فِي مُصْحَفِ الْكُوفَةِ وَمِثْلَ زِيَادَةِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فِي سُورَةِ الشُّورَى [٣٠] : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [العنكبوت: ٨] أَوْ إِحْسَانًا فَذَلِك اخْتِلَاف ناشىء عَنِ الْقِرَاءَةِ بِالْوَجْهَيْنِ بَيْنَ الْحُفَّاظِ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَهُ نَاسِخُو الْمُصْحَفِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ فَلَا يُنَافِي التَّوَاتُرَ إِذْ لَا تَعَارُضَ، إِذَا كَانَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ قَدْ نَطَقَ بِمَا نَقَلَهُ عَنْهُ النَّاقِلُونَ فِي زَمَانَيْنِ أَوْ أَزْمِنَةٍ، أَوْ كَانَ قَدْ أُذِنَ للناقلين أَن يقرأوا بِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ أَوِ الْأَلْفَاظِ.
وَقَدِ انْحَصَرَ تَوَفُّرُ الشُّرُوطِ فِي الرِّوَايَاتِ الْعَشْرِ لِلْقُرَّاءِ وَهُمْ: نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ الْمَدَنِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ، وَأَبُو عَمْرٍو الْمَازِنِيُّ الْبَصْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الدِّمَشْقِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ الْكُوفِيُّ، وَحَمْزَةُ بْنُ حَبِيبٍ الْكُوفِيُّ، وَالْكِسَائِيُّ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ الْكُوفِيُّ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ الْمَدَنِيُّ، وَخَلَفٌ الْبَزَّارُ (بِزَايٍ فَأَلِفٌ فَرَاءٌ مُهْمَلَةٌ) الْكُوفِيُّ، وَهَذَا الْعَاشِرُ لَيْسَتْ لَهُ رِوَايَةٌ خَاصَّةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ قِرَاءَةً تُنَاسِبُ قِرَاءَاتِ أَئِمَّةِ الْكُوفَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ قِرَاءَاتِ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ إِلَّا قَلِيلًا، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَجْعَلُ قِرَاءَةَ ابْنِ مُحَيْصِنٍ وَالْيَزِيدِيِّ وَالْحَسَنِ وَالْأَعْمَشِ، مَرْتَبَةً دُونَ الْعَشْرِ، وَقَدْ عَدَّ الْجُمْهُورُ مَا سِوَى ذَلِكَ شَاذًّا لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ بِتَوَاتُرِ حُفَّاظِ الْقُرْآنِ.
وَالَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّ مَا دُونَ الْعَشْرِ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهِ وَلَا أَخْذُ حُكْمٍ مِنْهُ لِمُخَالَفَتِهِ الْمُصْحَفَ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ مَا تَوَاتَرَ، فَكَانَ مَا خَالَفَهُ غَيْرُ مُتَوَاتِرٍ فَلَا يَكُونُ قُرْآنًا، وَقَدْ تُرْوَى قِرَاءَاتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ فِي كُتُبِ الصَّحِيحِ مِثْلَ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ» وَأَضْرَابِهِمَا إِلَّا أَنَّهَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ مَنْ سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِرَاءَةُ بِهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَوَاتِرَةِ النَّقْلِ فَلَا يُتْرَكُ الْمُتَوَاتِرُ لِلْآحَادِ، وَإِذَا كَانَ رَاوِيهَا قَدْ بَلَغَتْهُ قِرَاءَةٌ أُخْرَى مُتَوَاتِرَةٌ تُخَالِفُ مَا رَوَاهُ وَتَحَقَّقَ لَدَيْهِ التَّوَاتُرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ بِالْمَرْوِيَّةِ تَوَاتُرًا، وَقَدِ اصْطَلَحَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنْ يُطْلِقُوا عَلَيْهَا قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنْتَسِبَةٍ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الرِّوَايَةِ فِي الْقِرَاءَاتِ، وَيَكْثُرُ ذِكْرُ هَذَا الْعُنْوَانِ فِي «تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ» وَفِي «الْكَشَّافِ»
وَفِي «الْمُحَرَّرِ الْوَجِيزِ» لِعَبْدِ الْحَقِّ ابْن عَطِيَّةَ، وَسَبَقَهُمْ إِلَيْهِ أَبُو الْفَتْحِ ابْن جِنِّي، فَلَا تَحْسَبُوا أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِنِسْبَتِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا وَحْدَهَا الْمَأْثُورَةُ عَنْهُ وَلَا تَرْجِيحَهَا عَلَى الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ لِأَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةَ قَدْ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَلْ حَيَاةٌ رُوحِيَّةٌ، لَكِنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مُطْلَقِ حَيَاةِ الْأَرْوَاحِ، فَإِنَّ لِلْأَرْوَاحِ كُلِّهَا حَيَاةً وَهِيَ عَدَمُ الِاضْمِحْلَالِ وَقَبُولُ التَّجَسُّدِ فِي الْحَشْرِ مَعَ إِحْسَاسٍ مَا بِكَوْنِهَا آئلة إِلَى نَعِيمٍ أَوْ جَحِيمٍ، وَأَمَّا حَيَاةُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهِيَ حَيَاةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى إِدْرَاكَاتِ التَّنَعُّمِ بِلَذَّاتِ الْجَنَّةِ وَالْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَالِانْكِشَافَاتِ الْكَامِلَةِ، وَلِذَلِكَ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ تُجْعَلُ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَرْعَى مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ وَتَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا»
. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اتِّصَالَ اللَّذَّاتِ بِالْأَرْوَاحِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَوَسُّطِ الْحَوَاسِّ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَلَمَّا انْفَصَلَتِ الرُّوحُ عَنِ الْجَسَدِ عُوِّضَتْ جَسَدًا مُنَاسِبًا لِلْجَنَّةِ ليَكُون وَسِيلَة لنعميها.
[١٥٥، ١٥٧]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ١٥٥ إِلَى ١٥٧]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ.
عَطَفَ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ عَلَى قَوْلِهِ: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة: ١٥٣] عَطْفَ الْمَقْصِدِ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَبْلُ، وَلَكَ أَنْ تجْعَل قَوْله: وَنَبْلُوكُمْ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: ١٥٠] الْآيَاتِ لِيُعْلِمَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ تَمَامَ النِّعْمَةِ وَمَنْزِلَةَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ لَحَاقِ الْمَصَائِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمُرْتَبِطَةِ بِأَسْبَابِهَا، وَأَنَّ تِلْكَ الْمَصَائِبَ مَظْهَرٌ لِثَبَاتِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّسْلِيمِ لِقَضَائِهِ فَيَنَالُونَ بِذَلِكَ بَهْجَةَ نُفُوسِهِمْ بِمَا أَصَابَهُمْ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ وَيَزْدَادُونَ بِهِ رِفْعَةً وَزَكَاءً، وَيَزْدَادُونَ يَقِينًا بِأَنَّ اتِّبَاعَهُمْ لِهَذَا الدِّينِ لَمْ يَكُنْ لِنَوَالَ حُظُوظٍ فِي الدُّنْيَا، وَيَنْجَرُّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ ثَوَابٌ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ وَجَعَلَ قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [الْبَقَرَة:
١٥٣] الْآيَةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ لِيَكُونَ نَصِيحَةً لِعِلَاجِ الْأَمْرَيْنِ تَمَامِ النِّعْمَةِ وَالْهُدَى وَالِابْتِلَاءِ، ثُمَّ أُعِيدَ عَلَيْهِ مَا يُصَيِّرُ الْجَمِيعَ خَبَرًا بِقَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.
وَجِيءَ بِكَلِمَةِ (شَيْءٍ) تَهْوِينًا لِلْخَبَرِ الْمُفْجِعِ، وَإِشَارَةً إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا الِابْتِلَاءِ وَبَيْنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ اللَّذَيْنِ سَلَّطَهُمَا اللَّهُ عَلَى بَعْضِ الْأُمَمِ عُقُوبَةً، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [النَّحْل: ١١٢] وَلِذَلِكَ جَاءَ هُنَا بِكَلِمَةِ (شَيْءٍ) وَجَاءَ
هُنَالِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُلَابَسَةِ وَالتَّمَكُّنِ، وَهُوَ أَنِ اسْتَعَارَ لَهَا اللبَاس الملازم لِلَّابِسِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ (شَيْءٍ) مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢٦٥] الْآيَةَ. وَقَدْ وَصَفَ الْجَنَّةَ بِأَعْظَمِ مَا يَحْسُنُ بِهِ أَحْوَالُ الْجَنَّاتِ وَمَا يُرْجَى مِنْهُ تَوَفُّرُ رَيْعِهَا، ثُمَّ وَصَفَ صَاحِبَهَا بِأَقْصَى صِفَاتِ الْحَاجَةِ إِلَى فَائِدَةِ جَنَّتِهِ، بِأَنَّهُ ذُو عِيَالٍ فَهُوَ فِي حَاجَةٍ إِلَى نَفْعِهِمْ وَأَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ- أَيْ صِغَارٌ- إِذِ الضَّعِيفُ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» هُوَ الْقَاصِرُ، وَيُطْلَقُ الضَّعِيفُ عَلَى الْفَقِيرِ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً [الْبَقَرَة: ٢٨٢]، وَقَالَ أَبُو خَالِدٍ الْعَتَّابِيُّ:

لَقَدْ زَادَ الْحَيَاةَ إِلَيَّ حُبًّا بَنَاتِي إِنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ
وَقَدْ أَصَابَهُ الْكِبَرُ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْكَسْبِ غَيْرَ تِلْكَ الْجَنَّةِ، فَهَذِهِ أشدّ الْأَحْوَال الْحِرْصِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ
فَحَصَلَ مِنْ تَفْصِيلِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَعْظَمُ التَّرَقُّبِ لِثَمَرَةِ هَذِهِ الْجَنَّةِ كَمَا كَانَ الْمُعْطِي صَدَقَتَهُ فِي تَرَقُّبٍ لِثَوَابِهَا.
فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ، أَيْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَقْلَعُ الشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ، فِيهَا نَارٌ أَيْ شِدَّةُ حَرَارَةٍ- وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِرِيحِ السَّمُومِ، فَإِطْلَاقُ لَفْظِ نَارٍ عَلَى شِدَّةِ الْحَرِّ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، فَأَحْرَقَتِ الْجَنَّةَ- أَيْ أَشْجَارَهَا- أَيْ صَارَتْ أَعْوَادُهَا يَابِسَةً، فَهَذَا مُفَاجَأَةُ الْخَيْبَةِ فِي حِينِ رَجَاءِ الْمَنْفَعَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيَوَدُّ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَحْذِيرٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات: ١٢]. والهيأة الْمُشَبَّهَةُ محذوفة وَهِي هيأة الْمُنْفِقِ نَفَقَةً مُتْبَعَةً بِالْمَنِّ وَالْأَذَى.
رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ يَوْمًا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ الْآيَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: «اللَّهُ أَعْلَمُ»، فَغَضِبَ عُمَرُ وَقَالَ: «قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ»، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ»، فَقَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلَا تَحْقِرْ نَفْسَكَ»، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
«ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ»، قَالَ عُمَرُ: «أَيُّ عَمَلٍ»، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لِعَمَلٍ»، قَالَ: صَدَقْتَ، لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجل إِلَيْهِ الشَّيْطَان لَمَّا فَنِيَ عُمْرُهُ فَعَمِلَ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى أَحْرَقَ عَمَلَهُ.
صِدْقُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِدِينِهِمْ. وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ فَاسِقٌ عَنْ دِينِهِ، مُحَرِّفٌ لَهُ، مِنَاوٍ لِأَهْلِ الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ مِثْلُ الَّذِينَ سَمُّوا الشَّاةَ لِرَسُولِ اللَّهِ يَوْمَ خَيْبَرٍ، وَالَّذِينَ حَاوَلُوا أَنْ يَرْمُوا عَلَيْهِ صَخْرَة.
[١١١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١١١]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١)
اسْتِئْنَافٌ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: ١١٠] لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَكْثَرِهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ يُؤْذِنُ بِمُعَادَاتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوقِعَ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ خَشْيَةً مِنْ بَأْسِهِمْ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُنْتَشِرِينَ حِيَالَ الْمَدِينَةِ فِي خَيْبَرَ، وَالنَّضِيرِ، وَقَيْنُقَاعَ، وَقُرَيْظَةَ، وَكَانُوا أَهْلَ مَكْرٍ، وَقُوَّةٍ، وَمَالٍ، عدّة، وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ فِي قِلَّةٍ فَطَمْأَنَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْشَوْنَ بَأْسَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا يَخْشَوْنَ ضُرَّهُمْ، لَكِنْ أَذَاهُمْ.
أَمَّا النَّصَارَى فَلَا مُلَابَسَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَخْشَوْهُمْ. وَالْأَذَى هُوَ الْأَلَمُ الْخَفِيفُ وَهُوَ لَا يَبْلُغُ حَدَّ الضُّرِّ الَّذِي هُوَ الْأَلَمُ، وَقَدْ قِيلَ: هُوَ الضُّرُّ بِالْقَوْلِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ إِسْحَاقِ بْنِ خَلَفٍ:
أَخْشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ أَوْ جَفَاءَ أَخٍ وَكُنْتُ أُبْقِي عَلَيْهَا مِنْ أَذَى الْكَلِمِ
وَمَعْنَى يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ يَفِرُّونَ مُنْهَزِمِينَ.
وَقَوْلُهُ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ احْتِرَاسٌ أَيْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ تَوْلِيَةَ مُنْهَزِمِينَ لَا تَوْلِيَةَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ، أَوْ مُتَأَمِّلِينَ فِي الْأَمْرِ. وَفِي الْعُدُولِ عَنْ جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ الْجَوَابِ إِلَى جَعْلِهِ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَتَيِ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ مَعًا، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا دَيْدَنُهُمْ وَهَجِيرَاهُمْ. لَوْ قَاتَلُوكُمْ، وَكَذَلِكَ فِي قِتَالِهِمْ غَيْرَكُمْ.
وَقَوْلُهُ: فَساءَ قَرِيناً جَوَابُ الشَّرْطِ. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (سَاءَ) إِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى الشَّيْطَان (فَساءَ) بِمَعْنَى بِئْسَ، وَالضَّمِيرُ فَاعِلُهَا، وقَرِيناً تَمْيِيزٌ لِلضَّمِيرِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: ١٧٧]، أَيْ: فَسَاءَ قَرِينًا لَهُ، لِيَحْصُلَ الرَّبْطُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَيَجُوزُ أَن تبقى (فَساءَ) عَلَى أَصْلِهَا ضِدَّ حَسُنَ، وَتَرْفَعَ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى (مَنْ) وَيَكُونَ (قَرِينًا) تَمْيِيزَ نِسْبَةٍ، كَقَوْلِهِمْ: «سَاءَ سمعا فسَاء جابة» أَيْ فَسَاءَ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ قَرِينَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينِ، وَالْمَقْصُودُ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ سُوءُ حَالِ مَنْ كَانَ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا بِإِثْبَاتِ سُوءِ قَرِينِهِ إِذِ الْمَرْءُ يُعْرَفُ بِقَرِينِهِ، كَمَا قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي وَقَوْلُهُ: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عُطِفَ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ عَائِدٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ اسْتِنْزَالُ طَائِرِهِمْ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَماذا اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ هُنَا إِنْكَارِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ. وَ (ذَا) إِشَارَةٌ إِلَى (مَا)، وَالْأَصْل لَا يَجِيءَ بَعْدَ (ذَا) اسْمٌ مَوْصُولٌ نَحْوَ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [الْبَقَرَة: ٢٥٥]. وَكَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَذْفُهُ وَإِبْقَاءُ صِلَتِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَقَالَ النُّحَاةُ: نَابَتْ ذَا مَنَابَ الْمَوْصُولِ، فَعَدُّوهَا فِي الْمَوْصُوَلَاتِ وَمَا هِيَ مِنْهَا فِي قُبَيْلٍ وَلَا دُبَيْرٍ، وَلَكِنَّهَا مُؤْذِنَةٌ بِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وعَلى ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، فَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِكَوْنٍ. وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ، كَقَوْلِهِمْ: عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا. ولَوْ آمَنُوا شَرْطٌ حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قُدِّمَ دَلِيلُ الْجَوَابِ اهْتِمَامًا بِالِاسْتِفْهَامِ، كَقَوْلِ
قَتِيلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ:
مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ
وَمِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ تَوَلَّدَ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ فِي لَوِ الشَّرْطِيَّةِ، فَأَثْبَتَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي مَعَانِي لَوْ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى لَوْ فِي التَّحْقِيقِ، وَلَكِنَّهُ يَنْشَأُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَوْ آمَنُوا مَاذَا الَّذِي كَانَ يُتْعِبُهُمْ وَيُثْقِلُهُمْ، أَيْ لَكَانَ خَفِيفًا عَلَيْهِمْ وَنَافِعًا لَهُمْ، وَهَذَا من الْجِدَال بِإِرَاءَةِ الْحَالَةِ الْمَتْرُوكَةِ أَنْفَعَ وَمَحْمُودَةً.
ثُمَّ إِذَا ظَهَرَ أَنَّ التَّفْرِيطَ فِي أَخَفِّ الْحَالَيْنِ وَأَسَدِّهِمَا أَمْرٌ نُكْرٌ، ظَهَرَ أَنَّ الْمُفَرِّطَ فِي ذَلِكَ مَلُومٌ، إِذْ لَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ بِأَرْشَدِ الْخَلَّتَيْنِ، فَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ اسْتِعْمَالًا
مِنْ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَتَنْزِيهِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، يَتَفَرَّعُ أَنْ آمُرَكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَأُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ مَعَ كَوْنِهِمْ مُؤْمِنِينَ، أَيِ النَّصَارَى، لِأَنَّهُمْ لَمَّا وَصَفُوا اللَّهَ بِمَا لَا يَلِيقُ فَقَدْ أَفْسَدُوا الْإِيمَانَ، وَلِيَكُونَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَمْهِيدًا لِلْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدِي. وَأُرِيدَ بِالرُّسُلِ جَمِيعُهُمْ، أَيْ لَا تَكْفُرُوا بِوَاحِدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَاسِ عَنْ أَنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمُونَ أَنْ يُعْرِضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِرِسَالَةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُبَالَغَةً فِي نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أَيْ لَا تَنْطِقُوا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ شِعَارًا لِلنَّصَارَى فِي دِينِهِمْ كَكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ عَوَائِدِهِمُ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّثْلِيثِ بِالْأَصَابِعِ الثَّلَاثَةِ: الْإِبْهَامِ وَالْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ النُّطْقِ بِالْمُشْتَهِرِ
مِنْ مَدْلُولِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَعَنِ الِاعْتِقَادِ. لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ الصِّدْقُ فَلَا يَنْطِقُ أَحَدٌ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ، فَالنَّهْيُ هُنَا كِنَايَةٌ بِإِرَادَةِ الْمَعْنَى وَلَازِمِهِ. وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقُولُوا خُصُوصُ النَّصَارَى.
وثَلاثَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَانَ حَذْفُهُ لِيَصْلُحَ لِكُلِّ مَا يَصْلُحُ تَقْدِيرُهُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ مِنَ التَّثْلِيثِ، فَإِنَّ النَّصَارَى اضْطَرَبُوا فِي حَقِيقَةِ تَثْلِيثِ الْإِلَهِ كَمَا سَيَأْتِي، فَيُقَدَّرُ الْمُبْتَدَأُ الْمَحْذُوفُ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَرْدُودُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ التَّثْلِيثِ مِمَّا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِلَفْظِ ثَلاثَةٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِلَهِ، وَهِيَ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ. فَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [الْمَائِدَة: ٧٣]. وَفِي آيَةِ آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَة: ١١٦]، أَيْ إِلَهَيْنِ مَعَ اللَّهِ، كَمَا سَيَأْتِي، فَالْمَجْمُوعُ ثَلَاثَةٌ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَهٌ وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَجْمُوعَ الثَّلَاثَةِ إِلَهٌ وَاحِدٌ أَوِ اتَّحَدَتِ الثَّلَاثَة فَصَارَ إِلَه وَاحِد. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :(ثَلَاثَةٌ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فَإِنْ صَحَّتِ الْحِكَايَةُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، فَتَقْدِيرُهُ اللَّهُ ثَلَاثَةٌ وَإِلَّا فَتَقْدِيرُهُ الْآلِهَةُ ثَلَاثَةٌ اهـ.
وَالتَّثْلِيثُ أَصْلٌ فِي عَقِيدَةِ النَّصَارَى كُلِّهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّتِهِ. وَنَشَأَ
إِلَى النبيء- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ،
لِقَوْلِهِ «لَمْ نَرُدَّهُ»
، وَإِنَّمَا رَدَّهُ هُوَ وَحْدَهُ. وَقِيلَ: يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلُ مَا صِيدَ لِمُحْرِمٍ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ. وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ الِاحْتِيَاطُ وَقِيلَ: لَا يَأْكُلُ الْمُحْرِمُ صَيْدًا صِيدَ فِي مُدَّةِ إِحْرَامِهِ وَيَأْكُلُ مَا صِيدَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَنُسِبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ الصَّيْدِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَ الصَّيْدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّنَزُّهَ عَنْ أَكْلِ الصَّيْدِ الَّذِي صِيدَ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ ثَابِتٌ فِي السُّنَّةِ بِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ كَمَا عَلِمْتَ. وَالْأَصْلُ فِي الِامْتِنَاعِ الْحُرْمَةُ لِأَنَّهُ، لَوْ أَرَادَ التَّنَزُّهَ لَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُهُ، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي الضبّ.
[٩٧]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٩٧]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ جَوَابٌ عَمَّا يَخْطُرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ مِنَ الْبَحْثِ عَنْ حِكْمَةِ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ وَفِي حَالِ الْإِحْرَامِ، بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْكَعْبَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ أَرْضُ الْحَرَمِ لِأَجْلِ تَعْظِيمِهَا، وَتَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى سُكَّانِهِ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْنِ فِي عَلَائِقِهَا وَشَعَائِرِهَا.
وَالْجَعْلُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١]، وَيُطْلَقُ بِمَعْنى التصيير فتعدّى إِلَى
مَفْعُولَيْنِ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَالِحٌ هُنَا. وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ الْكَعْبَةَ، أَيْ أَمَرَ خَلِيلَهُ بِإِيجَادِهَا لِتَكُونَ قِيَامًا لِلنَّاسِ. فَقَوْلُهُ: قِياماً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ أَوْجَدَهَا مُقَدِّرًا أَنْ تَكُونَ قِيَامًا. وَإِذَا حُمِلَ جَعَلَ عَلَى مَعْنَى التَّصْيِيرِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ بَيْتَ عِبَادَةٍ فَصَيَّرَهَا اللَّهُ قِيَامًا لِلنَّاسِ لُطْفًا بِأَهْلِهَا وَنَسْلِهِمْ، فَيَكُونُ قِياماً مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ جَعَلَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْبَيْتَ الْحَرامَ يَصِحُّ جَعْلُهُ مَفْعُولًا.
وَالْكَعْبَةُ عَلَمٌ عَلَى الْبَيْتِ الَّذِي بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِمَكَّةَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى
دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ قَوْلِ اللَّهِ: «صَدَقَ هَذَا الرَّسُولُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِّي»، بِأَمَارَةٍ أَنِّي أَخْرِقُ الْعَادَةَ دَلِيلًا عَلَى تَصْدِيقِهِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ: حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ، يَكُونُ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تُعْطَى بِسُؤَالِ سَائِلِهَا، مَعَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ أَمْثَالَهُمْ لَيْسُوا بِأَهْل لَهَا، فَمَا صدق حَيْثُ الشَّخْصُ الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِرِسَالَتِهِ.
وحَيْثُ هُنَا اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْمَكَانِ مُسْتَعَارَةٌ لِلْمَبْعُوثِ بِالرِّسَالَةِ، بِنَاءً عَلَى تَشْبِيهِ الرِّسَالَةِ بِالْوَدِيعَةِ الْمَوْضُوعَةِ بِمَكَانِ أَمَانَةٍ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَإِثْبَاتُ الْمَكَانِ تَخْيِيلٌ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أُخْرَى مُصَرِّحَةٌ بِتَشْبِيهِ الرُّسُلِ بِمَكَانِ إِقَامَةِ الرِّسَالَةِ. وَلَيْسَتْ حَيْثُ هُنَا ظَرْفًا بَلْ هِيَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ مُجَرَّدٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، لِأَنَّ حَيْثُ ظَرْفٌ مُتَصَرِّفٌ، عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النُّحَاةِ، فَهِيَ هُنَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ الْبَاءُ، لِأَنَّ أَعْلَمُ اسْمُ تَفْضِيلٍ لَا يَنْصِبُ الْمَفْعُولَ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [الْأَنْعَام: ١١٧] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَجُمْلَة يَجْعَلُ رِسالَتَهُ صِفَةٌ لِ حَيْثُ إِذَا كَانَتْ حَيْثُ مُجَرَّدَةً عَنِ الظَّرْفِيَّةِ.
وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ رَابِطُ جُمْلَةِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ: حَيْثُ يَجْعَلُ فِيهِ رِسَالَاتِهِ.
وَقَدْ أَفَادَتِ الْآيَةُ: أَنَّ الرِّسَالَةَ لَيْسَتْ مِمَّا يُنَالُ بِالْأَمَانِي وَلَا بِالتَّشَهِّي، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا وَمَنْ لَا يَصْلُحُ، وَلَوْ عَلِمَ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا وَأَرَادَ إِرْسَالَهُ لَأَرْسَلَهُ، فَإِنَّ النُّفُوسَ
مُتَفَاوِتَةٌ فِي قَبُولِ الْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ وَالطَّاقَةِ عَلَى الِاضْطِلَاعِ بِحَمْلِهِ، فَلَا تَصْلُحُ لِلرِّسَالَةِ إِلَّا نَفْسٌ خُلِقَتْ قَرِيبَةً مِنَ النُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ، بَعِيدَةً عَنْ رَذَائِلِ الْحَيَوَانِيَّةِ، سَلِيمَةً مِنَ الْأَدْوَاءِ الْقَلْبِيَّةِ.
تَصْحِيحَ أَوْ تَحْسِينَ الْعَطْفِ يَحْصُلُ بِكُلِّ فَاصِلٍ بَيْنَ الْفِعْل الرافع للمستتر وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ، لَا خُصُوصَ الضَّمِيرِ، كَأَنْ يُقَالَ: وَيَا آدَمُ اسْكُنِ الْجَنَّةَ وَزَوْجُكَ، فَمَا اخْتِيرَ الْفَصْلُ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ إِلَّا لِمَا يُفِيدُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِغَيْرِهِ. وَهَذِهِ نُكْتَةٌ فَاتَنِي الْعِلْمُ بِهَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَضُمَّهَا إِلَيْهَا أَيْضًا.
وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ يُعْلَمُ مِمَّا مَضَى مِنَ الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
سِوَى أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٥] وَكُلا بِالْوَاوِ وَهُنَا بِالْفَاءِ، وَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ أَعَمُّ، فَالْآيَةُ هُنَا أَفَادَتْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ آدَمَ بِأَنْ يَتَمَتَّعَ بِثِمَارِ الْجَنَّةِ عَقِبَ أَمْرِهِ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ. وَتِلْكَ مِنَّةٌ عَاجِلَةٌ تُؤْذِنُ بِتَمَامِ الْإِكْرَامِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ حَاصِلًا فِي تِلْكَ الْحَضْرَةِ، وَكَانَ فِيهِ زِيَادَةُ تَنْغِيصٍ لِإِبْلِيسَ، الَّذِي تَكَبَّرَ وَفَضَّلَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، كَانَ الْحَالُ مُقْتَضِيًا إِعْلَامَ السَّامِعِينَ بِهِ فِي الْمَقَامِ الَّذِي حُكِيَ فِيهِ الْغَضَبُ عَلَى إِبْلِيسَ وَطَرْدُهُ، وَأَمَّا آيَةُ الْبَقَرَةِ فَإِنَّمَا أَفَادَتِ السَّامِعِينَ أَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ عَلَى آدَمَ بِمِنَّةِ سُكْنَى الْجَنَّةِ وَالتَّمَتُّعِ بِثِمَارِهَا، لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَالِكَ لِتَذْكِيرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِفَضْلِ آدَمَ وَبِذَنْبِهِ وَتَوْبَتِهِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ الْكَيْدُ الَّذِي هُمْ وَاقِعُونَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ عَظِيمٍ.
عَلَى أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ [٣٥] لَمْ تَخْلُ عَنْ ذِكْرِ مَا فِيهِ تَكْرِمَةٌ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَغَداً لِأَنَّهُ مَدْحٌ لِلْمُمْتَنِّ بِهِ أَوْ دُعَاءٌ لِآدَمَ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ عِدَّةُ مَكَارِمَ لِآدَمَ، وَقَدْ وُزِّعَتْ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَوْزِيعِ أَغْرَاضِ الْقَصَصِ عَلَى مَوَاقِعِهَا، لِيَحْصُلَ تَجْدِيدُ الْفَائِدَةِ، تَنْشِيطًا لِلسَّامِعِ، وَتَفَنُّنًا فِي أَسَالِيبِ الْحكَايَةِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنَ الْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ الْعِبْرَةُ وَالْمَوْعِظَةُ وَالتَّأَسِّي.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ أَشَدُّ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يَنْهَى عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ قُرْبَانِهَا سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الْأَكْلِ مِنْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ تَرَقٍّ فِي مُوجِبِ التَّوْبِيخِ، أَيْ لَمْ يَكْفِكُمْ أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِغَيْرِي حَتَّى فَعَلْتُمْ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَفَصْلُهَا عَمَّا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا تِعْدَادٌ لِلتَّوْبِيخِ.
وَالْمَكْرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٤]، وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الْأَعْرَاف: ٩٩].
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي مَكَرْتُمُوهُ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِفِعْلِهِ.
وفِي ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ: جُعِلَ مَكْرُهُمْ كَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا يُوضَعُ الْعُنْصُرُ الْمُفْسِدُ، أَيْ: أَرَدْتُمْ إِضْرَارَ أَهْلِهَا، وَلَيْسَتْ ظَرْفِيَّةً حَقِيقِيَّةً لِأَنَّهَا لَا جَدْوَى لَهَا إِذْ مَعْلُومٌ لِكُلِّ
أَحَدٍ أَنَّ مَكْرَهُمْ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَفَسَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهُمْ دَبَّرُوهُ فِي الْمَدِينَةِ حِينَ كَانُوا بِهَا قَبْلَ الْحُضُورِ إِلَى الصَّحْرَاءِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا الْمُحَاوَرَةُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّرْفِيَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ: لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها وَالْمُرَادُ- هُنَا- بَعْضُ أَهْلِهَا، وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ مُوسَى جَاءَ طَلَبًا لِإِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُ فِرْعَوْنَ هَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَهُ مُوَافِقًا لِظَنِّهِ عَلَى سَبِيلِ التُّهْمَةِ لَهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِدَقَائِقِ عِلْمِ السِّحْرِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْجِزَةِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ، فَظَنَّ أَنَّهَا مَكِيدَةٌ دَبَّرَهَا مُوسَى مَعَ السَّحَرَةِ، وَأَنَّهُ لِكَوْنِهِ أَعْلَمَهُمْ أَوْ مُعَلِّمَهُمْ أَمْرَهُمْ فَأْتَمَرُوا بِأَمْرِهِ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه: ٧١].
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَهُ تَمْوِيهًا وَبُهْتَانًا لِيَصْرِفَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ السَّحَرَةِ، وَعَنِ التَّأَثُّرِ بِغَلَبَةِ مُوسَى إِيَّاهُمْ فَيُدْخِلُ عَلَيْهِمْ شَكًّا فِي دَلَالَةِ الْغَلَبَةِ وَاعْتِرَافِ السَّحَرَةِ بِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مُوَاطَأَةٌ بَيْنَ الْغَالِبِ وَالْمَغْلُوبِ لِغَايَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَهُوَ مُوَافِقٌ فِي قَوْلِهِ هَذَا، لِمَا كَانَ أَشَارَ بِهِ.
الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ قَالُوا: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ [الشُّعَرَاء: ٣٥] وَأَيًّا مَا كَانَ فَعَزْمُهُ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ مَصِيرٌ إِلَى الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذهُمْ بالتهمة، بله أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى الْحُجَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ الْحُجَّةُ صَارَ إِلَى الْجَبَرُوتِ.
وَفَرَّعَ عَلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ الْوَعِيدَ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، وَحَذَفَ مَفْعُولَ تَعْلَمُونَ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ فِي الْوَعِيدِ لِإِدْخَالِ الرُّعْبِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِجُمْلَةِ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ. وَوُقُوعُ الْجَمْعِ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ يُكْسِبُهُ الْعُمُومَ فَيَعُمُّ
أَيْ كَأَنَّكَ لَمْ يَفُتْكَ مَا فَاتَكَ إِذَا أَدْرَكْتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ السَّبْقُ هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ، أَيْ هُمْ وَإِنْ ظَهَرَتْ نَجَاتُهُمُ الْآنَ، فَمَا هِيَ إِلَّا نَجَاةٌ فِي وَقْتٍ قَلِيلٍ، فَهُمْ لَا يُعْجِزُونَ اللَّهَ، أَوْ لَا يُعْجِزُونَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَا يُصَيِّرُونَ مَنْ أَفْلَتُوا مِنْهُ عَاجِزًا عَنْ نَوَالِهِمْ، كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فسيحة فَهَل تعج زنّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا
وَحُذِفَ مَفْعُولُ يُعْجِزُونَ لِظُهُورِ الْمَقْصُودِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَا تَحْسَبَنَّ- بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ وَلا يَحْسَبَنَّ- بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ- وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُشْكِلَةٌ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمَفْعُول الأول لحسب، فَزَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَحْنًا، وَهَذَا اجْتِرَاءٌ مِنْهُ على أُولَئِكَ الايمة وَصِحَّةِ رِوَايَتِهِمْ، وَاحْتَجَّ لَهَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ بِإِضْمَارِ مَفْعُولٍ أَوَّلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ أَيْ لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ سَبَقُوا، وَاحْتَجَّ لَهَا الزَّجَّاجُ بِتَقْدِيرِ (أَنْ) قَبْلَ سَبَقُوا فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ سَادًّا مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَقِيلَ: حُذِفَ الْفَاعِلُ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يَحْسَبَنَّ حَاسِبٌ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّهُمْ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ تُثِيرُهُ جُمْلَةُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ أَنَّهُمْ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ) عَلَى حَذْفِ لَامِ التَّعْلِيلِ فَالْجُمْلَةُ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ هُوَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ، أَيْ لِأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَكْسُورَةِ وَالْمَفْتُوحَةِ تَعْلِيلٌ إِلَّا أَنَّ الْمَكْسُورَةَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِئْنَافِ وَالْمَفْتُوحَةَ تَعْلِيل صَرِيح.
[٦٠]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٦٠]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٦٠)
عطف جُمْلَةُ: وَأَعِدُّوا عَلَى جُمْلَةِ: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [الْأَنْفَال: ٥٧] أَوْ عَلَى جُمْلَةِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا [الْأَنْفَال: ٥٩]، فَتُفِيدُ مَفَادَ الِاحْتِرَاسِ عَنْ مُفَادِهَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ:
وَلَيْسَ الْمُرَادُ لِيُذْنِبُوا فَيَتُوبُوا، إِذْ لَا يُنَاسِبُ مَقَامُ التَّنْوِيهِ بِتَوْبَتِهِ عَلَيْهِمْ. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تَذْيِيلٌ مُفِيد للامتنان.
[١١٩]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١١٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاتِمَةٌ لِلْآيِ السَّابِقَةِ وَلَيْسَتْ فَاتِحَةَ غَرَضٍ جَدِيدٍ. فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنه قَالَ: «فو الله مَا أَعْلَمُ أَحَدًا... أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيءِ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التَّوْبَة: ١١٧- ١١٩] اه. فَهَذِهِ الْآيَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِلْقِصَّةِ فَإِنَّ الْقِصَّةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ قَوْمٍ اتَّقَوُا اللَّهَ فَصَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ وَجِهَادِهِمْ فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَذِكْرِ قَوْمٍ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ وَاخْتَلَقُوا الْمَعَاذِيرَ وَحَلَفُوا كَذِبًا فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَوْمٍ تَخَلَّفُوا عَنِ الْجِهَادِ وَصَدَقُوا فِي الِاعْتِرَافِ بِعَدَمِ الْعُذْرِ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ سَبَبُ فَوْزِ الْفَائِزِينَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا هُوَ الصِّدْقُ لَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ وَبِأَنْ يَكُونُوا فِي زُمْرَةِ الصَّادِقِينَ مِثْلَ أُولَئِكَ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ تَضَمَّنَتْهُمُ الْقِصَّةُ.
وَالْأَمْرُ بِ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ أَبْلَغُ فِي التَّخَلُّقِ بِالصِّدْقِ مِنْ نَحْوِ: اصْدُقُوا. وَنَظِيرُهُ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [الْبَقَرَة: ٤٣]. وَكَذَلِكَ جَعَلَهُ بَعْدَ (مِنَ) التَّبْعِيضِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: ٤٣] وَمِنْهُ قَوْلُهُ: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَة: ٦٧].
فَتَعَيَّنَ هُنَا أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ مِنْ مَقُولِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا مِنْ حِكَايَةِ اللَّهِ عَنْهُ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى اتِّصَالِ النِّدَاءَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَأَنَّ أَحَدَهَا لَا يُغْنِي عَنِ الْآخَرِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْلِ لِأَنَّ النِّدَاءَ افْتِتَاحُ كَلَامٍ فَجُمْلَتُهُ ابْتِدَائِيَّةٌ وَعَطْفُهَا إِذَا عُطِفَتْ مُجَرَّدُ عَطْفٍ لَفْظِيٍّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَفَنُّنًا عَرَبِيًّا فِي الْكَلَامِ عِنْدَ تَكَرُّرِ النِّدَاءِ اسْتِحْسَانًا لِلْمُخَالَفَةِ بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالْمُؤَكَّدِ. وَسَيَجِيءُ نَظِيرُ هَذَا قَرِيبًا فِي قِصَّةِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقِصَّةِ
شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَمِنْهُ مَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ [٣٠- ٣٣] فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ثُمَّ قَالَ: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ، يَا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غَافِر: ٣٨- ٤١]. فَعَطَفَ (وَيَا قَوْمِ) تَارَةً وَتَرَكَ الْعَطْفَ أُخْرَى.
وَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ الْوَصْفِ الْمُنَادَى بِهِ فَقَدْ جَاءَ الْعَطْفُ وَهُوَ أَظْهَرُ لِمَا فِي اخْتِلَافِ وَصْفِ الْمُنَادَى مِنْ شِبْهِ التَّغَايُرِ كَقَوْلِ قَيْسٍ بْنِ عَاصِمٍ، وَقِيلَ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ:
أَيَا ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنَةَ مَالِكٍ وَيَا ابْنَةَ ذِي الْبُرْدَيْنِ وَالْفَرَسِ الْوَرْدِ
فَقَوْلُهُ: (وَيَا بْنَةَ ذِي الْبُرْدَيْنِ) عَطْفُ نِدَاءٍ عَلَى نِدَاءٍ وَالْمُنَادَى بِهِمَا وَاحِدٌ.
لَمَّا أَظْهَرَ لَهُمْ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ يُجْبِرُهُمْ عَلَى إِيمَانٍ يَكْرَهُونَهُ انْتَقَلَ إِلَى تَقْرِيبِهِمْ مِنَ النَّظَرِ فِي نَزَاهَةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ نَفْعًا دُنْيَوِيًّا بِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مَالا يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ، فَمَاذَا يَتَّهِمُونَهُ حَتَّى يَقْطَعُونَ بِكَذِبِهِ.
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ جَوَابٌ لِلْبِشَارَةِ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْقَوْلَ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِعْلُ قالَ مَفْصُولًا غَيْرَ مَعْطُوفٍ لِأَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ، وَكَانَ بَقِيَّةُ أَبْنَائِهِ قَدْ دَخَلُوا فَخَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَبَيَّنَ لَهُمْ مُجْمَلَ كَلَامِهِ الَّذِي أَجَابَهُمْ بِهِ حِينَ قَالُوا:
تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ [يُوسُفَ: ٨٥] إِلَخْ.
وَقَوْلُهُمُ: اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا تَوْبَةٌ وَاعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ، فَسَأَلُوا أَبَاهُمْ أَنْ يَطْلُبَ لَهُمُ الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ. وَإِنَّمَا وَعَدَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِذْ قَالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يُلَازِمُ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ فِي الْحَالِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَهُمْ إِلَى عِظَمِ الذَّنَبِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ سَيُكَرِّرُ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ فِي أَزْمِنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ. وَقِيلَ: أَخَّرَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ إِلَى سَاعَةٍ هِيَ مَظِنَّةُ الْإِجَابَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أَنَّهُ أَخَّرَ إِلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِي رِفْعَةِ نَظَرٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي.
وَأَكَّدَ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لتقوية الْخَبَر.
[٩٩، ١٠٠]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : الْآيَات ٩٩ إِلَى ١٠٠]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
لِكُلِّ بَابٍ فَرِيقٌ يَدْخُلُ مِنْهُ، أَوْ لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ النَّارِ قِسْمٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مَقْسُومٌ عَلَى طَبَقَاتِ أَقْسَامِ النَّارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الَّتِي صَدَرَتْ مِنَ الشَّيْطَانِ لَدَى الْحَضْرَةِ الْقُدُسِيَّةِ هِيَ انْكِشَافٌ لِجِبِلَّةِ التَّطَوُّرِ الَّذِي تَكَيَّفَتْ بِهِ نَفْسُ إِبْلِيسَ مِنْ حِينِ أَبَى مِنَ السُّجُودِ وَكَيْفَ تَوَلَّدَ كُلُّ فَصْلٍ مِنْ ذَلِكَ التَّطَوُّرِ عَمَّا قَبْلَهُ حَتَّى تَقَوَّمَتِ الْمَاهِيَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ بمقوماتها كَامِلَة عِنْد مَا صَدَرَ مِنْهُ قَوْلُهُ: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سُورَة
الْحجر: ٣٩، ٤٠]، فَكُلَّمَا حَدَثَ فِي جِبِلَّتِهِ فَصْلٌ مِنْ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ صَدَرَ مِنْهُ قَوْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِنُطْقِ الْجَوَارِحِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى أَهْلِ الضَّلَالَةِ يَوْمَ الْحِسَابِ.
وَأَمَّا الْأَقْوَالُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي أُجِيبَتْ بِهَا أَقْوَالُ الشَّيْطَانِ فَمَظْهَرٌ لِلْأَوَامِرِ التَّكْوِينِيَّةِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي عِلْمِهِ لِتَطَوُّرِ أَطْوَارِ إِبْلِيسَ الْمُقَوِّمَةِ لِمَاهِيَّةِ الشَّيْطَنَةِ، وَلِلْأَلْطَافِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ لِمَنْ يَعْتَصِمُ بِهَا مِنْ عِبَادِهِ لِمُقَاوَمَةِ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ. وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا بِمُنَاظَرَةٍ بَيْنَ اللَّهِ وَأَحَدِ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا بِغَلَبَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ لِخَالِقِهِ، فَإِنَّ ضَعْفَهُ تُجَاهَ عِزَّةِ خَالِقِهِ لَا يَبْلُغُ بِهِ إِلَى ذَلِك.
[٤٥- ٤٨]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٤٥ إِلَى ٤٨]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، انْتِقَالٌ مِنْ وَعِيدِ الْمُجْرِمِينَ إِلَى بِشَارَةِ الْمُتَّقِينَ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ.
وَالْمُتَّقُونَ: الْمَوْصُوفُونَ بِالتَّقْوَى. وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ صَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
أَنَّ قَوْلَهُ: أَمَرْنا مُتْرَفِيها
هُوَ جَوَابُ (إِذَا) فَيَقْتَضِي أَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ إِهْلَاكَهَا سَابِقَةٌ عَلَى حُصُولِ أَمْرِ الْمُتْرَفِينَ سَبْقَ الشَّرْطِ لِجَوَابِهِ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِإِهْلَاكِ الْقَرْيَةِ ابْتِدَاءً فَيَأْمُرُ اللَّهُ مُتْرَفِي أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَيَفْسُقُوا فِيهَا فَيَحِقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ مَظْهَرُ إِرَادَةِ اللَّهِ إِهْلَاكَهُمْ، مَعَ أَنَّ مَجْرَى الْعَقْلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فُسُوقُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَكُفْرُهُمْ هُوَ سَبَبَ وُقُوعِ إِرَادَةِ اللَّهِ إِهْلَاكَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِإِهْلَاكِ قَوْمٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُمْ مَا تَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ لَا الْعَكْسُ. وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ اللَّهِ أَنْ يُرِيدَ إِهْلَاكَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا بِمَا يُسَبِّبُهُ، وَلَا مِنِ الْحِكْمَةِ أَنْ يَسُوقَهُمْ إِلَى مَا يُفْضِي إِلَى مُؤَاخَذَتِهِمْ لِيُحَقِّقَ سَبَبًا لِإِهْلَاكِهِمْ.
وَقَرِينَةُ السِّيَاقِ وَاضِحَةٌ فِي هَذَا، فَبِنَا أَنْ نَجْعَلَ الْوَاوَ عَاطِفَةً فِعْلَ أَمَرْنا مُتْرَفِيها
عَلَى نَبْعَثَ رَسُولًا فَإِنَّ الْأَفْعَالَ يُعْطَفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ سَوَاءٌ أَتَحَدَّتْ فِي اللَّوَازِمِ أَمِ اخْتَلَفَتْ، فَيَكُونُ أَصْلُ نَظْمِ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وَنَأْمُرَ مُتْرَفِي قَرْيَةٍ بِمَا نَأْمُرُهُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ فَيَفْسُقُوا عَنْ أَمْرِنَا فَيَحِقَّ عَلَيْهِمْ الْوَعِيدُ فَنُهْلِكُهُمْ إِذَا أَرَدْنَا إِهْلَاكَهُمْ.
فَكَانَ وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
شَرِيطَةً لِحُصُولِ الْإِهْلَاكِ، أَيْ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَلَا مكره لَهُ، كم دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ [آل عمرَان: ١٢٧- ١٢٨] وَقَوْلِهِ: أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٠٠] وَقَوْلِهِ: وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا [الْإِنْسَان:
٢٨] وَقَوْلِهِ: عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الْإِسْرَاء: ١٨]. فَذَكَرَ شَرِيطَةَ الْمَشِيئَةِ مَرَّتَيْنِ.
وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ نَظْمِ الْكَلَامِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ إِلَى الْأُسْلُوبِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ لِإِدْمَاجِ التَّعْرِيضِ بِتَهْدِيدِ أَهْلِ مَكَّةَ بِأَنَّهُمْ مُعَرَّضُونَ لِمِثْلِ هَذَا مِمَّا حَلَّ بِأَهْلِ الْقُرَى الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَ اللَّهِ.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ طَرَائِقُ كَثِيرَةٌ تَزِيدُ عَلَى ثَمَانٍ لِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَسِّفَةٌ أَوْ مَدْخُولَةٌ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ، وَأَقْرَبُهَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ جُمْلَةَ أَمَرْنا مُتْرَفِيها
إِلَخْ صِفَةً لِ قَرْيَةً
وَجَعَلَ جَوَابَ (إِذَا) مَحْذُوفًا.
وَهَذَا الْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ تَنَاهِي مَعْلُومَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي مِنْهَا تِلْكَ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الَّتِي سَأَلُوا عَنْهَا النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم فَلَا يَقْتَضِي قَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي أَنَّ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى نَفَادًا كَمَا عَلِمْتَهُ.
وَجُمْلَةُ وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً فِي مَوْضِعِ الْحَال.
ولَوْ وصيلة، وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى حَالَةٍ هِيَ أَجْدَرُ الْأَحْوَالِ بِأَنْ لَا يَتَحَقَّقَ مَعَهَا مُفَادُ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَيُنَبَّهُ السَّامِعُ عَلَى أَنَّهَا مُتَحَقِّقٌ مَعَهَا مُفَادُ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١]، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ ثَانِيَةٌ.
وَانْتَصَبَ مَدَداً عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُفَسِّرِ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي لفظ بِمِثْلِهِ، أَيْ مِثْلِ الْبَحْرِ فِي الْإِمْدَاد.
[١١٠]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ١١٠]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ، انْتَقَلَ بِهِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِسَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُوحِيَ إِلَى رَسُولِهِ بِعِلْمِ كُلِّ مَا يَسْأَلُ عَنِ الْإِخْبَارِ بِهِ، إِلَى إِعْلَامِهِمْ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبْعَثْ لِلْإِخْبَارِ عَنِ الْحَوَادِثِ الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، وَلَا أَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الرِّسَالَةِ أَنْ يُحِيطَ عِلْمُ الرَّسُولِ بِالْأَشْيَاءِ فَيَتَصَدَّى لِلْإِجَابَةِ عَنْ أَسْئِلَةٍ تُلْقَى إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ بَشَرٌ عِلْمُهُ كَعِلْمِ الْبشر أوحى الله إِلَيْهِ بِمَا شَاءَ إِبْلَاغَهُ عِبَادَهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالشَّرِيعَةِ، وَلَا
وَالْفَتْقُ هُوَ مَا يُشَاهِدُهُ الرَّائِي مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ حِينَ يَرَى الْمَطَرَ نَازِلًا مِنَ السَّمَاء وَيرى الْبَرْق يلعج مِنْهَا وَالصَّوَاعِقَ تَسْقُطُ مِنْهَا فَذَلِكَ فَتْقُهَا، وَحِينَ يَرَى انْشِقَاقَ الْأَرْضِ بِمَاءِ الْمَطَرِ وَانْبِثَاقَ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ مِنْهَا بَعْدَ جَفَافِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ دَالٌّ عَلَى تَصَرُّفِ الْخَالِقِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى جُمِعَ بَيْنَ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْ هُوَ عِبْرَةُ دَلَالَةٍ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَتَقْرِيبٌ لِكَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [٩].
وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الرُّؤْيَةَ عِلْمِيَّةً احْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ مِثْلَ مَا أُرِيدَ بِهِ عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الرُّؤْيَةِ بَصَرِيَّةً، وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ أَيْضًا إِنْكَارِيًّا مُتَوَجِّهًا إِلَى إِهْمَالِهِمُ التَّدَبُّرَ فِي الْمُشَاهَدَاتِ.
وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ مَعَانٍ غَيْرَ مُشَاهَدَةٍ وَلَكِنَّهَا مِمَّا يَنْبَغِي طَلَبُ الْعِلْمِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَعَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ حَقِيقَتَاهُمَا، أَيِ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ. ثُمَّ هَذَا الِاحْتِمَالُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ، أَيْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ رَتْقًا وَاحِدًا، أَيْ كَانَتَا كُتْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ انْفَصَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الْأَرْضِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ فِي سُورَةِ هُودٍ [٧].
وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الرَّتْقُ وَالْفَتْقُ عَلَى التَّوْزِيعِ، أَيْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ رَتْقًا فِي حَدِّ ذَاتِهَا وَكَانَتِ الْأَرْضُ رَتْقًا فِي حَدِّ ذَاتِهَا ثُمَّ فَتَقَ اللَّهُ السَّمَاوَات وفتق الله الْأَرْضَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ
لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ
وَجُمْلَةُ هَيْهاتَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَعِدُكُمْ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ.
وهَيْهاتَ كَلِمَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى فَتْحِ الْآخِرِ وَعَلَى كَسْرِهِ أَيْضًا. وَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِالْفَتْحِ.
وَقَرَأَهَا أَبُو جَعْفَرٍ بِالْكَسْرِ. وَتَدُلُّ عَلَى الْبُعْدِ. وَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ مُكَرَّرَةً مَرَّتَيْنِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ ثَلَاثًا كَمَا جَاءَ فِي شِعْرٍ لِحُمَيْدٍ الْأَرْقَطِ وَجَرِيرٍ يَأْتِيَانِ.
وَاخْتُلِفَ فِيهَا أَهِيَ فِعْلٌ أَمِ اسْمٌ فَجُمْهُورُ النُّحَاةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ (هَيْهَاتَ) اسْمُ فِعْلٍ لِلْمَاضِي مِنَ الْبُعْدِ، فَمَعْنَى هَيْهَاتَ كَذَا: بَعُدَ. فَيَكُونُ مَا يَلِي (هَيْهَاتَ) فَاعِلًا. وَقِيلَ هِيَ اسْمٌ لِلْبُعْدِ، أَيْ فَهِيَ مَصْدَرٌ جَامِدٌ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ فِي «تَفْسِيرِهِ». قَالَ الرَّاغِبُ:
وَقَالَ الْبَعْضُ: غَلِطَ الزَّجَّاجُ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَاسْتَهْوَاهُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ.
وَقِيلَ: هَيْهَاتَ ظَرْفٌ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ. وَنَسَبَهُ فِي «لِسَانِ الْعَرَبِ» إِلَى أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. قَالَ: قَالَ ابْنُ جِنِّي: كَانَ أَبُو عَلِيٍّ يَقُولُ فِي هَيْهَاتَ: أَنَا أُفْتِي مَرَّةً بِكَوْنِهَا اسْمًا سُمِّيَ بِهِ الْفِعْلُ مِثْلَ صَهٍ وَمَهْ، وَأُفْتِي مَرَّةً بِكَوْنِهَا ظَرْفًا عَلَى قَدْرِ مَا يَحْضُرُنِي فِي الْحَالِ.
وَفِيهَا لُغَاتٌ كَثِيرَةٌ وَأَفْصَحُهَا أَنَّهَا بِهَاءَيْنِ وَتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فَتْحَةَ بِنَاءٍ، وَأَنَّ تَاءَهَا تَثْبُتُ فِي الْوَقْفِ وَقِيلَ يُوقف عَلَيْهَا هَاء، وَأَنَّهَا لَا تُنَوَّنُ تَنْوِينَ تَنْكِيرٍ.
وَقَدْ وَرَدَ مَا بَعْدَ (هَيْهَاتَ) مَجْرُورًا بِاللَّامِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَوَرَدَ مَرْفُوعًا كَمَا فِي قَوْلِ جَرِيرٍ:
فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الْعَقِيقُ وَأَهْلُهُ وَهَيْهَاتَ خِلٌّ بِالْعَقِيقِ نُحَاوِلُهُ
وَوَرَدَ مَجْرُورًا بِ (مِنْ) فِي قَوْلِ حُمَيْدٍ الْأَرْقَطِ:
هَيْهَاتِ مَنْ مُصَبَّحُهَا هَيْهَاتِ هَيْهَاتِ حَجَرٌ مِنْ صُنَيْبِعَاتِ
فَالَّذِي يَتَّضِحُ فِي اسْتِعْمَالِ (هَيْهَاتَ) أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا بَعْدَهَا أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى تَأْوِيلِ (هَيْهَاتَ) بِمَعْنَى فِعْلٍ مَاضٍ مِنَ الْبُعْدِ كَمَا فِي بَيْتِ جَرِيرٍ،
وَتَثْبِيتًا وَوَعْدًا فَصَرِيحُهَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى شَيْءٍ عَظِيمٍ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ الْتِقَاءُ الْأَنْهَارِ وَالْأَبْحُرِ كَمَا سَيَأْتِي، وَفِي ضِمْنِهَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ وَاخْتِلَاطُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِحَالِ تَجَاوُزِ الْبَحْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَالْآخَرُ مِلْحٌ أُجَاجٌ. وَتَمْثِيلُ الْإِيمَانِ بِالْعَذْبِ الْفُرَاتِ وَالشِّرْكِ بِالْمِلْحِ الْأُجَاجِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ بَرْزَخًا يَحْفَظُ الْعَذْبَ مِنْ أَنْ يُكَدِّرَهُ الْأُجَاجُ، كَذَلِكَ حَجَزَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَلَا يَسْتَطِيعُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَدُسُّوا كُفْرَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي هَذَا تَثْبِيتٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَحْجِزُ عَنْهُمْ ضُرَّ الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان:
١١١]. وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ كِنَائِيٌّ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ لِهَذَا الدِّينِ مِنْ أَنْ يُكَدِّرَهُ الشِّرْكُ.
وَلِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنَ التَّمْثِيلِ وَالتَّثْبِيتِ وَالْوَعْدِ كَانَ لِمَوْقِعِهَا عَقِبَ جُمْلَةِ فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الْفرْقَان: ٥٢] أَكْمَلُ حُسْنٍ. وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الْفرْقَان: ٤٨]. وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِهَا عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ كِلْتَيْهِمَا اسْتِدْلَالٌ بِآثَارِ الْقُدْرَةِ فِي تَكْوِينِ الْمِيَاهِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَمُفَادُ الْقَصْرِ هَنَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَتَيْنِ السابقتين.
والمرج: الْخَلْطُ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِشِدَّةِ الْمُجَاوَرَةِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً. وَالْبَحْرُ: الْمَاءُ الْمُسْتَبْحِرُ، أَيْ الْكَثِيرُ الْعَظِيمُ. وَالْعَذْبُ: الْحُلْوُ.
وَالْفُرَاتُ: شَدِيدُ الْحَلَاوَةِ. وَالْمِلْحُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وُصِفَ بِهِ بِمَعْنَى الْمَالِحِ، وَلَا يُقَالُ فِي الْفَصِيحِ إِلَّا مِلْحٌ وَأَمَا مَالِحٌ فَقَلِيلٌ. وَأُرِيدَ هُنَا مُلْتَقَى مَاءِ نَهْرَيِ الْفُرَاتِ وَالدَّجْلَةِ مَعَ مَاءِ بَحْرِ خَلِيجِ الْعَجَمِ.
وَالْبَرْزَخُ: الْحَائِلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. وَالْمُرَادُ بِالْبَرْزَخِ تَشْبِيهُ مَا فِي تَرْكِيبِ الْمَاءِ الْمِلْحِ مِمَّا يَدْفَعُ تَخَلُّلَ الْمَاءِ الْعَذْبِ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَيَبْقَى كِلَاهُمَا حَافِظًا لِطَعْمِهِ عِنْدَ الْمَصَبِّ.
وحِجْراً مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ على مفعول جعل.
وَلَيْسَ هُنَا مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعَوُّذِ كَالَّذِي تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [الْفرْقَان: ٢٢]. ومَحْجُوراً وَصْفٌ لِ حِجْراً مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّتِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَمَا قَالُوا: لَيْلٌ أَلْيَلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» تُكَلُّفٌ بِجَعْلِ حِجْراً مَحْجُوراً هُنَا بِمَعْنَى التَّعَوُّذِ
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَعْنَى النَّفْيِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَوُرُودُ هَلْ لِمَعْنَى النَّفْيِ أَثْبَتَهُ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» اسْتِعْمَالًا تَاسِعًا قَالَ: «أَنْ يُرَادَ بِالِاسْتِفْهَامِ بِهَا النَّفْيُ وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ عَلَى الْخَبَرِ بَعْدَهَا (إِلَّا) نَحْوُ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَن: ٦٠]. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ:
أَلَا هَلْ أَخُو عَيْشٍ لَذِيذٍ بِدَائِمِ وَقَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: إِنَّ مِنْ مَعَانِي الْإِنْكَارِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارُ وُقُوعِ الشَّيْءِ وَهُوَ مَعْنَى النَّفْيِ. وَهَذَا تَنْفَرِدُ بِهِ هَلْ دُونَ الْهَمْزَةِ. قَالَ الدَّمَامِينِيُّ فِي «الْحَوَاشِي الْهِنْدِيَّةِ»
قَوْلُهُ: يُرَادُ بِالِاسْتِفْهَامِ بِ هَلْ النَّفْيُ يُشْعِرُ بِأَنَّ ثَمَّةَ اسْتِفْهَامًا لَكِنَّهُ مَجَازِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ» اه.
وَأَقُولُ: هَذَا اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ:
وَهل أَنَا إِلَّا مِنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرْ وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:
وَهَلْ عَلَيَّ بِأَنْ أَخْشَاكَ مِنْ عَارِ
حَيْثُ جَاءَ بِ (مِنْ) الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِقَصْدِ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ. وَلَعَلَّ أَصْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ النَّفْيِ لِقَصْدِ التَّقْرِيرِ بِالنَّفْيِ.
وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ لَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَلَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ غَالِبًا وَالْحَرْفُ الزَّائِدُ فِي النَّفْيِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ حَذَفُوا النَّافِيَ وَأَشْرَبُوا حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَى النَّفْيِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ فَصَارَ مُفَادُ الْكَلَامِ نَفْيًا وَانْسَلَخَتْ (هَلْ) عَنِ الِاسْتِفْهَامِ فَصَارَتْ مُفِيدَةً النَّفْيَ.
وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْأَعْرَاف [١٤٧].
[٩١- ٩٢]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٩١ إِلَى ٩٢]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢)
أَتَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مُطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ
الْمُسْتَأْصِلَةِ، فَتَعَيَّنَ
اسْتِعْمَالُ إِرَاضَتِهِ عَلَى الصَّلَاحِ، فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْحِكْمَتَيْنِ بِأَنْ جَعَلَ ثَوَابًا لِلصَّالِحِينَ عَلَى قَدْرِ صَلَاحِهِمْ وَعِقَابًا لِلْمُفْسِدِينَ بِمِقْدَارِ عَمَلِهِمْ، وَاقِعًا ذَلِكَ كُلُّهُ فِي عَالَمٍ غَيْرِ هَذَا الْعَالَمِ، وَأَبْلَغَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ إِزَالَةً لِلْوَصْمَةِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى الْحِكْمَةِ، فَخَافَ فَرِيقٌ وَرَجَا فَارْتَكَبَ وَاجْتَنَبَ، وَأَعْرَضَ فَرِيقٌ وَنَأَى فَاجْتَرَحَ وَاكْتَسَبَ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ آثَارِ هَاتِهِ الْحِكَمِ أَنْ لَا يُحْرَمَ الصَّالِحُ مِنْ ثَوَابِهِ، وَأَنْ لَا يَفُوتَ الْمُفْسِدُ بِمَا بِهِ لِيَظْهَرَ حَقُّ أَهْلِ الْكَمَالِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْمَرَاتِبِ، فَجَعَلَ اللَّهُ بَقَاءَ أَفْرَادِ النَّوْعِ فِي هَذَا الْعَالَمِ مَحْدُودًا بِآجَالٍ مُعَيَّنَةٍ وَجَعَلَ لِبَقَاءِ هَذَا الْعَالَمِ كُلِّهِ أَجَلًا مُعَيَّنًا، حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ جَمِيعُ الْآجَالِ جَاءَ يَوْمُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَتَمَيَّزَ أَهْلُ النَّقْصِ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ.
فَكَانَ جَعْلُ الْآجَالِ لِبَقَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَتْ مُلَابِسَةً لَهُ، وَلِذَلِكَ نُبِّهَ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى مَكَانِهِ، وَإِظْهَارًا أَنَّهُ الْمَقْصِدُ بِكِيَانِهِ، فَعَطَفَهُ عَلَى الْحَقِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، كَمَا عَطَفَ ضِدَّهُ عَلَى الْبَاطِلِ، فِي قَوْلِهِ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] فَقَالَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٣] قَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ الْآيَةَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ هُنَا أَنَّ فِي أَحْوَالِ السَّمَاوَاتِ مِنْ شَمْسِهَا وَكَوَاكِبِهَا وَمَلَائِكَتِهَا مَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَتْ مُلَابِسَةً لَهُ، أَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهَا الَّتِي لَا نَعْرِفُ نِسْبَةَ تَعَلُّقِهَا بِهَذَا الْعَالَمِ، فَنَكِلُ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ وَنَقِيسُ غَائِبَهُ عَلَى الشَّاهِدِ، فَنُوقِنُ بِأَنَّهُ مَا خُلِقَ إِلَّا بِالْحَقِّ كَذَلِكَ. فَشَوَاهِدُ حَقِّيَّةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ بَادِيَةٌ فِي دَقَائِقِ خَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥].
وَالْمُسَمَّى: الْمُقَدَّرُ. أُطْلِقَتِ التَّسْمِيَةُ عَلَى التَّقْدِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٥]. وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)
. وَمَا فِي بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ مِنْ مَعْنَى التَّقْرِيبِ.
وَشَمَلَ اسْمُ النَّذِيرِ جَوَامِعَ مَا فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ النَّوَاهِي وَالْعُقُوبَاتِ وَهُوَ قِسْمُ الِاجْتِنَابِ مِنْ قِسْمَيِ التَّقْوَى فَإِنَّ الْمَنْهِيَّاتِ مُتَضَمِّنَةٌ مَفَاسِدَ فَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ تَخْوِيفَ الْمُقْدِمِينَ عَلَى فِعْلِهَا مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ.
وَالدَّاعِي إِلَى اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَرْكِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ اللَّهُ. وَأَصْلُ دَعَاهُ إِلَى فُلَانٍ: أَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى الْحُضُورِ عِنْدَهُ، يُقَالُ: ادْعُ فَلَانًا إليَّ.
وَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ جِهَةٍ يَحْضُرُهَا النَّاسُ عِنْدَهُ تَعَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الدُّعَاءِ إِلَيْهِ الدُّعَاءُ إِلَى تَرْكِ الِاعْتِرَافِ بِغَيْرِهِ (كَمَا يَقُولُونَ: أَبُو مُسلم الْخُرَاسَانِي يَدْعُو إِلَى الرِّضَى مِنْ آلِ الْبَيْتِ) فَشَمَلَ هَذَا الْوَصْفُ أُصُولَ الِاعْتِقَادِ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ اللَّهِ لِأَنَّ دَعْوَةَ اللَّهِ دَعْوَةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ الدُّعَاةِ إِلَيْهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ.
وَزِيَادَةُ بِإِذْنِهِ لِيُفِيدَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ دَاعِيًا إِلَيْهِ وَيَسَّرَ لَهُ الدُّعَاءَ إِلَيْهِ مَعَ ثِقْلِ أَمْرِ هَذَا الدُّعَاءِ وَعِظَمِ خَطَرِهِ وَهُوَ مَا كَانَ استشعره النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَبْدَأِ الْوَحْيِ مِنَ الْخَشْيَةِ إِلَى أَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: ١، ٢]، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُوسَى: لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: ٦٨]، فَهَذَا إِذْنٌ خَاصٌّ وَهُوَ الْإِذْنُ بَعْدَ الْإِحْجَامِ الْمُقْتَضِي لِلتَّيْسِيرِ، فَأَطْلَقَ اسْمَ الْإِذْنِ عَلَى التَّيْسِيرِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى خِطَابًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي [الْمَائِدَة: ١١٠] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ عِيسَى فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طائرا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: ٤٩].
وَقَوْلُهُ وَسِراجاً مُنِيراً تَشْبِيه بليغ بطرِيق الْحَالِيَّةِ وَهُوَ طَرِيقٌ جَمِيلٌ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ كَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ فِي الْهِدَايَةِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا وَالَّتِي لَا تَتْرُكُ لِلْبَاطِلِ شُبْهَةً إِلَّا فَضَحَتْهَا وَأَوْقَفَتِ النَّاسَ عَلَى دَخَائِلِهَا، كَمَا يُضِيءُ السِّرَاجُ الْوَقَّادُ ظُلْمَةَ الْمَكَانِ. وَهَذَا الْوَصْفُ يَشْمَلُ مَا جَاءَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَيَانِ وَإِيضَاحِ الِاسْتِدْلَالِ وَانْقِشَاعِ مَا كَانَ قبله فِي الْأَدْيَانِ مِنْ مَسَالِكٍ لِلتَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ فَشَمَلَ مَا فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ أُصُولِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يُشَبَّهُ
الْمُفَسِّرِينَ إِلَى ذَلِكَ هُوَ مَا أَلِفَهُ النَّاسُ مِنْ إِطْلَاقِ التَّعْمِيرِ عَلَى طُولِ عُمْرِ الْمُعَمَّرِ، فَلَمَّا تَأَوَّلُوهُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَلْحَقُوا تَأْوِيلَ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ لِكَوْنِ جُمْلَةِ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ عَطَفًا عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ [يس: ٦٧] فَهِيَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ، فَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا جُمْلَةُ شَرْطٍ امْتِنَاعِيٍّ وَالْمَعْطُوفَةُ جُمْلَةُ شَرْطٍ تَعْلِيقِيٍّ، وَالْجُمْلَةُ الْأَوْلَى أَفَادَتْ إِمْهَالَهُمْ وَالْإِمْلَاءَ لَهُمْ، وَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ أَفَادَتْ إِنْذَارَهَمْ بِعَاقِبَةٍ غَيْرِ مَحْمُودَةٍ وَوَعِيدَهُمْ بِحُلُولِهَا بِهِمْ، أَيْ إِنْ كُنَّا لَمْ نَمْسَخْهُمْ وَلَمْ نَطْمِسْ عَلَى عُيُونِهِمْ فَقَدْ أَبْقَيْنَاهُمْ لِيَكُونُوا مَغْلُوبِينَ أَذِلَّةً، فَمَعْنَى وَمَنْ نُعَمِّرْهُ مَنْ نُعَمِّرْهُ مِنْهُمْ.
فَالتَّعْمِيرُ بِمَعْنَى الْإِبْقَاءِ، أَيْ مَنْ نُبْقِيهِ مِنْهُمْ وَلَا نَسْتَأْصِلُهُ مِنْهُمْ، أَيْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَهُ بَين الْأُمَم دَلِيلا، فَالتَّعْمِيرُ الْمُرَادُ هُنَا كَالتَّعْمِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: ٣٧]، بِأَنَّ مَعْنَاهَا: أَلَمْ نُبْقِكُمْ مُدَّةً مِنَ الْحَيَاةِ تَكْفِي الْمُتَأَمِّلَ وَهُوَ الْمُقَدَّرُ بِقَوْلِهِ: مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ التَّعْمِيرِ فِيهَا طُولَ الْحَيَاةِ وَإِدْرَاكَ الْهَرَمِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مِنَ الْمُعَمَّرِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ بِجَمِيعِ أَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ. وَقَدْ طُوِيَتْ فِي الْكَلَامِ جُمْلَةٌ تَقْدِيرُهَا: وَلَوْ نَشَاءُ
لَأَهْلَكْنَاهُمْ، يَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ أَيْ نُبْقِهِ حَيا.
والنكس: حَقِيقَته قَلْبِ الْأَعْلَى أَسْفَلَ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنَ الْأَسْفَلِ، قَالَ تَعَالَى: ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السَّجْدَة: ١٢]. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الرُّجُوعِ مِنْ حَالٍ حَسَنَةٍ إِلَى سَيِّئَةٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: فُلَانٌ نَكِسٌ، إِذَا كَانَ ضَعِيفًا لَا يُرْجَى لِنَجْدَةٍ، وَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَأَنَّهُ مَنْكُوسٌ فِي خَلَائِقِ الرُّجُولَةِ، فَ نُنَكِّسْهُ مَجَازٌ لَا مَحَالَةَ إِلَّا أَنَّا نَجْعَلُهُ مَجَازًا فِي الْإِذْلَالِ بَعْدَ الْعِزَّةِ وَسُوءِ الْحَالَةِ بَعْدَ زَهْرَتِهَا.
والْخَلْقِ: مَصْدَرُ خَلَقَهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَخْلُوقِ كَثِيرًا وَعَلَى النَّاسِ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي رَأَتْهَا أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ بِالْحَبَشَةِ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، أَيْ شَرَارُ النَّاسِ.
وَوُقُوعُ حَرْفِ فِي هُنَا يُعَيِّنُ أَنَّ الْخَلْقَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ النَّاسُ، أَيْ تَجْعَلُهُ دَلِيلًا فِي
فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَدْخَلَتْ كُلَّ مَوْجُودٍ فِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ وَلِيُّ التَّصَرُّفِ فِيهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَهُوَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَلَوْ كَانَ خَالِقَ نَفْسِهِ أَوْ صِفَاتِهِ لَزِمَ تَوَقُّفُ الشَّيْءِ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ هُوَ عَلَيْهِ وَهَذَا مَا يُسَمَّى بِالدَّوْرِ فِي الْحِكْمَةِ، وَاسْتِحَالَتُهُ عَقْلِيَّةٌ، فَخَصَّ هَذَا الْعُمُومَ الْعَقْلُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِثْبَاتُ حَقِيقَةٍ، وَإِلْزَامُ النَّاسِ بِتَوْحِيدِهِ لِأَنَّهُ خَالِقُهُمْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا قَصْدُ ثَنَاءٍ وَلَا تَعَاظُمٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ تَذْكِيرُ النَّاسِ بِأَنَّهُمْ جَمِيعًا هُمْ وَمَا مَعَهُمْ عَبِيدٌ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَّةٌ عَلَيْهِمْ بِالْإِيجَادِ.
الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ وَجِيءَ بِهَا مَعْطُوفَةً لِأَنَّ مَدْلُولَهَا مُغَايِرٌ لِمَدْلُولِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْوَكِيلُ الْمُتَصَرِّفُ فِي شَيْءٍ بِدُونِ تَعَقُّبٍ وَلَمَّا لَمْ يُعَلَّقْ بِذَلِكَ الْوَصْفِ شَيْءٌ عُلِمَ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ جِنْسُ التَّصَرُّفِ وَحَقِيقَتُهُ الَّتِي تَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ مَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ، فَعَمَّ تَصَرُّفُهُ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ تَقْدِيرِ الْأَعْمَالِ وَالْآجَالِ وَالْحَرَكَاتِ، وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ تَقْتَضِي الِاحْتِيَاجَ إِلَيْهِ بِالْإِمْدَادِ فَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَوَجَدَهُمْ لَمْ يَسْتَغْنُوا عَنْهُ لَمْحَةً مَا.
الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَجِيءَ بِهَا مَفْصُولَةً لِأَنَّهَا تُفِيدُ بَيَانَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّ الْوَكِيلَ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ.
وَالْمَقَالِيدُ: جَمَعَ إِقْلِيدٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهَذَا جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَإِقْلِيدٌ قِيلَ مُعَرَّبٌ عَنِ الْفَارِسِيَّةِ، وَأَصْلُهُ (كِلِيدٌ) قِيلَ مِنَ الرُّومِيَّةِ وَأَصْلُهُ (إِقْلِيدِسُ) وَقيل كلمة يَمَانِية وَهُوَ مِمَّا تَقَارَبَتْ فِيهِ اللُّغَاتُ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ حِفْظِ ذَخَائِرِهَا، فَذَخَائِرُ الْأَرْضِ عَنَاصِرُهَا وَمَعَادِنُهَا وَكَيْفِيَّاتُ أَجْوَائِهَا وَبِحَارِهَا، وَذَخَائِرُ السَّمَاوَاتِ سَيْرُ كَوَاكِبِهَا وَتَصَرُّفَاتُ أَرْوَاحِهَا فِي عَوَالِمِهَا وَعَوَالِمِنَا وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْعَنَاصِرُ وَالْقُوَى شَدِيدَةُ النَّفْعِ لِلنَّاسِ وَكَانَ النَّاسُ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهَا شُبِّهَتْ بِنَفَائِسَ الْمَخْزُونَاتِ فَصَحَّ
أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْمَقَالِيدُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، وَهِيَ أَيْضًا اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ لِلْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ التَّكْوِينِيِّ وَالتَّسْخِيرِيِّ الَّذِي يَفِيضُ بِهِ عَلَى النَّاسِ مِنْ تِلْكَ الذَّخَائِرِ الْمُدَّخَرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الْحجر: ٢١].
أُصُولِهِ وَقَوَاعِدِهِ
وَمَقَاصِدِهِ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْأُصُولِ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ بَعْضِهَا فَيَنْخَرِمُ بَعْضُ أَسَاسِ الدِّينِ.
وَالْمُرَادُ: وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِي إِقَامَتِهِ بِأَنْ يَنْشَطَ بَعْضُهُمْ لِإِقَامَتِهِ وَيَتَخَاذَلَ الْبَعْضُ، إِذْ بِدُونِ الِاتِّفَاقِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ يَضْطَرِبُ أَمْرُهُ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ تَأْثِيرَ النُّفُوسِ إِذَا اتَّفَقَتْ يَتَوَارَدُ عَلَى قَصْدٍ وَاحِدٍ فَيَقْوَى ذَلِكَ التَّأْثِيرُ وَيُسْرِعُ فِي حُصُولِ الْأَثَرِ إِذْ يَصِيرُ كُلُّ فَرْدٍ مِنَ الْأُمَّةِ مُعِينًا لِلْآخَرِ فَيَسْهُلُ مَقْصِدُهُمْ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِمْ. أَمَّا إِذَا حَصَلَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ فَذَلِكَ مُفْضٍ إِلَى ضَيَاعِ أُمُورِ الدِّينِ فِي خِلَالِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ، ثُمَّ هُوَ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُلْقِيَ بِالْأُمَّةِ إِلَى الْعَدَاوَةِ بَيْنَهَا وَقَدْ يَجُرُّهُمْ إِلَى أَنْ يَتَرَبَّصَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ الدَّوَائِرَ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الْأَنْفَال: ٤٦].
وَأما الِاخْتِلَافُ فِي فُرُوعِهِ بِحَسَبِ اسْتِنْبَاطِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالدِّينِ فَذَلِكَ مِنَ التَّفَقُّهِ الْوَارِدِ فِيهِ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ»
. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ وَجُمْلَةِ وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ [الشورى: ١٤]. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ مَنْ يَتَعَجَّبُ مِنْ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّهُ دِينٌ مُؤَيَّدٌ بِمَا سَبَقَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ، فَأُجِيبَ إِجْمَالًا بِأَنَّهُ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَجَهَّمُوهُ وكَبُرَ بِمَعْنَى صَعُبَ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ إِطْلَاقُ ثَقُلَ، أَيْ عَجَزُوا عَنْ قَبُولِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَالْكِبَرُ مَجَازٌ اسْتُعِيرَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا تَطْمَئِنُّ النَّفْسُ لِقَبُولِهِ، وَالْكِبَرُ فِي الْأَصْلِ الدَّالُّ عَلَى ضَخَامَةِ الذَّاتِ لِأَنَّ شَأْنَ الشَّيْءِ الضَّخْمِ أَنْ يَعْسُرَ حَمْلُهُ وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَضْمِينِ مَعْنَى ثَقُلَ عُدِّيَ بِ عَلَى.
وَعَبَّرَ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ اعْتِبَارًا بِنُكْرَانِ الْمُشْرِكِينَ لِهَذِهِ الدَّعْوَةِ وَاسْتِغْرَابِهِمْ إِيَّاهَا، وَعَدِّهِمْ إِيَّاهَا مِنَ الْمُحَالِ الْغَرِيبِ، وَقَدْ كَبُرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ:
وَ (إِذْ) ظَرْفٌ، أَيْ مُدَّةُ جُحُودِهِمْ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْلِيلِ لِاسْتِوَاءِ مُؤَدَّى الظَّرْفِ
وَمُؤَدَّى التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّيْءَ مِنَ الْإِغْنَاءِ مُعَلِّقًا نَفْيَهُ بِزَمَانِ جَحْدِهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ إِضَافَةِ إِذْ إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا، عُلِمَ أَنَّ لِذَلِكَ الزَّمَانِ تَأْثِيرًا فِي نَفْيِ الْإِغْنَاءِ.
وَآيَاتُ اللَّهِ دَلَائِلُ إِرَادَتِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ رَسُولِهِمْ وَمِنَ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ. وَقَدِ انْطَبَقَ مِثَالُهُمْ عَلَى حَالِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ جَحَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ آيَاتُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ حَقِيقَةَ الْآيَاتِ بِالْمَعْنَيَيْنِ.
وَحَاقَ بِهِمْ: أَحَاطَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ الْعَذَابُ، عَدَلَ عَنِ اسْمِهِ الصَّرِيحِ إِلَى الْمَوْصُولِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ضَلَالِهِمْ وَسُوء نظرهم.
[٢٧]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢٧]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧)
أَتْبَعَ ضَرْبَ الْمَثَلِ بِحَالِ عَادٍ مَعَ رَسُولِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَثَلَ لَيْسَ وَحِيدًا فِي بَابِهِ فَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ أَقْوَامًا آخَرِينَ مِنْ مُجَاوَرِيهِمْ تُمَاثِلُ أَحْوَالُهُمْ أَحْوَالَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ قُرَاهُمْ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ يَعْرِفُهَا مَنْ يَعْرِفُونَهَا وَيَسْمَعُ عَنْهَا الَّذِينَ لَمْ يَرَوْهَا، وَهِيَ قُرَى ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَسَبَأٍ وَقَوْمِ تُبَّعٍ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاذْكُرْ أَخا عادٍ [الْأَحْقَاف: ٢١] إِلَخْ. وَكُنِّيَ عَنْ إِهْلَاكِ الْأَقْوَامِ بِإِهْلَاكِ قُرَاهُمْ مُبَالَغَةً فِي اسْتِئْصَالِهِمْ لِأَنَّهُ إِذَا أُهْلِكَتِ الْقَرْيَةُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا كَمَا كَنَّى عَنْتَرَةُ بِشَكِّ الثِّيَابِ عَنْ شَكِّ الْجَسَدِ فِي قَوْلِهِ:
فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ ثِيَابَهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: ٤].
وَتَصْرِيفُ الْآيَاتِ تَنْوِيعُهَا بِاعْتِبَارِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهُوَ الْإِقْلَاعُ عَنِ الشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَأَصْلُ مَعْنَى التَّصْرِيفِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ لِأَنَّهُ
إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً فِي سُورَةِ النَّبَإِ [٣١- ٣٥].
وَاللَّغْوُ: سَقَطُ الْكَلَامِ وَالْهَذَيَانُ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْ خَلَلِ الْعَقْلِ.
وَالتَّأْثِيمُ: مَا يُؤْثَمُ بِهِ فَاعِلُهُ شَرْعًا أَوْ عَادَةً مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ مِثْلِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ وَمَا يُشْبِهُ أَفْعَالَ الْمَجَانِينِ مِنْ آثَارِ الْعَرْبَدَةِ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْهُ النَّدَامَى غَالِبًا، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهُمْ مِنْ عَالَمِ الْحَقَائِقِ وَالْكَمَالَاتِ فَهُمْ حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ، وَقَدْ تَمَدَّحَ أَصْحَابُ الْأَحْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بِالتَّنَزُّهِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اتَّقَى مَا يَعْرِضُ مِنَ الْفَلَتَاتِ فَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الْخَمْرَ مِثْلَ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ بِرَفْعِهِمَا عَلَى أَنَّ (لَا) مشبهّة ب (لَيْسَ). وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِهِمَا عَلَى أَنَّ (لَا) مشبهة ب (إنّ) وَهُمَا وَجْهَانِ فِي نَفْيِ النَّكِرَةِ إِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ الْوَاحِدِ غَيْرَ مُحْتَمَلَةٍ وَمِثْلُهُ قَوْلُهَا فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرَّ وَلَا قَرَّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ» رُوِيَتِ النَّكِرَاتُ الْأَرْبَعُ بِالرَّفْع وَبِالنَّصبِ.
[٢٤]
[سُورَة الطّور (٥٢) : آيَة ٢٤]
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً [الطّور: ٢٣] فَهُوَ مِنْ تَمَامِهِ وَوَاقِعٌ مَوْقِعَ الْحَالِ مِثْلَهُ، وَجِيءَ بِهِ فِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكَرُّرِ، أَيْ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ بِخِلَافِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا لَا بُدَ لَهَا مِنَ الِانْقِطَاعِ بِنِهَايَاتٍ تَنْتَهِي إِلَيْهَا فَتُكْرَهُ لِأَصْحَابِهَا الزِّيَادَةُ مِنْهَا مِثْلِ الْغَوْلِ، وَالْإِطْبَاقِ، وَوَجَعِ الْأَمْعَاءِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَمِثْلِ الشَّبَعِ فِي تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يُورِثُ الْعَجْزَ عَن الازدياد عَنِ اللَّذَّةِ وَيَجْعَلُ الِازْدِيَادَ أَلَمًا.
وَلَمْ يُسْتَثْنَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا لَذَّاتُ الْمَعَارِفِ وَلَذَّاتُ الْمَنَاظِرِ الْحَسَنَةِ وَالْجَمَالِ.
وَلَمَّا أَشْعَرَ فِعْلُ يَطُوفُ بِأَنَّ الْغِلْمَانَ يُنَاوِلُونَهُمْ مَا فِيهِ لَذَّاتُهُمْ كَانَ مُشْعِرًا بِتَجَدُّدِ الْمُنَاوَلَةِ وَتَجَدُّدِ الطَّوَافِ وَقَدْ صَارَ كُلُّ ذَلِكَ لَذَّةً لَا سَآمَةَ مِنْهَا.
(١٩)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا سِيقَ مِنْ وَصْفِهِمْ بِانْحِصَارِ صِفَةِ الْكَذِبِ فِيهِمْ يُثِيرُ سُؤَالَ السَّامِعِ أَنْ يَطْلُبَ السَّبَبَ الَّذِي بَلَغَ بهم إِلَى هَذَا الْحَالِ الْفَظِيعِ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ اسْتِحْوَاذُ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ وَامْتِلَاكُهُ زِمَامَ أَنْفُسِهِمْ يُصَرِّفُهَا كَيْفَ يُرِيدُ وَهَلْ يَرْضَى الشَّيْطَانُ إِلَّا بِأَشَدِّ الْفَسَادِ وَالْغِوَايَةِ.
وَالِاسْتِحْوَاذُ: الِاسْتِيلَاءُ وَالْغَلَبُ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ حَاذَ حَوْذًا، إِذَا حَاطَ شَيْئًا وَصَرَّفَهُ كَيْفَ يُرِيدُ. يُقَالُ: حَاذَ الْعِيرَ إِذَا جَمَعَهَا وَسَاقَهَا غَالِبًا لَهَا. فَاشْتَقُّوا مِنْهُ اسْتَفْعَلَ لَلَّذِي يَسْتَوْلِي بِتَدْبِيرٍ وَمُعَالَجَةٍ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَال: استحوذ إِلَّا فِي اسْتِيلَاءِ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ يَتَطَلَّبُ وَسَائِلَ اسْتِيلَاءٍ. وَمِثْلُهُ اسْتَوْلَى. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْغَلَبِ مِثْلُهَا فِي: اسْتَجَابَ.
وَالْأَحْوَذِيُّ: الْقَاهِرُ لِلْأُمُورِ الصَّعْبَةِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ عُمَرُ أَحْوَذِيًّا نَسِيجَ وَحْدِهِ».
وَكَانَ حَقُّ اسْتَحْوَذَ أَنْ يُقْلَبَ عَيْنُهُ أَلِفًا لِأَنَّ أَصْلَهَا وَاوٌ مُتَحَرِّكَةٌ إِثْرَ سَاكِنٍ صَحِيحٍ وَهُوَ غَيْرُ اسْمِ تَعَجُّبٍ وَلَا مُضَاعَفِ اللَّامِ وَلَا مُعْتَلِّ اللَّامِ فَحَقُّهَا أَنْ تُنْقَلَ حَرَكَتُهَا إِلَى السَّاكِنِ الصَّحِيحِ قَبْلَهَا فِرَارًا مِنْ ثِقَلِ الْحَرَكَةِ عَلَى حَرْفِ الْعِلَّةِ مَعَ إِمْكَانِ الِاحْتِفَاظِ بِتِلْكَ الْحَرَكَةِ بِنَقْلِهَا إِلَى الْحَرْفِ قَبْلَهَا الْخَالِي مِنَ الْحَرَكَةِ فَيَبْقَى حَرْفُ الْعِلَّةِ سَاكِنًا سُكُونًا مَيِّتًا إِثْرَ حَرَكَةٍ فَيُقْلَبُ مَدَّةً مُجَانِسَةً لِلْحَرَكَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِثْلُ يَقُومُ وَيَبِينُ وَأَقَامَ، فَحَقُّ اسْتَحْوَذَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: اسْتَحَاذَ وَلَكِنَّ الْفَصِيحَ فِيهِ تَصْحِيحُهُ عَلَى خِلَافِ غَالِبِ بَابِهِ وَهُوَ تَصْحِيحٌ سَمَاعِيٌّ، وَلَهُ نَظَائِرُ قَلِيلَةٌ مِنْهَا: اسْتَنْوَقَ الْجمل، وأعول، إِذْ رَفَعَ صَوْتَهُ. وَأَغْيَمَتِ السَّمَاءُ وَاسْتَغْيَلَ الصَّبِيُّ، إِذَا شَرِبَ الْغَيْلَ وَهُوَ لَبَنُ الْحَامِلِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: التَّصْحِيحُ هُوَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ مُطَّرِدَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ كُلِّهِ. وَحَكَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ اسْتَحَاذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: تَصْحِيحُ هَذَا الْبَابِ كُلُّهُ مُطَّرِدٌ. وَقَالَ فِي «التَّسْهِيلِ» : يَطَّرِدُ تَصْحِيحُ هَذَا الْبَابِ فِي كُلِّ فِعْلٍ أُهْمِلَ ثُلَاثِيُّهُ مِثْلِ: اسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ وَاسْتَتْيَسَتِ الشَّاةُ إِذَا صَارَتْ كَالتَّيْسِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الِاسْتِحْوَاذِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٤١]، فَضُمَّ هَذَا إِلَى ذَاكَ.
هَذَا تَكْرِيرٌ ثَالِثٌ لِفِعْلِ قُلْ مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الْملك: ٢٣] الْآيَةَ.
وَجَاءَ هَذَا الْأَمْرُ بِقَوْلٍ يَقُولُهُ لَهُمْ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: أَوْ رَحِمَنا [الْملك: ٢٨] فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ سَوَّى بَيْنَ فَرْضِ إِهْلَاكِ الْمُسْلِمِينَ وَإِحْيَائِهِمْ فِي أَنَّ أَيَّ الْحَالَيْنِ فُرِضَ لَا يُجِيرُهُمْ مَعَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَذَابِ، أَعْقَبَهُ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ آمَنُوا بِالرَّحْمَانِ، فَهُمْ مَظِنَّةُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِمْ هَذِهِ الصِّفَةُ فَيَرْحَمَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَيَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ فِي ضَلَالٍ حِينَ يَرَوْنَ أَثَرَ الرَّحْمَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَانْتِفَاءَهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا وَخَاصَّةً فِي الْآخِرَةِ.
وَضَمِيرُ هُوَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْوَاقِعُ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، أَيِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي وَصفه الرَّحْمنُ فَهُوَ يَرْحَمُنَا، وَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا الْاسْمَ فَأَنْتُمْ أَحْرِيَاءُ بِأَنْ تُحْرَمُوا آثَارَ رَحْمَتِهِ.
وَنَحْنُ تَوَكَّلْنَا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنْتُمْ غَرَّكُمْ عِزُّكُمْ وَجَعَلْتُمُ الْأَصْنَامَ مُعْتَمَدَكُمْ وَوُكَلَاءَكُمْ.
وَبِهَذِهِ التَّوْطِئَةِ يَقَعُ الْإِيمَاءُ إِلَى الْجَانِبِ الْمُهْتَدِي وَالْجَانِبِ الضَّالِّ مِنْ قَوْلِهِ:
فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لِأَنَّهُ يظْهر بداء تَأَمُّلٍ أَنَّ الَّذِينَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ هُمُ الَّذِينَ جَحَدُوا وَصْفَ الرَّحْمنُ وَتَوَكَّلُوا عَلَى الْأَوْثَانِ.
ومَنْ مَوْصُولَة، وَمَا صدق مَنْ فَرِيقٌ مُبْهَمٌ مُتَرَدِّدٌ بَين فريقين تضمنهما قَوْلُهُ:
إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ [الْملك: ٢٨] وَقَوْلُهُ: فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ [الْملك: ٢٨]، فَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ فَرِيقُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ، وَالْآخَرُ فَرِيقُ الْكَافِرِينَ، أَيْ فَسَتَعْلَمُونَ اتِّضَاحَ الْفَرِيقِ الَّذِي هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
وَتَقْدِيمُ مَعْمُولِ تَوَكَّلْنا عَلَيْهِ لِإِفَادَةِ الْاخْتِصَاصِ، أَيْ تَوَكَّلْنَا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ تَعْرِيضًا بِمُخَالَفَةِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ تَوَكَّلُوا على أصنامهم وأشركوها فِي التَّوَكُّلِ مَعَ اللَّهِ، أَوْ نَسُوا التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ بِاشْتِغَالِ فَكْرَتِهِمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْأَصْنَامِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُقَدَّمْ مَعْمُولُ آمَنَّا عَلَيْهِ فَلَمْ يَقُلْ: بِهِ آمَنَّا لِمُجَرَّدِ الْاهْتِمَامِ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ وَصْفِ الْآخَرِينَ بِالْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الْملك: ٢٨] فَإِنَّ هَذَا جَوَاب آخر عَن تَمَنِّيهِمْ لَهُ الْهَلَاكَ سلك بِهِ طَرِيقَ التَّبْكِيتِ، أَي هُوَ الرحمان يُجِيرُنَا مِنْ سُوءٍ تَرُومُونَهُ لَنَا لِأَنَّنَا آمَنَّا بِهِ وَلَمْ نَكْفُرْ بِهِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ بِمَعْنَى الْحَقِيقِ بِمُسَمَّى الْيَوْمِ لِأَنَّهُ شَاعَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْيَوْمِ عَلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ نَصْرُ قَبِيلَةٍ عَلَى أُخْرَى مِثْلَ: يَوْمِ حَلِيمَةَ، وَيَوْمِ بُعَاثَ. وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُقَالَ: يَوْمٌ، وَلَيْسَ كَأَيَّامِ انْتِصَارِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ [التَّغَابُنِ: ٩]، فَهُوَ يَوْمُ انْتِقَامِ اللَّهِ مِنْ أَعْدَائِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا نِعْمَتَهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ عَبِيدَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَيَكُونُ وَصْفُ الْحَقِّ بِمِثْلِ الْمَعْنَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الْبَقَرَة: ١٢١]، أَي التِّلَاوَة الْحَقِيقَة بِاسْمِ التِّلَاوَةِ وَهِيَ التِّلَاوَةُ بِفَهْمِ مَعَانِي الْمَتْلُوِّ وَأَغْرَاضِهِ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْيَوْمُ الْمُتَقَدَّمِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: ١٧]. وَمَفَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ حَقِيقٌ بِمَا سَيُوصَفُ بِهِ بِسَبَبِ مَا سَبَقَ مِنْ حِكَايَةِ شُؤُونِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] بَعْدَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إِلَى قَوْلِهِ: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [الْبَقَرَة: ٢- ٤]، فَلِأَجَلِ جَمِيعِ مَا وُصِفَ بِهِ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ الْيَوْمُ الْحَقُّ وَمَا تَفَرَّعَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً وَتَعْرِيفُ الْيَوْمُ بِاللَّامِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ، أَيْ هُوَ الْأَعْظَمُ مِنْ بَيْنِ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ مِنْ أَيَّامِ النَّصْرِ لِلْمُنْتَصِرِينَ لِأَنَّهُ يَوْمٌ يُجْمَعُ فِيهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا
هُوَ أَهْلُهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَكَأَنَّ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَشْهُورَةِ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ غَيْرُ ثَابِتِ الْوُقُوعِ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً بِفَاءِ الْفَصِيحَةِ لِإِفْصَاحِهَا عَنْ شَرط مُقَدّر ناشىء عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا عَلِمْتُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ فَمَنْ شَاءَ اتِّخَاذَ مَآبٍ عِنْدَ رَبِّهِ فَلْيَتَّخِذْهُ، أَيْ فَقَدْ بَانَ لَكُمْ مَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَلْيَخْتَرْ صَاحِبُ الْمَشِيئَةِ مَا يَلِيقُ بِهِ لِلْمَصِيرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَآبًا فِيهِ، أَيْ فِي الْيَوْمِ.
وَهَذَا التَّفْرِيعُ مِنْ أَبْدَعِ الْمَوْعِظَةِ بالترغيب والترهيب عِنْد مَا تَسْنَحُ الْفُرْصَةُ لِلْوَاعِظِ مِنْ تَهَيُّؤِ النُّفُوسِ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ.


الصفحة التالية
Icon