بِأَسَانِيدَ أَقْوَى وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي إِطْلَاقُ وَصْفِ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يُوهِمُ مَنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ أَنَّ غَيْرَهَا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى تَبَجُّحِ أَصْحَابِ الرِّوَايَةِ بِمَرْوِيَّاتِهِمْ.
وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:
فَهِيَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي حُرُوفِ الْكَلِمَاتِ مِثْلَ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَة: ٤] وَ (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وَ (ننشرها) ونُنْشِزُها [الْبَقَرَة: ٢٥٩] وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بِتَشْدِيدِ الذَّالِ أَوْ قَدْ كُذِبُوا [يُوسُف: ١١٠] بِتَخْفِيفِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْحَرَكَاتِ الَّذِي يَخْتَلِفُ مَعَهُ مَعْنَى الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: ٥٧] قَرَأَ نَافِعٌ بِضَمِّ الصَّادِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِكَسْرِ الصَّادِ، فَالْأُولَى بِمَعْنَى يَصُدُّونَ غَيْرَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَالثَّانِيَةُ بِمَعْنَى صُدُودِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَاصِلٌ مِنْهُمْ، وَهِيَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَهَا مَزِيدُ تَعَلُّقٍ بِالتَّفْسِيرِ لِأَنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ فِي قِرَاءَةٍ قَدْ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ نَظِيرِهِ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، أَوْ يُثِيرُ مَعْنًى غَيْرَهُ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ يُكْثِرُ الْمَعَانِيَ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ نَحْوَ: حَتَّى يَطْهُرْنَ [الْبَقَرَة: ٢٢٢] بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَالْهَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَبِسُكُونِ الطَّاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ مُخَفَّفَةً، وَنَحْوَ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النِّسَاء: ٤٣] ولامَسْتُمُ النِّساءَ، وَقِرَاءَةِ: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ الرَّحْمَن إِنَاثًا [الزخرف: ١٩] مَعَ قِرَاءَةِ «الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ» وَالظَّنُّ أَنَّ الْوَحْيَ نَزَلَ بِالْوَجْهَيْنِ وَأَكْثَرَ، تَكْثِيرًا لِلْمَعَانِي إِذَا جَزَمْنَا بِأَنَّ جَمِيعَ الْوُجُوهِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ هِيَ مَأْثُورَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا يَحْتَمِلُ تِلْكَ الْوُجُوهِ مُرَادًا لِلَّهِ تَعَالَى لِيَقْرَأَ الْقُرَّاءُ بِوُجُوهٍ فَتَكْثُرَ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ الْمَعَانِي، فَيَكُونُ وُجُودُ الْوَجْهَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي مُخْتَلِفِ الْقِرَاءَاتِ مُجْزِئًا عَنْ آيَتَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَهَذَا نَظِيرُ التَّضْمِينِ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ، وَنَظِيرُ التَّوْرِيَةِ وَالتَّوْجِيهِ فِي الْبَدِيعِ، وَنَظِيرُ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، وَهُوَ من زِيَادَة ملائمة بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ كَانَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقُرْآنِ، قَدْ يَكُونُ مَعَهُ اخْتِلَافُ الْمَعْنَى، وَلَمْ يَكُنْ حَمْلُ أَحَدِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى مُتَعَيِّنًا وَلَا مُرَجَّحًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي كِتَابِ «الْحُجَّةِ» أَنَّهُ يَخْتَارُ حَمْلَ مَعْنَى إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى مَعْنَى الْأُخْرَى، وَمِثَالُ هَذَا قَوْلُهُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [٢٤]، وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ: «فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ»
بِإِسْقَاطِ هُوَ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ هُوَ يَحْسُنُ أَنْ يَعْتَبِرَهُ ضَمِيرَ فَصْلٍ لَا مُبْتَدَأً، لِأَنَّهُ
الْعَالِيَةِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى اسْمِ جِنْسٍ أَوْ بُيِّنَتْ بِهِ عُلِمَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَا زَادَ كَلِمَةَ (شَيْءٍ) قَبْلَ اسْمِ ذَلِكَ الْجِنْسِ إِلَّا لِقَصْدِ التَّقْلِيلِ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُتَكَلِّمُ بَعْدَهَا لَوْ شَاءَ الْمُتَكَلِّمُ لَأَغْنَى غَنَاءَهَا، فَمَا ذَكَرَ كَلِمَةَ شَيْءٍ إِلَّا وَالْقَصْدُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ تَنْكِيرَ اسْمِ الْجِنْسِ لَيْسَ لِلتَّعْظِيمِ وَلَا لِلتَّنْوِيعِ، فَبَقِيَ لَهُ الدَّلَالَةُ عَلَى التَّحْقِيرِ وَهَذَا كَقَوْلِ السَّرِيِّ مُخَاطِبًا لِأَبِي إِسْحَاقَ الصَّابِي:
فَشَيْئًا مِنْ دَمِ الْعُنْقُو | دِ أَجْعَلُهُ مَكَانَ دَمِي (١) |
فَلَا تَطْمَعْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ فِيهَا | وَمَنَعُكَهَا بِشَيْءٍ يُسْتَطَاعُ |
وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْمُقَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [الْبَقَرَة: ١٧٨] فَهُوَ الدِّيَةُ عَلَى بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَوْ هُوَ الْعَفْوُ عَلَى تَفْسِيرٍ آخَرَ، وَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي ربيعَة:
وَمن ماليء عَيْنَيْهِ مِنْ شَيْءِ غَيْرِهِ | إِذَا رَاحَ نَحْوَ الْجَمْرَةِ الْبَيْضُ كَالدُّمَى |
وَقَوْلِ أَبَى حَيَّةَ النُّمَيْرِيِّ:
إِذَا مَا تَقَاضَى الْمَرْءَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ | تَقَاضَاهُ شَيْءٌ لَا يَمَلُّ التَّقَاضِيَا |
مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [آل عمرَان: ١٠] أَيْ مِنِ الْغَنَاءِ.
_________
(١) قبل هَذَا الْبَيْت قَوْله:
أَبَا إِسْحَاق يَا سكني ألوذ بِهِ ومعتصمي أرقت دمى وأعوزني سليل الْكَرم وَالْكَرم يُرِيد أَنه احْتجم ورام شرب قَلِيل من الْخمر ليعتاض بِهِ عَمَّا ضَاعَ من دَمه فِي زَعمه.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ تَذْيِيلٌ، أَيْ كَهَذَا الْبَيَانِ الَّذِي فِيهِ تَقْرِيبُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ بَيَّنَ اللَّهُ نُصْحًا لَكُمْ، رَجَاءَ تَفَكُّرِكُمْ فِي الْعَوَاقِبِ حَتَّى لَا تَكُونُوا عَلَى غَفْلَةٍ. وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ نَحْوُ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣].
[٢٦٧]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٦٧]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
إِفْضَاءٌ إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالصَّدَقَاتِ بَعْدَ أَنْ قُدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَوَاعِظُ وترغيب وتحذير. وَهِي طَرِيقَةٌ بَلَاغِيَّةٌ فِي الْخَطَابَةِ وَالْخِطَابِ. فَرُبَّمَا قَدَّمُوا الْمَطْلُوب ثمَّ جاؤوا بِمَا يُكْسِبُهُ قَبُولًا عِنْدَ السَّامِعِينَ، وَرُبَّمَا قَدَّمُوا مَا يُكْسِبُ الْقَبُولَ قَبْلَ الْمَقْصُودِ كَمَا هُنَا. وَهَذَا مِنِ ارْتِكَابِ خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي تَرْتِيبِ الْجُمَلِ، وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ
التَّرْغِيبُ فِي الصَّدَقَةِ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ فَصَارَ غَرَضًا دِينِيًّا مَشْهُورًا، وَكَانَ الِاهْتِمَامُ بِإِيضَاحِهِ وَالتَّرْغِيبُ فِي أَحْوَالِهِ وَالتَّنْفِيرُ مِنْ نَقَائِصِهِ أَجْدَرَ بِالْبَيَانِ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ فِي خُطْبَتِهِ الَّتِي خَطَبَهَا حِينَ دَخَلَ سُفْيَانُ الْغَامِدِيُّ- أَحَدَ قُوَّادِ أَهْلِ الشَّامِ- بَلَدَ الْأَنْبَارِ- وَهِيَ مِنَ الْبِلَادِ الْمُطِيعَةِ لِلْخَلِيفَةِ عَلِيٍّ- وَقَتَلُوا عَامِلَهَا حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ الْجِهَادَ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ الْبَلَاءُ، وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ، وَسِيمَ الْخَسْفَ، وَمُنِعَ النَّصَفَ. أَلَا وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَن يغزوكم، فو الله مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذُلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ. هَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَردت خيله الأنباء» إِلَخ. وَانْظُرْ كَلِمَةَ «الْجِهَادِ» فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ فَلَعَلَّ أَصْلَهَا الْقِتَالُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ فَحَرَّفَهَا قَاصِدٌ أَوْ غَافِلٌ وَلَا إِخَالُهَا تَصْدُرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَ (ثُمَّ) لِتَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ دَالَّةٌ عَلَى تَرَاخِي الرُّتْبَةِ. وَمَعْنَى تَرَاخِي الرُّتْبَةِ كَوْنُ رُتْبَةِ مَعْطُوفِهَا أَعْظَمَ مِنْ رُتْبَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ. وَهُوَ غَيْرُ التَّرَاخِي الْمَجَازِيِّ، لِأَنَّ التَّرَاخِي الْمَجَازِيَّ أَنْ يُشَبَّهَ مَا لَيْسَ بِمُتَأَخِّرٍ عَنِ الْمَعْطُوفِ بِالْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ.
وَهَذَا كُلُّهُ وَعِيدٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ يَنْهَزِمُونَ، وَإِغْرَاءٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِقِتَالِهِمْ.
[١١٢]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١١٢]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ.
يَعُودُ ضَمِيرُ (عَلَيْهِمْ) إِلَى وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: ١١٠] وَهُوَ خَاصٌّ بِالْيَهُودِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ.
وَالْجُمْلَةُ بَيَانِيَّةٌ لِذِكْرِ حَالٍ شَدِيدٍ مِنْ شَقَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَمَعْنَى ضَرْبِ الذِّلَّةِ اتِّصَالُهَا بِهِمْ وَإِحَاطَتُهَا، فَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَتَبَعِيَّةٌ شُبِّهَتِ الذِّلَّةُ، وَهِيَ أَمر مَعْقُول، بَقِيَّة أَوْ خَيْمَةٍ شَمِلَتْهُمْ وَشُبِّهَ اتِّصَالُهَا وَثَبَاتُهَا بِضَرْبِ الْقُبَّةِ وَشَدِّ أَطْنَابِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْبَقَرَةِ.
وثُقِفُوا فِي الْأَصْلِ أُخِذُوا فِي الْحَرْبِ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [الْأَنْفَال: ٥٧] وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنٍ مِنْ أَخْذِ الشَّيْءِ، وَتَصَرُّفٍ فِيهِ بِشِدَّةٍ، وَمِنْهَا سُمِّيَ الْأَسْرُ ثِقَافًا، وَالثِّقَافُ آلَةٌ كَالْكَلُّوبِ تُكْسَرُ بِهِ أَنَابِيبُ قَنَا الرِّمَاحِ. قَالَ النَّابِغَة:
عضّ الشّقاف عَلَى صُمِّ الْأَنَابِيبِ وَالْمَعْنَى هُنَا: أَيْنَمَا عُثِرَ عَلَيْهِمْ، أَوْ أَيْنَمَا وُجِدُوا، أَيْ هُمْ لَا يُوجَدُونَ إِلَّا مَحْكُومِينَ،
شَبَّهَ حَالَ مُلَاقَاتِهِمْ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ بِحَالِ أَخْذِ الْأَسِيرِ لِشِدَّةِ ذُلِّهِمْ.
كِنَائِيًّا بِوَاسِطَتَيْنِ. وَالْمَلَامُ مُتَوَجِّهٌ لِلْفَرِيقَيْنِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ رِئَاءً، لِقَوْلِهِ: لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ عَلَى عَكْسِ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ السَّابِقِ.
وَجُمْلَةُ: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَهِيَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالْجَزَاءِ عَلَى سوء أَعْمَالهم.
[٤٠]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٤٠]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)
اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ أَنْ وَصَفَ حَالَهُمْ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ، وَأَرَاهُمْ تَفْرِيطَهُمْ مَعَ سُهُولَةِ أَخْذِهِمْ بِالْحَيْطَةِ لِأَنْفُسِهِمْ لَوْ شَاءُوا، بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ الْقَلِيلِ، بَلْهَ الظُّلْمِ الشَّدِيدِ، فَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِوَعِيدٍ مَحْذُوفٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِقَابِ، وَأَنَّهُ فِي حَقِّهِمْ عَدْلٌ، لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهُ بِكُفْرِهِمْ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْمُقَدَّرِ أَيْضًا مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً وَلَمَّا كَانَ الْمَنْفِيُّ الظُّلْمَ، عَلَى أَنَّ (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) تَقْدِيرٌ لِأَقَلِّ ظُلْمٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ الْمُسِيءَ بِأَكْثَرِ مِنْ جَزَاءِ سَيِّئَتِهِ.
وَانْتَصَبَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، أَيْ لَا يَظْلِمُ ظُلْمًا مُقَدَّرًا بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَالْمِثْقَالُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الثِّقَلُ، فَلِذَلِكَ صِيغَ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْآلَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمِقْدَارُ.
وَالذَّرَّةُ تُطْلَقُ عَلَى بَيْضَةِ النَّمْلَةِ، وَعَلَى مَا يَتَطَايَرُ مِنَ التُّرَابِ عِنْدَ النَّفْخِ، وَهَذَا أَحْقَرُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ، فُعُلِمَ انْتِفَاءُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ بِالْأَوْلَى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ حَسَنَةً- بِالرَّفْعِ- عَلَى أَنَّ (تَكُ) مُضَارِعُ كَانَ التَّامَّةِ، أَيْ إِنْ تُوجَدْ حَسَنَةٌ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِنَصْبِ
- حَسَنَةً عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِ تَكُ عَلَى اعْتِبَارِ كَانَ نَاقِصَةً، وَاسْمُ كَانَ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَجِيءَ بِفِعْلِ الْكَوْنِ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمُؤَنَّثِ مُرَاعَاةً لفظ ذَرَّةٍ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ مِثْقَالُ، لِأَنَّ لَفْظَ مِثْقَالَ مُبْهَمٌ لَا يُمَيِّزُهُ إِلَّا لَفْظُ ذَرَّةٍ فَكَانَ كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ.
مِنِ اعْتِقَادِ قُدَمَاءِ الْإِلَهِيِّينَ مِنْ نَصَارَى الْيُونَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (ثَالُوثٌ)، أَيْ أَنَّهُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا الْجَوْهَرُ مَجْمُوعُ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ، وَاحِدُهَا أُقْنُومٌ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونُ الْقَافِ-. قَالَ فِي «الْقَامُوسِ» : هُوَ كَلِمَةٌ رُومِيَّةٌ، وَفَسَّرَهُ الْقَامُوسُ بِالْأَصْلِ، وفسّره التفتازانيّ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» بِالصِّفَةِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ مُعَرَّبُ كَلِمَةِ (قَنُومَ بِقَافٍ مُعَقَّدٍ عَجَمِيٍّ) وَهُوَ الِاسْمُ، أَيِ (الْكَلِمَةُ). وَعَبَّرُوا عَنْ مَجْمُوعِ الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ بِعِبَارَةٍ (آبَا- ابْنَا- رُوحَا قُدُسَا) وَهَذِهِ الْأَقَانِيمُ يَتَفَرَّعُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ: فَالْأُقْنُومُ الْأَوَّلُ أُقْنُومُ الذَّاتِ أَوِ- الْوُجُودِ الْقَدِيمِ وَهُوَ الْأَبُ وَهُوَ أَصْلُ الْمَوْجُودَاتِ.
وَالْأُقْنُومُ الثَّانِي أُقْنُومُ الْعِلْمِ، وَهُوَ الِابْنُ، وَهُوَ دُونُ الْأُقْنُومِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهُ كَانَ تَدْبِيرُ جَمِيعِ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ.
وَالْأُقْنُومُ الثَّالِثُ أُقْنُومُ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَهُوَ صِفَةُ الْحَيَاةِ، وَهِيَ دُونُ أُقْنُومِ الْعِلْمِ وَمِنْهَا كَانَ إِيجَادُ عَالَمِ الْمَحْسُوسَاتِ.
وَقَدْ أَهْمَلُوا ذِكْرَ صِفَاتٍ تَقْتَضِيهَا الْإِلَهِيَّةُ، مِثْلَ الْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ، وَتَرَكُوا صِفَةَ الْكَلَامِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَتَأَوَّلُوا مَا يَقَعُ فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فَسَمُّوا أُقْنُومَ
الذَّاتِ بِالْأَبِ، وَأُقْنُومَ الْعِلْمِ بِالِابْنِ، وَأُقْنُومَ الْحَيَاةِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ، لِأَنَّ الْإِنْجِيلَ أَطْلَقَ اسْمَ الْأَبِ عَلَى اللَّهِ، وَأَطْلَقَ اسْمَ الِابْنِ عَلَى الْمَسِيحِ رَسُولِهِ، وَأَطْلَقَ الرُّوحَ الْقُدُسَ عَلَى مَا بِهِ كُوِّنَ الْمَسِيحُ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ، عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُنَبِّهُوا عَلَى أَنَّ أُقْنُومَ الْوُجُودِ هُوَ مُفِيضُ الْأُقْنُومَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَرَامُوا أَنْ يَدُلُّوا عَلَى عَدَمِ تَأَخُّرِ بَعْضِ الصِّفَاتِ عَنْ بَعْضٍ فَعَبَّرُوا بِالْأَبِ وَالِابْنِ، (كَمَا عَبَّرَ الْفَلَاسِفَةُ الْيُونَانُ بِالتَّوَلُّدِ). وَسَمُّوا أُقْنُومَ الْعِلْمِ بِالْكَلِمَةِ لِأَنَّ مِنْ عِبَارَاتِ الْإِنْجِيلِ إِطْلَاقَ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمَسِيحِ، فَأَرَادُوا أَنَّ الْمَسِيحَ مَظْهَرُ عِلْمِ اللَّهِ، أَيْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَيُبَلِّغُهُ، وَهُوَ مَعْنَى الرِّسَالَةِ إِذْ كَانَ الْعِلْمُ يَوْمَ تَدْوِينِ الْأَنَاجِيلِ مُكَلَّلًا بِالْأَلْفَاظِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ لِلْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ الرُّومِيَّةِ، فَلَمَّا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمُ الْمَعَانِي أَخَذُوا بِالظَّوَاهِرِ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْأَرْبَابَ ثَلَاثَةٌ وَهَذَا أَصْلُ النَّصْرَانِيَّةِ، وَقَارَبُوا عَقِيدَةَ الشِّرْكِ.
لِيَكُونَ آيَةً لِلتَّوْحِيدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩٦]. قَالُوا: إِنَّهُ عَلَمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْكَعْبِ، وَهُوَ النُّتُوءُ وَالْبُرُوزُ، وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ سَمَّوْا كُلَّ بَارِزٍ كَعْبَةً، تَشْبِيهًا بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ، إِذْ كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ عِنْدَهُمْ، وَكَانُوا مِنْ قَبْلِهِ أَهْلَ خِيَامٍ، فَصَارَ الْبَيْتُ مَثَلًا يُمَثَّلُ بِهِ كُلُّ بَارِزٍ. وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْكَعْبَةِ عَلَى (الْقَلِيسِ) الَّذِي بَنَاهُ الْحَبَشَةُ فِي صَنْعَاءَ، وَسَمَّاهُ بَعْضُ الْعَرَبِ الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةَ، وَعَلَى قُبَّةِ نَجْرَانَ الَّتِي أَقَامَهَا نَصَارَى نَجْرَانَ لِعِبَادَتِهِمُ الَّتِي عَنَاهَا الْأَعْشَى فِي قَوْلِهِ:
فَكَعْبَةُ نَجْرَانَ حَتْمٌ عَلَيْكَ | حَتَّى تُنَاخِي بِأَبْوَابِهَا |
وَقَوْلُهُ: الْبَيْتَ الْحَرامَ بَيَانٌ لِلْكَعْبَةِ. قُصِدَ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ التَّنْوِيهُ وَالتَّعْظِيمُ، إِذْ شَأْنُ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ مُوَضِّحًا لِلْمُبَيَّنِ بِأَنْ يَكُونَ أَشْهَرَ مِنَ الْمُبَيِّنِ. وَلَمَّا كَانَ اسْمُ الْكَعْبَةِ مُسَاوِيًا لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فَقَدْ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْكَعْبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة: ٢] فَتَعَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ الْبَيَانِ لِلتَّعْظِيمِ، فَإِنَّ الْبَيَانَ يَجِيءُ لِمَا يَجِيءُ لَهُ النَّعْتُ مِنْ تَوْضِيحٍ وَمَدْحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى التَّعْظِيمِ هُوَ مَا فِيهِ مِنْ لَمْحِ مَعْنَى الْوَصْفِ بِالْحَرَامِ قَبْلَ التَّغْلِيبِ. وَذَكَرَ الْبَيْتَ هُنَا لِأَنَّ هَذَا الْمَوْصُوفَ مَعَ هَذَا الْوَصْفِ صَارَا عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْكَعْبَةِ.
وَالْحَرَامُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ حَرُمَ إِذَا مُنِعَ، وَمَصْدَرُهُ الْحَرَامُ، كَالصَّلَاحِ مِنْ صَلُحَ، فَوَصْفُ شَيْءٍ بِحَرَامٍ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ مَمْنُوعًا. وَمَعْنَى وَصْفِ الْبَيْتِ بِالْحَرَامِ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ فَهُوَ مُحْتَرَمٌ عَظِيمُ الْمَهَابَةِ. وَذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ تَحْجِيرَ وُقُوعِ الْمَظَالِمِ وَالْفَوَاحِشِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُقَالُ رَجُلٌ حَرَامٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١]، وَأَنَّهُ يُقَالُ: شَهْرٌ حَرَامٌ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ [الْمَائِدَة:
٢] فِيهَا أَيْضًا، فَيُحْمَلُ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ بِحَسَبِ الْمَوْصُوفِ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ،
وَهُوَ فِي كُلِّ مَوْصُوفٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يُتَجَنَّبُ جَانِبُهُ، فَيَكُونُ تَجَنُّبُهُ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ مَهَابَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيَكُونُِِ
فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ يُخْلَقُ خِلْقَةً مُنَاسِبَةً لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ إِرْسَالِهِ، وَاللَّهُ حِينَ خَلَقَهُ عَالِمٌ بِأَنَّهُ سَيُرْسِلُهُ، وَقَدْ يَخْلُقُ اللَّهُ نُفُوسًا صَالِحَةً لِلرِّسَالَةِ وَلَا تَكُونُ حِكْمَةٌ فِي إِرْسَالِ أَرْبَابهَا، فالاستعداد مهيّيء لِاصْطِفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مُوجِبًا لَهُ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الِاسْتِعْدَادَ الذَّاتِيَّ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلرِّسَالَةِ خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ، وَلَعَلَّ مُرَادَ الْفَلَاسِفَةِ لَا يَبْعُدُ عَنْ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ سِينَا فِي «الْإِشَارَاتِ» إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي النَّمَطِ التَّاسِعِ.
وَفِي قَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ بَيَانٌ لِعَظِيمِ مِقْدَار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْبِيهٌ لِانْحِطَاطِ نُفُوسِ سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ نَوَالِ مَرْتَبَةِ النُّبُوءَةِ وَانْعِدَامِ اسْتِعْدَادِهِمْ، كَمَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ «لَيْسَ بِعُشِّكِ فَادْرُجِي».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رِسالاتِهِ- بِالْجَمْعِ- وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- بِالْإِفْرَادِ- وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ الْجِنْسَ اسْتَوَى الْجَمْعُ وَالْمُفْرَدُ.
سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ.
اسْتِئْنَاف ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: لِيَمْكُرُوا فِيها [الْأَنْعَام: ١٢٣] وَهُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ.
فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ أَجْرَمُوا أَكَابِرُ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بِما كانُوا يَمْكُرُونَ فَإِنَّ صِفَةَ الْمَكْرِ أُثْبِتَتْ لِأَكَابِرِ الْمُجْرِمِينَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَذِكْرُهُمْ بِ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: سَيُصِيبُهُمْ صَغَارٌ، وَإِنَّمَا خُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ
وَالنَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِ شَجَرَةٍ خَاصَّةٍ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيَ ابْتِلَاءٍ. جَعَلَ اللَّهُ شَجَرَةً مُسْتَثْنَاةً مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ مِنِ الْإِذْنِ بِالْأَكْلِ مِنْهَا تَهْيِئَةً لِلتَّكْلِيفِ بِمُقَاوَمَةِ الشَّهْوَةِ لِامْتِثَالِ النَّهْيِ. فَلِذَلِكَ جَعَلَ النَّهْيَ عَنْ تَنَاوُلِهَا مَحْفُوفَةً بِالْأَشْجَارِ الْمَأْذُونِ فِيهَا لِيَلْتَفِتَ إِلَيْهَا ذِهْنُهُمَا بِتَرْكِهَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِيَتَكَوَّنَ مُخْتَلَفُ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ فِي عَقْلِ النَّوْعِ بِتَأْسِيسِهَا فِي أَصْلِ النَّوْعِ، فَتَنْتَقِلُ بَعْدَهُ إِلَى نَسْلِهِ، وَذَلِكَ مِنَ اللُّطْفِ الْإِلَهِيِّ فِي تَكْوِينِ النَّوْعِ وَمِنْ مَظَاهِرِ حَقِيقَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمَرْبُوبِيَّةِ، حَتَّى تَحْصُلَ جَمِيعُ الْقُوَى بِالتَّدْرِيجِ فَلَا يَشُقُّ وَضْعُهَا دُفْعَةً عَلَى قَابِلِيَّةِ الْعَقْلِ، وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ آدَمَ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُ خَاطِرُ الْمُخَالَفَةِ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، فَأَعْقَبَهُ الْأَكْلُ حُدُوثَ خَاطِرِ الشُّعُورِ بِمَا فِيهِ من نقايص أَدْرَكَهَا بِالْفِطْرَةِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ زَالَتْ مِنْهُ الْبَسَاطَةُ وَالسَّذَاجَةُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي طَبْعِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ أَنْ تُثِيرَ فِي النَّفْسِ عِلْمَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ نَهَاهُ عَنْ أَكْلِ شَجَرَةِ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهَذَا- عِنْدِي- بِعِيدٌ، وَإِنَّمَا حَكَى اللَّهُ لَنَا هَيْئَةَ تَطَوُّرِ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ فِي خِلْقَةِ أَصْلِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ نَظِيرَ صُنْعِهِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَة: ٣١].
وَالْإِشَارَةُ إِلَى شَجَرَةٍ مُشَاهَدَةٌ وَقَدْ رُوِيَتْ رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ فِي تَعْيِينِ نَوْعِهَا وَذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَانْتَصَبَ: فَتَكُونا عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَالْكَوْنُ مِنَ الظَّالِمِينَ مُتَسَبِّبٌ عَلَى الْقُرْبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لَا عَلَى النَّهْيِ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي النَّصْبِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ كَجَوَابِ النَّفْيِ، أَنْ يُعْتَبَرَ التَّسَبُّبُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ أَوِ الْمَنْهِيِّ، بِخِلَافِ الْجَزْمِ فِي جَوَابِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُجْزَمُ الْمُسَبَّبُ عَلَى إِنْشَاءِ النَّهْيِ لَا عَلَى الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ النَّصْبَ عَلَى اعْتِبَارِ التَّسَبُّبِ، وَالتَّسَبُّبُ يَنْشَأُ عَنِ الْفِعْلِ لَا عَنِ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ بِخِلَافِ الْجَزْمِ فَإِنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْجَوَابِ، تَشْبِيهًا بِالشَّرْطِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ مَعْنَى إِنْشَاءِ النَّهْيِ تَشْبِيهًا لِلْإِنْشَاءِ بِالِاشْتِرَاطِ.
كُلَّ يَدٍ وَكُلَّ رِجْلٍ مِنْ أَيْدِي وَأَرْجُلِ السَّحَرَةِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ خِلافٍ ابْتِدَائِيَّةٌ لِبَيَانِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُضْوِ الثَّانِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَظِيرِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٣٣]. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَقْطَعُ مِنْ كُلِّ سَاحِرٍ يَدًا وَرِجْلًا مُتَخَالِفَتِيِ الْجِهَةِ غَيْرَ مُتَقَابِلَتَيْهَا، أَيْ: إِنْ قَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى قَطَعَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَالْعَكْسُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْطَعِ الْقَوَائِمَ الْأَرْبَعَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَقَاءُ الشَّخْصِ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْمَشْيِ مُتَوَكِّئًا عَلَى عُودٍ تَحْتَ الْيَدِ مِنْ جِهَةِ الرِّجْلِ الْمَقْطُوعَةِ.
وَدَلَّتْ ثُمَّ عَلَى الِارْتِقَاءِ فِي الْوَعيد بالثلب، وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الصَّلْبَ أَنْ يُقْتَلَ الْمَرْءُ
مَشْدُودًا عَلَى خَشَبَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٥٧]، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَوَعَّدَهُمْ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ. وَالْوَعِيدُ مُوَجَّهٌ إِلَى جَمَاعَتِهِمْ فَعُلِمَ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ يُعَذَّبُ بِالْقَطْعِ مِنْ خِلَافٍ، وَفَرِيقٌ يُعَذَّبُ بِالصَّلْبِ وَالْقَتْلِ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ يَصْلُبُهُمْ بَعْدَ أَنْ يُقَطِّعَهُمْ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْيِيدِ الْقَطْعِ بِكَوْنِهِ مِنْ خِلَافٍ حِينَئِذٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالصَّلْبِ: الصَّلْبُ دُونَ قَتْلٍ، فَيَكُونُ أَرَادَ صَلْبَهُمْ بَعْدَ الْقَطْعِ لِيَجْعَلَهُمْ نَكَالًا يَنْذَعِرُ بِهِمُ النَّاسُ، كَيْلَا يَقْدَمَ أَحَدٌ عَلَى عِصْيَانِ أَمْرِهِ مِنْ بَعْدُ، فَتَكُونُ (ثُمَّ) دَالَّةً عَلَى التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ، وَلَعَلَّ الْمُهْلَةَ قَصَدَ مِنْهَا مُدَّةَ كَيِّ وَانْدِمَالِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: أَجْمَعِينَ الْمُفِيدِ أَنَّ الصَّلْبَ يَنَالُهُمْ كُلَّهُمْ.
وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ.
وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا. وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ وَعِيدِ فِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ وَعِيدٌ لَا يُضِيرُهُمْ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ رَبِّ الْجَمِيعِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْجَوَابُ مُوجَزًا إِيجَازًا بَدِيعًا لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ يَرْجُونَ ثَوَابَ اللَّهِ عَلَى مَا يَنَالُهُمْ مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ، وَيَرْجُونَ مِنْهُ مَغْفِرَةَ ذُنُوبِهِمْ، وَيَرْجُونَ الْعِقَابَ لِفِرْعَوْنَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالصَّلْبِ الْقَتْلَ وَكَانَ الْمُرَادُ تَهْدِيدَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ قَوْلُهُمْ: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ تَشَوُّقًا إِلَى حُلُولِ ذَلِكَ بِهِمْ مَحَبَّةً لِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ أَكْسَبَهُمْ مَحَبَّةَ لِقَائِهِ، ثُمَّ بَيَّنُوا أَنَّ عِقَابَ فِرْعَوْنَ لَا غَضَاضَةَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ جِنَايَةٍ تَصِمُهُمْ بَلْ كَانَ عَلَى الْإِيمَانِ بِآيَاتِ لَمَّا ظَهَرَتْ لَهُمْ. أَيْ: فَإِنَّكَ لَا
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا يُفِيدُ تَوْهِينًا لِشَأْنِ الْمُشْرِكِينَ، فَتَعْقِيبُهُ بِالْأَمْرِ بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُمْ: لِئَلَّا يَحْسَبَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ صَارُوا فِي مُكْنَتِهِمْ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الِاحْتِرَاسِ أَنَّ الِاسْتِعْدَادَ لَهُمْ هُوَ سَبَبُ جَعْلِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لَا يُعْجِزُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ هَيَّأَ أَسْبَابَ اسْتِئْصَالِهِمْ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا.
وَالْإِعْدَادُ التَّهْيِئَةُ وَالْإِحْضَارُ، وَدَخَلَ فِي مَا اسْتَطَعْتُمْ كُلُّ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ النَّاسِ اتِّخَاذُهُ مِنَ الْعُدَّةِ.
وَالْخِطَابُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَوُلَاةِ الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ مَا يُرَادُ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِنَّمَا يَقُومُ بِتَنْفِيذِهِ وُلَاةُ الْأُمُورِ الَّذِينَ هُمْ وُكَلَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى مَصَالِحِهَا.
وَالْقُوَّةُ كَمَالُ صَلَاحِيَةِ الْأَعْضَاءِ لِعَمَلِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [الْأَنْفَال: ٥٢] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَتُطْلَقُ الْقُوَّةُ مَجَازًا عَلَى شِدَّةِ تَأْثِيرِ شَيْءِ ذِي أَثَرٍ، وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى سَبَبِ شِدَّةِ التَّأْثِيرِ، فَقُوَّةُ الْجَيْشِ شِدَّةُ وَقْعِهِ عَلَى الْعَدُوِّ، وَقُوَّتُهُ أَيْضًا سِلَاحُهُ وَعَتَادُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ بِوَاسِطَتَيْنِ، فَاتِّخَاذُ السُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالْأَقْوَاسِ وَالنِّبَالِ مِنَ الْقُوَّةِ فِي جُيُوشِ الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ، وَاتِّخَاذُ الدَّبَّابَاتِ وَالْمَدَافِعِ وَالطَّيَّارَاتِ وَالصَّوَارِيخِ مِنَ الْقُوَّةِ فِي جُيُوشِ عَصْرِنَا. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُفَسَّرُ مَا
رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ قَالَ «أَلَا
إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»
قَالَهَا ثَلَاثًا، أَيْ أَكْمَلُ أَفْرَادِ الْقُوَّةِ آلَةُ الرَّمْيِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ الْقُوَّةِ فِي آلَةِ الرَّمْيِ.
وَعَطْفُ رِباطِ الْخَيْلِ عَلَى الْقُوَّةِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِلِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْخَاصِّ.
وَالرِّبَاطُ صِيغَةُ مُفَاعَلَةٍ أُتِيَ بِهَا هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ لِتَدُلَّ عَلَى قَصْدِ الْكَثْرَةِ مِنْ رَبْطِ الْخَيْلِ لِلْغَزْوِ، أَيِ احْتِبَاسُهَا وَرَبْطُهَا انْتِظَارًا لِلْغَزْوِ عَلَيْهَا،
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنِ ارْتَبَطَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ رَوَثُهَا وَبَوْلُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ»
الْحَدِيثَ. يُقَالُ: رَبَطَ الْفَرَسَ إِذَا شَدَّهُ فِي مَكَانِ حِفْظِهِ، وَقَدْ سَمَّوُا الْمَكَانَ الَّذِي تُرْتَبَطُ فِيهِ الْخَيْلُ
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١٢٠]
مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠)اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِإِيجَابِ الْغَزْوِ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ بَادِيَتِهَا الْحَافِّينَ بِالْمَدِينَةِ إِذَا خَرَجَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْغَزْوِ. فَهَذَا وُجُوبٌ عَيْنِيٌّ عَلَى هَؤُلَاءِ شَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ جَعَلَهُمْ جُنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَرَسَ ذَاتِهِ.
وَالَّذِينَ هُمْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَعْرَابِ هُمْ: مُزَيْنَةُ، وَأَشْجَعُ، وَغِفَارٌ، وَجُهَيْنَةُ، وَأَسْلَمُ.
وَصِيغَةُ مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ الْأَمْرِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، إِذْ جُعِلَ التَّخَلُّفُ لَيْسَ مِمَّا ثَبَتَ لَهُمْ، فَهُمْ بُرَآءُ مِنْهُ فَيَثْبُتُ لَهُمْ ضِدُّهُ وَهُوَ الْخُرُوجُ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا.
فِيهِ ثَنَاءٌ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ لِمَا قَامُوا بِهِ مِنْ غَزْوِ تَبُوكَ، فَهُوَ يَقْتَضِي تَحْرِيضَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ إِلَخْ.
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ تَخَلَّفُوا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنَ الْأَعْرَابِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ النَّفِيرِ عَلَيْهِمْ إِذَا خَرَجَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْغَزْوِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ: هَذَا الْحُكْمُ خَاصٌّ بِخُرُوجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ فَهُوَ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ بَطَّالٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: كَانَ هَذَا حُكْمًا عَامًّا فِي قِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَاحْتِيَاجِهِ إِلَى كَثْرَةِ الْغُزَاةِ ثُمَّ نُسِخَ لَمَّا قَوِيَ الْإِسْلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التَّوْبَة: ١٢٢] فَصَارَ وُجُوبُ الْجِهَادِ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا حُكْمُ مَنِ اسْتَنْفَرَهُمُ الْإِمَامُ بِالتَّعْيِينِ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لِهَؤُلَاءِ التَّخَلُّفُ لَتَعَطَّلَ الْخُرُوجُ. وَاخْتَارَهُ فَخْرُ الدِّينِ.
وَالتَّخَلُّفُ: الْبَقَاءُ فِي الْمَكَانِ بَعْدَ الْغَيْرِ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٨١].
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَإِنَّ الضَّمِيرَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَجُمْلَةُ إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ احْتِرَاسٌ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى أَنْ يَسْأَلَهُمْ مَالًا، وَالْمَالُ أَجْرٌ، نَشَأَ تَوَهُّمُ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ جَزَاءً عَلَى الدَّعْوَةِ فَجَاءَ بِجُمْلَةِ إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ احْتِرَاسًا. وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مَالًا وأَجرِيَ تُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ مِنَ اللَّهِ مَالًا وَلَكِنَّهُ يَسْأَلُ ثَوَابًا. وَالْأَجْرُ: الْعِوَضُ عَلَى عَمَلٍ. وَيُسَمَّى ثَوَابُ اللَّهِ أَجْرًا لِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَعَطَفَ جُمْلَةَ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى جملَة لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا لِأَنَّ مَضْمُونَهَا كَالنَّتِيجَةِ لِمَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا لِأَنَّ نَفْيَ طَمَعِهِ فِي الْمُخَاطَبِينَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُؤْذِي أَتْبَاعَهُ لِأَجْلِ إِرْضَاءِ هَؤُلَاءِ. وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ أَتْبَاعِهِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ
آمَنُوا
لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمَوْصُول من تَغْلِيظ قَوْمِهِ فِي تَعْرِيضِهِمْ لَهُ بِأَنْ يَطْرُدَهُمْ بِمَا أَنَّهُمْ لَا يُجَالِسُونَ أَمْثَالَهُمْ إِيذَانًا بِأَنَّ إِيمَانَهُمْ يُوجِبُ تَفْضِيلَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَالرَّغْبَةَ فِيهِمْ فَكَيْفَ يَطْرُدُهُمْ. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُمْ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا [هود: ٢٧] مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ لَا يُمَاثِلُونَهُمْ فِي مُتَابَعَتِهِ.
وَالطَّرْدُ: الْأَمْرُ بِالْبُعْدِ عَنْ مَكَانِ الْحُضُورِ تَحْقِيرًا أَوْ زَجْرًا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٢].
وَجُمْلَة إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِنَفِيَ أَنْ يَطْرُدَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ فَمُحَاسِبٌ مَنْ يَطْرُدُهُمْ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْمُلَاقَاةُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَنْتَصِرُ اللَّهُ لَهُمْ إِذَا كَانَتِ الْمُلَاقَاةُ مَجَازِيَّةً، أَوْ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ حِينَ يَحْضُرُونَ مَجْلِسَ دَعْوَتِي لِأَنِّي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى شَيْءٍ يَخُصُّنِي فَهُمْ عِنْدَ مُلَاقَاتِي كَمَنْ يُلَاقُونَ رَبَّهُمْ لِأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ. وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ
(١٠٠)
طَوَى ذِكْرَ سَفَرِهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ إِلَى دُخُولِهِمْ عَلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِذْ لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ شَيْءٌ.
وَأَبَوَاهُ أَحَدُهُمَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَالصَّحِيحُ أَنَّ أُمَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهِيَ (رَاحِيلُ) تُوُفِّيَتْ قَبْلَ ذَلِكَ حِينَ وَلَدَتْ بِنْيَامِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: أُطْلِقَ الْأَبَوَانِ عَلَى الْأَبِ زوج الْأَبِ وَهِيَ (لِيئَةُ) خَالَةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهِيَ الَّتِي تَوَلَّتْ تَرْبِيَتَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ وَالتَّنْزِيلِ.
وَإِعَادَةُ اسْمِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَجْلِ بُعْدِ الْمُعَادِ.
وَقَوْلُهُ: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ جُمْلَةٌ دِعَائِيَّةٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنْ شاءَ اللَّهُ لِكَوْنِهِمْ قَدْ دَخَلُوا مِصْرَ حِينَئِذٍ. فَالْأَمْرُ فِي ادْخُلُوا لِلدُّعَاءِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ [الْأَعْرَاف: ٤٩].
وَالْمَقْصُودُ: تَقْيِيدُ الدُّخُولِ بِ آمِنِينَ وَهُوَ مَنَاطُ الدُّعَاءِ.
وَالْأَمْنُ: حَالَةُ اطْمِئْنَانِ النَّفْسِ وَرَاحَةِ الْبَالِ وَانْتِفَاءِ الْخَوْفِ مِنْ كُلِّ مَا يُخَافُ مِنْهُ، وَهُوَ يَجْمَعُ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ الصَّالِحَةِ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الصِّحَّةِ وَالرِّزْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً إِنَّهُ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ جَمِيعَ مَا يُطْلَبُ لِخَيْرِ الْبَلَدِ.
وَجُمْلَةُ إِنْ شاءَ اللَّهُ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ كَالِاحْتِرَاسِ فِي الدُّعَاءِ الْوَارِدِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَهُوَ لِمُجَرَّدِ التَّيَمُّنِ، فَوُقُوعُهُ فِي الْوَعْدِ وَالْعَزْمِ وَالدُّعَاءِ بِمَنْزِلَةِ وُقُوعِ
وَالْجَنَّاتُ: جَمْعُ جَنَّةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥].
وَالْعُيُونُ: جَمْعُ عَيْنٍ اسْمٌ لِثُقْبٍ أَرْضِيٍّ يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْأَرْضِ. فَقَدْ يَكُونُ انْفِجَارُهَا بِدُونِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ. وَأَسْبَابُهُ كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٤]. وَقَدْ يَكُونُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ وَهُوَ التَّفْجِيرُ.
وَجُمْلَةُ ادْخُلُوها مَعْمُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ حَالًا مِنَ الْمُتَّقِينَ وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ.
وَالتَّقْدِيرُ: يُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوهَا. وَالْقَائِلُ هُوَ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ إِدْخَالِ الْمُتَّقِينَ الْجَنَّةَ.
وَالْبَاءُ مِنْ بِسَلامٍ لِلْمُصَاحَبَةِ.
وَالسَّلَامُ: التَّحِيَّةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٤].
وَالْأَمْنُ النَّجَاةُ مِنَ الْخَوْفِ.
وَجُمْلَةُ وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ عَطْفٌ عَلَى الْخَبَرِ، وَهُوَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.
وَالْغِلُّ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ- الْبُغْضُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٤٣]، أَيْ مَا كَانَ بَيْنَ بَعْضِهِمْ مِنْ غِلٍّ فِي الدُّنْيَا.
وإِخْواناً حَالٌ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ، أَيْ كَالْإِخْوَانِ، أَيْ كَحَالِ الْإِخْوَانِ فِي الدُّنْيَا.
وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومِ أَصْحَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحَوَادِثِ الدَّافِعُ إِلَيْهَا اخْتِلَافُ الِاجْتِهَادِ فِي إِقَامَةِ مَصَالِحِ
وَالْمُتْرَف: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَتْرَفَهُ إِذَا أَعْطَاهُ التُّرْفَةَ. بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- أَيِ النِّعْمَةَ. وَالْمُتْرَفُونَ هُمْ أَهْلُ النِّعْمَةِ وَسَعَةِ الْعَيْشِ، وَهُمْ مُعْظَمُ أَهْلِ الشِّرْكِ بِمَكَّةَ. وَكَانَ مُعْظَمُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ ضُعَفَاءَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمّل: ١١].
وَتَعْلِيقُ الْأَمْرِ بِخُصُوصِ الْمُتْرَفِينَ مَعَ أَنَّ الرُّسُلَ يُخَاطِبُونَ جَمِيعَ النَّاسِ، لِأَنَّ عِصْيَانَهُمُ الْأَمْرَ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِمْ هُوَ سَبَبُ فِسْقِهِمْ وَفسق بَقِيَّة قَومهمْ إِذْ هُمْ قَادَةُ الْعَامَّةِ وَزُعَمَاءُ الْكُفْرِ فَالْخِطَابُ فِي الْأَكْثَرِ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا فَسَقُوا عَنِ الْأَمْرِ اتَّبَعَهُمُ الدَّهْمَاءُ فَعَمَّ الْفِسْقُ أَوْ غَلَبَ عَلَى الْقَرْيَةِ فَاسْتَحَقَّتِ الْهَلَاكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمَرْنا
بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ آمَرْنَا بِالْمَدِّ بِهَمْزَتَيْنِ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ وَهَمْزَةِ فَاءِ الْفِعْلِ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ آمِرِينَ، أَيْ دَاعِينَ قَوْمَهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، فَسَكَنَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ فَصَارَتْ أَلِفًا تَخْفِيفًا، أَوِ الْأَلِفُ أَلِفُ الْمُفَاعَلَةِ، وَالْمُفَاعَلَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمُبَالَغَةِ، مِثْلُ عَافَاهُ اللَّهُ.
وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنْ الْمَقَرِّ وَعَنِ الطَّرِيقِ. وَالْمُرَادُ بِهِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ الْخُرُوجُ عَمَّا أَمَّرَ اللَّهُ بِهِ، وَتقدم عَنهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
والْقَوْلُ
هُوَ مَا يُبَلِّغُهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ مِنْ كَلَامٍ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ وَهُوَ قَوْلُ الْوَعِيدِ كَمَا قَالَ: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ [الصافات: ٣١].
وَالتَّدْمِيرُ: هَدْمُ الْبِنَاءِ وَإِزَالَةُ أَثَرِهِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلِاسْتِئْصَالِ إِذِ الْمَقْصُودُ إِهْلَاكُ أَهْلِهَا وَلَوْ مَعَ بَقَاءِ بِنَائِهِمْ كَمَا فِي قَوْله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: ٨٢]. وَتَقَدَّمَ التَّدْمِيرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ فِي سُورَة الْأَعْرَاف [١٣٧]. وتأكيد فَدَمَّرْناها
بِالْمَصْدَرِ مَقْصُودٌ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى عِظَمِ التَّدْمِيرِ لَا نَفْيُ احْتِمَال الْمجَاز.
عِلْمَ لَهُ إِلَّا مَا عَلَّمَهُ رَبُّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي [الْأَعْرَاف: ٢٠٣].
فَالْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ قَصَرَ الْمَوْصُوفَ عَلَى الصِّفَةِ وَهُوَ إِضَافِيٌّ لِلْقَلْبِ، أَيْ مَا أَنَا إِلَّا بَشَرٌ لَا أَتَجَاوَزُ الْبَشَرِيَّةَ إِلَى الْعِلْمِ بِالْمُغَيَّبَاتِ.
وَأُدْمِجَ فِي هَذَا أَهَمُّ مَا يُوحَى إِلَيْهِ وَمَا بُعِثَ لِأَجْلِهِ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالسَّعْيُ لِمَا فِيهِ السَّلَامَةُ عِنْدَ لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ مِنْ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ إِلَى قَوْلِهِ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الْكَهْف: ٢- ٥].
وَجُمْلَةُ يُوحى إِلَيَّ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ بَشَرٌ.
وإِنَّما مَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ أُخْتُ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ وَ (مَا) الْكَافَّةِ كَمَا رُكِّبَتْ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ فَتُفِيدُ مَا تُفِيدُهُ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةُ مِنَ الْمَصْدَرِيَّةِ، وَمَا تُفِيدُهُ (إِنَّمَا) مِنَ الْحَصْرِ، وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْهَا هُنَا قَصْرٌ إِضَافِيٌّ لِلْقَلْبِ. وَالْمَعْنَى: يُوحِي اللَّهُ إِلَيَّ تَوْحِيدَ الْإِلَهِ وَانْحِصَارَ وَصْفِهِ فِي صِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ دُونَ الْمُشَارَكَةِ.
وَتَفْرِيعُ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِ، أَيْ يُوحَى إِلَيَّ بِوَحْدَانِيَّةِ الْإِلَهِ وَبِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
فَجَاءَ النَّظْمُ بِطَرِيقَةٍ بَدِيعَةٍ فِي إِفَادَةِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ، إِذْ جَعَلَ التَّوْحِيدَ أَصْلًا لَهَا وَفُرِّعَ عَلَيْهِ الْأَصْلَانِ الْآخَرَانِ، وَأَكَّدَ الْإِخْبَارَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ وَهُوَ أُسْلُوبٌ بَدِيعٌ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيًّا عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اسْتِمَاعِ الْآيَاتِ الَّتِي وَصَفَتْ بَدْءَ الْخَلْقِ وَمَشُوبًا بِالْإِنْكَارِ عَلَى ذَلِكَ.
وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْشَأَهُمَا بَعْدَ الْعَدَمِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بَعْدَ انْعِدَامِهِ قَالَ تَعَالَى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [الْإِسْرَاء:
٩٩].
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ الْعَدَمُ وَبِالْفَتْقِ الْإِيجَادُ. وَإِطْلَاقُ الرُّؤْيَةِ عَلَى الْعِلْمِ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ ظَاهِرٌ لِأَن الرتق والفتق بِهَذَا الْمَعْنَى مُحَقَّقٌ أَمْرُهُمَا عِنْدَهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: ٢٥].
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ الظُّلْمَةُ وَبِالْفَتْقِ النُّورُ، فَالْمَوْجُودَاتُ وُجِدَتْ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيْهَا النُّورَ بِأَنْ أَوْجَدَ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ نُورًا أَضَاءَ الْمَوْجُودَاتِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ اتِّحَادُ الْمَوْجُودَاتِ حِينَ كَانَتْ مَادَّةً وَاحِدَةً أَوْ كَانَتْ أَثِيرًا أَوْ عَمَاءَ كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «كَانَ فِي عَمَاءَ»
، فَكَانَتْ جِنْسًا عَالِيًا مُتَّحِدًا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ حِينَئِذٍ كُلِّيٌّ انْحَصَرَ فِي فَرْدٍ. ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَبْعَاضًا وَجَعَلَ لِكُلِّ بَعْضٍ مُمَيِّزَاتٍ ذَاتِيَّةً فَصَيَّرَ كُلَّ مُتَمَيِّزٍ بِحَقِيقَةٍ جِنْسًا فَصَارَتْ أَجْنَاسًا. ثُمَّ خَلَقَ فِي الْأَجْنَاسِ مُمَيِّزَاتٍ بِالْعَوَارِضِ لِحَقَائِقِهَا فَصَارَتْ أَنْوَاعًا. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَسْعَدُ بِطَرِيقَةِ الْحُكَمَاءِ وَقَدِ اصْطَلَحُوا عَلَى تَسْمِيَةِ هَذَا التَّمْيِيزِ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ، وَبَعْضٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ صَاحِبُ «مِرْآةِ الْعَارِفِينَ» جَعَلَ الرَّتْقَ عَلَمًا عَلَى الْعُنْصُرِ الْأَعْظَمِ يَعْنِي الْجِسْمَ الْكُلَّ، وَالْجِسْمُ الْكُلُّ هُوَ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعَرْشِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَكِيمُ الصُّوفِيُّ لُطْفُ اللَّهِ الْأَرْضَرُومِيُّ صَاحِبُ «مَعَارِجِ النُّورِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ
وَأَنَّ الْأَفْصَحَ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مَجْرُورًا بِاللَّامِ فَيَكُونُ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ فَاعِلِ اسْمِ الْفِعْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا يَسْبِقُ (هَيْهَاتَ) مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ غَالِبًا إِلَّا بَعْدَ كَلَامٍ، وَتُجْعَلُ اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ، أَيْ إِيضَاحِ الْمُرَادِ مِنَ الْفَاعِلِ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ إِجْمَالٌ ثُمَّ تَفْصِيلٌ يُفِيدُ تَقْوِيَةَ الْخَبَرِ. وَهَذِهِ اللَّامُ تَرْجِعُ إِلَى لَامِ التَّعْلِيلِ. وَإِذَا وَرَدَ مَا بَعْدَهَا مَجْرُورًا بِ (مِنْ) فَ (مِنْ) بِمَعْنَى (عَنْ) أَيْ بَعُدَ عَنْهُ أَوْ بُعْدًا عَنْهُ.
عَلَى أَنَّهُ يجوز أَن تؤوّل (هَيْهَاتَ) مَرَّةً بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْغَالِبُ وَمَرَّةً بِالْمَصْدَرِ فَتَكُونُ اسْمُ مَصْدَرٍ مَبْنِيًّا جَامِدًا غَيْرَ مُشْتَقٍّ. وَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بِهَا كَالْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي سَلَكَهُ الزَّجَّاجُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَيُشِيرُ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ إِلَى اخْتِيَارِهِ.
وَجَاءَ هُنَا فِعْلُ تُوعَدُونَ مِنْ (أَوْعَدَ) وَجَاءَ قَبْلَهُ فِعْلُ أَيَعِدُكُمْ وَهُوَ مِنْ (وَعَدَ) مَعَ أَنَّ الْمَوْعُودَ بِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ: رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ فِي حَالِ وُجُودِهِمْ فَجُعِلَ وَعْدًا، وَالثَّانِي رَاجِعٌ إِلَى حَالَتِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالِانْعِدَامِ فَنَاسَبَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْوَعِيدِ اهـ.
وَأَقُولُ: أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ عَبَّرَ مَرَّةً بِالْوَعْدِ وَمَرَّةً بِالْوَعِيدِ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِبَاكِ، فَإِنَّ
إِعْلَامَهُمْ بِالْبَعْثِ مُشْتَمِلٌ عَلَى وَعْدٍ بِالْخَيْرِ إِنْ صَدَقُوا وَعَلَى وَعِيدٍ إِنْ كَذَبُوا، فَذُكِرَ الْفِعْلَانِ عَلَى التَّوْزِيعِ إِيجَازًا.
وَقَوْلُهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلِاسْتِبْعَادِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ:
هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ وَاسْتِدْلَالًا وَتَعْلِيلًا لَهُ، وَلِكِلَا الْوَجْهَيْنِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَضَمِيرُ هِيَ عَائِدٌ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ فِي الْكَلَامِ بَلْ عَائِدٌ عَلَى مَذْكُورٍ بَعْدَهُ قَصْدًا لِلْإِبْهَامِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِيَتَمَكَّنِ الْمَعْنَى فِي ذِهْنِ السَّامِعِ. وَهَذَا مِنْ مَوَاضِعِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى مَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ مَا بَعْدَهُ بَيَانًا لَهُ، وَلِذَلِكَ يُجْعَلُ
كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [الْفرْقَان: ٢٢] وَلَا دَاعِيَ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنِ اسْتِعْمَالِ حِجْراً مَحْجُوراً فِي التَّعَوُّذِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا كَذَلِك.
[٥٤]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٥٤]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤)
مُنَاسِبَةُ مَوْقِعِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بَعْدَ مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِدَقِيقِ آثَارِ الْقُدْرَةِ فِي تَكْوِينِ الْمِيَاهِ وَجَعْلِهَا سَبَبَ حَيَاةٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ وَالْأَوْضَاعِ. وَمِنْ أَعْظَمِهَا دَقَائِقُ الْمَاءِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ أَشْرَفُ الْأَنْوَاعِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ نُطْفَةُ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهَا سَبَبُ تَكْوِينِ النَّسْلِ لِلْبَشَرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوَّلَ أَمْرِهِ مَاءً ثُمَّ يَتَخَلَّقُ مِنْهُ الْبَشَرُ الْعَظِيمُ، فَالتَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ بَشَراً لِلتَّعْظِيمِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ من تَعْرِيف الجزءين قَصْرُ إِفْرَادٍ لِإِبْطَالِ دَعْوَى شَرِكَةِ الْأَصْنَامِ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَالْبَشَرُ: الْإِنْسَانُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [١٧]. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي فَجَعَلَهُ عَائِدٌ إِلَى الْبَشَرِ، أَيْ فَجَعَلَ الْبَشَرَ الَّذِي خَلَقَهُ مِنَ الْمَاءِ نَسَبًا وَصِهْرًا، أَيْ قَسَّمَ اللَّهُ الْبَشَرَ قِسْمَيْنِ: نَسَبٍ، وَصِهْرٍ. فَالْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ بِمَعْنَى (أَوْ) وَالْوَاوُ أَجْوَدُ مِنْ (أَوْ) فِي التَّقْسِيمِ.
ونَسَباً وَصِهْراً مَصْدَرَانِ سُمِّيَ بِهِمَا صِنْفَانِ مِنَ الْقَرَابَةِ عَلَى تَقْدِيرِ: ذَا نَسَبٍ وَصِهْرٍ وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ.
وَالنَّسَبُ لَا يَخْلُو مِنْ أُبُوَّةٍ وَبُنُوَّةٍ وَأُخُوَّةٍ لِأُولَئِكَ وَبُنُوَّةٍ لِتِلْكَ الْأُخُوَّةِ.
وَأَمَّا الصِّهْرُ فَهُوَ: اسْمٌ لِمَا بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ قَرَابَةِ زَوْجِهِ وَأَقَارِبِهِ مِنَ الْعَلَاقَةِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا مُصَاهَرَةً لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَهُوَ آصِرَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ تَتَقَوَّمُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، فَصِهْرُ الرَّجُلِ قَرَابَةُ امْرَأَتِهِ، وَصِهْرُ الْمَرْأَةِ قَرَابَةُ زَوْجِهَا، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: صَاهَرَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا تَزَوَّجَ مِنْ قَرَابَتِهِ وَلَوْ قَرَابَةً بَعِيدَةً كَقَرَابَةِ الْقَبِيلَةِ. وَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْبَشَرُ الْمُتَزَوِّجُ وَغَيْرُ الْمُتَزَوِّجِ.
وَيُطْلَقُ الصِّهْرُ على مَعَ لَهُ مَنْ الْآخَرِ عَلَاقَةُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ فِي
أُصُولِ الْإِسْلَامِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالْوَعِيدِ بِأَفَانِينَ مِنَ التَّصْرِيحِ وَالتَّضَمُّنِ وَالتَّعْرِيضِ بِأَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ السَّالِفِينَ مُفَصَّلًا ذَلِكَ تَفْصِيلًا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [النَّمْل: ١، ٢] إِلَى هُنَا، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ إِلْحَافُهُمْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ أَوْ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ أَجَلَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النَّمْل: ٧١].
وَأَتَتْ عَلَى دَحْضِ مَطَاعِنِهِمْ وَتَعَلُّلَاتِهِمْ وَتَوَرُّكِهِمْ بِمُخْتَلِفِ الْأَدِلَّةِ قِيَاسًا وَتَمْثِيلًا، وَثَبَّتَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّثْبِيتِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارا [النَّمْل:
٧] وَقَوْلِهِ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: ٧٩]، وَمَا صَاحَبَ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ مَا لَقِيَهُ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ. بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ اسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ اسْتِئْنَافًا يَكُونُ فَذْلَكَةَ الْحِسَابِ، وَخِتَامًا لِلسُّورَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ، أَفْسَدَ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ازْدِهَاءَهُمْ بِمَا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَفْحَمُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَلْقَوْهُ عَلَيْهِ وَيَطِيرُ غُرَابُ غُرُورِهِمْ بِمَا نَظَمُوهُ مِنْ سَفْسَطَةٍ، وَجَاءُوا بِهِ مِنْ خَلْبَطَةٍ، وَيَزِيدُ الرَّسُولَ تَثْبِيتًا وَتَطْمِينًا بِأَنَّهُ أَرْضَى رَبَّهُ بِأَدَاءِ أَمَانَةِ التَّبْلِيغِ وَذَلِكَ بِأَنَّ أُمِرَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها فَهَذَا تَلْقِينٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْجُمْلَةُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [النَّمْل: ٩٢، ٩٣] فَإِنَّ الْأَوَّلَ: مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ.
وَالثَّانِي: مَعْطُوفٌ عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ لِإِفَادَةِ حَصْرٍ إِضَافِيٍّ بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مُحَاوَرَاتُهُمُ السَّابِقَةُ مِنْ طَلَبِ تَعْجِيبِ الْوَعِيدِ، وَمَا تَطَاوَلُوا بِهِ مِنْ إِنْكَارِ الْحَشْرِ.
وَالْمَعْنَى: مَا أُمِرْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَبْتَغُونَ مِنْ تَعْيِينِ أَجَلِ الْوَعِيدِ وَلَا مِنِ اقْتِلَاعِ إِحَالَةِ الْبَعْثِ مِنْ نُفُوسِكُمْ وَلَا بِمَا سِوَى ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ أَثْبُتَ عَلَى عِبَادَةِ رَبٍّ وَاحِدٍ وَأَنْ أَكُونَ مُسْلِمًا وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ عَلَيْكُمْ، فَفِيهِ الْبَرَاهِينُ السَّاطِعَةُ وَالدَّلَالَاتُ الْقَاطِعَةُ فَمَنِ اهْتَدَى فَلَا يَمُنُّ عَلَيَّ اهْتِدَاءَهُ وَإِنَّمَا نَفَعَ بِهِ نَفْسَهُ وَمَنْ ضَلَّ فَمَا أَنَا بِقَادِرٍ عَلَى اهْتِدَائِهِ، وَلَكِنِّي مُنْذِرُهُ كَمَا أَنْذَرَتِ الرُّسُلُ أَقْوَامَهَا فَلَمْ يَمْلِكُوا لَهُمْ هَدْيًا حَتَّى أَهْلَكَ اللَّهُ الضَّالِّينَ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمرَان: ٢٠].
وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٥٣]. وَجُمْلَةُ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ تَذْيِيلٌ.
وَتَأْكِيدُهُ بِ إِنَّ لِتَنْزِيلِ السَّامِعِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي وُجُودِ مَنْ يَجْحَدُ لِقَاءَ اللَّهِ بَعْدَ هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي مَضَى بَلْهُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُونَ بِهِ كَثِيرًا. وَالْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ هُنَا: مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ
وَبَقِيَّةُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَمَنْ مَاثَلَهُمْ مِنَ الدَّهْرِيِّينَ. وَلَمْ يعبر هُنَا بِأَكْثَرَ النَّاس [العنكبوت: ٦٠] لِأَنَّ الْمُثْبِتِينَ لِلْبَعْثِ كَثِيرُونَ مِثْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالصَّابِئَةِ وَالْمَجُوسِ وَالْقِبْطِ.
[٩]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٩]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الرّوم: ٨] وَهُوَ مِثْلُ الَّذِي عُطِفَ هُوَ عَلَيْهِ مُتَّصِلٌ بِمَا يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الرّوم: ٦] أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ عِلْمِهِمْ تَكْذِيبَهُمُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي أَنْبَأَهُمْ بِالْبَعْثِ، فَلَمَّا سِيقَ إِلَيْهِمْ دَلِيلُ حِكْمَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ بِالْحَقِّ أَعْقَبَ بِإِنْذَارِهِمْ مَوْعِظَةً لَهُمْ بِعَوَاقِبِ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ عَاقِبَةُ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ الْآيَةَ.
وَالْأَمْرُ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١]، وَقَوْلِهِ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٢٠].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَلَمْ يَسِيرُوا تَقْرِيرِيٌّ. وَجَاءَ التَّقْرِيرُ عَلَى النَّفْيِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ [الْأَعْرَاف: ١٤٨] وَقَوله لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
فِي الْأَنْعَام [١٣٠]، وَقَوْلِهِ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ فِي آخِرِ الْعَنْكَبُوتِ [٦٨].
والْأَرْضِ: اسْمٌ لِلْكُرَةِ الَّتِي عَلَيْهَا النَّاسُ.
بِالنُّورِ فَنَاسَبَهُ السِّرَاجُ الْمُنِيرُ. وَهَذَا وَصْفٌ شَامِلٌ لِجَمِيعِ
الْأَوْصَافِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا آنِفًا فَهُوَ كَالْفَذْلَكَةِ وَكَالتَّذْيِيلِ.
وَوُصِفَ السِّرَاجُ بِ مُنِيراً مَعَ أَنَّ الْإِنَارَةَ مِنْ لَوَازِمِ السِّرَاجِ هُوَ كَوَصْفِ الشَّيْءِ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ مِنْ لَفْظِهِ فِي قَوْلِهِ: شِعْرُ شَاعِرٍ، وَلَيْلٌ أَلْيَلُ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ مَعْنَى الِاسْمِ فِي الْمَوْصُوفِ بِهِ الْخَاصِّ فَإِن هدى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَوْضَحُ الْهُدَى. وَإِرْشَادُهُ أَبْلَغُ إِرْشَادٍ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ «التَّفْسِيرِ» مِنْ صَحِيحِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى سُورَةِ الْفَتْحِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً قَالَ فِي التَّوْرَاةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ (أَوْ وَيَغْفِرُ) وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحَ (أَوْ فَيَفْتَحُ) بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غَلْفَاءَ» اهـ.
وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «فِي التَّوْرَاةِ» يَعْنِي بِالتَّوْرَاةِ: أَسْفَارُ التَّوْرَاةِ وَمَا مَعَهَا مِنْ أَسْفَارِ الْأَنْبِيَاءِ إِذْ لَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِيمَا رَأَيْتُ مِنَ الْأَسْفَارِ الْخَمْسَةِ الْأَصْلِيَّةِ مِنَ التَّوْرَاةِ.
وَهَذَا الَّذِي حَدَّثَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَرَأَيْتُ مُقَارِبَهُ فِي سِفْرِ النَّبِيءِ أَشْعِيَاءَ مِنَ الْكُتُبِ الْمعبر عَنْهَا بِالتَّوْرَاةِ تَغْلِيبًا وَهِيَ الْكُتُبُ الْمُسَمَّاةُ بِالْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَذَلِكَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ مِنْهُ بِتَغْيِيرٍ قَلِيلٍ (أَحْسَبُ أَنَّهُ مِنَ اخْتِلَافِ التَّرْجَمَةِ أَوْ مِنْ تَفْسِيرَاتِ بَعْضِ الْأَحْبَارِ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ)، فَفِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ مِنْهُ «هُوَ ذَا عَبْدَيِ الَّذِي أَعْضُدُهُ مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي، وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ للأمم، لَا يَصِيح ولَا يَرْفَعُ وَلَا يُسْمَعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتُهُ، قَصَبَةٌ مرضوضة لَا تقصف، وَفَتِيلَةٌ خَامِدَةٌ لَا تُطْفَأُ، إِلَى الْأَمَانِ يَخْرُجُ الْحَقُّ، لَا يَكِلُّ وَلَا يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الْأَرْضِ وَتَنْتَظِرَ الْجَزَائِرُ (١) شَرِيعَتَهُ
_________
(١) الجزائر: جَزِيرَة الْعَرَب، لقَوْله فِي هَذَا السّفر فِي هَذَا «الإصحاح» :«والجزائر وسكانها لترفع الْبَريَّة ومدنها صَوتهَا الديار الَّتِي سكنها (قيدار) » فَإِن قيدار اسْم ابْن إِسْمَاعِيل كَمَا فِي سفر التكوين. فَأَرَادَ: نسل قيدار وهم الإسماعيليون وهم الأميون.
النَّاسِ وَهُوَ أَلْيَقُ بِهَذَا الْمَعْنَى دُونَ مَعْنًى فِي خِلْقَتِهِ لِأَنَّ الْإِنْكَاسَ لَا يَكُونُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي أَطْوَارِهَا، وَقَدْ فُسِّرَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [الْأَعْرَاف:
٦٩] أَيْ زَادَكُمْ قُوَّةً وَسَعَةً فِي الْأُمَمِ، أَيْ فِي الْأُمَمِ الْمُعَاصِرَةِ لَكُمْ، فَهُوَ وَعِيدٌ لَهُمْ وَوَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَوُقُوعِهِمْ تَحْتَ نُفُوذِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الَّذين كَانُوا رؤوسا لِلْمُشْرِكِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ صَارُوا فِي أَسْرِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي حُكْمِهِمْ يَوْمَ الْفَتْحِ فَكَانُوا يُدْعَوْنَ الطُّلَقَاءَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُنَكِّسْهُ بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى وَسُكُونِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَضَمِّ الْكَافِ مُخَفَّفَةً وَهُوَ مُضَارِعُ نَكَسَ الْمُتَعَدِّي، يُقَالُ: نَكَسَ رَأْسَهُ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى وَفَتْحِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ مُشَدَّدَةً مُضَارِعُ نَكَّسَ الْمُضَاعَفِ.
وَفُرِّعَ عَلَى الْجُمَلِ الشَّرْطِيَّةِ الثَّلَاثِ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا قَوْله: أَفَلا يَعْقِلُونَ اسْتِئْنَافًا إِنْكَارِيًّا لِعَدَمِ تَأَمُّلِهِمْ فِي عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَطَمَسَ عَلَى أَعْيُنِهِمْ وَلَوْ شَاءَ لَمَسْخَهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْ نَصْرِهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَاسُوا مَقْدُورَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشَاهَدَةِ لَهُمْ لَعَلِمُوا أَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى مَسْخِهِمْ فَمَا دَونَهُ مِنْ إِنْزَالِ مَكْرُوهٍ بِهِمْ أَيْسَرُ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى إِيجَادِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ الْمُتْقَنَةِ وَأَنَّهُ لَا حَائِلَ بَيْنَ تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ بِمَسْخِهِمْ إِلَّا عَدَمُ إِرَادَتِهِ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا فَإِنَّ الْقُدْرَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَقْدُورَاتِ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ أَفَلَا تَعْقِلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَهُوَ خِطَابٌ لِلَّذِينِ وُجِّهَ إِلَيْهِمْ قَوْلُهُ: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس: ٦٦] الْآيَةَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ لِأَنَّ تِلْكَ الْجُمَلَ الشّرطِيَّة لَا تَخْلُو مِنْ مُوَاجَهَةٍ بِالتَّعْرِيضِ لِلْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ فَكَانُوا أَحْرِيَاءَ أَنْ يَعْقِلُوا مَغْزَاهَا ويتفهموا مَعْنَاهَا.
[٦٩، ٧٠]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٦٩ إِلَى ٧٠]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠)
هَذِهِ الْآيَةُ تَرْجِعُ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ [يس: ٤٦]
وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ مُعْطِي مَا يَشَاءُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ النُّبُوءَةُ وَهَدْيُ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ جَهْلَ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ هُوَ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى أَنْ أَنْكَرُوا اخْتِصَاصَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ دُونَهُمْ، وَاخْتِصَاصُ أَتْبَاعِهِ بِالْهُدَى فَقَالُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الْأَنْعَام: ٥٣]. فَهَذِهِ الْجُمَلُ اشْتَمَلَتْ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثٍ تَقْتَضِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا دِلَالَةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ، ثُمَّ بِالتَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، ثُمَّ بِوَضْعِ النُّظُمِ وَالنَّوَامِيسِ الْفِطْرِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالتَّهْذِيبِيَّةِ فِي نِظَامِ الْعَالَمِ وَفِي نِظَامِ الْبَشَرِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مُوجِبٌ تَوْحِيدَهُ وَتَصْدِيقَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاسْتِمْسَاكَ بِعُرْوَتِهِ كَمَا رَشَدَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْإِيمَانِ.
فَأَمَّا الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فَتَحْتَمِلُ الِاعْتِرَاضَ وَلَكِنَّ اقْتِرَانَهَا بِالْوَاوِ بَعْدَ نَظَائِرِهَا يُرَجِّحُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِيهَا عَاطِفَةً وَأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى مَفَادِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، وَتَكُونُ مُقَدَّمَةً رَابِعَةً لِلْمَقْصُودِ تَجْهِيلًا لِلَّذِينِ هُمْ ضِدُّ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى الْحَقِّ بِإِبْطَالِ ضِدِّهِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِاسْتِدْلَالِ. لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ يَعُودُ إِلَى تَرْغِيبٍ وَتَنْفِيرٍ فَإِذَا كَانَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ خَاسِرِينَ لَا جَرَمَ كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِ الله هم الفائزين، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُقَابِلُ جُمْلَةَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ [الزمر: ٦١] الْمُنْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُفِيدَةٌ إِنْذَارَهُمْ وَتَأْفِينَ آرَائِهِمْ، لِأَنَّ مَوْقِعَهَا بَعْدَ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَهِيَ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ يَقْتَضِي التَّنْدِيدَ عَلَيْهِمْ فِي عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا.
وَوُصِفَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بِأَنَّهُمُ الْخَاسِرُونَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ مَنْ لَهُ مَقَالِيدُ خَزَائِنِ الْخَيْرِ فَعَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْحِرْمَانِ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ وَأَعْظَمُهَا خَزَائِنُ خَيْرِ الْآخِرَةِ.
وَآيَاتُ اللَّهِ هِيَ دَلَائِلُ وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْجُمَلُ الثَّلَاثُ السَّابِقَةُ.
جِهَةِ الدَّاعِي لِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: ٩٤]، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ مِنْ عُظَمَاءِ الْقَرْيَتَيْنِ لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١].
وِجِهَةِ مَا بِهِ الدَّعْوَةُ فَإِنَّهُمْ حَسِبُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُخَاطب الرّسل إِلَّا بِكِتَابٍ يُنَزِّلُهُ إِلَيْهِ دَفْعَةً
مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ (١) حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٣] وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الْفرْقَان: ٢١] وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ [الْبَقَرَة: ١١٨] وَالْقَائِلُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ.
وَمِنْ جِهَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّعْوَةُ مِمَّا لَمْ تُسَاعِدْ أَهْوَاؤُهُمْ عَلَيْهِ قَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: ٥] هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: ٧]. وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي تَدْعُوهُمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ الدَّعْوَةِ وَاسْتِمْرَارِهَا.
اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالِ مَنْ يَسْأَلُ: كَيْفَ كَبُرَتْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ، بِأَنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مَنْ يَشَاءُ، فَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَمْ يَقْتَرِبُوا مِنْ هُدَى اللَّهِ غَيْرُ مُجْتَبَيْنَ إِلَى اللَّهِ إِذْ لَمْ يَشَأِ اجْتِبَاءَهُمْ، أَيْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُمْ الِاهْتِدَاءَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا عَلَى إِحْدَى شُبْهِهِمُ الْبَاعِثَةِ عَلَى إِنْكَارِهِمْ رِسَالَتَهُ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ عَوَائِدِكُمْ فِي الزَّعَامَةِ وَالِاصْطِفَاءِ.
وَالِاجْتِبَاءُ: التَّقْرِيبُ وَالِاخْتِيَارُ قَالَ تَعَالَى: قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها [الْأَعْرَاف: ٢٠٣].
وَمَنْ يَشَاءُ اللَّهُ اجْتِبَاءَهُ مَنْ هَدَاهُ إِلَى دِينِهِ مِمَّنْ يُنِيبُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِسَرَائِرِ خَلْقِهِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ رَدًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَحَالُوا رِسَالَةَ بَشَرٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَحِينَ أَكْبَرُوا أَنْ يَكُونَ الضَّعَفَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا مِنْهُمْ
_________
(١) فِي المطبوعة لَك وَهُوَ خطأ.
مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّرْفِ وَهُوَ الْإِبْعَادُ. وَكُنِّيَ بِهِ هُنَا عَنِ التَّبْيِينِ وَالتَّوْضِيحِ لِأَنَّ تَعَدُّدَ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ يَزِيدُ الْمَقْصُودَ وُضُوحًا. وَمَعْنَى تَنْوِيعِ الْآيَاتِ أَنَّهَا تَارَةً تَكُونُ بِالْحُجَّةِ وَالْمُجَادَلَةِ النَّظَرِيَّةِ، وَتَارَةً بِالتَّهْدِيدِ عَلَى الْفِعْلِ، وَأُخْرَى بِالْوَعِيدِ، وَمَرَّةً بِالتَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ وَشُكْرِهَا. وَجُمْلَةُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِإِنْشَاءِ التَّرَجِّي وَمَوْقِعُهَا مَوْقِعُ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ رَجَاءَ رُجُوعِهِمْ.
وَالرُّجُوعُ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْعِنَادِ، وَالرَّجَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الطَّلَبِ، أَيْ تَوْسِعَةً لَهُمْ وَإِمْهَالًا لِيَتَدَبَّرُوا وَيَتَّعِظُوا. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِمُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ فَهُمْ سَوَاءٌ فِي تَكْوِينِ ضُرُوبِ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ زِيَادَةً عَلَى مَا صُرِّفَ لَهُمْ
مِنْ آيَاتِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَالْكَلَامُ عَلَى (لَعَلَّ) فِي كَلَامِ اللَّهِ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِل الْبَقَرَة.
[٢٨]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ٢٨]
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَوْعِظَةِ بِعَذَابِ عَادٍ الْمُفَصَّلِ، وَبِعَذَابِ أَهْلِ الْقُرَى الْمُجْمَلِ، فُرِّعَ عَلَيْهِ تَوْبِيخٌ مُوَجَّهٌ إِلَى آلِهَتِهِمْ إِذْ قَعَدُوا عَنْ نَصْرِهِمْ وَتَخْلِيصِهِمْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَقْصُودُ تَوْجِيهُ التَّوْبِيخِ إِلَى الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ عَلَى طَرِيقَةِ تَوْجِيهِ النَّهْيِ وَنَحْوِهِ لِغَيْرِ الْمَنْهِيِّ لِيَجْتَنِبَ الْمَنْهِيُّ أَسْبَابَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَقَوْلِهِمْ لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلْ كَذَا، وَلَا أَرَيَنَّكَ هُنَا.
وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا التَّوْبِيخِ تَخْطِئَةُ الْأُمَمِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْأَصْنَامَ لِلنَّصْرِ وَالدَّفْعِ وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ تَعْرِيضًا بِالسَّامِعِينَ الْمُمَاثِلِينَ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ آلِهَةٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ اسْتِتْمَامًا لِلْمَوْعِظَةِ وَالتَّوْبِيخِ بِطَرِيقِ التَّنْظِيرِ وَقِيَاسِ التَّمْثِيلِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ لِأَنَّ التَّوْبِيخَ آلَ إِلَى مَعْنَى نَفْيِ النَّصْرِ.
وَحَرْفُ لَوْلَا إِذَا دَخَلَ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ كَانَ أَصْلُهُ الدَّلَالَةَ عَلَى التَّحْضِيضِ، أَيْ تَحْضِيضِ فَاعِلِ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ لَوْلَا عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَإِذَا كَانَ
وَالطَّوَافُ: مَشْيٌ مُتَكَرِّرٌ ذِهَابًا وَرُجُوعًا وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ عَلَى اسْتِدَارَةٍ، وَمِنْهُ طَوَافُ الْكَعْبَةِ، وَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بِالْأَصْنَامِ وَلِأَجْلِهِ سُمِّيَ الصَّنَمُ دُوَّارًا لِأَنَّهُمْ يَدُورُونَ بِهِ. وَسُمِّيَ
مَشْيُ الْغِلْمَانِ بَيْنَهُمْ طَوَافًا لِأَنَّ شَأْنَ مَجَالِسِ الْأَحِبَّةِ وَالْأَصْدِقَاءِ أَن تكون حلقا وَدَوَائِرَ لِيَسْتَوُوا فِي مَرْآهِمْ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٤٤] عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. وَمِنْهُ جُعِلَتْ مَجَالِسُ الدُّرُوسِ حَلَقًا وَكَانَتْ مَجَالِسُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقًا. وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى مُنَاوَلَةِ الْخَمْرِ إِدَارَةٌ فَقِيلَ: أَدَارَتِ الْحَارِثَةُ الْخَمْرَ، وَهَذَا الَّذِي يُنَاوِلُ الْخَمْرَ الْمُدِيرُ.
وَتَرْكُ ذِكْرِ مُتَعَلِّقِ يَطُوفُ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ: يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً وَقَوْلِهِ:
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطّور: ٢٢] وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ [الزخرف: ٧١] وَقَوْلُهُ: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصافات: ٤٥، ٤٦] فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُطَاف بِهِ هُنَا تُرِكَ ذِكْرُهُ بَعْدَ فِعْلِ يُطافُ بِخِلَافِ مَا فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ.
وَالْغِلْمَانُ: جَمْعُ غُلَامٍ، وَحَقِيقَتُهُ مَنْ كَانَ فِي سِنٍّ يُقَارِبُ الْبُلُوغَ أَوْ يَبْلُغُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْخَادِمِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مَا يَتَّخِذُونَ خَدَمَهُمْ مِنَ الصِّغَارِ لِعَدَمِ الْكُلْفَةِ فِي حَرَكَاتِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِثْقَالِ تَكْلِيفِهِمْ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُونَ مِنَ الْعَبِيدِ وَمِثْلُهُ إِطْلَاقُ الْوَلِيدَةِ عَلَى الْأَمَةِ الْفَتِيَّةِ كَأَنَّهَا قَرِيبَةُ عَهْدٍ بِوِلَادَةِ أُمِّهَا.
فَمَعْنَى قَوْلِهِ: غِلْمانٌ لَهُمْ: خِدْمَةٌ لَهُمْ. وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالتَّنْكِيرِ وَتَعْلِيقِ لَامِ الْمُلْكِ بِضَمِيرِ الَّذِينَ آمَنُوا دُونَ الْإِضَافَةِ الَّتِي هِيَ عَلَى تَقْدِيرِ اللَّامِ لِمَا فِي الْإِضَافَةِ مِنْ مَعْنَى تَعْرِيفِ الْمُضَافِ بِالِانْتِسَابِ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ عِنْدَ السَّامِعِ مِنْ قَبْلُ. وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانُ بِمَمْلُوكِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِخِدْمَتِهِمْ خَلَقَهْمُ اللَّهُ لِأَجْلِهِمْ فِي الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى:
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [الْإِنْسَان: ١٩] وَهَذَا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الْإِسْرَاء: ٥] أَيْ صِنْفٌ مِنْ عِبَادِنَا غَيْرُ مَعْرُوفِينَ لِلنَّاسِ.
وَشُبِّهُوا بِاللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ فِي حُسْنِ الْمَرْأَى.
وَالنِّسْيَانُ مُرَادٌ مِنْهُ لَازِمُهُ وَهُوَ الْإِضَاعَةُ وَتَرْكُ الْمَنْسِيِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه: ١٢٦].
وَالذِّكْرُ يُطْلَقُ عَلَى نُطْقِ اللِّسَانِ بِاسْمٍ أَوْ كَلَامٍ وَيُطْلَقُ عَلَى التَّذَكُّرِ بِالْعَقْلِ. وَقَدْ يُخَصُّ هَذَا الثَّانِي بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ، أَيْ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَنْسَاهُمْ تَوْحِيدَ اللَّهِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ.
وَالَّذِي لَا يَتَذَكَّرُ شَيْئًا لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى وَاجِبَاتِهِ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ نَتِيجَةٌ وَفَذْلَكَةٌ لِقَوْلِ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ.
فَإِنَّ الِاسْتِحْوَاذَ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَيَّرَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِهِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ لِئَلَا يَتَرَدَّدَ فِي أَنَّهُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ.
وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّفَرُّعِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى جُمْلَةِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هم الخاسرون، وَلذَلِك عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى حَرْفِ الِاسْتِفْتَاحِ تَنْبِيهًا عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَضْمُونِهَا وَأَنَّهُ
مِمَّا يَحِقُّ الْعِنَايَةُ بِاسْتِحْضَارِهِ فِي الْأَذْهَانِ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الِانْدِمَاجِ فِيهِمْ، وَالتَّلَبُّسِ بِمِثْلِ أَحْوَالِهِمُ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا. وَزِيدَ هَذَا التَّحْذِيرُ اهْتِمَامًا بِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِحَرْفِ إِنَّ وَبِصِيغَةِ الْقَصْرِ، إِذْ لَا يَتَرَدَّدُ أَحَدٌ فِي أَنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ خَاسِرُونَ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْقَضَايَا الْمُسَلَّمَةِ بَيْنَ الْبَشَرِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمُؤَكِّدَاتُ لِرَدِّ الْإِنْكَارِ لِتَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَغُرَّهُمْ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ وَتَرُوقَ فِي أَنْظَارِهِمْ بَزَّةُ الْمُنَافِقِينَ وَتَخْدَعَهُمْ أَيْمَانُهُمُ الْكَاذِبَةُ.
وَإِظْهَارُ كَلِمَةِ حِزْبُ الشَّيْطانِ دون ضمير هم لِزِيَادَةِ التَّصْرِيحِ وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ صَالِحَة للتمثل بِهِ مُسْتَقِلَّةً بِدِلَالَتِهَا.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ أَفَادَ الْقَصْرَ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لَلْمُبَالَغَةِ فِي مِقْدَار خسرانهم وَأَنه لَا خُسْرَانَ أَشَدُّ مِنْهُ فَكَأَنَّ كُلَّ خُسْرَانٍ غَيْرِهِ عَدَمٌ فَيُدَّعَى أَنَّ وَصْفَ الْخَاسِرِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ.
وَحِزْبُ الْمَرْءِ: أَنْصَارُهُ وَجُنْدُهُ وَمن يواليه.
كَمَا كَفَرْتُمْ، فَلَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ فِي إِيرَادِهِ نَفْيَ الْإِشْرَاكِ وَإِثْبَاتَ التَّوْحِيدِ، إِذِ الْكَلَامُ فِي الْإِهْلَاكِ وَالْإِنْجَاءِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ ب رَحِمَنا [الْملك: ٢٨] فَجِيءَ بِجُمْلَةِ آمَنَّا عَلَى أَصْلٍ مُجَرَّدٍ مَعْنَاهَا دُونَ قَصْدِ الْاخْتِصَاصِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لِأَنَّ التَّوَكُّلَ يَقْتَضِي مُنْجِيًا وَنَاصِرًا،
وَالْمُشْرِكُونَ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى أَصْنَامِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَقِيلَ: نَحْنُ لَا نَتَّكِلُ عَلَى مَا أَنْتُم متكلون عَلَيْهِ، بل على الرحمان وَحْدَهُ تَوَكُّلُنَا.
وَفِعْلُ فَسَتَعْلَمُونَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِمَجِيءِ الْاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَسَتَعْلَمُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا أُمِرَ بِقَوْلِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ بِيَاءِ الْغَائِبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِأَنَّهُ سَيُعَاقِبُهُمْ عِقَاب الضالّين.
[٣٠]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٣٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠)
إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُهُمْ عَذَابُ الْجُوعِ بِالْقَحْطِ وَالْجَفَافِ فَإِنَّ مَكَّةَ قَلِيلَةُ الْمِيَاهِ وَلَمْ تَكُنْ بِهَا عُيُونٌ وَلَا آبَارٌ قَبْلَ زَمْزَمَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ خَبَرُ تَعَجُّبِ الْقَافِلَةِ مِنْ (جُرْهُمَ) الَّتِي مَرَّتْ بِمَوْضِعِ مَكَّةَ حِينَ أَسْكَنَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَاجَرَ بِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ فَفَجَّرَ اللَّهُ لَهَا زَمْزَمَ وَلَمَحَتِ الْقَافِلَةُ الطَّيْرَ تَحُومُ حَوْلَ مَكَانِهَا فَقَالُوا: مَا عَهِدْنَا بِهَذِهِ الْأَرْضِ مَاءً، ثُمَّ حَفَرَ مَيْمُونُ بْنُ خَالِدٍ الْحَضْرَمِيُّ بِأَعْلَاهَا بِئْرًا تُسَمَّى بِئْرُ مَيْمُونٍ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ قُبَيْلَ الْبَعْثَةِ، وَكَانَتْ بِهَا بِئْرٌ أُخْرَى تُسَمَّى الْجَفْرُ (بِالْجِيمِ) لِبَنِيِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةٍ، وَبِئْرٍ تُسَمَّى الْجَمُّ ذَكَرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ وأهملها «الْقَامُوس» و «تاجه»، وَلَعَلَّ هَاتَيْنِ الْبِئْرَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ لَمْ تَكُونَا فِي عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَمَاءُ هَذِهِ الْآبَارِ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي أُنْذِرُوا بِأَنَّهُ يُصْبِحُ غَوْرًا، وَهَذَا الْإِنْذَارُ نَظِيرُ الْوَاقِعِ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [١٧- ٣٣] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِلَى قَوْلِهِ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
وَالْغَوْرُ: مَصْدَرُ غَارَتِ الْبِئْرُ، إِذَا نَزَحَ مَاؤُهَا فَلَمْ تَنَلْهُ الدِّلَاءُ.
وَالْمرَاد: مَاء الْبِئْر كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فِي ذِكْرِ جَنَّةِ سُورَةِ الْكَهْفِ
وَالِاتِّخَاذُ: مُبَالَغَةٌ فِي الْأَخْذِ، أَيْ أَخَذَ أَخْذًا يُشْبِهُ الْمُطَاوَعَةَ فِي التَّمَكُّنِ، فَالتَّاءُ فِيهِ لَيست للمطاوعة الْحَقِيقَة بَلْ هِيَ مَجَازٌ وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَالِاتِّخَاذُ: الِاكْتِسَابُ وَالْجَعْلُ، أَيْ لِيَقْتَنِ مَكَانًا بِأَنْ يُؤْمِنَ وَيَعْمَلَ صَالِحًا لِيَنَالَ مَكَانًا عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَآبَ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا خَيْرًا.
فَقَوْلُهُ: إِلى رَبِّهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَآبُ خَيْرٍ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى إِلَّا بِالْخَيْرِ.
وَالْمَآبُ يَكُونُ اسْمَ مَكَانٍ مِنْ آبَ، إِذَا رَجَعَ فَيُطْلَقُ عَلَى الْمَسْكَنِ لِأَنَّ الْمَرْءَ يَؤُوبُ إِلَى مَسْكَنِهِ، وَيَكُونُ مَصْدَرًا مِيمِيًّا وَهُوَ الْأَوْبُ، أَيِ الرُّجُوعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ [الرَّعْد: ٣٦]، أَيْ رُجُوعِي، أَيْ فَلْيَجْعَلْ أَوْبًا مُنَاسِبًا لِلِقَاءِ رَبِّهِ، أَيْ أَوْبًا حَسَنًا.
[٤٠]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ٤٠]
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا
اعْتِرَاضٌ بَين مَآباً [النبأ: ٣٩] وَبَين وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ
كَيْفَمَا كَانَ مَوْقِعُ ذَلِكَ الظَّرْفِ حَسْبَمَا يَأْتِي.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْإِعْذَارُ لِلْمُخَاطَبِينَ بِقَوَارِعِ هَذِهِ السُّورَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِلْمِ بِأَسْبَابِ النَّجَاةِ وَضِدِّهَا شُبْهَةٌ وَلَا خَفَاء.
فَالْخَبَر وهونَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
مُسْتَعْمَلٌ فِي قَطْعِ الْعُذْرِ وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي
إِفَادَةِ الْحُكْمِ لِأَنَّ كَوْنَ مَا سَبَقَ إِنْذَارًا أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِلْمُخَاطَبِينَ. وَافْتُتِحَ الْخَبَرُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِعْذَارِ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ.
وَجُعِلَ الْمُسْنَدُ فِعْلًا مُسْنَدًا إِلَى الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ لِإِفَادَةٍ تُقَوِّي الْحُكْمَ، مَعَ تَمْثِيلِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مثل المتبرئ مِنْ تَبِعَةِ مَا عَسَى أَنْ يَلْحَقَ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ ضُرٍّ إِنْ لَمْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ مِمَّا أَنْذَرَهُمْ بِهِ كَمَا يَقُولُ النَّذِيرُ عِنْدَ الْعَرَبِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ بِالْعَدُوِّ «أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ».
وَالْإِنْذَارُ: الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ مَا يَسُوءُ فِي مُسْتَقْبَلٍ قَرِيبٍ.
وَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمُضِيِّ لِأَنَّ أَعْظَمَ الْإِنْذَارِ قَدْ حَصَلَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: