يَكُونُ مُوجِبُ التَّعْقِيبِ فِيهَا هُوَ السَّبَبِيَّةَ وَلَوْ عُرْفًا وَلَوِ ادِّعَاءً فَلَيْسَ خُرُوجُ الْفَاءِ عَنِ التَّرَتُّبِ هُوَ الْمَجَازَ بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْفَاءِ الْعَاطِفَةِ هُوَ التَّرْتِيبُ وَالتَّعْقِيبُ فَقَطْ أَنَّ بَعْضَ الْبَيَانِيِّينَ جَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا [الْقَصَص: ٨] اللَّامُ فِيهِ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى فَاءِ التَّعْقِيبِ أَيْ فَكَانَ لَهُمْ عَدُوًّا فَجَعَلُوا الْفَاءَ حَقِيقَةً فِي التَّعْقِيبِ وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ لَسَاوَتِ اللَّامَ فَلَمْ تَسْتَقِمِ الِاسْتِعَارَةُ فَيَكُونُ الْوَجْهُ الْحَامِلُ لِلزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ مُقْتَرِنًا بِالْفَاءِ هُوَ أَنَّهُ رَأَى عَطْفَ الظُّلْمِ عَلَى وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَمَا بَعْدَهُ بِالْوَاوِ وَلَا يَحْسُنُ لِعَدَمِ الْجِهَةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الِامْتِنَانِ وَالذَّمِّ وَالْمُنَاسَبَةُ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْوَصْلِ بِالْوَاوِ بِخِلَافِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ، فَتَعَيَّنَ إِمَّا تَقْدِيرُ ظَلَمُوا مُسْتَأْنَفًا بِدُونِ عَطْفٍ وَظَاهَرٌ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَالِكَ مَعْنًى عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَإِمَّا رَبْطُ ظَلَمُوا بِعَاطِفٍ سِوَى الْوَاوِ وَلَيْسَ يَصْلُحُ هُنَا غَيْرُ الْفَاءِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ حَصَلَ عَقِبَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ التَّعَاقُبُ فِي الْخَارِجِ مُغْنِيًا عَنِ الْجِهَةِ الْجَامِعَةِ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْفَاءُ لَا تَسْتَدْعِي قُوَّةَ مُنَاسَبَةٍ كَمُنَاسَبَةِ الْوَاوِ وَلَكِنْ مُنَاسِبَةً فِي الْخَيَالِ فَقَطْ وَقَدْ وُجِدَتْ هُنَا لِأَنَّ كَوْنَ الْمَعْطُوفِ حَصَلَ فِي الْخَارِجِ عَقِبَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مِمَّا يَجْعَلُهُ حَاضِرًا فِي خَيَالِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ عَنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قُبْحُ نَحْوِ قَوْلِكَ جَاءَ زَيْدٌ فَصَاحَ الدِّيكُ فَلِقِلَّةِ جَدْوَى هَذَا الْخَبَرِ أَلَا تَرَاهُ يَصِيرُ حَسَنًا لَوْ أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ فَصَاحَ الدِّيكُ مَعْنَى التَّوْقِيتِ بِالْفَجْرِ فَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ لِرَبْطِ الظُّلْمِ الْمُقَدَّرِ بِالْفِعْلَيْنِ قَبْلَهُ إِلَّا الْفَاءُ.
وَفِي ذَلِكَ الْإِخْبَارِ وَالرَّبْطِ وَالتَّصَدِّي لِبَيَانِهِ- مَعَ غَرَابَةِ هَذَا التَّعْقِيبِ- تَعْرِيضٌ بِمَذَمَّتِهِمْ إِذْ قَابَلُوا الْإِحْسَانَ بِالْكُفْرَانِ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِغَبَاوَتِهِمْ إِذْ صَدَفُوا عَنِ الشُّكْرِ كَأَنَّهُمْ يَنْكُونَ
بِالْمُنْعِمِ وَهُمْ إِنَّمَا يُوقِعُونَ النِّكَايَةَ بِأَنْفُسِهِمْ، هَذَا تَفْصِيلُ مَا يُقَالُ عَلَى تَقْدِيرِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ».
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْدِيرِ وَأَنَّ جُمْلَةَ وَما ظَلَمُونا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا مِثْلُهَا فِي أَنَّهَا مِنْ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَثَارُ ذِكْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ بَعْضُ الْجُمَلِ الَّتِي سَبَقَتْ مِنْ أَنَّ ظُلْمًا قَدْ حَصَلَ مِنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ [الْبَقَرَة: ٥١] وَقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ [الْبَقَرَة: ٥٤] وَمَا تضمنه قَوْله: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: ٥٥] الدَّالُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَذَابٌ جَرُّوهُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَأَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ كَالْفَذْلَكَةِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ نَظِيرَ قَوْله: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [الْبَقَرَة: ٩] عَقِبَ قَوْلِهِ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَة: ٩] وَنَظِيرَ قَوْلِهِ: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [سبأ: ١٩] بَعْدَ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً [سبأ: ١٨]
وَهَذَا التَّرْكِيبُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ١- ٣] وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَمَعْنَى وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ زِيَادَةُ تَهْوِيلِ أَمْرِ الْقَارِعَةِ وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ صَادِقَةٌ عَلَى شَخْصٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَيُّ شَخْصٍ أَدْرَاكَ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَعْظِيمِ حَقِيقَتِهَا وَهَوْلِهَا لِأَنَّ هَوْلَ الْأَمْرِ يَسْتَلْزِمُ الْبَحْثَ عَنْ تَعَرُّفِهِ. وَأَدْرَاكَ: بِمَعْنَى أَعْلَمَكَ.
ومَا الْقارِعَةُ اسْتِفْهَامٌ آخَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، أَيْ مَا أَدْرَاكَ جَوَابَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ. وَسَدَّ الِاسْتِفْهَامُ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ أَدْراكَ
وَجُمْلَةُ: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا الْقارِعَةُ وَالْخِطَابُ فِي أَدْراكَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ وَمَا أَدْرَاكَ أَيُّهَا السَّامِعُ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ١- ٣] وَتَقَدَّمَ بَعْضُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ فِي سُورَة الانفطار [١٧].
[٤، ٥]
[سُورَة القارعة (١٠١) : الْآيَات ٤ إِلَى ٥]
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥)
يَوْمَ مَفْعُولٌ فِيهِ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُ الْقَارِعَةِ لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ:
تَقْرَعُ، أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ كُلُّهُ فَيُقَدَّرُ: تَكُونُ، أَوْ تَحْصُلُ، يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ.
وَجُمْلَةُ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ مَعَ مُتَعَلِّقِهَا الْمَحْذُوفِ بَيَان للإبهامين اللَّذين فِي قَوْلِهِ:
مَا الْقارِعَةُ [القارعة: ٢] وَقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ [القارعة: ٣].
وَلَيْسَ قَوْلُهُ: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ خَبَرًا عَنِ الْقارِعَةُ إِذْ لَيْسَ سِيَاقُ الْكَلَامِ لِتَعْيِينِ يَوْمِ وُقُوعِ الْقَارِعَةِ.
وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا التَّوْقِيتِ زِيَادَةُ التَّهْوِيلِ بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ يَوْمَ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُفِيدَتَيْنِ أَحْوَالًا هَائِلَةً، إِلَّا أَنَّ شَأْنَ التَّوْقِيتِ أَنْ يَكُونَ بِزَمَانٍ مَعْلُومٍ، وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا الْحَالُ الْمُوَقَّتُ بِزَمَانِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ مَدَاهُ. كَانَ التَّوْقِيتُ لَهُ إِطْمَاعًا فِي تَعْيِينِ وَقْتِ


الصفحة التالية
Icon