرَاءَاتِ عِلْمٌ جَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ قَدْ خُصَّ بِالتَّدْوِينِ وَالتَّأْلِيفِ، وَقَدْ أَشْبَعَ فِيهِ أَصْحَابُهُ وَأَسْهَبُوا بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ مَزِيدٌ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُنِي بِمَحَلِّ الِاضْطِرَارِ إِلَى أَنْ أُلْقِيَ عَلَيْكُمْ جَمُلًا فِي هَذَا الْغَرَضِ تَعْرِفُونَ بِهَا مِقْدَارَ تَعَلُّقِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ بِالتَّفْسِيرِ، وَمَرَاتِبَ الْقِرَاءَاتِ قُوَّةً وَضَعْفًا، كَيْ لَا تَعْجَبُوا مِنْ إِعْرَاضِي عَنْ ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ فِي أَثْنَاءِ التَّفْسِيرِ.
أَرَى أَنَّ لِلْقِرَاءَاتِ حالتين إِحْدَاهمَا هما لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالتَّفْسِيرِ بِحَالٍ، وَالثَّانِيَةُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهِ مِنْ جِهَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ.
أَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى:
فَهِيَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي وُجُوهِ النُّطْقِ بِالْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ كَمَقَادِيرِ الْمَدِّ وَالِإِمَالَاتِ وَالتَّخْفِيفِ وَالتَّسْهِيلِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْجَهْرِ وَالْهَمْسِ وَالْغُنَّةِ، مثل عَذابِي [الْأَعْرَاف: ١٥٦] بِسُكُونِ الْيَاءِ وعَذابِي بِفَتْحِهَا، وَفِي تَعَدُّدِ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ مِثْلَ:
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ [الْبَقَرَة: ٢١٤] بِفَتْحِ لَامِ يَقُولُ وَضَمِّهَا. وَنَحْوَ: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: ٢٥٤] بِرَفْعِ الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ أَوْ فَتْحِهَا أَوْ رَفْعِ بَعْضٍ وَفَتْحِ بَعْضٍ، وَمَزِيَّةُ الْقِرَاءَاتِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ عَائِدَةٌ إِلَى أَنَّهَا حَفِظَتْ عَلَى أَبْنَاءِ الْعَرَبِيَّةِ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ غَيْرُهَا وَهُوَ تَحْدِيدُ كَيْفِيَّاتِ نُطْقِ الْعَرَبِ بِالْحُرُوفِ فِي مَخَارِجِهَا وَصِفَاتِهَا وَبَيَانِ اخْتِلَافِ الْعَرَبِ فِي لَهَجَاتِ النُّطْقِ بِتَلَقِّي ذَلِكَ عَنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ، وَهَذَا غَرَضٌ مُهِمٌّ جِدًّا لَكِنَّهُ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالتَّفْسِيرِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي اخْتِلَافِ مَعَانِي الْآيِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ عَرَفَ لِفَنِّ الْقِرَاءَاتِ حَقَّهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَفِيهَا أَيْضًا سَعَةٌ مِنْ بَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَهِيَ لِذَلِكَ مَادَّةٌ كُبْرَى لِعُلُومِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. فَأَئِمَّةُ الْعَرَبيَّة لما قرأوا الْقُرْآنَ قَرَأُوهُ بِلَهَجَاتِ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فِي الْأَمْصَارِ الَّتِي وُزِّعَتْ عَلَيْهَا الْمَصَاحِفُ: الْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَالْكُوفَةِ، وَالْبَصْرَةِ، وَالشَّامِ، قِيلَ وَالْيَمَنِ وَالْبَحْرَيْنِ، وَكَانَ فِي هَذِهِ الْأَمْصَارِ
قُرَّاؤُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ قَبْلَ وُرُودُ مُصْحَفِ عُثْمَانَ إِلَيْهِمْ فَقَرَأَ كُلُّ فَرِيقٍ بِعَرَبِيَّةِ قَوْمِهِ فِي وُجُوهِ الْأَدَاءِ، لَا فِي زِيَادَةِ الْحُرُوفِ وَنَقْصِهَا، وَلَا فِي اخْتِلَافِ
الِاقْتِضَاءِ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ تَذَكُّرَ الذَّوَاتِ وَلَا ذِكْرَ أَسْمَائِهَا بَلِ الْمُرَادُ تَذَكُّرُ مَا يَنْفَعُهُمْ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ وَذِكْرُ فَضَائِلِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لِي أَمْرٌ بِالشُّكْرِ الْأَعَمِّ مِنَ الذِّكْرِ مِنْ وَجْهٍ أَوْ مُطْلَقًا، وَتَعْدِيَتُهُ لِلْمَفْعُولِ بِاللَّامِ هُوَ الْأَفْصَح وَتسَمى هَذِه اللَّامُ لَامَ التَّبْلِيغِ وَلَامَ التَّبْيِينِ كَمَا قَالُوا نَصَحَ لَهُ وَنَصَحَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَعْساً لَهُمْ [مُحَمَّد: ٨] وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
شَكَرْتُ لَكَ النُّعْمَى وَأَثْنَيْتُ جَاهِدًا | وَعَطَّلْتُ أَعْرَاضَ الْعُبَيْدِ بْنِ عَامِرِ |
قَالَ ابْن عرقة: «لَيْسَ عَطْفُ قَوْلِهِ: وَلا تَكْفُرُونِ بِدَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَيْسَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشُّكْرِ مُطْلَقٌ (أَيْ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ فَلَا عُمُومَ لَهُ) فَيَصْدُقُ بِشُكْرِهِ يَوْمًا وَاحِدًا فَلَمَّا قَالَ وَلا تَكْفُرُونِ أَفَادَ النَّهْيَ عَنِ الْكُفْرِ دَائِمًا» اه، يُرِيدُ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يَعُمُّ، مِثْلَ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِأَنَّ النَّهْيَ أَخُو النَّفْي.
[١٥٣، ١٥٤]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ١٥٣ إِلَى ١٥٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (١٥٤)
هَذِهِ جُمَلٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [الْبَقَرَة:
١٥٠] وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ تَعْلِيله بقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [الْبَقَرَة: ١٥٠] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: ١٥٠] إِلَى قَوْلِهِ: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَة: ١٥٢] وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: ١٧٧] لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ تَكْمِلَةً لِدَفْعِ الْمَطَاعِنِ فِي شَأْنِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَلَهُ أَشَدُّ اتِّصَال بقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ الْمُتَّصِل بقوله: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [الْبَقَرَة: ١٥٠].
وَهُوَ اعْتِرَاضٌ مُطْنِبٌ ابْتُدِئَ بِهِ إِعْدَادُ الْمُسْلِمِينَ لِمَا هُمْ أَهْلُهُ مِنْ نَصْرِ دِينِ اللَّهِ شُكْرًا لَهُ عَلَى خَوَّلَهُمْ مِنَ النِّعَمِ الْمَعْدُودَةِ فِي الْآيَاتِ السَّالِفَةِ مِنْ جَعْلِهِمْ أُمَّةً وَسَطًا وَشُهَدَاءَ عَلَى
وانتصب ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً عَلَى الْحَالِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ بِالْوَصْفِ، أَيْ مُبْتَغِينَ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَمُثَبِّتِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَلَا يَحْسُنُ نَصْبُهُمَا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، أَمَّا قَوْلُهُ «ابْتِغَاءَ» فَلِأَنَّ مُفَادَ الِابْتِغَاءِ هُوَ مُفَادُ اللَّامِ الَّتِي يَنْتَصِبُ الْمَفْعُولُ لأَجله بإضمارها، لأنّ يؤول إِلَى مَعْنَى لِأَجْلِ طَلَبِهِمْ مَرْضَاةَ اللَّهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ «وَتَثْبِيتًا» فَلِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا عُطِفَ هُوَ عَلَيْهِ.
وَالتَّثْبِيتُ تَحْقِيقُ الشَّيْءِ وَتَرْسِيخُهُ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكَبْحِ النَّفْسِ عَنِ التَّشَكُّكِ وَالتَّرَدُّدِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنَ التَّرَدُّدِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَلَا يَتْرُكُونَ مَجَالًا لِخَوَاطِرِ الشُّحِّ، وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ ثَبَتَ قَدَمُهُ أَيْ لَمْ يَتَرَدَّدْ وَلَمْ يَنْكِصْ، فَإِنَّ إِرَاضَةَ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا لَهَا أَثَرٌ فِي رُسُوخِ الْأَعْمَالِ حَتَّى تَعْتَادَ الْفَضَائِلَ وَتَصِيرَ لَهَا دَيْدَنًا.
وَإِنْفَاقُ الْمَالِ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَرَسُخُ بِهِ الطَّاعَةُ فِي النَّفْسِ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ أَمْرًا هَيِّنًا عَلَى النَّفْسِ، وَتَكُونُ «مِنْ» عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِلتَّبْعِيضِ، لَكِنَّهُ تَبْعِيضٌ مَجَازِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ، أَيْ تَثْبِيتًا لِبَعْضِ أَحْوَالِ النَّفْسِ.
وَمُوقِعُ (مِنْ) هَذِهِ فِي الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِنْزَالِ وَالِاقْتِصَادِ فِي تَعَلُّقِ الْفِعْلِ، بِحَيْثُ لَا يُطْلَبُ تَسَلُّطُ الْفِعْلِ عَلَى جَمِيعِ ذَاتِ الْمَفْعُولِ بَلْ يُكْتَفَى بِبَعْضِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَقْصُودُ التَّرْغِيبُ فِي تَحْصِيلِ الْفِعْلِ وَالِاسْتِدْرَاجُ إِلَى تَحْصِيلِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» يَقْتَضِي أَنَّهُ جَعَلَ التَّبْعِيضَ فِيهَا حَقِيقِيًّا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَثْبِيتًا تَمْثِيلًا لِلتَّصْدِيقِ أَيْ تَصْدِيقًا لِوَعْدِ اللَّهِ وَإِخْلَاصًا فِي الدِّينِ لِيُخَالِفَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّ امْتِثَالَ الْأَحْكَامِ الشَّاقَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ تَصْدِيقٍ لِلْآمِرِ بِهَا، أَيْ يَدُلُّونَ عَلَى تَثْبِيتٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَ (مِنْ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ تَصْدِيقًا صَادِرًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَيَجِيءُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ التَّثْبِيتِ مَعْنًى أَخْلَاقِيٌّ جَلِيلٌ أَشَارَ إِلَيْهِ الْفَخْرُ، وَهُوَ مَا تَقَرَّرَ فِي الْحِكْمَةِ الْخُلُقِيَّةِ أَنَّ تَكَرُّرَ الْأَفْعَالِ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَةِ الْفَاضِلَةِ فِي النَّفْسِ، بِحَيْثُ تَنْسَاقُ عَقِبَ حُصُولِهَا إِلَى الْكَمَالَاتِ بِاخْتِيَارِهَا، وَبِلَا كُلْفَةٍ وَلَا
بَعْضِ الْفِرَقِ، فَالْإِيمَانُ قُصِدَ بِهِ التَّفْضِيلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذين كَانُوا يفتخروم بِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ وَسَدَنَةُ بَيْتِهِ وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ [التَّوْبَة: ١٩] وَذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، قُصِدَ بِهِ التَّفْضِيلُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ أَضَاعُوا ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [الْمَائِدَة: ٧٩].
فَإِنْ قُلْتَ إِذَا كَانَ وَجْهُ التَّفْضِيلِ عَلَى الْأُمَمِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ، فَقَدْ شَارَكَنَا فِي هَذِهِ الْفَضِيلَةِ بَعْضُ الْجَمَاعَاتِ مِنْ صَالِحِي الْأُمَمِ الَّذِينَ قَبْلَنَا، لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِاللَّهِ عَلَى حَسْبِ شَرَائِعِهِمْ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، لَتَعَذَّرَ أَنْ يَتْرُكَ الْأُمَمُ بِالْمَعْرُوفِ لِأَنَّ الْغَيْرَةَ عَلَى الدِّينِ أَمْرٌ مُرْتَكِزٌ فِي نُفُوسِ الصَّادِقِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِ.
قُلْتُ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ صَالِحِي الْأُمَمِ كَانُوا يَلْتَزِمُونَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّعُونَ فِي حِلِّ التَّقِيَّةِ، وَهَذَا هَارُونُ فِي زَمَنِ مُوسَى عَبَدَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْعِجْلَ بِمَرْأًى مِنْهُ وَمَسْمَعٍ فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ مُحَاوَرَةَ مُوسَى مَعَهُ بِقَوْلِهِ قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه: ٩٢- ٩٤] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمرَان: ١١٣، ١١٤] الْآيَةَ فَتِلْكَ فِئَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمُ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَقَدْ كَانُوا فِئَةً قَلِيلَةً بَيْنَ قَوْمِهِمْ فَلَمْ يَكُونُوا جَمْهَرَةَ الْأُمَّةِ.
وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَعِصْمَتِهِ مِنَ الْخَطَأِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَإِذَا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى حُكْمٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مُنْكَرًا، وَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَأْمُورَةَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي
يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ». قِيلَ:
«وَمن يَا رَسُولَ اللَّهِ» قَالَ: «مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»
وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي» قَالَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا»
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْهُ جِيرَانَكَ»
. وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْجِوَارِ: فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ: وَلَيْسَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ حَدٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ.
وَقَوْلُهُ: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ هُوَ الْمُصَاحِبُ الْمُلَازِمُ لِلْمَكَانِ، فَمِنْهُ الضَّيْفُ، وَمِنْهُ الرَّفِيقُ فِي السَّفَرِ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ مُلِمٌّ بِكَ لِطَلَبِ أَنْ تَنْفَعَهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ الزَّوْجَةَ.
وَابْنِ السَّبِيلِ هُوَ الْغَرِيبُ الْمُجْتَازُ بِقَوْمٍ غَيْرِ نَاوٍ الْإِقَامَةَ، لِأَنَّ مَنْ أَقَامَ فَهُوَ الْجَارُ الْجُنُبُ. وَكَلِمَةُ (ابْنٍ) فِيهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الِانْتِسَابِ وَالِاخْتِصَاصِ، كَقَوْلِهِمْ: أَبُو اللَّيْلِ،
وَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ: أَبُوهَا وَكِيَّالُهَا. وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ السَّابِلَةُ، فَابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الَّذِي لَازَمَ الطَّرِيقَ سَائِرًا، أَيْ مُسَافِرًا، فَإِذَا دَخَلَ الْقَبِيلَةَ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَبْنَائِهَا، فَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ ابْنُ الطَّرِيقِ، رَمَى بِهِ الطَّرِيقُ إِلَيْهِمْ، فَكَأَنَّهُ وَلَدُهُ. وَالْوِصَايَةُ بِهِ لِأَنَّهُ ضَعِيفُ الْحِيلَةِ، قَلِيلُ النَّصِيرِ، إِذْ لَا يَهْتَدِي إِلَى أَحْوَالِ قَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِهِ، وَبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ.
وَكَذَلِكَ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لِأَنَّ الْعَبِيدَ فِي ضَعْفِ الرِّقِّ وَالْحَاجَةِ وَانْقِطَاعِ سُبُلِ الْخَلَاصِ مِنْ سَادَتِهِمْ، فَلِذَلِكَ كَانُوا أَحِقَّاءَ بِالْوِصَايَةِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ سَمَّاهُمْ بِذَمِّ مَوَانِعِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمُ الْغَالِبَةِ عَلَى الْبَشَرِ. وَالِاخْتِيَالُ: التَّكَبُّرُ، افْتِعَالٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخُيَلَاءِ، يُقَالُ: خَالَ الرَّجُلُ خَوْلًا وَخَالًا. وَالْفَخُورُ: الشَّدِيدُ الْفَخْرِ بِمَا فَعَلَ، وَكِلَا الْوَصْفَيْنِ مَنْشَأٌ لِلْغِلْظَةِ وَالْجَفَاءِ، فَهُمَا يُنَافِيَانِ الْإِحْسَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْإِحْسَانُ فِي الْمُعَامَلَةِ وَتَرْكُ التَّرَفُّعِ عَلَى مَنْ يُظَنُّ بِهِ سَبَبٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الِانْتِقَامِ.
وَمَعْنَى نَفْيِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيُ رِضَاهُ وَتَقْرِيبِهِ عَمَّنْ هَذَا وَصْفُهُ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الشِّرْكِ، لِمَا عُرِفُوا بِهِ من الغلطة وَالْجَفَاءِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّحْذِيرِ مِنْ بَقَايَا الْأَخْلَاقِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا.
وَاسْتُعِيرَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنَ الْمَعْقُولِ، أَوِ الْمَشْرُوعِ فِي الْمُعْتَقَدَاتِ، وَالْإِدْرَاكَاتِ، وَالْأَفْعَالِ. وَالْغُلُوُّ فِي الدِّينِ أَنْ يُظْهِرَ الْمُتَدَيِّنُ مَا يَفُوتُ الْحَدَّ الَّذِي حَدَّدَ لَهُ الدِّينُ. وَنَهَاهُمْ عَنِ الْغُلُوِّ لِأَنَّهُ أَصْلٌ لِكَثِيرٍ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ الصَّادِقِينَ. وَغُلُوُّ أَهْلِ الْكِتَابِ تَجَاوُزُهُمُ الْحَدَّ الَّذِي طَلَبَهُ دِينُهُمْ مِنْهُمْ: فَالْيَهُودُ طُولِبُوا بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِمْ، فَتَجَاوَزُوهُ إِلَى بِغْضَةِ الرُّسُلِ كَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، وَالنَّصَارَى طُولِبُوا بِاتِّبَاعِ الْمَسِيحِ فَتَجَاوَزُوا فِيهِ الْحَدَّ إِلَى دَعْوَى إِلَهِيَّتِهِ أَوْ كَوْنِهِ ابْنَ اللَّهِ، مَعَ الْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ لِلِاهْتِمَامِ بِالنَّهْيِ عَنِ الِافْتِرَاءِ الشَّنِيعِ. وَفِعْلُ الْقَوْلِ إِذَا عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) دَلَّ عَلَى أَنَّ نِسْبَةَ الْقَائِلِ الْقَوْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِ (عَلَى) نِسْبَةٌ كَاذِبَةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [آل عمرَان: ٧٨].
وَمَعْنَى الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ هُنَا: أَنْ يَقُولُوا شَيْئًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ دِينِهِمْ، فَإِنَّ الدِّينَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَلَقَّى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْحَدِّ الَّذِي كَانَ الْغُلُوُّ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ مُجْمَلٌ وَمُبَيِّنَةٌ لِلْمُرَادِ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ.
وَلِكَوْنِهَا تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ فُصِلَتْ عَنْهَا. وَقَدْ أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ قَصْرَ الْمَسِيحِ عَلَى صِفَاتٍ ثَلَاثٍ: صِفَةُ الرِّسَالَةِ، وَصِفَةُ كَوْنِهِ كَلِمَةَ اللَّهِ أُلْقِيَتْ إِلَى مَرْيَمَ، وَصِفَةُ كَوْنِهِ رُوحًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَالْقَصْرُ قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ. وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا الْقَصْرِ إِبْطَالُ مَا أَحْدَثَهُ غُلُوُّهُمْ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ غُلُوًّا أَخْرَجَهَا عَنْ كُنْهِهَا فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ ثَابِتَةٌ
لِعِيسَى، وَهُمْ مُثْبِتُونَ لَهَا فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ وَصْفُ عِيسَى بِهَا، لَكِنَّهُمْ تَجَاوَزُوا الْحَدَّ الْمَحْدُودَ لَهَا فَجعلُوا الرسَالَة النبوّة، وَجَعَلُوا الْكَلِمَةَ اتِّحَادَ حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِعِيسَى فِي بَطْنِ مَرْيَمَ فَجَعَلُوا
الْفَاءِ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ يَرْمُونَ بِهِ إِلَى كَوْنِ جُمْلَةِ الْجَوَابِ اسْمِيَّةً تَقْدِيرًا فَيَرْمِزُونَ بِالْفَاءِ إِلَى مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ جُعِلَ الْفِعْلُ خَبَرًا عَنْهُ لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوِ التَّقَوِّي، فَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ، لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّةِ مَا يَنَالُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يَنَالُ غَيْرَهُ، أَوْ لِقَصْدِ التَّقَوِّي، أَيْ تَأْكِيدِ حُصُولِ هَذَا الِانْتِقَامِ. وَنَظِيرُهُ
فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً [الْجِنّ: ١٣] فَقَدْ أَغْنَتِ الْفَاءُ عَنِ إِظْهَارِ الْمُبْتَدَأِ فَحَصَلَ التَّقَوِّي مَعَ إِيجَازٍ. هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مَعَ تَوْجِيهِهِ، وَمِنَ النُّحَاةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ دُخُولَ الْفَاءِ وَعَدَمَهُ فِي مِثْلِ هَذَا سَوَاءٌ، وَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ تَذْيِيلٌ. وَالْعَزِيزُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَاصِرٍ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ ذُو انْتِقَامٍ، أَيْ لِأَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ الْحِكْمَةَ، وَهِيَ تَقْتَضِي الِانْتِقَامَ مِنَ الْمُفْسِدِ لِتَكُونَ نَتَائِجُ الْأَعْمَالِ على وفقها.
[٩٦]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٩٦]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة:
٩٥] فَإِنَّهُ اقْتَضَى تَحْرِيمَ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَجَعْلَ جَزَاءِ فِعْلِهِ هَدْيَ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، فَكَانَ السَّامِعُ بِحَيْثُ يَسْأَلُ عَنْ صَيْدِ الْبَحْرِ لِأَنَّ أَخْذَهُ لَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ قَتْلًا، وَلَيْسَ لِمَا يُصَادُ مِنْهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ وَلَكِنَّهُ قَدْ يُشَكُّ لَعَلَّ اللَّهَ أَرَادَ الْقَتْلَ بِمَعْنَى التَّسَبُّبِ فِي الْمَوْتِ، وَأَرَادَ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ الْمُقَارِبَ فِي الْحَجْمِ وَالْمِقْدَارِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لِلنَّاسِ حُكْمَ صَيْدِ الْبَحْرِ وَأَبْقَاهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لَيْسَ مِنْ حَيَوَانِ الْحَرَمِ، إِذْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ بَحْرٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [الْمَائِدَة: ٩٥] أَنَّ أَصْلَ الْحِكْمَةِ فِي حُرْمَةِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ هِيَ حِفْظُ حُرْمَةِ الْكَعْبَةِ وَحَرَمِهَا.
وَقَدْ حُذِفَ مُتَعَلَّقُ: لِيَمْكُرُوا لِظُهُورِهِ، أَيْ لِيَمْكُرُوا بِالنَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ظَنًّا مِنْهُمْ بِأَنَّ صَدَّ النَّاسِ عَنْ مُتَابَعَتِهِ يَضُرُّهُ وَيُحْزِنُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَعَلَّ هَذَا الْعَمَلَ مِنْهُمْ كَانَ لَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ فِي آخِرِ مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ بِمَكَّةَ قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ، فَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ هُمْ فِي مَكْرِهِمْ ذَلِكَ إِنَّمَا يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ، فَأُطْلِقَ الْمَكْرُ عَلَى مَآلِهِ وَهُوَ الضُّرُّ، عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، فَإِنَّ غَايَةَ الْمَكْرِ وَمَآلَهُ إِضْرَارُ الْمَمْكُورِ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِضْرَارُ حَاصِلًا لِلْمَاكِرِينَ دُونَ الْمَمْكُورِ بِهِ أُطْلِقَ الْمَكْرُ عَلَى الْإِضْرَارِ.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْقصر: لأنّ النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْحَقُهُ أَذًى وَلَا ضُرٌّ مِنْ صَدِّهِمُ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَيَلْحَقُ الضُّرُّ الْمَاكِرِينَ، فِي الدُّنْيَا: بِعَذَابِ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَفِي الْآخِرَةِ: بِعَذَابِ النَّارِ، إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا فَالضُّرُّ انْحَصَرَ فِيهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ.
وَقَوْلُهُ: وَما يَشْعُرُونَ جُمْلَةُ حَالٍ ثَانِيَةٍ، فَهُمْ فِي حَالَةِ مَكْرِهِمْ بِالنَّبِيءِ مُتَّصِفُونَ بِأَنَّهُمْ مَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَبِأَنَّهُمْ مَا يَشْعُرُونَ بِلَحَاقِ عَاقِبَةِ مَكْرِهِمْ بِهِمْ، وَالشُّعُورُ:
الْعِلْمُ.
[١٢٤]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٢٤]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها [الْأَنْعَام: ١٢٣] لِأَنَّ هَذَا حَدِيثٌ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ أَكَابِرَ مُجْرِمِي مَكَّةَ، وَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها. وَمَكَّةُ هِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ عُمُومِ كُلِّ قَرْيَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: جاءَتْهُمْ عَائِدٌ إِلَى أَكابِرَ مُجْرِمِيها [الْأَنْعَام: ١٢٣]، بِاعْتِبَارِ الْخَاصِّ الْمَقْصُودِ مِنْ
تَعَالَى فَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ قَدْ أَتَوْا أَمْرًا شَنِيعًا إِذْ لَمْ يَشْكُرُوا نِعَمَهُ الجمّة عَلَيْهِم.
[١٨]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٨]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
أَعَادَ اللَّهُ أَمْرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ السَّمَاءِ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلِ والثّاني: قَالَ: فَاهْبِطْ مِنْها- إِلَى قَوْله- فَاخْرُجْ [الْأَعْرَاف: ١٣].
وَمَذْءُومٌ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ ذَأَمَهُ- مَهْمُوزًا- إِذَا عَابَهُ وَذَمَّهُ ذَأْمًا وَقَدْ تُسَهَّلُ هَمْزَةُ ذَأَمَ فَتَصِيرُ أَلِفًا فَيُقَالُ ذَامَ وَلَا تُسَهَّلُ فِي بَقِيَّةِ تَصَارِيفِهِ.
مَدْحُورٌ مَفْعُولٌ مِنْ دَحَرَهُ إِذَا أَبْعَدَهُ وَأَقْصَاهُ، أَيِ: اخْرُجْ خُرُوجَ مَذْمُومٍ مَطْرُودٍ، فَالذَّمُّ لِمَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالطَّرْدُ لِتَنْزِيهِ عَالَمِ الْقُدُسِ عَنْ مُخَالَطَتِهِ.
وَاللَّامُ فِي لَمَنْ تَبِعَكَ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ.
وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ، وَاللَّامُ فِي لَأَمْلَأَنَّ لَامُ جَوَابِ الْقسم، وَالْجَوَاب سَاد مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالتَّقْدِيرُ: أُقْسِمُ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْهُمْ وَمِنْكَ، وَغُلِّبَ فِي الضَّمِيرِ حَالُ الْخِطَابِ لِأَنَّ الْفَرْدَ الْمَوْجُودَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ هُوَ الْمُخَاطَبُ، وَهُوَ إِبْلِيسُ، وَلِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ وَعِيدٌ عَلَى فِعْلِهِ، وَأَمَّا وَعِيدُ اتِّبَاعِهِ فَبِالتَّبَعِ لَهُ، بِخِلَافِ الضَّمِيرِ فِي آيَةِ الْحِجْرِ [٤٣] وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ [الْحجر: ٤٣] لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ الْإِعْرَاض عَن وعيده بِفِعْلِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِبَيَانِ مَرْتَبَةِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لِإِبْلِيسَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ثُمَّ الِاهْتِمَامُ بِوَعِيدِ الْغَاوِينَ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ
وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ بَطَلَ بِمَعْنى: الْعَدَم. وَفَسَّرَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ بِحِبَالِ السَّحَرَةِ وَعِصِيِّهِمْ فَفِي تَفْسِيرِهِ نُبُوٌّ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ، وَعَنِ الْمَقَامِ.
وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَوَقَعَ الْحَقُّ تَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَوَقَعَ الْحَقُّ لِتَسْجِيلِ ذَمِّ عَمَلِهِمْ، وَنِدَاءٌ بِخَيْبَتِهِمْ، تَأْنِيسًا لِلْمُسْلِمِينَ وَتَهْدِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا.
وَمَا كانُوا يَعْمَلُونَ هُوَ السِّحْرُ، أَيْ: بَطَلَتْ تَخَيُّلَاتُ النَّاسِ أَنَّ عِصِيَّ السَّحَرَةِ وَحِبَالَهُمْ تَسْعَى كَالْحَيَّاتِ، وَلَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ بِالسِّحْرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ كَانَ سِحْرًا عَجِيبًا تَكَلَّفُوا لَهُ وَأَتَوْا بِمُنْتَهَى مَا يَعْرِفُونَهُ.
وَقَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ فَغُلِبُوا بِالْفَاءِ لِحُصُولِ الْمَغْلُوبِيَّةِ إِثْرَ تَلَقُّفِ الْعَصَا لِإِفْكِهِمْ.
وهُنالِكَ اسْمُ إِشَارَةِ الْمَكَانِ أَيْ غُلِبُوا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَأَفَادَ بَدَاهَةَ مَغْلُوبِيَّتِهِمْ وَظُهُورَهَا لِكُلِّ حَاضِرٍ.
وَالِانْقِلَابُ: مُطَاوِعُ قَلَبَ وَالْقَلْبُ تَغْيِيرُ الْحَالِ وَتَبَدُّلُهُ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ تَغْيِيرًا مِنَ الْحَالِ الْمُعْتَادَةِ إِلَى حَالٍ غَرِيبَةٍ.
وَيُطْلَقُ الِانْقِلَابُ شَائِعًا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُخْرَجُ مِنْهُ وَلِأَن الرَّاجِعَ قَدْ عَكَسَ حَالَ خُرُوجِهِ.
وَانْقَلَبَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَجِيءُ بِمَعْنَى (صَارَ) وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا أَيْ: صَارُوا صَاغِرِينَ.
وَاخْتِيَارُ لَفْظِ انْقَلَبُوا دُونَ (رَجَعُوا) أَوْ (صَارُوا) لِمُنَاسَبَتِهِ لِلَّفْظِ غُلِبُوا فِي الصِّيغَةِ، وَلِمَا يُشْعِرُ بِهِ أَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى حَالٍ أَدْوَنَ، فَكَانَ لَفْظُ (انْقَلَبُوا) أَدْخَلَ فِي الْفَصَاحَةِ.
وَالصَّغَارُ: الْمَذَلَّةُ، وَتِلْكَ الْمَذَلَّةُ هِيَ مَذَلَّةُ ظُهُورِ عَجْزِهِمْ، وَمَذَلَّةُ خَيْبَةِ رَجَائِهِمْ مَا أَمَّلُوهُ مِنَ الْأَجْرِ وَالْقُرْبِ عِنْد فِرْعَوْن.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ رَاجِعٌ إِلَى مِنْ الْمَوْصُولَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ مَدْلُولِ صِلَتِهَا جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ.
وَالتَّذَكُّرُ تَذَكُّرُ حَالَةِ الْمُثْقَفِينَ فِي الْحَرْبِ الَّتِي انْجَرَّتْ لَهُمْ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، أَيْ لَعَلَّ مَنْ خَلْفَهُمْ يَتَذَكَّرُونَ مَا حَلَّ بِنَاقِضِي الْعَهْدِ مِنَ النَّكَالِ، فَلَا يُقْدِمُوا عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ، فَآلَ
مَعْنَى التَّذَكُّرِ إِلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الِاتِّعَاظُ وَالِاعْتِبَارُ، وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُ التَّذَكُّرِ وَإِرَادَةُ مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ وَغلب فِيهِ.
[٥٨]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٥٨]
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨)
عَطْفُ حُكْمٍ عَامٍّ لِمُعَامَلَةِ جَمِيعِ الْأَقْوَامِ الْخَائِنِينَ بَعْدَ الْحُكْمِ الْخَاصِّ بِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ الَّذِينَ تَلُوحُ مِنْهُمْ بَوَارِقُ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ، بِحَيْثُ يَبْدُو مِنْ أَعْمَالِهِمْ مَا فِيهِ مُخَيِّلَةٌ بِعَدَمِ وَفَائِهِمْ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَإِذ هُمْ يَنْتَفِعُونَ مِنْ مُسَالَمَةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ، وَلَا يَنْتَفِعُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ مُسَالَمَتِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَالْخَوْفُ تَوَقُّعُ ضُرٍّ مِنْ شَيْءٍ، وَهُوَ الْخَوْفُ الْحَقُّ الْمَحْمُودُ. وَأَمَّا تَخَيُّلُ الضُّرِّ بِدُونِ أَمَارَةٍ فَلَيْسَ مِنَ الْخَوْفِ وَإِنَّمَا هُوَ الْهَوَسُ وَالتَّوَهُّمُ. وَخَوْفُ الْخِيَانَةِ ظُهُورُ بَوَارِقِهَا. وَبُلُوغُ إِضْمَارِهِمْ إِيَّاهَا، بِمَا يَتَّصِلُ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ أَخْبَارِ أُولَئِكَ وَمَا يَأْتِي بِهِ تَجَسُّسُ أَحْوَالِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [الْبَقَرَة: ٢٢٩] وَقَوْلُهُ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [النِّسَاء: ٣].
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٩].
وقَوْمٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ كُلُّ قَوْمٍ تَخَافُ مِنْهُمْ خِيَانَةً.
وَالْخِيَانَةُ: ضِدُّ الْأَمَانَةِ، وَهِيَ هُنَا: نَقْضُ الْعَهْدِ، لِأَنَّ الْوَفَاءَ مِنَ الْأَمَانَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْخِيَانَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ
وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمَقْصُودِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٨].
وَجُمْلَةُ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَقَدْ تابَ اللَّهُ أَيْ تَابَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْفَرِيقِ مُطْلَقًا، وَتَابَ عَلَى هَذَا الْفَرِيقِ بَعْدَ مَا كَادَتْ قُلُوبُهُمْ تَزِيغُ، فَتَكُونُ ثُمَّ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْمُهْلَةِ. وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التَّوْبَة: ١١٨].
وَالْمَعْنَى تَابَ عَلَيْهِمْ فَأُهِمُّوا بِهِ وَخَرَجُوا فَلَقُوا الْمَشَقَّةَ وَالْعُسْرَ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْله عَلَيْهِمْ لل فَرِيقٍ. وَجَوَّزَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا تَوْكِيدًا لِجُمْلَةِ تابَ اللَّهُ، فَالضَّمِيرُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كُلِّهِمْ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا على التفسيرين.
[١١٨]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١١٨]
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)
وَعَلَى الثَّلاثَةِ مَعْطُوفٌ على النبيء [التَّوْبَة: ١١٧] بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ لِبُعْدِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَيْ وَتَابَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. وَهَؤُلَاءِ فَرِيقٌ لَهُ حَالَةٌ خَاصَّةٌ مِنْ بَيْنِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ [التَّوْبَة:
٨١] الْآيَةَ، وَالَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ [التَّوْبَة: ٩٠] الْآيَةَ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الثَّلاثَةِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُمْ:
كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ مِنْ بَنِي وَاقِفٍ، كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ بِدُونِ عُذْرٍ. وَلَمَّا رَجَعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ سَأَلَهُمْ عَنْ تَخَلُّفِهِمْ فَلَمْ يَكْذِبُوهُ بالعذر وَلَكنهُمْ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ وَحَزِنُوا. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ عَنْ كَلَامِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَعْتَزِلُوا نِسَاءَهُمْ. ثُمَّ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ خَمْسِينَ
بِهَا إِنْ أَنْتُمْ تَكْرَهُونَ قَبُولَهَا. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ لَوْ تَأَمَّلُوا تَأَمُّلًا بَرِيئًا مِنَ الْكَرَاهِيَةِ وَالْعَدَاوَةِ لَعَلِمُوا صدق دَعوته.
وأَ رَأَيْتُمْ، اسْتِفْهَامٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ إِذَا كَانَ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ غَيْرَ عَامِلٍ فِي مُفْرَدٍ فَهُوَ تَقْرِيرٌ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّادَّةِ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ (رَأَيْتُمْ)، وَلِذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهُ آئلا إِلَى مَعْنَى أَخْبِرُونِي، وَلَكِنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي طَلَبِ مَنْ حَالُهُ حَالُ مَنْ يَجْحَدُ الْخَبَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٧].
وَجُمْلَةُ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إِلَى قَوْله تَعَالَى فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ فِعْلِ أَرَأَيْتُمْ وَمَا سَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنُلْزِمُكُمُوها إِنْكَارِيٌّ، أَيْ لَا نُكْرِهُكُمْ عَلَى قَبُولِهَا، فَعُلِّقَ الْإِلْزَامُ بِضَمِيرِ الْبَيِّنَةِ أَوِ الرَّحْمَةِ. وَالْمُرَادُ تَعْلِيقُهُ بِقَبُولِهَا بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ.
وَالْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمُعْجِزَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْجِزَتُهُ الطُّوفَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَهُ مُعْجِزَاتٌ أُخْرَى لَمْ تُذْكَرْ، فَإِنَّ بِعْثَةَ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- لَا تَخْلُو مِنْ مُعْجِزَاتٍ.
وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ نِعْمَةُ النُّبُوءَةِ وَالتَّفْضِيلِ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَنْكَرُوهُ، مَعَ مَا صَحِبَهَا مِنَ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا مِنْ تَمَامِهَا، فَعَطْفُ (الرَّحْمَةِ) عَلَى (الْبَيِّنَةِ) يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ مُغَايِرَةٌ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ أَعَمُّ مِنَ الْبَيِّنَةِ إِذِ الْبَيِّنَةُ عَلَى صِدْقِهِ مِنْ جُمْلَةِ الرَّحْمَةِ بِهِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أُعِيدَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَعُمِّيَتْ أُعِيدَ عَلَى (الرَّحْمَةِ) لِأَنَّهَا أَعَمُّ.
وعَلَيْكُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِ (عُمِّيَتْ) وَهُوَ حَرْفٌ تَتَعَدَّى بِهِ الْأَفْعَالُ الدَّالَّةُ عَلَى مَعْنَى الَخَفَاءِ، مِثْلُ: خَفِيَ عَلَيْكَ. وَلَمَّا كَانَ عُمِّيَ فِي مَعْنَى خَفِيَ عُدِّيَ بِ (عَلَى)، وَهُوَ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ أَيِ التَّمَكُّنِ، أَيْ قُوَّةِ مُلَازَمَةِ الْبَيِّنَةِ وَالرَّحْمَةِ لَهُ.
وَفَائِدَةُ إِرْسَالِهِ إِلَى أَبِيهِ الْقَمِيصَ أَنْ يَثِقَ أَبُوهُ بِحَيَاتِهِ وَوُجُودِهِ فِي مِصْرَ، فَلَا يَظُنُّ الدَّعْوَةَ إِلَى قُدُومِهِ مَكِيدَةً مِنْ مَلِكِ مِصْرَ، وَلِقَصْدِ تَعْجِيلِ الْمَسَرَّةِ لَهُ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ جَعَلَ إِرْسَالَ قَمِيصِهِ عَلَامَةً عَلَى صِدْقِ إِخْوَتِهِ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ إِلَى أَبِيهِمْ مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجَلْبِهِ فَإِنَّ قُمْصَانَ الْمُلُوكِ وَالْكُبَرَاءِ تُنْسَجُ إِلَيْهِمْ خِصِّيصًا وَلَا تُوجَدُ أَمْثَالُهَا عِنْدَ النَّاسِ وَكَانَ الْمُلُوكُ يَخْلَعُونَهَا عَلَى خَاصَّتِهِمْ، فَجَعَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِرْسَالَ قَمِيصِهِ عَلَامَةً لِأَبِيهِ عَلَى صِدْقِ إِخْوَتِهِ أَنَّهُمْ جَاءُوا مِنْ عِنْدِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخَبَرِ صِدْقٍ.
وَمِنَ الْبَعِيدِ مَا قِيلَ: إِنَّ الْقَمِيصَ كَانَ قَمِيصَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَنَّ قَمِيصَ يُوسُفَ قَدْ جَاءَ بِهِ إِخْوَتُهُ إِلَى أَبِيهِمْ حِينَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِدَمٍ كَذِبٍ.
وَأَمَّا إِلْقَاءُ الْقَمِيصِ عَلَى وَجْهِ أَبِيهِ فَلِقَصْدِ الْمُفَاجَأَةِ بِالْبُشْرَى لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُبْصِرُ مِنْ بَعِيدٍ فَلَا يَتَبَيَّنُ رِفْعَةَ الْقَمِيصِ إِلَّا مِنْ قُرْبٍ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ يَصِيرُ بَصِيرًا فَحَصَلَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْوَحْيِ فَبَشَّرَهُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْحِينِ. وَلَعَلَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَام نبيء سَاعَتَئِذٍ.
وَأُدْمِجَ الْأَمْرُ بِالْإِتْيَانِ بِأَبِيهِ فِي ضِمْنِ تَبْشِيرِهِ بِوُجُودِهِ إِدْمَاجًا بَلِيغًا إِذْ قَالَ: يَأْتِ بَصِيراً ثُمَّ قَالَ: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ لِقَصْدِ صِلَةِ أَرْحَامِ عَشِيرَتِهِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
وَكَانَتْ عَشِيرَةُ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سِتًّا وَسَبْعِينَ نَفْسًا بَيْنَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ
وَقُرِئَ الْمُخْلَصِينَ- بِفَتْحِ اللَّامِ- لِنَافِعٍ وَحَمْزَةَ وَعَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ عَلَى مَعْنَى الَّذِينَ أَخْلَصْتَهُمْ وَطَهَّرْتَهُمْ. وبكسر اللَّامِ- لِابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي عَمْرٍو، أَيْ الَّذِينَ أَخْلَصُوا لَكَ فِي الْعَمَل.
[٤١- ٤٢]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٤]
قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
الصِّرَاطُ الْمُسْتَقيم: هُوَ الْخَبَر وَالرَّشَادُ.
فَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْإِخْبَارِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهِيَ جُمْلَةُ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى غَيْرِ مُشَاهَدٍ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ، وَتَنْزِيلًا لِلْمَسْمُوعِ مَنْزِلَةَ الْمَرْئِيِّ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْمُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ هُوَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ مَذْكُورٍ لِقَصْدِ التَّشْوِيقِ إِلَى سَمَاعِهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ. فَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، كَمَا يُكْتَبُ فِي الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ فُلَانٌ فَلَانًا أَنَّهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، أَوْ هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ أَنَّهُ بَاعَهُ كَذَا وَكَذَا.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي سَبَقَ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْلِيسَ مِنْ قَوْلِهِ:
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سُورَة الْحجر: ٤٠] لِتَضَمُّنِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ غَوَايَةَ الْعِبَادِ الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ لِلْخَيْرِ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ مُسْتَأْنَفَةً
أَفَادَتْ نَفْيَ سُلْطَانِهِ.
وَالصِّرَاطُ: مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ الَّذِي يَقْصِدُ مِنْهُ عَامِلُهُ فَائِدَةً. شُبِّهَ بِالطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ وُصُولَهُ إِلَيْهِ أَيْ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ الَّتِي وَضَعْتُهَا
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآن مَا يومىء إِلَى أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ لِأَحَدٍ فِي هَدْيٍ يَنَالُ مِنْ ثَوَابِ الْمُهْتَدِي قَالَ تَعَالَى:
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الْفرْقَان: ٧٤]
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ»
. وَمِنَ التَّخْلِيطِ تَوَهُّمُ أَنَّ حَمْلَ الدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُنَافٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرْعُ قَاعِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَاعِدَةُ التَّعَاوُنِ وَالْمُوَاسَاةِ وَلَيْسَتْ مِنْ حَمْلِ التَّبِعَاتِ.
وتَزِرُ تَحْمِلُ الْوِزْرَ، وَهُوَ الثِّقَلُ. وَالْوَازِرَةُ: الْحَامِلَةُ، وَتَأْنِيثُهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا نَفْسٌ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصّلت: ٤٦].
وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا وازِرَةٌ عَلَى مَعْنَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، أَيْ لَوْ قُدِّرَتْ نَفْسٌ ذَاتُ وِزْرٍ لَا تُزَادُ عَلَى وِزْرِهَا وِزْرَ غَيْرِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ النَّفْسَ الَّتِي لَا وِزْرَ لَهَا لَا تَزِرُ وِزْرَ غَيْرِهَا بِالْأَوْلَى.
وَالْوِزْرُ: الْإِثْمُ لِتَشْبِيهِهِ بِالْحِمْلِ الثَّقِيلِ لِمَا يَجُرُّهُ مِنَ التَّعَبِ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ الثِّقَلُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: ١٣].
وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا عَطْفٌ عَلَى آيَةِ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَةَ.
وَهَذَا اسْتِقْصَاءٌ فِي الْإِعْذَارِ لِأَهْلِ الضَّلَالِ زِيَادَةً عَلَى نَفْيِ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِأَجْرَامِ غَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ وَلَا مُثِيبِينَ. لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِعْذَارٍ وَقَطْعُ حُجَّةٍ وَلَيْسَ مَقَامَ امْتِنَانٍ بِالْإِرْشَادِ.
وَالْعَذَابُ هُنَا عَذَابُ الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَقَرِينَةُ عَطْفٍ وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
[الْإِسْرَاء: ١٦] الْآيَةَ. وَدَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، قَالَ اللَّهُ
وَالنُّزُلُ: تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
وَقَوْلُهُ: لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا أَي لَيْسَ بعد مَا حَوَتْهُ تِلْكَ الْجَنَّاتُ مِنْ ضُرُوبِ اللَّذَّاتِ وَالتَّمَتُّعِ مَا تَتَطَلَّعُ النُّفُوسُ إِلَيْهِ فَتَوَدُّ مُفَارَقَةَ مَا هِيَ فِيهِ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، أَيْ هُمْ يَجِدُونَ فِيهَا كُلَّ مَا يُخَامِرُ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْمُشْتَهَى.
وَالْحِوَلُ: مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْعِوَجِ وَالصِّغَرِ. وَحَرْفُ الْعِلَّةِ يُصَحَّحُ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ لَكِنَّ الْغَالِبَ فِيمَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الزِّنَةِ مَصْدَرًا التَّصْحِيحُ مِثْلَ: الْحِوَلِ، وَفِيمَا كَانَ مِنْهَا جَمْعًا الْإِعْلَالُ نَحْوَ: الْحِيَلُ جَمْعُ حِيلَةٍ. وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ مُشْتَقٌّ من التَّحَوُّل.
[١٠٩]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ١٠٩]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩)
لما ابْتُدِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ ثُمَّ أُفِيضَ فِيهَا مِنْ أَفَانِينِ الْإِرْشَادِ وَالْإِنْذَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَذُكِرَ فِيهَا مِنْ أَحْسَنِ الْقَصَصِ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ، وَمَا هُوَ خَفِيٌّ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ، حَوْلَ الْكَلَامِ إِلَى الْإِيذَانِ بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ مِنْ عَظِيمِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَهَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهُوَ انْتِقَالٌ إِلَى التَّنْوِيهِ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُفِيضِ الْعِلْمِ على رَسُوله صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ أَشْيَاءَ يَظُنُّونَهَا مُفْحِمَةً لِلرَّسُولِ وَأَنْ لَا قِبَلَ لَهُ بِعِلْمِهَا عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَأَخْبَرَ عَنْهَا أَصْدَقَ خَبَرٍ، وَبَيَّنَهَا بِأَقْصَى مَا تَقْبَلُهُ أَفْهَامُهُمْ وَبِمَا يَقْصُرُ عَنْهُ عِلْمُ الَّذِينَ أَغْرَوُا الْمُشْرِكِينَ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا، وَكَانَ آخِرَهَا خَبَرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ سَعَةَ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَعَةِ مَا يَجْرِي عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ
الرَّدُّ عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عِقَابَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِنَفْيِهِ.
وَتَقْدِيمُ بِأَمْرِهِ عَلَى يَعْمَلُونَ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَمَا أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ قَوْلًا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ كَذَلِكَ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَّا بِأَمْرِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٥].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى تَخْصِيصٌ بِالذِّكْرِ لِبَعْضِ مَا شَمِلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا كَفَرُوا بِسَبَبِهِ إِذْ جَعَلُوا الْآلِهَةَ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ ارْتَضى لِأَنَّهُ عَائِدُ صِلَةٍ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لِمَنِ ارْتَضَاهُ، أَيِ ارْتَضَى الشَّفَاعَةَ لَهُ بِأَنْ يَأْذَنَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يَشْفَعُوا لَهُ إِظْهَارًا لِكَرَامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ أَوِ اسْتِجَابَةً لِاسْتِغْفَارِهِمْ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الشُّورَى [٥]. وَذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ جُمْلَةِ مَا خُلِقُوا لِأَجْلِهِ فَلَيْسَ هُوَ مِنَ التَّقَدُّمِ بِالْقَوْلِ.
ثُمَّ زَادَ تَعْظِيمَهُمْ رَبُّهُمْ تَقْرِيرًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، أَيْ هُمْ يُعَظِّمُونَهُ تَعْظِيمَ مَنْ يَخَافُ بِطَشْتَهُ وَيَحْذَرُ مُخَالَفَةَ أَمْرِهِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ خَشْيَتِهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ. ومُشْفِقُونَ خَبَرٌ، أَيْ وَهُمْ لِأَجْلِ خَشْيَتِهِ، أَيْ خَشْيَتِهِمْ إِيَّاهُ.
(٣٨)
عُطِفَتْ حِكَايَةُ قَوْلِ قَوْمِهِ عَلَى حِكَايَةِ قَوْلِهِ وَلَمْ يُؤْتَ بِهَا مَفْصُولَةً كَمَا هُوَ شَأْنُ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ بِ (قَالَ) وَنَحْوِهَا دُونَ عَطْفٍ. وَقَدْ خُولِفَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِلْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَاهُ، وَخُولِفَ أَيْضًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَةِ هُودٍ إِذْ حُكِيَ جَوَابُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ رَسُولِهِمْ بِدُونِ عَطْفٍ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كَلَامَ الْمَلَأِ الْمَحْكِيَّ هُنَا غَيْرُ كَلَامِهِمُ الْمَحْكِيِّ فِي السُّورَتَيْنِ لِأَنَّ مَا هُنَا كَلَامُهُمُ الْمُوَجَّهُ إِلَى خِطَابِ قَوْمِهِمْ إِذْ قَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ إِلَى آخِرِهِ خَشْيَةً مِنْهُمْ أَنْ تُؤَثِّرَ دَعْوَةُ رَسُولِهِمْ فِي عَامَّتِهِمْ، فَرَأَوْا الِاعْتِنَاءَ بِأَنْ يَحُولُوا دُونَ تَأَثُّرِ نُفُوسِ قَوْمِهِمْ بِدَعْوَةِ رَسُولِهِمْ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُجَاوِبُوا رَسُولَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ آنِفًا فِي قِصَّةِ نُوحٍ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الإعجاز فِي الْمَوَاضِع الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي أَوْرَدَ فِيهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» سُؤَالًا وَلَمْ يَكُنْ فِي جَوَابِهِ شَافِيًا وَتَحَيَّرَ شُرَّاحُهُ فَكَانُوا عَلَى خِلَافٍ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَفْ قَوْلُ الْمَلَأِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ كَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ آنِفًا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ وَقْتِ مَقَالَةِ رَسُولِهِمُ الَّتِي هِيَ فَاتِحَةُ دَعْوَتِهِ بِأَنْ يَكُونُوا أَجَابُوا كَلَامَهُ بِالرَّدِّ وَالزَّجْرِ فَلَمَّا اسْتَمَرَّ عَلَى دَعْوَتِهِمْ وَكَرَّرَهَا فِيهِمْ وَجَّهُوا مَقَالَتَهُمُ الْمَحْكِيَّةَ هُنَا إِلَى قَوْمِهِمْ وَمِنْ أَجْلِ هَذَا عُطِفَتْ جُمْلَةُ جَوَابِهِمْ وَلَمْ تَأْتِ عَلَى أُسْلُوبِ الِاسْتِعْمَالِ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُحَاوَرَاتِ.
وَأَيْضًا لِأَنَّ كَلَامَ رَسُولِهِمْ لَمْ يحك بِصِيغَة القَوْل بَلْ حُكِيَ بِ (أَنْ) التَّفْسِيرِيَّةِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مَعْنَى الْإِرْسَالِ فِي قَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٢].
اللَّهَ قَسَّمَ ذَلِكَ بَيْنَ عِبَادِهِ عَلَى مَا شَاءَ. وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ سَنَةٍ بِأَمْطَرَ مِنْ أُخْرَى وَلَكِنْ إِذَا عَمِلَ قَوْمٌ الْمَعَاصِيَ صَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِمْ فَإِذَا عَصَوْا جَمِيعًا صَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَى الْفَيَافِيِ وَالْبِحَارِ»
اه. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمِقْدَارَ الَّذِي تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمَطَرِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ لَا تَخْتَلِفُ كِمِّيَّتُهُ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ تَوْزِيعُهُ. وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ قَرَّرَهَا عُلَمَاءُ حَوَادِثِ الْجَوِّ فِي الْقَرْنِ الْحَاضِرِ، فَهُوَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْجِهَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ لِهَذَا التَّفْسِيرِ.
وَجَوَّزَ فَرِيقٌ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ صَرَّفْناهُ عَائِدًا إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ مَعْلُومٍ فِي الْمَقَامِ مُرَادٍ بِهِ الْقُرْآنُ قَالُوا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَإِنَّهَا افْتُتِحَتْ بِذِكْرِهِ، وَتَكَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الْفرْقَان: ٣٠]. وَأَصْلُ هَذَا التَّأْوِيلِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ، وَلِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الْفرْقَان: ٥٢].
وَقِيلَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ، أَيْ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا هَذَا الْكَلَامَ وَكَرَّرْنَاهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُل ليذّكروا.
[٥١، ٥٢]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٥١ إِلَى ٥٢]
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢)
جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ ذِكْرِ دَلَائِلِ تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ وَذِكْرِ مِنَّتِهِ عَلَى الْخَلْقِ. وَمُنَاسِبَةُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَتَفْرِيعِهَا بِمَوْقِعِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا خَفِيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً: اقْتِضَابٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ. تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنَّا أَفْرَدْنَاكَ بِالنِّذَارَةِ وَحَمَّلْنَاكَ فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ اه.
فَإِنْ كَانَ عَنَى بِقَوْلِهِ: اقْتِضَابٌ، مَعْنَى الِاقْتِضَابِ الِاصْطِلَاحِيِّ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَدَبِ وَالْبَيَانِ، وَهُوَ عَدَمُ مُرَاعَاةِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ وَالْكَلَامِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ، كَانَ عُدُولًا عَنِ الْتِزَامِ تَطَلُّبِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَيْسَ الْخُلُوُّ عَنِ الْمُنَاسَبَةِ بِبِدَعٍ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ «تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ» «وَقَدْ يُنْقَلُ مِنْهُ (أَيْ مِمَّا شُبِّبَ بِهِ الْكَلَامُ) إِلَى مَا لَا يُلَائِمُهُ (أَيْ لَا يُنَاسِبُ الْمُنْتَقَلَ مِنْهُ) وَيُسَمَّى الِاقْتِضَابَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْعَرَبِ وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ» إِلَخْ. وَإِذَا كَانَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنَى
وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ» وَاسْتَدْرَكَهُ فِي «تَاجِ الْعَرُوسِ».
قُلْتُ: وَأَمَّا قَوْلُهُم: بِئْسَ مَا صَنَعْتَ، فَهُوَ عَلَى مَعْنَى التَّخْطِئَةِ لِمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا.
حَسَنًا وَلَمْ يَتَفَطَّنْ لِقُبْحِهِ. فَالصُّنْعُ إِذَا أُطْلِقَ انْصَرَفَ لِلْعَمَلِ الْجَيِّدِ النَّافِعِ وَإِذَا أُرِيدَ غَيْرُ ذَلِكَ وَجَبَ تَقْيِيدُهُ عَلَى أَنَّهُ قَلِيلٌ أَوْ تَهَكُّمٌ أَوْ مُشَاكَلَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الصُّنْعَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَمَلِ الْمُتْقَنِ فِي الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ قَالَ تَعَالَى تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ [طه: ٦٩]، وَوَصْفُ اللَّهِ بِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ تَعْمِيمٌ
قصد بِهِ التذييل، أَيْ مَا هَذَا الصُّنْعُ الْعَجِيبُ إِلَّا مُمَاثِلًا لِأَمْثَالِهِ مِنَ الصَّنَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ الدَّقِيقَةِ الصُّنْعِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَسْيِيرَ الْجِبَالِ نِظَامٌ مُتْقَنٌ، وَأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ التَّكْوِينِ وَالْخَلْقِ وَاسْتِدَامَةِ النِّظَامِ وَلَيْسَ من نوع الْخَرْمِ وَالتَّفْكِيكِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ تَذْيِيلٌ أَوِ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ لِلتَّذْكِيرِ وَالْوَعْظِ وَالتَّحْذِيرِ، عَقِبَ قَوْلِهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ لِأَنَّ إِتْقَانَ الصُّنْعِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ سَعَةِ الْعِلْمِ فَالَّذِي بِعِلْمِهِ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلُ الْخَلْقُ فَلْيَحْذَرُوا أَنْ يُخَالِفُوا عَنْ أَمْرِهِ.
ثُمَّ جِيءَ لِتَفْصِيلِ هَذَا بِقَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ [النَّمْل: ٨٩] الْآيَةَ فَكَانَ مِنَ التَّخَلُّصِ وَالْعَوْدِ إِلَى مَا يَحْصُلُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَمَنْ جَعَلُوا أَمْرَ الْجِبَالِ مِنْ أَحْدَاثِ يَوْمِ الْحَشْرِ جَعَلُوا جُمْلَةَ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سَائِلٍ: فَمَاذَا يَكُونُ بَعْدَ النَّفْخِ وَالْفَزَعِ وَالْحُضُورِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَتَسْيِيرِ الْجِبَالِ، فَأُجِيبَ جَوَابًا إِجْمَالِيًّا بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَفْعَالِ النَّاسِ ثُمَّ فُصِّلَ بِقَوْلِهِ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها.. [النَّمْل: ٨٩] الْآيَةَ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِما تَفْعَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو يَفْعَلُونَ بِيَاءِ الْغَائِبِينَ عَائِدًا ضَمِيرُهُ عَلَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النَّمْل: ٨٧].
[٨٩- ٩٠]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٨٩ الى ٩٠]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ.
هَذِهِ الْجُمْلَة بَيَان ناشىء عَنْ قَوْلِهِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا
الْفَصْلِ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ بِهِمْ، أَيْ هُمُ الْغَافِلُونَ عَنِ الْآخِرَةِ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمِنَ الْبَدِيعِ الْجَمْعُ بَيْنَ لَا يَعْلَمُونَ ويَعْلَمُونَ. وَفِيهِ الطِّبَاقُ مِنْ حَيْثُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظَانِ لَا مِنْ جِهَةِ مُتَعَلِّقِهِمَا. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ١٠٢].
[٨]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٨]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الرّوم: ٧] لِأَنَّهُمْ نَفَوُا الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ فَسِيقَ إِلَيْهِمْ هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ.
فَضَمِيرُ يَتَفَكَّرُوا عَائِدٌ إِلَى الْغَافِلِينَ عَنِ الْآخِرَةِ وَفِي مُقَدِّمَتِهِمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبِيٌّ مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَعَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ. وَالتَّقْدِيرُ: هُمْ غَافِلُونَ وَعَجِيبٌ عَدَمُ تَفَكُّرِهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الِانْتِقَالِ أَنَّ لِإِحَالَتِهِمْ رُجُوعَ الدَّالَّةِ إِلَى الرُّومِ بَعْدَ انْكِسَارِهِمْ سَبَبَيْنَ:
أَحَدُهُمَا: اعْتِيَادُهُمْ قَصْرَ أَفْكَارِهِمْ عَلَى الْجَوَلَانِ فِي الْمَأْلُوفَاتِ دُونَ دَائِرَةِ الْمُمْكِنَاتِ، وَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَهُوَ أَعْظَمُ مَا أَنْكَرُوهُ لِهَذَا السَّبَبِ.
وَثَانِيهُمَا: تَمَرُّدُهُمْ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ شَاهَدُوا مُعْجِزَتَهُ فَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى نَقْضِ آرَائِهِمْ فِي هَذَيْنِ السَّبَبَيْنَ.
وَالتَّفَكُّرُ: إِعْمَالُ الْفِكْرِ، أَيِ الْخَاطِرِ الْعَقْلِيِّ لِلِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ، وَهُوَ التَّأَمُّلُ فِي الدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٠].
وَالْأَنْفُسُ: جَمَعُ نَفْسٍ. وَالنَّفْسُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّاتِ كُلِّهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى بَاطِنِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي [الْمَائِدَة: ١١٦]
فَالْجُمْلَةُ تَكْمِلَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا لِإِفَادَةِ أَنَّ صَلَاةَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَاقِعَةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَالتَّحِيَّةُ: الْكَلَامُ الَّذِي يُخَاطَبُ بِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمُلَاقَاةِ إِعْرَابًا عَنِ السُّرُورِ بِاللِّقَاءِ مِنْ دُعَاءٍ وَنَحْوِهِ. وَهَذَا الِاسْمُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ حَيَّاهُ، إِذَا قَالَ لَهُ: أَحْيَاكَ اللَّهُ، أَيْ أَطَالَ حَيَاتَكَ. فَسَمَّى بِهِ الْكَلَامَ الْمُعْرِبَ عَنِ ابْتِغَاءِ الْخَيْرِ لِلْمُلَاقَى أَوِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَلَبَ أَنْ يَقُولُوا: أَحْيَاكَ اللَّهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمُلَاقَاةِ فَأَطْلَقَ اسْمَهَا عَلَى كُلِّ دُعَاءٍ وَثَنَاءٍ يُقَالُ عِنْدَ الْمُلَاقَاةِ وَتَحِيَّةُ الْإِسْلَامِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ أَوِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، دُعَاءٌ بِالسَّلَامَةِ وَالْأَمْنِ، أَيْ مِنَ الْمَكْرُوهِ لِأَنَّ السَّلَامَةَ أَحْسَنُ مَا يُبْتَغَى فِي الْحَيَاةِ. فَإِذَا أَحْيَاهُ اللَّهُ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ كَانَتِ الْحَيَاةُ أَلَمًا وَشَرًّا، وَلِذَلِكَ كَانَتْ تَحِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ السَّلَامَ بِشَارَةً بِالسَّلَامَةِ مِمَّا يُشَاهِدُهُ النَّاسُ مِنَ الْأَهْوَالِ الْمُنْتَظَرَةِ. وَكَذَلِكَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ تَلَذُّذًا بِاسْمِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ السَّلَامَةِ مِنْ أَهْوَالِ أَهْلِ النَّارِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فِي سُورَةِ يُونُسَ [١٠].
وَإِضَافَةُ التَّحِيَّةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ تَحِيَّةٌ يَحْيَوْنَ بِهَا.
وَلِقَاءُ اللَّهِ: الْحُضُورُ مِنْ حَضْرَةِ قُدْسِهِ لِلْحِسَابِ فِي الْمَحْشَرِ. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٣]. وَهَذَا اللِّقَاءُ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التَّوْبَة: ٧٧] فَمَيَّزَ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ بِالتَّحِيَّةِ كَرَامَةً لَهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، أَيْ يُحَيِّيهِمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا. وَالْمَعْنَى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِهِمْ أَنْ بَدَأَهُمْ بِمَا فِيهِ بِشَارَةٌ بِالسَّلَامَةِ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا إِتْمَامًا لِرَحْمَتِهِ بِهِمْ.
وَالْأَجْرُ: الثَّوَابُ. وَالْكَرِيمُ: النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩]. وَالْأَجْرُ الْكَرِيمُ: نَعَيْمُ الْجَنَّةِ
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٦٦ إِلَى ٦٧]
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧)عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يس: ٤٨]. وَمَوْقِعُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ إِلْجَاءَهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالشِّرْكِ بَعْدَ إِنْكَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانَ ذَلِكَ مُثِيرًا لِأَنْ يَهْجِسَ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَمَنَّوْا لَوْ سَلَكَ اللَّهُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِثْلَ هَذَا الْإِلْجَاءِ فَأَلْجَأَهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَإِلَى تَصْدِيقِ رَسُولِهِ وَاتِّبَاعِ دِينِهِ، فَأَفَادَ اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا لَفَعَلَ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ إِرَادَتَهُ تَعَالَى تُجْرِي تَعَلُقَاتِهِا عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ تَعَالَى وَحَكْمَتِهِ. فَهُوَ قَدْ جَعَلَ نِظَامَ الدُّنْيَا جَارِيًا عَلَى حُصُولِ الْأَشْيَاءِ عَنْ أَسْبَابِهَا الَّتِي وَكَّلَ اللَّهُ إِلَيْهَا إِنْتَاجَ مُسَبَّبَاتِهَا وَأَثَارِهَا وَتَوَالُدَاتِهَا حَتَّى إِذَا بُدِّلَ هَذَا الْعَالَمُ بِعَالَمِ الْحَقِيقَةِ أَجْرَى الْأُمُورَ كُلَّهَا عَلَى الْمَهْيَعِ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيْرُهُ فِي مَجَارِي الْعَقْلِ وَالْحِكْمَةِ. وَالْمَعْنَى إِنَّا أَلْجَأْنَاهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ فِي الْآخِرَةِ بِأَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا شِرْكٌ وَبَاطِلٌ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فِي الدُّنْيَا لِيَرْتَدِعُوا وَيَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَسُوءِ إِنْكَارِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَتْ لَوْ تَقْتَضِي امْتِنَاعًا لِامْتِنَاعٍ فَهِيَ تَقْتَضِي مَعْنَى: لَكِنَّا لَمْ نَشَأْ ذَلِكَ فَتَرَكْنَاهُمْ عَلَى شَأْنِهِمُ اسْتِدْرَاجًا وَتَمْيِيزًا بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ. فَهَذَا كَلَامٌ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَمُرَادٌ مِنْهُ تَبْصِرَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْشَادُهُمْ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى مَا يُلَاقُونَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَأْتِيَ نَصْرُ اللَّهِ.
فالطمس وَالْمَسْخ المعلقان عَلَى الشَّرْطِ الِامْتِنَاعِيِّ طَمْسٌ وَمَسْخٌ فِي الدُّنْيَا لَا فِي الْآخِرَةِ. وَالطَّمْسُ: مَسْخُ شَوَاهِدِ الْعَيْنِ بِإِزَالَةِ سَوَادِهَا وَبَيَاضِهَا أَوِ اخْتِلَاطِهِمَا وَهُوَ الْعَمَى أَوِ الْعَوَرُ، وَيُقَالُ: طَرِيقٌ مَطْمُوسَةٌ، إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا آثَارُ السَّائِرِينَ لِيَقْفُوَهَا السَّائِرُ. وَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الطَّمْسِ وَإِلَّا فَإِنَّ طَمَسَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ.
السَّامِعَ يَسْأَلُ عَنْ سَبَبِ اسْوِدَادِ الْوُجُوهِ فَيُجَابُ بِأَنَّ فِي جَهَنَّمَ مَثْوَاهُمْ يَعْنِي لِأَنَّ السَّوَادَ يُنَاسِبُ مَا سَيَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ مَنْ مَسِّ النَّارِ فَأُجِيبَ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ بِتَنْزِيلِ السَّائِلِ الْمُقَدَّرِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ مَثْوَاهُمْ جَهَنَّمُ فَلَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ مُنَاسَبَةِ سَوَادِ وُجُوهِهِمْ، لِمَصِيرِهِمْ إِلَى النَّارِ، فَإِنَّ لِلدَّخَائِلِ عَنَاوِينَهَا، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
[الْأَنْعَام: ٥٣]، وَكَقَوْلِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ حِينَ كَانَ أَمِيرَ الْكُوفَةِ وَقَدْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا «مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وَكَقَوْلِ الْحَجَّاجِ فِي خُطْبَتِهِ فِي أَهِلِ الْكُوفَةِ «أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حِينَ رُمْتُمُ الْغَدْرَ» إِلَخْ.
وَالتَّكَبُّرُ: شِدَّةُ الْكِبْرِ، وَمِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَكَبِّرُ، وَالْكِبْرُ: إِظْهَارُ الْمَرْءِ التَّعَاظُمَ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَعُدُّ نَفْسَهُ عَظِيمًا. وَتَعْرِيفُ الْمُتَكَبِّرِينَ هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَأَصْحَابُ التَّكَبُّرِ مَرَاتِبُ أَقْوَاهَا الشِّرْكُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر: ٦٠] وَهُوَ الْمَعْنِيُّ
بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَابَلَهُ بِالْإِيمَانِ، وَدُونَهُ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي قُوَّةِ حَقِيقَةِ مَاهِيَّةِ التَّكَبُّرِ، وَكُلُّهَا مَذْمُومَةٌ. وَمَا يَدُورُ عَلَى الْأَلْسُنِ: أَنَّ الْكِبْرَ عَلَى أَهْلِ الْكِبْرِ عِبَادَةٌ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَفِي وَصْفِهِمْ بِالْمُتَكَبِّرِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ بِتَسْوِيدِ وُجُوهِهِمْ كَانَ مُنَاسِبًا لِكِبْرِيَائِهِمْ لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ إِذا كَانَ سيّىء الْوَجْهِ انْكَسَرَتْ كِبْرِيَاؤُهُ لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ تَضْعُفُ بِمِقْدَارِ شُعُورِ صَاحِبِهَا بِمَعْرِفَةِ النَّاس نقائصه.
[٦١]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٦١]
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: ٦٠] إِلَى
تَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً، أَيْ شَرَعَ لَكُمْ وُجُوبَ إِقَامَةِ الدِّينِ الْمُوحَى بِهِ وَعَدَمَ التَّفَرُّقِ فِيهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُخَالِفُ هَذِهِ الشَّرَائِعَ الْمُسَمَّاةَ، وَأَنَّ اتِّبَاعَهُ يَأْتِي بِمَا أَتَتْ بِهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ دِينِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى لِأَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ، فَدِينُهُ هُوَ أَسَاسُ الدِّيَانَاتِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ والنبيئين مِنْ بَعْدِهِ [النِّسَاء: ١٦٣] وَلِأَنَّ دِينَ إِبْرَاهِيمَ هُوَ أَصْلُ الْحَنِيفِيَّةِ وَانْتَشَرَ بَيْنَ الْعَرَبِ بِدَعْوَةِ إِسْمَاعِيلَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَشْهَرُ الْأَدْيَانِ بَيْنَ الْعَرَبِ، وَكَانُوا عَلَى أَثَارَةٍ مِنْهُ فِي الْحَجِّ وَالْخِتَانِ وَالْقِرَى وَالْفُتُوَّةِ. وَدِينُ مُوسَى هُوَ أَوْسَعُ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ فِي تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا دِينُ عِيسَى فَلِأَنَّهُ الدِّينُ الَّذِي سَبَقَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا دِينٌ آخَرُ، وَلِيَتَضَمَّنَ التَّهْيِئَةَ إِلَى دَعْوَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَتَعْقِيبُ ذِكْرِ دِينِ نُوحٍ بِمَا أُوحِيَ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْخَاتَمُ لِلْأَدْيَانِ، فَعُطِفَ، عَلَى أَوَّلِ الْأَدْيَانِ جَمْعًا بَيْنَ طَرَفَيِ الْأَدْيَانِ، ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدَهُمَا الْأَدْيَانُ الثَّلَاثَةُ الْأُخَرُ لِأَنَّهَا مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الدِّينَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ قَبْلَهَا. وَهَذَا نَسْجٌ بَدِيعٌ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ، وَلَوْلَا هَذَا الِاعْتِبَارُ لَكَانَ ذِكْرُ الْإِسْلَامِ مُبْتَدَأً بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ والنبيئين من بعده [النِّسَاء:
١٦٣] وَقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النبيئين مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [٧].
وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي آيَةِ الْأَحْزَابِ أَنَّ تَقْدِيمَ ذكر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّفْصِيلِ لِبَيَانِ
أَفْضَلِيَّتِهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَالِكَ لِسَرْدِ مَنْ أُخِذَ عَلَيْهِمِ الْمِيثَاقُ، وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الشُّورَى فَإِنَّمَا أُورِدَتْ فِي مَقَامِ وَصْفِ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالْأَصَالَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ فَكَأَنَّ اللَّهَ قَالَ: شَرَعَ لَكُمُ الدِّينَ الْأَصِيلَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ نُوحًا فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَبَعَثَ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَهْدِ الْحَدِيثِ، وَبَعَثَ بِهِ مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا.
فَقَوْلُهُ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هُوَ مَا سَبَقَ نُزُولُهُ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَا فِيهِ مِنْ أَحْكَامٍ، فَعَطَفَهُ عَلَى مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا مِنَ الْمُغَايَرَةِ بِزِيَادَةِ التَّفْصِيلِ وَالتَّفْرِيعِ. وَذَكَرَهُ عَقِبَ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا لِلنُّكْتَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ.
وَأُضِيفَ الرَّبُّ إِلَى ضَمِيرِ الرِّيحِ لِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ لِأَمْرِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ فَالْأَمْرُ هُنَا هُوَ أَمْرُ التَّكْوِينِ.
فَأَصْبَحُوا أَيْ صَارُوا، وَأَصْبَحَ هُنَا مِنْ أَخَوَاتِ صَارَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ: أَنَّ تَدْمِيرَهُمْ كَانَ لَيْلًا فَإِنَّهُمْ دُمِّرُوا أَيَّامًا وَلَيَالِيَ، فَبَعْضُهُمْ هَلَكَ فِي الصَّبَاحِ وَبَعْضُهُمْ هَلَكَ مَسَاءً وَلَيْلًا.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: لَا تَرى لِمَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ حِينَئِذٍ إِتْمَامًا لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ دَمَارِهِمُ الْعَجِيبَةِ حَتَّى كَأَنَّ الْآيَةَ نَازِلَةٌ فِي وَقْتِ حُدُوثِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَسَاكِنِ: آثَارُهَا وَبَقَايَاهَا وَأَنْقَاضُهَا بَعْدَ قَلْعِ الرِّيحِ مُعْظَمَهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرِّيحَ أَتَتْ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ سَاكِنِي مَسَاكِنِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أَيْ مِثْلَ جَزَاءِ عَادٍ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ، وَهُوَ تَهْدِيدٌ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَإِنْذَارٌ لَهُمْ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الْأَحْقَاف: ٢٦].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا تَرى بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَبِنَصْبِ مَساكِنُهُمْ وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ وَبِرَفْعِ مَساكِنُهُمْ وَأَجْرَى عَلَى الْجَمْعِ
صِيغَةَ الْغَائِبِ الْمُفْرَدِ لِأَنَّ الْجَمْعَ مُسْتَثْنًى بِ إِلَّا وَهِيَ فَاصِلَةٌ بَيْنَهُ وَبَين الْفِعْل.
[٢٦]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢٦]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦)
هَذَا اسْتِخْلَاصٌ لِمَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ بِمَثَلِ عَادٍ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى إِهْلَاكِ عَادٍ قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِ مَنْ هُمْ دُونَهُمْ فِي الْقُوَّةِ وَالْعَدَدِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مِثْلَهُمْ مُسْتَجْمِعِينَ قُوَى الْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَأَنَّهُمْ أَهْمَلُوا الِانْتِفَاعَ بِقُوَاهُمْ فَجَحَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
الِانْتِصَافِ مِنَ الْمَظْلُومِ لِلظَّالِمِ بِالْأَخْذِ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَإِعْطَائِهَا لِلْمَظْلُومِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ انْتِقَاصِ حُظُوظِهِمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
ومِنْ عَمَلِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ مَا أَلَتْناهُمْ وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، وَ (مِنْ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ وَإِفَادَةِ الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ لِلنَّكِرَةِ.
كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ.
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطّور: ٢٢]، قُصِدَ مِنْهَا تَعْلِيلُ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ صَالِحَةٌ لِلتَّذْيِيلِ مَعَ التَّعْلِيلِ، وكُلُّ امْرِئٍ يَعُمُّ أَهْلَ الْآخِرَةِ كُلَّهُمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ كُلَّ امْرِئٍ مِنَ الْمُتَّقِينَ خَاصَّةً.
وَالْمَعْنَى: انْتَفَى إِنْقَاصُنَا إِيَّاهُمْ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِمْ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مَقْرُونٌ بِمَا كَسَبَ وَمُرْتَهَنٌ عِنْدَهُ وَالْمُتَّقُونَ لَمَّا كَسَبُوا الْعَمَلَ الصَّالح كَانَ لَازِما لَهُمْ مُقْتَرِنًا بِهِمْ لَا يُسْلَبُونَ مِنْهُ شَيْئًا، وَالْمُرَادُ بِمَا كَسَبُوا: جَزَاءَ مَا كَسَبُوا لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِصَاحِبِ الْعَمَلِ وَأَمَّا نَفْسُ
الْعَمَلِ نَفْسُهُ فَقَدِ انْقَضَى فِي إِبَّانِهِ.
وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ كِنَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ مَقْرُونُونَ بِجَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ، وَثَانِيَتُهُمَا: أَنَّ ذُرِّيَّاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُلْحِقُوا بِآبَائِهِمْ فِي النَّعِيمِ أُلْحِقُوا بِالْجَنَّةِ كَرَامَةً لِآبَائِهِمْ وَلَوْلَا تِلْكَ الْكَرَامَةُ لَكَانَتَ مُعَامَلَتُهُمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ. وَبِهَذَا كَانَ لهَذِهِ الْجُمْلَة هُنَا وَقْعٌ أَشَدُّ حُسْنًا مِمَّا سِوَاهُ مَعَ أَنَّهَا صَارَتْ مِنْ حُسْنِ التَّتْمِيمِ.
وَالْكَسْبُ: يُطْلَقُ عَلَى مَا يحصله الْمَرْء بِعِلْمِهِ لِإِرَادَةِ نَفْعِ نَفْسِهِ.
وَرَهِينٌ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنَ الرَّهْنِ وَهُوَ الْحَبْس.
[٢٢، ٢٣]
[سُورَة الطّور (٥٢) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٣]
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣)
عَطْفٌ عَلَى فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطّور: ١٧] إِلَخْ.
النَّاسِ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ مُهَيَّأً لِأَنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَى الْمَدِينَةِ قُبَيْلَ إِسْلَامِ الْأَنْصَارِ، فَكَانُوا يَفْخَرُونَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِوَفْرَةِ الْأَمْوَالِ وَكَثْرَةِ الْعَشَائِرِ وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ «لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ» يُرِيدُ بِالْأَعَزِّ فَرِيقَهُ وَبِالْأَذَلِّ فَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ فَآذَنَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ مِمَّا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمَذَلَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الْأَحْزَاب: ٦٠، ٦١]. وَإِذَا لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهَا أَجْدَرُ بِأَنْ لَا تُغْنِيَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ شَيْئًا، أَيْ شَيْئًا قَلِيلًا مِنَ الْإِغْنَاءِ.
وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يُنْصَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَقَدْ شقينا إِذن. فو الله لَنُنْصَرَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْفُسِنَا وَأَوْلَادِنَا وَأَمْوَالِنَا إِنْ كَانَتْ قِيَامَةٌ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَإِقْحَامُ حَرْفِ النَّفْيِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَنْفِيِّ لِتَوْكِيدِ انْتِفَاءِ الْإِغْنَاءِ.
وَمَعْنَى مِنَ اللَّهِ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ أَوْ مِنْ عَذَابِهِ. وَحَذْفُ مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ.
وَتَقْدِيرُهُ ظَاهِرٌ. وَيُلَقَّبُ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ عِنْدَ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْأَعْيَانِ عَلَى إِرَادَةِ أَشْهَرِ أَحْوَالِهَا نَحْوَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣]، أَيْ أَكْلُهَا.
وَجُمْلَةُ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ إِلَخْ خَبَرٌ ثَالِثٌ أَوْ ثَانٍ عَنْ (إِنَّ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [المجادلة: ١٥].
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، أَيْ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. وَصَاحِبُ الشَّيْءِ مُلَازِمُهُ فَلَا يُفَارِقُهُ. إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ من قَوْلِهِ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً [المجادلة: ١٥] وَمِنْ قَوْلِهِ: فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [المجادلة: ١٦] أَنَّهُمْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنِ النَّارِ، فَكَيْفَ تُغْنِي عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر: ١٩] أَيْ مَا أَنْتَ تُنْقِذُهُ مِنَ النَّارِ. فَإِنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْقِعِ يُنَبِّهُ عَلَى
هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ مَلَائِكَةُ الْمَحْشَرِ أَوْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، فَعَدَلَ عَنْ تَعْيِينِ الْقَائِلِ، إِذِ الْمَقْصُودُ الْمَقُولُ دُونَ الْقَائِلِ فَحَذْفُ الْقَائِلِ مِنَ الْإِيجَازِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْإِسْنَادِ تَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ شِدَّةِ جُحُودِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ إِذَا رَأَوُا الْوَعْدَ حَسِبُوهُ شَيْئًا آخَرَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الْأَحْقَاف: ٢٤].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سِيئَتْ بِكَسْرَةِ السِّينِ خَالِصَةً، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِإِشْمَامِ الْكَسْرَةِ ضَمَّةً، وَهُمَا لُغَتَانِ فِي فَاءِ كُلِّ ثُلَاثِيٍّ مُعْتَلِ الْعَيْنِ إِذَا بُنِيَ لِلْمَجْهُولِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَدَّعُونَ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِسُكُونِ الدَّالِ مِنَ الدُّعَاءِ، أَيِ الَّذِي كُنْتُمْ تَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يُصِيبَكُمْ بِهِ تَهَكُّمًا وَعِنَادًا كَمَا قَالُوا فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢].
[٢٨]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٢٨]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨)
هَذَا تَكْرِيرٌ ثَان لفعل قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الْملك: ٢٣].
كَانَ مِنْ بَذَاءَةِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَجْهَرُوا بِتَمَنِّي هَلَاكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلَاكِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ حَكَى الْقُرْآنُ عَنْهُمْ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: ٣٠] وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التَّوْبَة: ٩٨]، وَكَانُوا يَتَآمَرُونَ عَلَى قَتْلِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ [الْأَنْفَال: ٣٠]، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُعَرِّفَهُمْ حَقِيقَةً تَدْحَضُ أَمَانِيِّهِمْ، وَهِيَ أَنَّ مَوْتَ أَحَدٍ أَوْ حَيَاتَهُ لَا يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ مَا جَرَّهُ إِلَيْهِ عَمَلُهُ، وَقَدْ جَرَّتْ إِلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمْ غَضَبَ اللَّهِ وَوَعِيدَهُ فَهُوَ نَائِلُهُمْ حَيِيَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَادَرَهُ الْمَنُونُ،
قَالَ تَعَالَى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف: ٤١، ٤٢] وَقَالَ: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٣٤] وَقَالَ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: ٣٠] أَيِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى وَمَا يُقَارِبُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَيُنْسَبُ إِلَى الشَّافِعِيِّ:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ فَإِنْ أَمُتْ | فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ |