قَبْرِ الْقِدِّيسِ بُطْرُسَ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ بِكَوْنِ قَبْرِهِ فِي كَنِيسَةِ رُومَةَ فَبَيَّنْتُ لَهُمْ أَنَّهُ أَحَدُ الْحَوَارِيِّينَ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَابْتُدِئَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِمْ لِيَكُونُوا فِي مُقَدِّمَةِ ذِكْرِ الْفَاضِلِينَ فَلَا يُذْكَرُ أَهْلُ الْخَيْرِ إِلَّا وَيُذْكَرُونَ مَعَهُمْ، وَمِنْ مُرَاعَاةِ هَذَا الْمَقْصِدِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ
[١٦٢] لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ- أَيِ الَّذِينَ هَادُوا- وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُمُ الْقُدْوَةُ لِغَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا [الْبَقَرَة: ١٣٧] فَالْمُرَادُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِالنَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا لَقَبٌ لِلْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ.
والَّذِينَ هادُوا هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هُنَا وَجْهَ وَصْفِهِمْ بِالَّذِينَ هَادُوا، وَمَعْنَى (هَادُوا) كَانُوا يَهُودًا أَوْ دَانُوا بِدِينِ الْيَهُودِ. وَأَصْلُ اسْمِ يَهُودَ مَنْقُولٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ وَهُوَ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ فِي آخِرِهِ وَهُوَ عَلَمُ أَحَدِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ، وَهَذَا الِاسْمُ أُطْلِقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَوْتِ سُلَيْمَانَ سَنَةَ ٩٧٥ قَبْلَ الْمَسِيحِ فَإِنَّ مَمْلَكَةَ إِسْرَائِيلَ انْقَسَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى مَمْلَكَتَيْنِ مَمْلَكَةُ رَحْبَعَامَ بْنِ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَتْبَعْهُ إِلَّا سِبْطُ يَهُوذَا وَسِبْطُ بِنْيَامِينَ وَتُلَقَّبُ بِمَمْلَكَةِ يَهُوذَا لِأَنَّ مُعْظَمَ أَتْبَاعِهِ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا وَجَعَلَ مَقَرَّ مَمْلَكَتِهِ هُوَ مَقَرَّ أَبِيهِ (أُورْشَلِيمَ)، وَمَمْلَكَةٌ مَلِكُهَا يُورْبَعَامُ بْنُ بِنَاطَ غُلَامُ سُلَيْمَانَ وَكَانَ شُجَاعًا نَجِيبًا فَمَلَّكَتْهُ بَقِيَّةُ الْأَسْبَاطِ الْعَشَرَةِ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ مَقَرَّ مَمْلَكَتِهِ السَّامِرَةَ وَتَلَقَّبَ بِمَلِكِ إِسْرَائِيلَ إِلَّا أَنَّهُ وَقَوْمَهُ أَفْسَدُوا الدِّيَانَةَ الْمُوسَوِيَّةَ وَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ انْفَصَلُوا عَنِ الْجَامِعَةِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ وَلَمْ يَدُمْ مُلْكُهُمْ فِي السَّامِرَةِ إِلَّا مِائَتَيْنِ وَنَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً ثُمَّ انْقَرَضَ عَلَى يَدِ مُلُوكِ الْآشُورِيِّينَ فَاسْتَأْصَلُوا الْإِسْرَائِيلِيِّينَ الَّذِينَ بِالسَّامِرَةِ وَخَرَّبُوهَا وَنَقَلُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بِلَادِ آشُورَ عَبِيدًا لَهُمْ وَأَسْكَنُوا بِلَادَ السَّامِرَةِ فَرِيقًا مِنَ الْآشُورِيِّينَ فَمِنْ يَوْمِئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مُلْكٌ إِلَّا مُلْكُ يَهُوذَا بِأُورْشَلِيمَ يَتَدَاوَلُهُ أَبْنَاءُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمُنْذُ ذَلِكَ غَلَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْمُ يَهُودَ أَيْ يَهُوذَا وَدَامَ مُلْكُهُمْ هَذَا إِلَى حَدِّ سَنَةِ ١٢٠ قَبْلَ الْمَسِيحِ مَسِيحِيَّةً فِي زَمَنِ الْإِمْبِرَاطُورِ أَدْرَيَانَ الرُّومَانِيِّ الَّذِي أَجْلَى الْيَهُودَ الْجَلَاءَ الْأَخِيرَ فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَقْطَارِ بَاسِمِ الْيَهُودِ هُمْ وَمَنِ الْتَحَقَ بِهِمْ مِنْ فُلُولِ بَقِيَّةِ الْأَسْبَاطِ. وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ اخْتِيَارِ لَفْظِ الَّذِينَ هادُوا فِي الْآيَةِ دُونَ الْيَهُودِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمُ
وَغُفْرَانِ بَعْضِ اللَّمَمِ إِذَا تَرَكَ صَاحِبُهُ الْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ وَهُوَ مَا فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: ١١٤].
وَهَذَا الْخَبَرُ مُرَادٌ بِهِ الْحُصُولُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ، أَيْ لَفِي خُسْرٍ فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْآخِرَةِ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى:
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: ١٩٦، ١٩٧].
وَتَنْكِيرُ خُسْرٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّعْمِيمِ فِي مَقَامِ التَّهْوِيلِ وَفِي سِيَاقِ الْقَسَمِ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّ النَّاسَ لَفِي خُسْرَانٍ عَظِيمٍ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الصَّالِحاتِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ، أَيْ عَمِلُوا جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِعَمَلِهَا بِأَمْرِ الدِّينِ وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ يَشْمَلُ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ. وَقَدْ أَفَادَ اسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِفِينَ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ وَمَعْطُوفِهَا إِيمَاءً إِلَى عِلَّةِ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ نَقِيضُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا فِي خُسْرٍ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَهُوَ حَقِيقَةٌ مَقُولٌ على جزئياتها بالتواطىء. وَأَمَّا الصَّالِحَاتُ فَعُمُومُهَا مَقُولٌ عَلَيْهِ بِالتَّشَكُّكِ، فَيُشِيرُ إِلَى أَنَّ انْتِفَاءَ الْخُسْرَانِ عَنْهُمْ يَتَقَدَّرُ بِمِقْدَارِ مَا عَمِلُوهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَفِي ذَلِكَ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ دَلَّ اسْتِثْنَاءُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا فِي خُسْرٍ عَلَى أَنَّ سَبَبَ كَوْنِ بَقِيَّةِ الْإِنْسَانِ فِي خُسْرٍ هُوَ عَدَمُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِدَلَالَةِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ. وَعُلِمَ مِنَ الْمَوْصُولِ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ هُمَا سَبَبُ انْتِفَاءِ إِحَاطَةِ الْخُسْرِ بِالْإِنْسَانِ.
وَعُطِفَ عَلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الصَّالِحَاتِ، عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُغْفَلُ عَنْهُ، يُظَنُّ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ مَا أَثَرُهُ عَمَلُ الْمَرْءِ فِي خَاصَّتِهِ، فَوَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْعَمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ إِرْشَادَ الْمُسْلِمِ غَيْرَهُ وَدَعْوَتَهُ إِلَى الْحَقِّ، فَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ يَشْمَلُ تَعْلِيمَ


الصفحة التالية
Icon