وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ ابْنُ مَرْيَمَ كَوَّنَهُ اللَّهُ فِي بَطْنِهَا بِدُونِ مَسِّ رَجُلٍ، وَأُمُّهُ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا.
وُلِدَ عِيسَى فِي مُدَّةِ سَلْطَنَةِ أَغُسْطُسَ مَلِكِ رُومِيَّةَ وَفِي مُدَّة حكم هيرودس عَلَى الْقُدْسِ مِنْ جِهَةِ سُلْطَانِ الرُّومَانِ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ٤٣٠ عِشْرِينَ وسِتمِائَة قبل الهجرية الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَكَانَتْ وِلَادَتُهُ بِقَرْيَةٍ تُعْرَفُ بِبَيْتِ لَحْمٍ الْيَهُودِيَّةِ، وَلَمَّا بَلَغَ ثَلَاثِينَ سَنَةً بُعِثَ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَقِيَ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ بلغ سنه ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَأَمَّا مَرْيَمُ أُمُّهُ فَهِيَ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا وَلَدَتْ عِيسَى وَهِيَ ابْنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَتَكُونُ وِلَادَتُهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ قَبْلَ مِيلَادِ عِيسَى وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَ أَنْ شَاخَتْ وَلَا تُعْرَفُ سَنَةُ وَفَاتِهَا، وَكَانَ أَبُوهَا مَاتَ قَبْلَ وِلَادَتِهَا فَكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ مِنْ بَنِي أَبْيَا وَهُوَ زَوْجُ الْيَصَابَاتِ خَالَةِ مَرْيَمَ وَكَانَ كَاهِنًا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
وَالْبَيِّنَاتُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ أَيِ الْآيَاتُ وَالْمُعْجِزَاتُ الْوَاضِحَاتُ، وَأَيَّدْناهُ قَوَّيْنَاهُ وَشَدَدْنَا عَضُدَهُ وَنَصَرْنَاهُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ الْيَدُ فَأَيَّدَ بِمَعْنَى جَعَلَهُ ذَا يَدٍ وَالْيَدُ مَجَازٌ فِي الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ فَوَزْنُ أَيَّدَ أَفْعَلَ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْأَيْدِ وَهُوَ الْقُوَّةُ فَوَزْنُهُ فَعَّلَ.
وَالتَّأْيِيدُ التَّقْوِيَةُ وَالْإِقْدَارُ عَلَى الْعَمَلِ النَّفْسِيِّ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَيْدِ وَهُوَ الْقُوَّةُ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ [ص: ١٧] والأيد مُشْتَقٌّ مِنَ الْيَدِ لِأَنَّهَا آلَةُ الْقُدْرَةِ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الْيَدِ أَيْ جَعَلَهُ ذَا يَدٍ أَيْ قُوَّةٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا قُوَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَهِيَ قُوَّةُ الرِّسَالَةِ وَقُوَّةُ الصَّبْرِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَسَيَأْتِي فِي الْأَنْفَالِ [٦٢] قَوْلُهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ.
وَالرُّوحُ جَوْهَرٌ نُورَانِيٌّ لَطِيفٌ أَيْ غَيْرُ مُدْرَكٍ بِالْحَوَاسِّ فَيُطْلَقُ عَلَى النَّفْسِ الْإِنْسَانِيِّ
الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْإِنْسِ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى مَا بِهِ حَيَاةُ الْعَجْمَاوَاتِ إِلَّا لَفْظُ نَفْسٍ، قَالَ تَعَالَى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: ٨٥] وَيُطْلَقُ عَلَى قُوَّةٍ مِنْ لَدُنِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ بِهَا عَمَلٌ عَجِيبٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [التَّحْرِيم: ١٢]، وَيُطْلَقُ عَلَى جِبْرِيلَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاء: ١٩٣، ١٩٤] وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها [الْقدر: ٤] وَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ
[النبأ: ٣٨].
وَالْقُدُسُ بِضَمَّتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ مَصْدَرٌ أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى النَّزَاهَةِ وَالطَّهَارَةِ.
وَالْمُقَدَّسُ الْمُطَهَّرُ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَة: ٣٠].
النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَفَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا وَبَكَى الْعَبَّاسُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُبْكِيكَ يَا عَمُّ؟ قَالَ: نُعِيَتْ إِلَيْكَ نَفْسُكَ.
فَقَالَ: إِنَّهُ لَكَمَا تَقُولُ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «نَزَلَتْ فِي مِنًى فَبَكَى عُمَرُ وَالْعَبَّاسُ فَقِيلَ لَهُمَا، فَقَالَا:
فِيهِ نُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقْتُمَا نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي»
. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ عُمَرُ يَأْذَنُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَيَأْذَنُ لِي مَعَهُمْ فَوَجَدَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ. قَالَ: فَأَذِنَ لَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَذِنَ لِي مَعَهُمْ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالُوا: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيئَهُ إِذَا فَتَحَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ وَيَتُوبَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا تَقُوُلُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قُلْتُ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيئَهُ حُضُورَ أَجَلِهِ فَقَالَ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، فَذَلِكَ عَلَامَةُ مَوْتِكَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ» فَهَذَا فَهْمُ عُمَرَ وَالْعَبَّاسِ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِهِ.
وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَعَلِمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا وَآبَائِنَا وَأَوْلَادِنَا»
اهـ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافِ» : الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إِلَّا صَدْرَهُ دُونَ أَوَّلِهِ مِنْ كَوْنِهِ كَانَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بُكَاءُ أَبِي بَكْرٍ تَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ أُولَاهُمَا عِنْدَ نُزُولِ سُورَةِ النَّصْرِ كَمَا فِي رِوَايَةِ «الْكَشَّافِ» وَالثَّانِيَةُ عِنْدَ خُطْبَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ «تُسَمَّى سُورَةَ التَّوْدِيعِ» أَيْ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهَا إِيذَانٌ بِقرب وَفَاة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَقْدِيمُ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ رَاجِعٌ إِلَى وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّنَزُّهِ عَنِ النَّقْصِ وَهُوَ يَجْمَعُ صِفَاتِ السَّلْبِ، فَالتَّسْبِيحُ مُتَمَحِّضٌ لِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ الْحَمْدَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ لِإِنْعَامِهِ، وَهُوَ أَدَاءُ الْعَبْدِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِشُكْرِ الْمُنْعِمِ فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ إِثْبَاتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ إِنْعَامِهِ عَلَى عَبْدِهِ فَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ جَانِبِ اللَّهِ وَحَظِّ الْعَبْدِ، وَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ فَهُوَ حَظٌّ لِلْعَبْدِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ طَلَبُهُ اللَّهَ أَنْ يَعْفُوَ عَمَّا يُؤَاخِذُهُ عَلَيْهِ.