لِإِظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ حِكْمَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي أَظْهَرُوا اسْتِنْكَارَهُ عِنْدَ سَمَاعِهِ إِذْ قَالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [الْبَقَرَة: ٦٧] وَفِي ذَلِكَ إِظْهَارُ مُعْجِزَةٍ لِمُوسَى. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مَا حُكِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَوَّلُ الْقِصَّةِ وَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ هُوَ آخِرُهَا، وَذَكَرُوا لِلتَّقْدِيمِ نُكْتَةً تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِهَا وَتَوْهِينِهَا.
وَلَيْسَ فِيمَا رَأَيْتُ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ مَا يُشِيرُ إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ فَلَعَلَّهَا مِمَّا أُدْمِجَ فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَمْ تَتَعَرَّضِ السُّورَةُ لِذِكْرِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ مُعْجِزَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ تَكُنْ تَشْرِيعًا بَعْدَهُ.
وَأَشَارَ قَوْلُهُ: قَتَلْتُمْ إِلَى وُقُوعِ قَتْلٍ فِيهِمْ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي إِسْنَادِ أَفْعَالِ الْبَعْضِ إِلَى الْجَمِيعِ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: قَتَلَتْ بَنُو فُلَانٍ فُلَانًا، قَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ بَنِي حُنٍّ (١) :

وَهُمْ قَتَلُوا الطَّائِيَّ بِالْجَوِّ عَنْوَةً أَبَا جَابِرٍ وَاسْتَنْكَحُوا أُمَّ جَابِرِ
وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ قَتَلُوا ابْنَ عَمِّهِمُ الْوَحِيدَ لِيَرِثُوا عَمَّهُمْ وَطَرَحُوهُ فِي مَحِلَّةِ قَوْمٍ وَجَاءُوا مُوسَى يُطَالِبُونَ بِدَمِ ابْنِ عَمِّهِمْ بُهْتَانًا وَأَنْكَرَ الْمُتَّهَمُونَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يَضْرِبَ الْقَتِيلَ بِبَعْضِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ فَيَنْطِقَ وَيُخْبِرَ بِقَاتِلِهِ، وَالنَّفْسُ الْوَاحِدُ مِنَ النَّاسِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ نَفْسٍ أَيْ رُوحٍ وَتَنَفُّسٍ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّنَفُّسِ
وَفِي الْحَدِيثِ «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ»
وَلِإِشْعَارِهَا بِمَعْنَى
التَّنَفُّسِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ إِطْلَاقِ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ وَإِضَافَتِهَا إِلَى اللَّهِ فَقِيلَ يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ كَلَامِ عِيسَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَة: ١١٦] وَلِقَوْلِهِ
فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي»
وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ وَلَا عِبْرَةَ بِأَصْلِ مَأْخَذِ الْكَلِمَةِ مِنَ التَّنَفُّسِ فَالنَّفْسُ الذَّاتُ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النَّحْل: ١١١]. وَتُطْلَقُ النَّفْسُ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ وَإِدْرَاكِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَقَوْلُ الْعَرَبِ قُلْتُ فِي نَفْسِي أَيْ فِي تَفَكُّرِي دُونَ قَوْلٍ لَفْظِيٍّ، وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْعُلَمَاءِ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي عَقْلِ الْمُتَكَلِّمِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِاللَّفْظِ.
و (ادّارأتم) افْتِعَالٌ، وَادَّارَأْتُمْ أَصْلُهُ تَدَارَأْتُمْ تَفَاعُلٌ مِنَ الدَّرْءِ وَهُوَ الدَّفْعُ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَدْفَعُ الْجِنَايَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمَّا أُرِيدَ إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الدَّالِ عَلَى قَاعِدَةِ تَاءِ الِافْتِعَالِ مَعَ الدَّالِ وَالذَّالِ جُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِتَيْسِيرِ التَّسْكِينِ لِلْإِدْغَامِ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ جُمْلَةٌ حَالية من فَادَّارَأْتُمْ أَيْ تَدَارَأْتُمْ فِي حَالِ أَنَّ اللَّهَ سَيُخْرِجُ مَا كَتَمْتُمُوهُ فَاسْمُ الْفَاعِلِ فِيهِ لِلْمُسْتَقْبَلِ بِاعْتِبَارِ عَامله وَهُوَ فَادَّارَأْتُمْ.
_________
(١) بحاء مُهْملَة مَضْمُومَة وَنون مُشَدّدَة حَيّ من عذرة.
بِهِمْ أَصْحَابُ الْحَاجَاتِ يُسَافِرُونَ مَعَهُمْ، وَأَصْحَابُ التِّجَارَاتِ يُحَمِّلُونَهُمْ سِلَعَهُمْ، وَصَارَتْ مَكَّةُ وَسَطًا تُجْلَبُ إِلَيْهَا السِّلَعُ مِنْ جَمِيعِ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ فَتُوَزَّعُ إِلَى طَالِبِيهَا فِي بَقِيَّةِ الْبِلَادِ، فَاسْتَغْنَى أَهْلُ مَكَّةَ بِالتِّجَارَةِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ زَرْعٍ وَلَا ضَرْعٍ إِذْ كَانُوا بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وَكَانُوا يَجْلِبُونَ أَقْوَاتَهُمْ فَيَجْلِبُونَ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ الْحُبُوبَ مِنْ بُرٍّ وَشَعِيرٍ وَذُرَةٍ وَزَبِيبٍ وَأَدِيمٍ وَثِيَابٍ وَالسُّيُوفَ الْيَمَانِيَّةَ، وَمِنْ بِلَادِ الشَّامِ الْحُبُوبَ وَالتَّمْرَ وَالزَّيْتَ وَالزَّبِيبَ وَالثِّيَابَ وَالسُّيُوفَ الْمَشْرَفِيَّةَ، زِيَادَةً عَلَى مَا جُعِلَ لَهُمْ مَعَ مُعْظَمِ الْعَرَبِ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَمَا أُقِيمَ لَهُمْ مِنْ مَوَاسِمِ الْحَجِّ وَأَسْوَاقِهِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
فَذَلِكَ وَجْهُ تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِتَوْحِيدِهِمُ اللَّهَ بِخُصُوصِ نِعْمَةِ هَذَا الْإِيلَافِ مَعَ أَن الله عَلَيْهِمْ نِعَمًا كَثِيرَةً لِأَنَّ هَذَا الْإِيلَافَ كَانَ سَبَبًا جَامِعًا لِأَهَمِّ النِّعَمِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ بَقَائِهِمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الْفَاءِ من قَوْله: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
عَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا.
وَالْعِبَادَةُ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ إِشْرَاكِ الشُّرَكَاءِ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ لِأَنَّ إِشْرَاكَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مَعَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ الْحَقِيقُ بِهَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ أَوْ لِأَنَّهُمْ شُغِلُوا بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ فَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا فِي أَيَّامِ الْحَجِّ فِي التَّلْبِيَةِ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ زَادَ بَعْضُهُمْ فِيهَا بَعْدَ قَوْلِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا ملك.
وتعريف بَ
بِالْإِضَافَة إِلَى ذَا الْبَيْتِ
دُونَ أَنْ يُقَالَ: فَلْيَعْبُدُوا الله لما يومىء إِلَيْهِ لفظبَ
مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ الْإِفْرَادَ بِالْعِبَادَةِ دُونَ شريك.
وأوثر إضافةبَ
إِلَى ذَا الْبَيْتِ
دُونَ أَنْ يُقَالَ: رَبُّهُمْ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْبَيْتَ هُوَ أَصْلُ نِعْمَةِ الْإِيلَافِ بِأَنْ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ فَكَانَ سَبَبًا لِرِفْعَةِ شَأْنِهِمْ بَيْنَ الْعَرَبِ قَالَ تَعَالَى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [الْمَائِدَة: ٩٧] وَذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَفَضْلِهِ.
وَالْبَيْتُ مَعْهُودٌ عِنْدَ الْمُخَاطِبِينَ.


الصفحة التالية
Icon