مِنْ فِعْلِهِ وَالتَّقْدِيرُ وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. وَلَا يُرِيبُكُمْ أَنَّهُ مَعْمُولُ مَصْدَرٍ وَهُوَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى عَامِلِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ تِلْكَ دَعْوَى وَاهِيَةٌ دَعَاهُمْ إِلَيْهَا أَنَّ الْمَصْدَرَ فِي مَعْنَى أَنْ وَالْفِعْلِ فَهُوَ فِي قُوَّةِ الصِّلَةِ وَمَعْمُولُ الصِّلَةِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ أَنْ وَالْفِعْلَ هِيَ الَّتِي تَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ لَا الْعَكْسُ، وَالْعَجَبُ مِنَ ابْنِ جِنِّي كَيْفَ تَابَعَهُمْ فِي «شَرْحِهِ لِلْحَمَاسَةِ» عَلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِ الْحَمَاسِيِّ:
وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إِذْعَانُ وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: بِالْوالِدَيْنِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَأَحْسِنُوا، وَقَوْلُهُ:
إِحْساناً مَصْدَرٌ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَنَّ حَذْفَ عَامِلِ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ تَبْطُلُ بِهِ فَائِدَةُ التَّأْكِيدِ الْحَاصِلَةُ مِنَ التَّكْرِيرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ. وَنَجْزِمُ بِأَنَّ الْمَجْرُورَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، عَلَى أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْمَجْرُورَاتِ أَمْرٌ شَائِعٌ وَأَصْلٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ.
وَالْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمٍ كَالنَّدَامَى لِلنَّدِيمِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي جَمْعِ فَعِيلٍ.
وَجَعَلَ الْإِحْسَانَ لِسَائِرِ النَّاسِ بِالْقَوْلِ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي يُمْكِنُ مُعَامَلَةُ جَمِيعِ النَّاسِ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ عَنِ اعْتِقَادٍ، فَهُمْ إِذَا قَالُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا فَقَدْ أَضْمَرُوا لَهُمْ خَيْرًا وَذَلِكَ أَصْلُ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَلْقِ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».
وَقَدْ عَلَّمَنَا اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الْحَشْر: ١٠] عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَرَضَ مَا يُوجِبُ تَكَدُّرَ الْخَاطِرِ فَإِنَّ الْقَوْلَ الْحَسَنَ يُزِيلُ مَا فِي نَفْسِ الْقَائِلِ مِنَ الْكَدَرِ وَيَرَى لِلْمَقُولِ لَهُ الصَّفَاءَ فَلَا يُعَامِلُهُ إِلَّا بِالصَّفَاءِ قَالَ الْمَعَرِّيُّ:
وَالْخَلُّ كَالْمَاءِ يُبْدِي لِي ضَمَائِرَهُ | مَعَ الصفاء ويخيفها مَعَ الْكَدَرِ |
فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ تُسْعِدِ الْحَالُ وَقَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أطلقت الزَّكَاة فِيهِ عَلَى الصَّدَقَةِ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْكِنَايَةَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ لِمَا عَلِمْتُ مِنْ أَنْ هَاتِهِ الْمَعَاطِيفَ تَابِعَةٌ لِبَيَانِ الْمِيثَاقِ وَهُوَ عَهْدُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الْمَعْنَى السَّابِقِ وَتَأْكِيدُهُ، تَبَعًا لِمَدْلُولِ الْجُمْلَةِ لَا لِمَوْقِعِهَا، لِأَنَّ مَوْقِعَهَا أَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَيْسَت تَوْكِيدًا لِجُمْلَةِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ بِمُرَادِفِهَا لِأَنَّ التَّوْكِيدَ لِلَّفْظِ بِالْمُرَادِفِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا فِي الْمُفْرَدَاتِ وَلِأَنَّ وُجُودَ الْوَاوِ يُعَيِّنُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ إِذْ لَيْسَ فِي جُمْلَةِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَاوٌ حَتَّى يَكُونَ الْوَاوُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُؤَكِّدًا لَهَا.
وَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا يُفْصَلُ بِهَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فِي التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وَالْأَجْوَدُ الْفَصْلُ بِ (ثُمَّ) كَمَا فِي «التَّسْهِيلِ» مُقْتَصِرًا عَلَى (ثُمَّ). وَزَادَ الرَّضِيُّ الْفَاءَ وَلَمْ يَأْتِ لَهُ بِشَاهِدٍ وَلَكِنَّهُ قَالَ: «وَقَدْ تَكُونُ (ثُمَّ) وَالْفَاءُ لِمُجَرَّدِ التَّدَرُّجِ فِي الِارْتِقَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَعْطُوفُ مُتَرَتِّبًا فِي الذَّكَرِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ إِذَا تَكَرَّرَ الْأَوَّلُ بِلَفْظِهِ نَحْوَ: بِاللَّهِ، فَاللَّهِ، وَنَحْوَ وَاللَّهِ ثُمَّ وَاللَّهِ».
وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: مَا عَبَدْتُّمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى رُسُوخِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ أَزْمَانٍ مَضَتْ، وَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى تَنَزُّهِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ سَالِفِ الزَّمَانِ وَإِلَّا لَقَالَ: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا كُنَّا نعْبد.
[٥]
[سُورَة الْكَافِرُونَ (١٠٩) : آيَة ٥]
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ [الْكَافِرُونَ: ٤] لِبَيَانِ تَمَامِ الِاخْتِلَافِ بَين حَاله وحالهم وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ إِخْبَارًا ثَانِيًا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَتَقْوِيَةً لِدَلَالَةِ هذَيْن الْإِخْبَار على نُبُوءَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فَمَاتَ أُولَئِكَ كُلُّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوءَةِ.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمِثْلِ نَظِيرَتِهَا السَّابِقَةِ تَوْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ تَوْكِيدًا لِلْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ مِنْهَا، وَلَيْسَ مَوْقِعُهَا مَوْقِعَ التَّوْكِيدِ لِوُجُودِ وَاوِ الْعَطْفِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ وَلِذَلِكَ فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ لِأَجْلِ مَا اقْتَضَتْهُ جملَة: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِنَظِيرَتِهَا