فِي الْمَصْدَرِ وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ جَعْلِ ضُرِبَتْ تَخْيِيلًا وَجَعْلِهِ تَبَعِيَّةً وَهِيَ طَرِيقَةٌ فِي الْآيَةِ سَلَكَهَا الطَّيِّبِيُّ فِي شَرْحِ الْكَشَّاف وَخَالفهُ التفتازانيّ وَجَعَلَ الضَّرْبَ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ الْقُبَّةَ أَوِ الطِّينَ، وَهُمَا احْتِمَالَانِ مَقْصُودَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَشْعُرُ بِهِمَا الْبُلَغَاءُ.
ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ:

إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ وَالنَّدَى فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ (١)
لِأَنَّ الْقُبَّةَ فِي الْآيَةِ مُشَبَّهٌ بِهَا وَلَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ وَالْقُبَّةُ فِي الْبَيْتِ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً فَالْآيَةُ اسْتِعَارَةٌ وَتَصْرِيحٌ وَالْبَيْتُ حَقِيقَةٌ وَكِنَايَةٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الطَّيِّبِيّ وَجعل التفتازانيّ الْآيَةَ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فِي الِاسْتِعَارَةِ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ الْيَهُودِ أَذِلَّاءَ مُتَصَاغِرِينَ وَهِيَ نُكَتٌ لَا تَتَزَاحَمُ.
وَالذِّلَّةُ الصَّغَارُ وَهِيَ بِكَسْرِ الذَّالِ لَا غَيْرَ وَهِيَ ضِدَّ الْعِزَّةِ وَلِذَلِكَ قَابَلَ بَيْنَهُمَا السَّمَوْأَلُ أَوِ الْحَارِثِيُّ فِي قَوْلِهِ:
وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا عَزِيزٌ وَجَارُ الْأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ
وَالْمَسْكَنَةُ الْفَقْرُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّكُونِ لِأَنَّ الْفَقْرَ يُقَلِّلُ حَرَكَةَ صَاحِبِهِ. وَتُطْلَقُ عَلَى الضَّعْفِ وَمِنْهُ الْمِسْكِينُ لِلْفَقِيرِ. وَمَعْنَى لُزُومِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ لِلْيَهُودِ أَنَّهُمْ فَقَدُوا الْبَأْسَ وَالشَّجَاعَةَ وَبَدَا عَلَيْهِمْ سِيمَا الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ مَعَ وَفْرَةِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَئِمُوهَا صَارَتْ لَدَيْهِمْ كَالْعَدَمِ وَلِذَلِكَ صَارَ الْحِرْصُ لَهُمْ سَجِيَّةً بَاقِيَةً فِي أَعْقَابِهِمْ.
وَالْبَوْءُ الرُّجُوعُ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِانْقِلَابِ الْحَالَةِ مِمَّا يُرْضِي اللَّهَ إِلَى غَضَبِهِ.
_________
(١) الْبَيْت لزياد الْأَعْجَم من قصيدة فِي عبد الله بن الحشرج الْقَيْسِي أَمِير نيسابور لبني أُميَّة وَكَانَ عبد الله جوادا سيدا، وَقَول زِيَاد فِي قبَّة كِنَايَة عَن نِسْبَة الْكَرم إِلَى عبد الله وَإِن لم تكن لعبد الله قبَّة لَكِن مَعَ جَوَاز أَن تكون لَهُ قبَّة على قَاعِدَة الْكِنَايَة. أما الْآيَة فمبنية على تَشْبِيه الذلة بالقبة فالقبة ممتنعة الْحُصُول لِأَن الْمُشبه بِهِ لَا يكون وَاقعا.
الْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ بُلِّغَتْ دَعْوَتُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَلَّدَ أَعْمَالَ الْبَاطِلِ الَّتِي حَذَّرَ الْإِسْلَامُ الْمُسْلِمِينَ
مِنْهَا.
وَعَلَى إِثْبَاتِ نَجَاةِ وَفَوْزِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَالدَّاعِينَ مِنْهُمْ إِلَى الْحَقِّ.
وَعَلَى فَضِيلَةِ الصَّبْرِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَدَعْوَةِ الْحَقِّ.
وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذُوهَا شِعَارًا لَهُمْ فِي مُلْتَقَاهُمْ. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْأَنْصَارِيِّ (مِنَ التَّابِعَيْنِ) أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَفْتَرِقَا إِلَّا عَلَى أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ سُورَةَ الْعَصْرِ إِلَى آخِرِهَا ثُمَّ يُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ (أَيْ سَلَامُ التَّفَرُّقِ وَهُوَ سُنَّةٌ أَيْضًا مِثْلَ سَلَامِ الْقُدُومِ).
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَوَسِعَتْهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَوْ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى النَّاسِ إِلَّا هِيَ لَكَفَتْهُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهَا شَمِلَتْ جَمِيعَ عُلُومِ الْقُرْآنِ. وَسَيَأْتِي بَيَانه.
[١- ٣]
[سُورَة الْعَصْر (١٠٣) : الْآيَات ١ إِلَى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)
أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَصْرِ قَسَمًا يُرَادُ بِهِ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَقْسَامِ الْقُرْآنِ.
وَالْمُقْسَمُ بِهِ مِنْ مَظَاهِرِ بَدِيعِ التَّكْوِينِ الرَّبَّانِيِّ الدَّالِّ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَسِعَةِ عِلْمِهِ.
وَلِلْعَصْرِ مَعَانٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا لَا يعدو أَنْ يَكُونَ حَالَةً دَالَّةً عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الرَّبَّانِيَّةِ، يَتَعَيَّنُ إِمَّا بِإِضَافَتِهِ إِلَى مَا يُقَدَّرُ، أَوْ بِالْقَرِينَةِ، أَوْ بِالْعَهْدِ، وَأَيًّا مَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا فَإِنَّ الْقَسَمَ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ زَمَنٌ يُذَكِّرُ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْعَالَمِ وَأَحْوَالِهِ، وَبِأُمُورٍ عَظِيمَةٍ مُبَارَكَةٍ مِثْلَ الصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ أَوْ عَصْرٍ مُعَيَّنٍ مُبَارَكٍ.
وَأَشْهَرُ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْعَصْرِ أَنَّهُ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ لِوَقْتٍ مَا بَيْنَ آخَرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَبَيْنَ


الصفحة التالية
Icon