الْمَجَالِ، وَأُحْجِمُ عَنِ الزَّجِّ بِسِيَةِ قَوْسِي فِي هَذَا النِّضَالِ. اتِّقَاءَ مَا عَسَى أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ مِنْ مَتَاعِبَ تَنُوءُ بِالْقُوَّةِ، أَوْ فَلَتَاتِ سِهَامِ الْفَهْمِ وَإِنْ بَلَغَ سَاعِدُ الذِّهْنِ كَمَال الفتوّة، فيقيت أُسَوِّفُ النَّفْسَ مَرَّةً وَمَرَّةً أَسُومُهَا زَجْرًا، فَإِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا تَصْمِيمًا أَحَلْتُهَا عَلَى فُرْصَةٍ أُخْرَى، وَأَنَا آمُلُ أَنْ يُمْنَحَ مِنَ التَّيْسِيرِ، مَا يُشَجِّعُ عَلَى قَصْدِ هَذَا الْغَرَضِ الْعَسِيرِ، وَفِيمَا أَنَا بَيْنَ إِقْدَامٍ وَإِحْجَامٍ، أَتَخَيَّلُ هَذَا الْحَقْلَ مَرَّةً الْقَتَادَ وَأُخْرَى الثُّمَامَ إِذَا أَنَا بِأَمَلِي قَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّهُ تَبَاعَدَ أَو انْقَضى، إِذا قُدِّرَ أَنْ تُسْنَدَ إِلَيَّ خُطَّةُ الْقَضَا (١)، فَبَقِيتُ مُتَلَهِّفًا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ، وَأَضْمَرْتُ تَحْقِيقَ هَاتِهِ الْأُمْنِيَّةِ مَتَى أَجْمَلَ اللَّهُ الْخَلَاصَ، وَكُنْتُ أُحَادِثُ بِذَلِكَ الْأَصْحَابَ وَالْإِخْوَانَ، وَأَضْرِبُ الْمَثَلَ بِأَبِي الْوَلِيدِ ابْنِ رُشْدٍ فِي كِتَابِ «الْبَيَانِ» (٢)، وَلَمْ أَزَلْ كُلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ يَزْدَادُ التَّمَنِّي وَأَرْجُو إِنْجَازَهُ، إِلَى أَن أَو شكّ أَنْ تَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةُ الْحِيَازَةِ، فَإِذَا اللَّهُ قَدْ مَنَّ بِالنَّقْلَةِ إِلَى خُطَّةِ الْفُتْيَا (٣)، وَأَصْبَحَتِ الْهِمَّةُ مَصْرُوفَةً إِلَى مَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْهِمَمُ الْعُلْيَا، فَتَحَوَّلَ إِلَى الرَّجَاءِ ذَلِكَ الْيَأْسُ، وَطَمِعْتُ أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيعلمهَا النَّاس (٤). هُنَا لَك عَقَدْتُ الْعَزْمَ عَلَى تَحْقِيقِ مَا كُنْتُ أَضْمَرْتُهُ، وَاسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَخَرْتُهُ، وَعَلِمْتُ أَنَّ مَا يَهُولُ مِنْ تَوَقُّعِ كَلَلٍ أَوْ غَلَطٍ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحُولَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَسْجِ هَذَا النَّمَطِ، إِذَا بَذَلْتُ الْوُسْعَ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَتَوَخَّيْتُ طُرُقَ الصَّوَابِ وَالسَّدَادِ.
أَقْدَمْتُ عَلَى هَذَا الْمُهِمِّ إِقْدَامَ الشُّجَاعِ عَلَى وَادِي السِّبَاعِ (٥) مُتَوَسِّطًا فِي مُعْتَرَكِ أَنْظَارِ
_________
(١) فِي ٢٦ رَمَضَان ١٣٣١ هـ وَالْقَضَاء هُنَا بِالْقصرِ لمراعاة السجع.
(٢) حَيْثُ ذكر أَنه شرع فِيهِ، ثمَّ عاقه عَنهُ تَقْلِيد خطة الْقَضَاء بقرطبة فعزم على الرُّجُوع إِلَيْهِ إِن أُرِيح من الْقَضَاء، وَأَنه عرض عزمه على أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن يُوسُف ابْن تاشفين، فَأَجَابَهُ لذَلِك وأعفاه من الْقَضَاء ليعود إِلَى إِكْمَال كِتَابه «الْبَيَان والتحصيل» وَهَذَا الْكتاب هُوَ شرح جليل على كتاب «الْعُتْبِيَّة» الَّذِي جمع فِيهِ الْعُتْبِي سَماع أَصْحَاب مَالك مِنْهُ، وَسَمَاع أَصْحَاب ابْن الْقَاسِم مِنْهُ.
(٣) فِي ٢٦ رَجَب ١٣٤١ هـ.
(٤) أردْت الْإِشَارَة إِلَى الحَدِيث: «لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ» لِأَنَّهُ يتَعَيَّن أَن لَا يكون المُرَاد خُصُوص الْجمع بَين الْقَضَاء بهَا وَتَعْلِيمهَا، بل يحصل الْمَقْصُود وَلَو بِأَن يقْضى بهَا مُدَّة، وَيعلمهَا النَّاس مُدَّة أُخْرَى.
(٥) وَادي السبَاع مَوضِع بَين مَكَّة وَالْبَصْرَة وَهُوَ وَاد قفر من السكان تكْثر بِهِ السبَاع قَالَ سحيم بن وثيل:


أُنْزِلَتْ إِلَيْهِ فِي نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، لِئَلَّا يَكُونَ الْقُرْآنُ الَّذِي فِيهِ الْأَمْرُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ نَازِلًا بَعْدَ مَقَالَةِ الْمُشْرِكِينَ فَيَشْمَخُوا بِأُنُوفِهِمْ يَقُولُونَ غَيَّرَ مُحَمَّدٌ قِبْلَتَهُ مِنْ أَجْلِ اعْتِرَاضِنَا عَلَيْهِ فَكَانَ لِمَوْضِعِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا أَفْضَلُ تَمَكُّنٍ وَأَوْثَقُ رَبْطٍ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ نُزُولِهَا قَبْلَ آيَةِ النَّسْخِ وَهِيَ قَوْلُهُ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [الْبَقَرَة: ١٤٤] الْآيَاتِ، لِأَنَّ مَقَالَةَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ تَوَقُّعَهَا حَاصِلٌ قَبْلَ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَنَاشِئٌ عَنِ التَّنْوِيهِ بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَالْكَعْبَةِ.
فَالْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ الْمُشْرِكُونَ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَبْيِينُهُ بِقَوْلِهِ مِنَ النَّاسِ، فَقَدْ عُرِفَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ أَنَّ لَفْظَ النَّاسِ يُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْيَهُودَ أَوْ أَهْلَ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَنَاسَبَ أَنْ يُقَالَ سَيَقُولُونَ بِالْإِضْمَارِ لِأَنَّ ذِكْرَهُمْ لَمْ يَزَلْ قَرِيبًا مِنَ الْآيِ السَّابِقَةِ إِلَى قَوْله: وَلا تُسْئَلُونَ
[الْبَقَرَة: ١٣٤، ١٤١] الْآيَةَ. وَيُعَضِّدُنَا فِي هَذَا مَا ذَكَرَ الْفَخْرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَالْحَسَنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّفَهَاءِ الْمُشْرِكُونَ وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ قَوْلُ الزَّجَّاجِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُنَافِقِينَ وَقَدْ سَبَقَ وَصْفُهُمْ بِهَذَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُبْطِنُونَ الشِّرْكَ، وَالَّذِي يَبْعَثُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ عَيْنُ الَّذِي يَبْعَثُ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ السُّفَهَاءَ هُنَا هُمُ الْمُنَافِقُونَ.
أَمَّا الَّذِينَ فَسَّرُوا السُّفَهاءُ بِالْيَهُودِ فَقَدْ وَقَعُوا فِي حَيْرَةٍ مِنْ مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ لِظُهُورِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ نَاشِئٌ عَنْ تَغْيِيرِ الْقِبْلَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَذَلِكَ قَدْ وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِهِ قَبْلَ سَمَاعِ الْآيَةِ النَّاسِخَةِ لِلْقِبْلَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ مُوَافَقَةُ التِّلَاوَةِ لِلنُّزُولِ فَكَيْفَ يَقُولُ السُّفَهَاءُ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَ حُدُوثِ دَاعٍ إِلَيْهِ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَطْعَنُونَ فِي التَّحَوُّلِ عَنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِأَنَّهُ مَسْجِدُهُمْ وَهُوَ قِبْلَتُهُمْ فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِذَلِكَ جَزَمَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ (١) مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ حَدِيثَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَوَقَعَ فِيهِ «فَقَالَ السُّفَهَاءُ- وَهُمُ الْيَهُودُ- مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَأَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ (٢) مِنْ
طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بِغَيْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلَكِنْ قَالَ عِوَضَهَا: «وَكَانَتِ الْيَهُودُ
_________
(١) انْظُر: «فتح الْبَارِي»
لِابْنِ حجر (١/ ٥٠٢- دَار الْمعرفَة- كتاب الصَّلَاة (٣١) بَاب التَّوَجُّه نَحْو الْقبْلَة حَيْثُ كَانَ.
(٢) الْمصدر السَّابِق (١/ ٩٥)، دَار الْمعرفَة، كتاب الْإِيمَان (٣٠) بَاب الصَّلَاة من الْإِيمَان.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ وَالرسل خَبَرٌ، وَلَيْسَ الرُّسُلُ بَدَلًا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِأَنَّهَا الرُّسُلُ أَوْقَعُ فِي اسْتِحْضَارِ الْجَمَاعَةِ الْعَجِيبِ شَأْنُهُمُ الْبَاهِرِ خَبَرُهُمْ، وَجُمْلَةُ «فَضَّلْنَا» حَالٌ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَمْجِيدُ سُمْعَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ هَاتِهِ الْفِئَةَ الطَّيِّبَةَ مَعَ عَظِيمِ شَأْنِهَا قَدْ فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَأَسْبَابُ التَّفْضِيلِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، غَيْرَ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَا جَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْمُصْلِحَةِ لِلْبَشَرِ وَمِنْ نَصْرِ الْحَقِّ، وَمَا لَقُوهُ مِنَ الْأَذَى فِي سَبِيلِ ذَلِكَ، وَمَا أُيِّدُوا بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ الْعَظِيمَةِ الْمُتَفَاوِتَةِ فِي هُدَى الْبَشَرِ، وَفِي عُمُومِ ذَلِكَ الْهُدَى وَدَوَامِهِ، وَإِذَا
كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ»
، فَمَا بَالُكَ بِمَنْ هَدَى اللَّهُ بِهِمْ أُمَمًا فِي أَزْمَانٍ مُتَعَاقِبَةٍ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الرُّسُلِ. وَيَتَضَمَّنُ الْكَلَامُ ثَنَاءً عَلَيْهِمْ وَتَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ.
وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الرُّسُلِ بَعْضًا بِصِفَاتٍ يَتَعَيَّنُ بِهَا الْمَقْصُودُ مِنْهُمْ، أَوْ بِذِكْرِ اسْمِهِ، فَذَكَرَ ثَلَاثَةً إِذْ قَالَ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، وَهَذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِاشْتِهَارِهِ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَوَسَّطَ بَيْنِهِمَا الْإِيمَاءَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِهِ، بِقَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ.
وَقَوْلُهُ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَعْضِ هُنَا وَاحِدًا مِنَ الرُّسُلِ مُعَيَّنًا لَا طَائِفَةً، وَتَكُونَ الدَّرَجَاتُ مَرَاتِبَ مِنَ الْفَضِيلَةِ ثَابِتَةً لِذَلِكَ الْوَاحِدِ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَعْضِ جَمَاعَةً مِنَ الرُّسُلِ مُجْمَلًا، وَمِنَ الدَّرَجَاتِ دَرَجَاتٍ بَيْنَهُمْ لَصَارَ الْكَلَامُ تَكْرَارًا مَعَ قَوْلِهِ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بَعْضٌ فُضِّلَ عَلَى بَعْضٍ لَقَالَ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الْأَنْعَام: ١٦٥].
وَعَلَيْهِ فَالْعُدُولُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ أَوْ بِالْوَصْفِ الْمَشْهُورِ بِهِ لِقَصْدِ دَفْعِ الِاحْتِشَامِ عَنِ الْمُبَلِّغِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ بِالْبَعْضِ عَنِ
النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
مَرَرْت على وَادي السبَاع وَلَا أرى كوادي السبَاع حِين يظلم وَاديا
أقلّ بِهِ ركب أَتَوْهُ تئيّة وأخوف إلّا مَا وقى الله ساريا

وَرَوَى النَّوَّاسُ بْنُ سِمْعَانَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ
. وَمُقَابَلَةُ الْبِرِّ بِالْإِثْمِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبِرَّ ضِدُّ الْإِثْمِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: ١٧٧].
وَقَدْ جُعِلَ الْإِنْفَاقُ مِنْ نَفْسِ الْمَالِ الْمُحَبِّ غَايَةً لِانْتِفَاءِ نَوَالِ الْبِرِّ، وَمُقْتَضَى الْغَايَةِ أَنَّ نَوَالَ الْبِرِّ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ قَبْلَ الْإِنْفَاقِ مَسَافَاتٍ مَعْنَوِيَّةً فِي الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْبِرِّ، وَتِلْكَ هِيَ خِصَالُ الْبِرِّ كُلُّهَا بَقِيَتْ غَيْرَ مَسْلُوكَةٍ، وَأَنَّ الْبِرَّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِنِهَايَتِهَا وَهُوَ الْإِنْفَاقُ مِنَ المحبوب، فَظهر ل (حتّى) هُنَا مَوْقِعٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يَخْلُفُهَا فِيهِ غَيْرُهَا: لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ إِلَّا أَنْ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، لَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنَ الْمُحَبِّ وَحْدَهُ يُوجِبُ نَوَالَ الْبِرَّ، وَفَاتَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَسَافَاتِ وَالدَّرَجَاتِ الَّتِي أَشْعَرَتْ بِهَا (حتّى) الغائية.
و (تنالوا) مُشْتَقٌّ مِنَ النَّوَالِ وَهُوَ التَّحْصِيلُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُعْطَى.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْبِرِّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ: لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا
الْإِنْفَاقُ الْمَخْصُوصُ، فَبِدُونِهِ لَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ.
وَالْإِنْفَاقُ: إِعْطَاءُ الْمَالِ وَالْقُوتِ وَالْكِسْوَة.
وَمَا صدق (مَا) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُحِبُّونَ الْمَالَ: أَي المَال النَّفِيسَ الْعَزِيزَ عَلَى النَّفْسِ، وَسَوَّغَ هَذَا الْإِبْهَامَ هُنَا وُجُودُ تُنْفِقُوا إِذِ الْإِنْفَاقُ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ بذل المَال ف (من) لِلتَّبْعِيضِ لَا غَيْرَ، وَمَنْ جَوَّزَ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) لِلتَّبْيِينِ فَقَدْ سَهَا لأنّ التبيينية لَا بدّ أَنْ تُسْبَقَ بِلَفْظٍ مُبْهَمٍ.
وَالْمَالُ الْمَحْبُوبُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَرَغَبَاتِهِمْ، وَسَعَةِ ثَرَوَاتِهِمْ، وَالْإِنْفَاقُ مِنْهُ أَيِ التَّصُدُّقُ دَلِيلٌ عَلَى سَخَاءٍ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي ذَلِكَ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ بَقِيَّةِ مَا فِيهَا مِنَ الشُّحِّ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: ٩] وَفِي ذَلِكَ صَلَاحٌ عَظِيمٌ لِلْأُمَّةِ إِذْ تَجُودُ أَغْنِيَاؤُهَا عَلَى فُقَرَائِهَا بِمَا تَطْمَحُ إِلَيْهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ فَتَشْتَدُّ بِذَلِكَ أَوَاصِرُ الْأُخُوَّةِ، وَيَهْنَأُ عَيْشُ الْجَمِيعِ.
نَجَابَةِ الْوَلَدِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا كَانَ يَقَعُ بِتَرَاضٍ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَالْمَقْصِدُ لَا يَنْحَصِرُ فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَقَدْ يَكُونُ لِبَذْلِ مَالٍ أَوْ صُحْبَةٍ. فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ عَقْدٍ عَلَى نِكَاحِ ذَاتِ الزَّوْجِ، أَيْ تَحْرِيمِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدٍ. وَأَفَادَتِ الْآيَةُ تَعْمِيمَ حُرْمَتِهِنَّ وَلَوْ كَانَ أَزْوَاجُهُنَّ مُشْرِكِينَ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أَيْ إِلَّا اللَّائِي سَبَيْتُمُوهُنَّ فِي الْحَرْبِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كِنَايَةٌ عَنِ الْيَدِ حِينَ تُمْسِكُ السَّيْفَ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ السَّبْيَ هَادِمًا لِلنِّكَاحِ تَقْرِيرًا لِمُعْتَادِ الْأُمَمِ فِي الْحُرُوبِ، وَتَخْوِيفًا أَنْ لَا يُنَاصِبُوا الْإِسْلَامَ لِأَنَّهُمْ لَوْ رُفِعَ عَنْهُمُ السَّبْيُ لَتَكَالَبُوا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ لَا شَيْءَ يَحْذَرُهُ الْعَرَبِيُّ مِنَ الْحَرْبِ أَشَدُّ مِنْ سَبْيِ نِسْوَتِهِ، ثُمَّ مِنْ أَسْرِهِ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا أَوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
حِذَارًا عَلَى أَنْ لَا تُنَالَ مَقَادَتِي وَلَا نِسْوَتِي حَتَّى يَمُتْنَ حَرَائِرَا
وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ سَبْيَ الْمَرْأَةِ دُونَ زَوْجِهَا يَهْدِمُ النِّكَاحَ، وَيُحِلُّهَا لِمَنْ وَقَعَتْ فِي قِسْمَتِهِ عِنْدَ قِسْمَةِ الْمَغَانِمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الَّتِي تُسْبَى مَعَ زَوْجِهَا: فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ سَبْيَهَا يَهْدِمُ نِكَاحَهَا، وَهَذَا إِغْضَاءٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا إِبْقَاءُ حُكْمِ الِاسْتِرْقَاقِ بِالْأَسْرِ. وَأَوْمَأَتْ إِلَيْهَا الصِّلَةُ بِقَوْلِهِ: مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَإِلَّا لَقَالَ: إِلَّا مَا تَرَكَتْ
أَزْوَاجَهُنَّ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ دُخُولَ الْأَمَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ فِي مِلْكٍ جَدِيدٍ غَيْرِ مِلْكِ الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجِ يُسَوِّغُ لِمَالِكِهَا الْجَدِيدِ إِبْطَالَ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، كَالَّتِي تُبَاعُ أَوْ تُوهَبُ أَوْ تُورَثُ، فَانْتِقَالُ الْمِلْكِ عِنْدَهُمْ طَلَاقٌ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ شُذُوذٌ فَإِنَّ مَالِكَهَا الثَّانِيَ إِنَّمَا اشْتَرَاهَا عَالِمًا بِأَنَّهَا ذَاتُ زَوْجٍ، وَكَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَصْحِيحُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِبْقَاءُ صِيغَةِ الْمُضِيِّ عَلَى ظَاهِرِهَا فِي قَوْلِهِ: مَلَكَتْ أَيْ مَا كُنَّ مَمْلُوكَاتٍ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ. وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مَلَكَتْ مَا تَجَدَّدَ مِلْكُهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حُرَّةً ذَاتَ زَوْجٍ. فَالْفِعْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّجَدُّدِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَحَيَّرَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ: «لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا يَعْلَمُ تَفْسِيرَهَا لَضَرَبْتُ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ». وَلَعَلَّهُ يَعْنِي مَنْ يَعْلَمُ تَفْسِيرَهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ
تَسْتَحِيلُ حَقِيقَتِهِمَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمَا انْفِعَالَانِ لِلنَّفْسِ نَحْوَ اسْتِحْسَانِ الْحَسَنِ، وَاسْتِنْكَارِ الْقَبِيحِ، فَالْمُرَادُ لَازِمُهُمَا الْمُنَاسِبُ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَهُمَا الرِّضَا وَالْغَضَبُ.
وَصِيغَةُ لَا يُحِبُّ، بِحَسَبِ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ، صِيغَةُ نَفْيِ الْإِذْنِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ. وَهَذَا الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّ لَا يُحِبُّ يُفِيدُ مَعْنَى يَكْرَهُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى النَّهْيِ.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا- إِلَى قَوْلِهِ- وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ»
. فَهَذِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ أَكْثَرُ أَحْوَالِهَا مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ.
وَالْمُرَادُ بِالْجَهْرِ مَا يَبْلُغُ إِلَى أَسْمَاعِ النَّاسِ إِذْ لَيْسَ السِّرُّ بِالْقَوْلِ فِي نَفْسِ النَّاطِقِ مِمَّا يَنْشَأُ عَنْهُ ضُرٌّ. وَتَقْيِيدُهُ بِالْقَوْلِ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ أَنْوَاعِ الْأَذَى فَيُعْلَمُ أَنَّ السُّوءَ مِنَ الْفِعْلِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا.
وَاسْتَثْنَى مَنْ ظُلِمَ فَرَخَّصَ لَهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ. وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ فَاعِلُ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ الْوَاقِعِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، الْمُفِيدُ لِلْعُمُومِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ جَهْرَ أَحَدٍ بِالسُّوءِ، أَوْ يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى مُضَافًا مَحْذُوفًا، أَيْ: إِلَّا جَهْرَ مَنْ ظُلِمَ، وَالْمَقْصُودُ ظَاهِرٌ، وَقَدْ قُضِيَ فِي الْكَلَامِ حَقُّ الْإِيجَازِ.
وَرَخَّصَ اللَّهُ لِلْمَظْلُومِ الْجَهْر بالْقَوْل السيّء لِيَشْفِيَ غَضَبَهُ، حَتَّى لَا يَثُوبَ إِلَى السَّيْفِ أَوْ إِلَى الْبَطْش بِالْيَدِ، فَفِي هَذَا الْإِذْنِ تَوْسِعَةٌ عَلَى مَنْ لَا يَمْسِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ لِحَاقِ الظُّلْمِ بِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا هُوَ الِاحْتِرَاسُ فِي حُكْمِ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْإِذْنِ لِلْمَظْلُومِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا لَا يَتَجَاوَزُ حَدَّ التَّظَلُّمِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ظَالِمِهِ، أَوْ شِكَايَةَ ظُلْمِهِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ: ظَلَمْتَنِي، أَوْ أَنْتَ ظَالِمٌ وَأَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ ظَالِمٌ. وَمِنْ ذَلِكَ الدُّعَاءُ عَلَى الظَّالِمِ جَهْرًا لِأَنَّ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ إِعْلَانٌ بِظُلْمِهِ وَإِحَالَتِهِ عَلَى عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِمَا لَا يُؤَدِّي إِلَى الْقَذْفِ، فَإِنَّ دَلَائِلَ النَّهْيِ عَنِ الْقَذْفِ وَصِيَانَةَ النَّفْسِ مِنْ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِحَدِّ الْقَذْف أَو تعزيز الْغِيبَةِ، قَائِمَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ. فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُفِيدٌ إِبَاحَةَ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ مِنْ جَانِبِ
وَالْوِجْدَانُ هَنَا وِجْدَانٌ قَلْبِيٌّ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ يُعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٩٦].
وَانْتَصَبَ عَداوَةً عَلَى تَمْيِيزِ نِسْبَةِ أَشَدَّ إِلَى النَّاسِ، وَمِثْلُهُ انْتِصَابُ مَوَدَّةً.
وَذَكَرَ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْيَهُودِ لِمُنَاسَبَةِ اجْتِمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى عَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ أَلَّفَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ بُغْضُ الْإِسْلَامِ فَالْيَهُودُ لِلْحَسَدِ عَلَى مَجِيءِ النُّبُوءَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ،
وَالْمُشْرِكُونَ لِلْحَسَدِ عَلَى أَنْ سَبَقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِالِاهْتِدَاءِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَنَبْذِ الْبَاطِلِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً أَيْ أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِسْلَامِ. وَهَذَانِ طَرَفَانِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَبَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فِرَقٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي بُغْضِ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلُ الْمَجُوسِ وَالصَّابِئَةِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْمُعَطِّلَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّصَارَى هُنَا الْبَاقُونَ عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ لَا مَحَالَةَ، لِقَوْلِهِ: أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا. فَأَمَّا مَنْ آمَنَ مِنَ النَّصَارَى فَقَدْ صَارَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ [الْمَائِدَة: ١٤]، الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمُ الْتَزَمُوا أَنْ يَكُونُوا أنصار الله قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [الصَّفّ: ١٤]، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ نَظِيرِهِ. فَالْمَقْصُودُ هُنَا تَذْكِيرُهُمْ بِمَضْمُونِ هَذَا اللَّقَبِ لِيَزْدَادُوا مِنْ مَوَدَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَتَّبِعُوا دِينَ الْإِسْلَامِ.
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَقْرَبُ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا.
وَالْحَشْرُ:
الْجَمْعُ، وَمِنْهُ: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ [النَّمْل: ١٧]. وَضُمِّنَ مَعْنَى الْبَعْثِ والإرسال فعدّي بعلى كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا [الْإِسْرَاء: ٥]. وكُلَّ شَيْءٍ يَعُمُّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا. لَكِنَّ الْمَقَامَ يُخَصِّصُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا سَأَلُوهُ، أَوْ مِنْ جِنْسِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَالْآيَاتِ، فَهَذَا مِنَ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى، فِي رِيحِ عَادٍ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الْأَحْقَاف: ٢٥] وَالْقَرِينَةُ هِيَ مَا ذَكَرَ قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى.
وَقَوْلُهُ: قُبُلًا قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ-، وَهُوَ
بِمَعْنَى الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ، أَيْ حَشَرْنَا كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِيَانًا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ- وَهُوَ لُغَةٌ فِي قِبَلَ بِمَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ وَالْمُعَايَنَةِ وَتَأَوَّلَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِتَأْوِيلَاتٍ أُخْرَى بَعِيدَةٍ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ، وَغَيْرِ مُنَاسِبَةٍ لِلْمَعْنَى.
وَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا هُوَ أَشَدُّ مِنْ (لَا يُؤْمِنُونَ) تَقْوِيَةً لِنَفْيِ إِيمَانِهِمْ، مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ، لِأَنَّهُمْ مُعَانِدُونَ مُكَابِرُونَ غَيْرُ طَالِبِينَ لِلْحَقِّ، لِأَنَّهُمْ لَوْ طَلَبُوا الْحَقَّ بِإِنْصَافٍ لَكَفَتْهُمْ مُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ، إِنْ لَمْ يَكْفِهِمْ وُضُوحُ الْحَقِّ فِيمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَالْمَعْنَى:
الْإِخْبَارُ عَنِ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ فِي أَجْدَرِ الْأَحْوَالِ بِأَنْ يُؤْمِنَ لَهَا مَنْ يُؤْمِنُ، فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ انْتِفَاءُ إِيمَانِهِمْ أَبَدًا.
وَلَوْ هَذِهِ هِيَ الْمُسَمَّاةُ لَوْ الصُّهَيْبِيَّةُ، وَسَنَشْرَحُ الْقَوْلَ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٢٣].
وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عُمُومُ نَفْيِ إِيمَانِهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، أَيْ حَالُ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تَغْيِيرَ قُلُوبِهِمْ فَيُؤْمِنُوا طَوْعًا، أَوْ أَنْ يُكْرِهَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ الَّتِي فِي أَوَائِلِ بَعْضِ السُّورِ هِيَ أَسْمَاءٌ لِلسُّوَرِ الْوَاقِعَةِ فِيهَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَلَا يَكُونُ (المص) اسْمًا لِلسُّورَةِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَيْهَا إِنَّمَا
هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى السُّورَةِ ذَاتِ المص، وَكَذَلِكَ سَمَّاهَا الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» فِي بَابِ سُجُودِ الْقُرْآنِ. وَلَمْ يَعُدُّوا هَذِهِ السُّوَرِ ذَاتِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ. وَأَمَّا مَا فِي حَدِيثِ زَيْدٍ من أنّها تدعى طُولَى الطُّولَيَيْنِ فَعَلَى إِرَادَةِ الْوَصْفِ دُونَ التلقيب. وَذكر الفيروز بَادِي فِي كتاب «بَصَائِرِ ذَوِي التَّمْيِيزِ» أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تُسَمَّى سُورَةَ الْمِيقَاتِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى ذِكْرِ مِيقَاتِ مُوسَى فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الْأَعْرَاف: ١٤٣]. وَأَنَّهَا تُسَمَّى سُورَةَ الْمِيثَاقِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى حَدِيثِ الْمِيثَاقِ فِي قَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى (١) [الْأَعْرَاف: ١٧٢].
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. ثُمَّ قِيلَ جَمِيعُهَا مَكِّيٌّ، وَهُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقِيلَ نَزَلَ بَعْضُهَا بِالْمَدِينَةِ، قَالَ قَتَادَة آيَة: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ [الْأَعْرَاف: ١٦٣] نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ من قَوْله: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم [الْأَعْرَاف: ١٧٢] نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ نزلت بِمَكَّةَ ثُمَّ أُلْحِقَ بِهَا الْآيَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَأَكْمَلَ مِنْهَا بَقِيَّتَهَا تَانِكَ الْآيَتَانِ.
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَا يُضْبَطُ بِهِ تَارِيخُ نُزُولِهَا وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ ص وَقبل سُورَةِ قُلْ أُوحِيَ [الْجِنّ: ١]، وَظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ سُورَةَ قُلْ أُوحِيَ أُنْزِلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ حِينَ
_________
(١) طبع مطابع شركَة الإعلانات الشّرقيّة بِالْقَاهِرَةِ سنة ١٣٨٤ هـ، صفحة ٢٠٣ الْجُزْء الأوّل.
وَخِطَابُهُمْ إِيَّاهُ بِالنِّدَاءِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ خِطَابِ الْغَضَبِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ قَوْلَ آزَرَ خِطَابًا لِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ [مَرْيَم: ٤٦].
وَقَوْلُهُ: مَعَكَ مُتَعَلِّقٌ بِ لَنُخْرِجَنَّكَ، وَمُتَعَلِّقُ آمَنُوا مَحْذُوفٌ، أَيْ بِكَ، لِأَنَّهُمْ
لَا يَصِفُونَهُمْ بِالْإِيمَانِ الْحَقِّ فِي اعْتِقَادِهِمْ.
وَالْقَرْيَةُ (الْمَدِينَةُ) لِأَنَّهَا يَجْتَمِعُ بِهَا السُّكَّانُ. وَالتَّقَرِّي: الِاجْتِمَاعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [الْبَقَرَة: ٢٥٩]، وَالْمُرَادُ بِقَرْيَتِهِمْ هُنَا هِيَ (الْأَيْكَةُ) وَهِيَ (تَبُوكُ) وَقَدْ رَدَّدُوا أَمْرَ شُعَيْبٍ وَمَنْ مَعَهُ بَيْنَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْقَرْيَةِ وَبَيْنَ الْعَوْدِ إِلَى مِلَّةِ الْكُفْرِ.
وَقَدْ جَعَلُوا عَوْدَ شُعَيْبٍ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِلَى مِلَّةِ الْقَوْمِ مُقْسَمًا عَلَيْهِ فَقَالُوا: أَوْ لَتَعُودُنَّ وَلَمْ يَقُولُوا: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ تَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا تَرْدِيدَ الْأَمْرَيْنِ فِي حَيِّزِ الْقَسَمِ لِأَنَّهُمْ فَاعِلُونَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّهُمْ مُلِحُّونَ فِي عَوْدِهِمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ.
وَكَانُوا يَظُنُّونَ اخْتِيَارَهُ الْعَوْدَ إِلَى مِلَّتِهِمْ، فَأَكَّدُوا هَذَا الْعَوْدَ بِالْقَسَمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا مَحِيدَ عَنْ حُصُولِهِ عِوَضًا عَنْ حُصُولِ الْإِخْرَاجِ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مُرْضٍ لِلْمُقْسِمِينَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّوْكِيدَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ إِنْ أَبَوُا الْخُرُوجَ مِنَ الْقَرْيَةِ فَإِنَّهُمْ يُكْرَهُونَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى مِلَّةِ الْقَوْمِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ شُعَيْبٍ فِي جوابهم: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ لِلتَّوَعُّدِ وَالتَّهْدِيدِ كَانَ ذِكْرُ الْإِخْرَاجِ مِنْ أَرْضِهِمْ أَهَمَّ، فَلِذَلِكَ قَدَّمُوا الْقَسَمَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَعَقَبُوهُ بِالْمَعْطُوفِ بِحَرْفِ (أَوْ).
وَالْعَوْدُ: الرُّجُوعُ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ الْمَرْءُ مِنْ مَكَانٍ أَوْ عَمَلٍ، وَجَعَلُوا مُوَافَقَةَ شُعَيْبٍ إِيَّاهُمْ عَلَى الْكُفْرِ عَوْدًا لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ شُعَيْبًا كَانَ عَلَى دِينِهِمْ، حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَهُمْ يَحْسَبُونَهُ، مُوَافِقًا لَهُمْ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ. وَشَأْنُ الَّذِينَ أَرَادَهُمُ اللَّهُ لِلنُّبُوءَةِ أَنْ يَكُونُوا غَيْرَ مُشَارِكِينَ لِأَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ يَكُونُونَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِمْ فِي حَالَةِ خُلُوٍّ عَنِ الْإِيمَانِ حَتَّى يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ تَدْرِيجًا، وَقَوْمُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بَاطِنَهُمْ فَلَا حَيْرَةَ فِي تَسْمِيَةِ قَوْمِهِ مُوَافَقَتَهُ إِيَّاهُمْ عَوْدًا.
وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءِ مَعْصُومُونَ مِنَ الشِّرْكِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ عِيَاضٌ فِي «الشِّفَاءِ» فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَأَوْرَدَ قَوْلَ شُعَيْبٍ: إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ [الْأَعْرَاف: ٨٩] وَتَأَوَّلَ الْعَوْدَ بِأَنَّهُ الْمَصِيرُ، وَذَلِكَ تَأْوِيلُ كَثِيرٍ مِنْ
وَقَدِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ قَدِيمًا فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَغْنَمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمْ تَنْضَبِطْ تَقَارِيرُ أَصْحَابِ التَّفَاسِيرِ فِي طَرِيقَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ كَلَامِهِمْ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَلَطَهَا مَعَ آيَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ، فَجَعَلَ هَذِهِ نَاسِخَةً لِآيَةِ الْحَشْرِ وَالْعَكْسَ، أَوْ أَنَّ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ مُخَصِّصَةً لِلْأُخْرَى: إِمَّا فِي السِّهَامِ، وَإِمَّا فِي أَنْوَاعِ الْمَغَانِمِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَطُولُ. وَتَرَدَّدُوا فِي مُسَمَّى الْفَيْءِ فَصَارَتْ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ مَجَالًا لِاخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ: النَّفْلُ، وَالْغَنِيمَةُ، وَالْفَيْءُ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، واتّصالها بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الْأَنْفَالِ: ١] أَنَّ المُرَاد بقوله: أَنَّما غَنِمْتُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا حَصَّلْتُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ مِنْ مَتَاعِ الْجَيْشِ، وَذَلِكَ مَا سُمِّيَ بِالْأَنْفَالِ، فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَالنَّفْلُ وَالْغَنِيمَةُ مُتَرَادِفَانِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ:
الْأَنْفَالُ الْغَنَائِمُ. وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ إِذْ قَالَ تَعَالَى هُنَا غَنِمْتُمْ وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَة [الْأَنْفَال: ١] : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ التَّعْبِيرَ هُنَا بِفِعْلٍ، وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِعْلٌ مِنْ مَادَّةِ النَّفْلِ يُفِيدُ إِسْنَادَ مَعْنَاهُ إِلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ، وَلِذَلِكَ فَآيَةُ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ سِيقَتْ هُنَا بَيَانا لآيَة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فَإِنَّهُمَا وَرَدَتَا فِي انْتِظَامٍ مُتَّصِلٍ مِنَ الْكَلَامِ. وَنَرَى أَنَّ تَخْصِيصَ اسْمِ النَّفْلِ بِمَا يُعْطِيهِ أَمِيرُ الْجَيْشِ أَحَدَ الْمُقَاتِلِينَ زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ كَانَ سَلْبًا أَوْ نَحْوَهُ مِمَّا يَسَعُهُ الْخُمُسُ أَوْ مِنْ أَصْلِ مَالِ الْغَنِيمَةِ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي، إِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ شَاعَ بَيْنَ أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْأَنْفَالَ مَا يَصِلُ إِلَى
الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَجَعَلَهَا بِمَعْنَى الْفَيْءِ، فَمَحْمَلُهُ عَلَى بَيَانِ الِاصْطِلَاحِ الَّذِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنْ بَعْدُ.
وَتَعْبِيرَاتُ السَّلَفِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالنَّفْلِ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، وَهَذَا مِلَاكُ الْفَصْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِتَمْيِيزِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ فِي الْقِتَالِ، فَأَمَّا صُوَرُ قِسْمَتِهَا فَسَيَأْتِي بَعْضُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ، وَيُقَالُ: لَهَا الْمَغْنَمُ، مَا يَأْخُذُهُ الْغُزَاةُ مِنْ أَمْتِعَةِ الْمُقَاتِلِينَ غَصْبًا، بِقَتْلٍ أَوْ بِأَسْرٍ، أَوْ يَقْتَحِمُونَ دِيَارَهُمْ غَازِينَ، أَوْ مَا يَتْرُكُهُ الْأَعْدَاءُ
إِذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً، أَيْ إِنَّمَا السَّبِيلُ الْمَنْفِيُّ عَنِ الْمُحْسِنِينَ مُثبت للَّذين يَسْتَأْذِنُونَك وَهُمْ أَغْنِيَاءُ.
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي سُورَةِ الشُّورَى [٤٢]. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبِيلِ الْعَذَابُ.
وَالْمَعْنَى لَيْسَتِ التَّبِعَةُ وَالْمُؤَاخَذَةُ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، الَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَلَا عُذْرَ لَهُمْ يُخَوِّلُهُمُ التَّخَلُّفُ. وَقَدْ سَبَقَتْ آيَةُ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٠]، وَأُحِيلَ هُنَالِكَ تَفْسِيرُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِجَوَابِ سُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنْ عِلَّةِ اسْتِيذَانِهِمْ فِي التَّخَلُّفِ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، أَيْ بَعَثَهُمْ عَلَى ذَلِكَ رِضَاهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ مِنَ النِّسَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا.
وَأُسْنِدَ الطَّبْعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ إِلَى اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِخِلَافِ مَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ [التَّوْبَة: ٨٧] لَعَلَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ طَبْعٌ غَيْرُ الطَّبْعِ الَّذِي جُبِلُوا عَلَيْهِ بَلْ هُوَ طَبْعٌ عَلَى طَبْعٍ أَنْشَأَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ لِغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ فَحَرَمَهُمُ النَّجَاةَ مِنَ الطَّبْعِ الْأَصْلِيِّ وَزَادَهُمْ عَمَايَةً، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى فُرِعَ عَلَيْهِ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِنَفْيِ أَصْلِ الْعِلْمِ عَنْهُمْ، أَيْ يَكَادُونَ أَنْ يساووا العجماوات.
[٩٤]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٩٤]
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِذَارَ لَيْسَ قَاصِرًا على الَّذين يستأذنون فِي التَّخَلُّفِ فَإِنَّ الْإِذْنَ لَهُمْ يُغْنِيهِمْ عَنِ التَّبَرُّؤِ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، فَضَمِيرُ يَعْتَذِرُونَ عَائِدٌ إِلَى أَقْرَبِ
يُهْمِلْهُ، لِأَنَّ (عَلَى) تَدُلُّ عَلَى اللُّزُومِ وَالْمَحْقُوقِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَا يُلْزِمُهُ أَحَدٌ شَيْئًا، فَمَا أَفَادَ مَعْنَى اللُّزُومِ فَإِنَّمَا هُوَ الْتِزَامُهُ بِنَفْسِهِ بِمُقْتَضَى صِفَاتِهِ الْمُقْتَضِيَةِ ذَلِكَ لَهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعْداً عَلَيْنا [الْأَنْبِيَاء: ١٠٤] وَقَوْلُهُ: حَقًّا عَلَيْنا [يُونُس: ١٠٣].
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ رِزْقُ الدَّوَابِّ فِي ظَاهِرِ مَا يَبْدُو لِلنَّاسِ أَنَّهُ رِزْقٌ مِنْ أَصْحَابِ الدَّوَابِّ وَمَنْ يُرَبُّونَهَا، أَيْ رِزْقُهَا عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ. فَالْمُسْتَثْنَى هُوَ الْكَوْنُ عَلَى اللَّهِ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُطْلَقُ الْكَوْنِ مِمَّا يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ رَزَّاقٌ فَحَصْرُ الرِّزْقِ فِي الْكَوْنِ عَلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فِي الْعُرْفِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ مُسَبِّبٌ ذَلِكَ الرِّزْقَ وَمُقَدِّرُهُ.
وَجُمْلَةُ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا عَلَى الْمُسْتَثْنَى، أَيْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّ كُلِّ دَابَّةٍ وَمُسْتَوْدَعِهَا. فَلَيْسَ حُكْمُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِدَاخِلٍ فِي حَيِّزِ الْحَصْرِ.
وَالْمُسْتَقَرُّ: مَحَلُّ اسْتِقْرَارِهَا. وَالْمُسْتَوْدَعُ: مَحَلُّ الْإِيدَاعِ، وَالْإِيدَاعُ: الْوَضْعُ وَالدَّخَرُ.
وَالْمُرَادُ بِهِ مُسْتَوْدَعُهَا فِي الرَّحِمِ قَبْلَ بُرُوزِهَا إِلَى الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٨].
وَتَنْوِينُ كُلٌّ تَنْوِينِ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ اخْتِصَارٌ، أَيْ كُلُّ رِزْقِهَا وَمُسْتَقَرِّهَا وَمُسْتَوْدَعِهَا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، أَيْ كِتَابَةٍ، فَالْكِتَابُ هُنَا مَصْدَرٌ كَقَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النِّسَاء: ٢٤]. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَقْدِيرِ الْعِلْمِ وَتَحْقِيقِهِ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ زِيَادَةً وَلَا نُقْصَانًا وَلَا تَخَلُّفًا. كَمَا أَنَّ الْكِتَابَةَ يُقْصَدُ مِنْهَا أَنْ لَا يُزَادَ فِي الْأَمْرِ وَلَا يُنْقَصَ وَلَا يُبْطَلَ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
حَذَرَ الْجَوْرِ والتطاخي وَهل ينْقض مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ وَالْمُبِينُ: اسْمُ فَاعِلِ أَبَانَ بِمَعْنَى: أَظْهَرَ، وَهُوَ تَخْيِيلٌ لِاسْتِعَارَةِ الْكِتَابِ لِلتَّقْدِيرِ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُوَضِّحٌ لِمَنْ يُطَالِعُهُ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَقَدَرَهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ قَوْمَهَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَيُحَرِّمُونَ الْحَرَامَ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سُورَة العنكبوت: ٦١] وَكَانُوا يَعْرِفُونَ الْبِرَّ وَالذَّنْبَ.
وَفِي اعْتِرَافِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ عِبْرَةٌ بِفَضِيلَةِ الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ، وَتَبْرِئَةُ الْبَرِيءِ مِمَّا أُلْصِقَ بِهِ، وَمِنْ خَشْيَةِ عِقَابِ اللَّهِ الْخَائِنِينَ.
وَقِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ
فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ
الْآيَة [سُورَة يُوسُف: ٥٠].
وَقَوْلُهُ: قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ [سُورَة يُوسُف: ٥١- ٥٢] اعْتِرَاضٌ فِي خِلَالِ كَلَامِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَبِذَلِكَ فَسَّرَهَا مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الطَّبَرِيُّ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :(وَكَفَى بِالْمَعْنَى دَلِيلًا قَائِدًا إِلَى أَنْ يُجْعَلَ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ- ثُمَّ قَالَ- فَماذا تَأْمُرُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف:
١٠٩- ١١٠] وَهُوَ مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ يُخَاطِبُهُمْ وَيَسْتَشِيرُهُمْ) اه. يُرِيدُ أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَلْيَقُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ قَلْبٍ مَلِيءٍ بِالْمَعْرِفَةِ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: لَمْ أَخُنْهُ [سُورَة يُوسُف: ٥٢] عَائِدًا إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ مَقَامِ الْقَضِيَّةِ وَهُوَ الْعَزِيزُ، أَيْ لَمْ أَخُنْ سَيِّدِي فِي حُرْمَتِهِ حَالَ مَغِيبِهِ.
وَيَكُونُ مَعْنَى وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِلَخْ.. مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ قَصَدَ بِهِ التَّوَاضُعَ، أَيْ لَسْتُ أَقُولُ هَذَا ادِّعَاءً بِأَنَّ نَفْسِي بَرِيئَةٌ مِنِ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ إِلَّا مُدَّةَ رَحْمَةِ اللَّهِ النَّفْسَ بِتَوْفِيقِهَا لِأَكُفَّ عَنِ السُّوءِ، أَيْ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْ مَا اتُّهِمْتُ بِهِ وَأَنَا لست بمعصوم.
وَلَوْ سَلِمَ هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ جِهَتَيْهِ فَقَدْ يَكُونُ لِأَنَّ الْيَهُودَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَلِيلٍ فَقَالُوا ذَلِكَ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَهَمَّهُمْ أَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارُوا فِي أَمْرِهِ يَهُودَ الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» يَنْبَغِي اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَأْخِرِينَ
لِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَأَنَّهَا فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ اه.
وَهُوَ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ الْجُذَامِيِّ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْنَاءُ فَكَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يَكُونَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِئَلَّا يَرَاهَا، وَيَسْتَأْخِرُ بَعْضُهُمْ حَتَّى يَكُونَ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ (أَيْ مِنْ صُفُوفِ الرِّجَالِ) فَإِذَا رَكَعَ نَظَرَ مِنْ تَحْتِ إِبِطَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَهَذَا أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ أَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ نُوحٍ اه. وَهَذَا تَوْهِينٌ لِطَرِيقِ نُوحٍ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: «وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْجَوْزَاءِ فَقَطْ لَيْسَ فِيهِ لِابْنِ عَبَّاسٍ ذِكْرٌ، فَلَا اعْتِمَادَ إِلَّا عَلَى حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ مَقْطُوعٌ.
وَعَلَى تَصْحِيحِ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَقَدْ عُدَّتِ الرَّابِعَةَ وَالْخَمْسِينَ فِي عَدَدِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يُوسُفَ وَقَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَمِنَ الْعَجِيبِ اخْتِلَافُهُمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى آيَةِ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَقَدْ نَزَلَتْ عِنْدَ خُرُوجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دَارِ الْأَرْقَمِ فِي آخِرِ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ بَعْثَتِهِ.
وَعَدَدُ آيِهَا تِسْعٌ وَتِسْعُونَ بِاتِّفَاقِ الْعَادِّينَ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. قِيلَ: إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا، وَهُمَا وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ- إِلَى قَوْله قَلِيلًا [الْإِسْرَاء: ٧٣- ٧٦]. وَقِيلَ: إِلَّا أَرْبَعًا، هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الْإِسْرَاء: ٦٠] وَقَوْلُهُ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٨٠]. وَقِيلَ: إِلَّا خَمْسًا، هَاتِهِ الْأَرْبَعُ، وَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِلَى آخر السُّورَة [الْإِسْرَاء: ١٠٧]. وَقِيلَ: إِلَّا خَمْسَ آيَاتٍ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ الْمُبْتَدَأَةُ بِقَوْلِهِ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٣٣]، وَقَوْلُهُ:
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٣٢]، وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْآيَة
[الْإِسْرَاء: ٥٧]، وَقَوْلُهُ: أَقِمِ الصَّلاةَ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٧٨]، وَقَوْلُهُ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ الْآيَة [الْإِسْرَاء: ٢٦]. وَقِيلَ إِلَّا ثَمَانِيًا مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ- إِلَى قَوْلِهِ- سُلْطاناً نَصِيراً [الْإِسْرَاء: ٧٣- ٨٠].
وَأَحْسَبُ أَنَّ مَنْشَأَ هَاتِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَحْكَامِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا تِلْكَ الْأَقْوَالُ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْآيَ لَا تُنَاسِبُ حَالَةَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ أَنَّ تِلْكَ الْآيَ مَدَنِيَّةٌ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِتَفْسِيرِهَا.
وَيَظْهَرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زمن كثرت فِيهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ، وَأَخَذَ التَّشْرِيعُ الْمُتَعَلِّقُ بِمُعَامَلَاتِ جَمَاعَتِهِمْ يَتَطَرَّقُ إِلَى نُفُوسِهِمْ، فَقَدْ ذُكِرَتْ فِيهَا أَحْكَامٌ مُتَتَالِيَةٌ لَمْ تُذْكَرْ أَمْثَالُ عَدَدِهَا فِي سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ غَيْرِهَا عَدَا سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ إِلَى قَوْلِهِ: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الْإِسْرَاء: ٢٣- ٣٨].
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ الْإِسْرَاءِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِنَحْوِ سَنَةٍ وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ عَقِبَ وُقُوع الْإِسْرَاء بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكُونُ قَدْ نَزَلَتْ فِي حُدُودِ سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ، وَهِيَ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فِي مُنْتَصَفِ السَّنَةِ.
وَلَيْسَ افْتِتَاحُهَا بِذِكْرِ الْإِسْرَاءِ مُقْتَضِيًا أَنَّهَا نَزَلَتْ عَقِبَ وُقُوعِ الْإِسْرَاءِ. بَلْ يَجُوزُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ الْإِسْرَاءِ بِمُدَّةٍ.
وَهُنَا لَمْ يَعْتَذِرْ مُوسَى بِالنِّسْيَانِ: إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَسِيَ، وَلَكِنَّهُ رَجَّحَ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ بِدُونِ مُوجِبٍ، عَلَى وَاجِبِ الْوَفَاءِ بِالِالْتِزَامِ وَإِمَّا لِأَنَّهُ نَسِيَ وَأَعَرَضَ عَنِ الِاعْتِذَارِ بِالنِّسْيَانِ لِسَمَاجَةِ تَكَرُّرِ الِاعْتِذَارِ بِهِ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَدْ عَدَلَ إِلَى الْمُبَادَرَةِ بِاشْتِرَاطِ مَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ نَفْسُ صَاحِبِهِ بِأَنَّهُ إِنْ عَادَ لِلسُّؤَالِ الَّذِي لَا يَبْتَغِيهِ صَاحِبُهُ فَقَدْ جَعَلَ لَهُ أَنْ لَا يُصَاحِبَهُ بَعْدَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم: «كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، وَالثَّانِيَةُ شَرْطًا»
، فَاحْتَمَلَ كَلَامُ النَّبِيءِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَأَنْصَفَ مُوسَى إِذْ جَعَلَ لِصَاحِبِهِ الْعُذْرَ فِي تَرْكِ مُصَاحَبَتِهِ فِي الثَّالِثَةِ تَجَنُّبًا لِإِحْرَاجِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَدُنِّي- بِتَشْدِيدِ النُّونِ- قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَة النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم يَعْنِي أَنَّ فِيهَا سَنَدًا خَاصًّا مَرْوِيًّا فِيهِ عَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مِنْ لَدُنِّي- بِتَخْفِيفِ النُّونِ- عَلَى أَنَّهُ حُذِفَ مِنْهُ نُونُ الْوِقَايَةِ تَخْفِيفًا، لِأَنَّ (لَدُنْ) أَثْقَلُ مِنْ (عَنْ) (وَمِنْ) فَكَانَ التَّخْفِيفُ فِيهَا مَقْبُولًا دُونَهُمَا.
وَمَعْنَى قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً قَدْ وَصَلْتَ مِنْ جِهَتِي إِلَى الْعُذْرِ. فَاسْتُعِيرَ بَلَغْتَ لِمَعْنًى (تَحَتَّمَ وَتَعَيَّنَ) لِوُجُودِ أَسْبَابِهِ بِتَشْبِيهِ الْعُذْرِ فِي قَطْعِ الصُّحْبَةِ بِمَكَانٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّائِرُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَأَثْبَتَ لَهُ الْبُلُوغَ تَخْيِيلًا، أَوِ اسْتَعَارَ الْبُلُوغَ لِتَعَيُّنِ حُصُولِ الشَّيْءِ بعد المماطلة.
أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٤٤]، وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى قَائِلٍ. وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ رِوَايَةٍ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَعْنَى نَنْقُصُهَا بِفَتْحِ الْبُلْدَانِ، أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الرُّؤْيَةِ فِي الْآيَةِ الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَرْضِ أَرْضُ الْحِجَازِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّقْصِ نَقْصُ سُلْطَانِ الشِّرْكِ مِنْهَا. وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْمُتَعَيَّنِ وَلَا بِالرَّاجِحِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي نَظِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ الَّتِي هِيَ أَيْضًا مَكِّيَّةٌ فَالْأَرْجَحُ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ مَكِّيَّةٌ كُلَّهَا.
وَهِيَ السُّورَةُ الْحَادِيَةُ وَالسَّبْعُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ نَزَلَتْ بَعْدَ حم السَّجْدَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّحْلِ، فَتَكُونُ مِنْ أَوَاخِرِ السُّوَرِ النَّازِلَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ إِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٣]، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، غَيْرَ أَنَّ مَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [٥٧] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، أَنَّ الْمُرَادَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ هُوَ الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ ابْنُ الزِّبَعْرَى لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٨] كَمَا يَأْتِي يَقْتَضِي أَنَّ سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الزُّخْرُفِ. وَقَدْ عُدَّتِ الزُّخْرُفُ ثَانِيَةً وَسِتِّينَ فِي النُّزُولِ.
وَعَدَدُ آيِهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ مِائَةٌ وَإِحْدَى عشرَة وَفِي عَدِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِائَةٌ واثنتا عشرَة.
أغراض السُّورَة:
وَالْأَغْرَاضُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذِه السُّورَة هِيَ:
- الْإِنْذَارُ بِالْبَعْثِ، وَتَحْقِيقُ وُقُوعِهِ وَإِنَّهُ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ كَانَ قَرِيبًا.
- وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَنْ عَدَمٍ وَخَلْقِ الموجودات من المَاء.
مَدَنِيَّةٌ لِأَنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ فِي الْمَدِينَةِ. فَالزَّكَاةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا هِيَ الصَّدَقَةُ لَا زَكَاةَ النُّصُبِ الْمُعَيَّنَةِ فِي
الْأَمْوَالِ. وَإِطْلَاقُ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّدَقَةِ مَشْهُورٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: ٦، ٧] وَهِيَ مِنْ سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَالَ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ [مَرْيَم: ٥٤، ٥٥] وَلَمْ تَكُنْ زَكَاةُ النُّصُبِ مَشْرُوعَةً فِي زَمَنِ إِسْمَاعِيلَ.
وَهِيَ السُّورَةُ السَّادِسَةُ وَالسَّبْعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الطُّورِ وَقَبْلَ سُورَةِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ.
وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَسَبْعَ عَشْرَةَ فِي عَدِّ الْجُمْهُورِ. وَعَدَّهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ مِائَةً وَثَمَانِ عَشْرَةَ، فَالْجُمْهُورُ عَدُّوا أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ:
١٠، ١١] آيَةً، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ عَدُّوا أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ آيَةً وَمَا بَعْدَهَا آيَةً أُخْرَى، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ أَبِي بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ عَقِبَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
أغراض السُّورَة
هَذِهِ السُّورَةُ تَدُورُ آيُهَا حَوْلَ مِحْوَرِ تَحْقِيقِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ وَنَقْضِ قَوَاعِدِهِ، وَالتَّنْوِيهِ بِالْإِيمَانِ وَشَرَائِعِهِ.
فَكَانَ افْتِتَاحُهَا بِالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْفَلَاحِ الْعَظِيمِ عَلَى مَا تَحَلَّوْا بِهِ مِنْ أُصُولِ الْفَضَائِل الروحية والعلمية الَّتِي بِهَا تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَاسْتِقَامَةُ السُّلُوكِ.
وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِوَصْفِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ أَصْلِهِ وَنَسْلِهِ الدَّالِّ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ لِتَفَرُّدِهِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَنَشْأَتِهِ لِيَبْتَدِئَ النَّاظِرُ بِالِاعْتِبَارِ فِي تَكْوِينِ ذَاتِهِ ثُمَّ بِعَدَمِهِ بَعْدَ الْحَيَاةِ.
وَدَلَالَةِ ذَلِكَ الْخَلْقِ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقِ الْخَلْقَ سُدًى وَلَعِبًا.
وَانْتَقَلَ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ جَوَابٍ عَنْ قَوْلِهِمْ. وَالتَّأْكِيدُ بِلَامِ الْقَسَمِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ لِأَنَّ الْقَسَمَ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ كَقَوْلِ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ أَوْ بَنِي نُمَيْرٍ أَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ فِي «مَجَالِسِهِ» وَالْقَالِيُّ فِي «أَمَالِيهِ» :
أَلَا يَا سَنَا بَرْقٍ عَلَى قُلَلِ الْحِمَى لَهِنَّكَ مِنْ بَرْقٍ عَلَيَّ كَرِيمُ
فَإِنَّ قَوْلَهُ: مِنْ بَرْقٍ، فِي قُوَّةِ التَّمْيِيزِ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّمْيِيزُ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّعَجُّبِ.
وَالِاسْتِكْبَارُ: مُبَالَغَةٌ فِي التَّكَبُّرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ اسْتَجَابَ.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ شُبِّهَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالظُّرُوفِ فِي تَمَكُّنِ الْمَظْرُوفِ مِنْهَا، أَيْ هُوَ اسْتِكْبَارٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي لِلتَّعْلِيلِ كَمَا
فِي الْحَدِيثِ «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا»
الْحَدِيثَ، أَيِ اسْتَكْبَرُوا لِأَجْلِ عَظَمَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ. وَلَيْسَتِ الظَّرْفِيَّةُ حَقِيقِيَّةً لِقِلَّةِ جَدْوَى ذَلِكَ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِاسْتِكْبَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّفْسِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّفْسِيَّةِ.
وَالْعُتُوُّ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فِي الْأَعْرَافِ [٧٧]. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا ظُلْمًا لِأَنَّهُمْ تَجَاوَزُوا مِقْدَارَ مَا خَوَّلَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْقَابِلِيَّةِ.
وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ النُّبُوءَةَ لَا تَكُونُ بِالِاكْتِسَابِ وَإِنَّمَا هِيَ إِعْدَادٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: ١٢٤].
[٢٢]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٢٢]
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢)
اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ جَوَابٌ عَنْ مَقَالَتِهِمْ، فَبَعْدَ إِبْدَاءِ التَّعْجِيبِ مِنْهَا عَقَّبَ بِوَعِيدٍ لَهُمْ، فِيهِ حُصُولُ بَعْضِ مَا طَلَبُوا حُصُولَهُ الْآنَ، أَيْ هُمْ سَيَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ وَلَكِنَّهَا رُؤْيَةٌ تَسُوءُهُمْ حِينَ يَرَوْنَ زَبَانِيَةَ الْعَذَابِ يَسُوقُونَهُمْ إِلَى النَّارِ، فَفِي هَذَا الِاسْتِئْنَاف تلميح وَتَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ مُطَمِّعٌ بِالِاسْتِجَابَةِ وَآخِرَهُ مُؤَيَّسٌ بِالْوَعِيدِ، فَالْكَلَامُ جَرَى
الِاخْتِلَافُ بَيْنَ فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ وَبَيْنَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [الْأَعْرَاف:
٨٤] فَهُمَا عِبْرَتَانِ بِحَالِهِمْ تَفَرَّعَتَا عَلَى وَصْفِ مَا حَلَّ بِهِمْ فَوُزِّعَتِ الْعِبْرَتَانِ عَلَى الْآيَتَيْنِ لِئَلَّا يَخْلُوَ تَكْرِيرُ الْقِصَّةِ مِنْ فَائِدَةٍ.
وَالْمُرَادُ بِآلِ لُوطٍ لُوطٌ وَأَهْلُ بَيْتِهِ لِأَنَّ رَبَّ الْبَيْتِ مُلَاحَظٌ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِر: ٤٦]، أَرَادَ فِرْعَوْن وَآله.
[٥٩]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٥٩]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى لَمَّا اسْتَوْفَى غَرَضُ الِاعْتِبَارِ وَالْإِنْذَارِ حَقَّهُ بِذِكْرِ عَوَاقِبِ بَعْضِ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ وَهِيَ أَشْبَهُ أَحْوَالًا بِأَحْوَالِ الْمُكَذِّبِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ وَحَفَافَيْهِ تَسْلِيَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ أَقْبَلَ اللَّهُ بِالْخِطَابِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَقِّنُهُ مَاذَا يَقُولُهُ عَقِبَ الْقِصَصِ وَالْمَوَاعِظِ السَّالِفَةِ اسْتِخْلَاصًا وَاسْتِنْتَاجًا مِنْهَا، وَشُكْرُ اللَّهِ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا.
فَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ وَالْمُنَاسَبَةُ مَا عَلِمْتَ. أُمِرَ الرَّسُولُ بِالْحَمْدِ عَلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ الْقَصَصُ السَّابِقَةُ مِنْ نَجَاةِ الرُّسُلِ مِنَ الْعَذَابِ الْحَالِّ بِقَوْمِهِمْ وَعَلَى مَا أَعْقَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى صَبْرِهِمْ مِنَ النَّصْرِ وَرِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ. وَعَلَى أَنْ أَهْلَكَ الْأَعْدَاءَ الظَّالِمِينَ كَقَوْلِهِ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْأَنْعَام: ٤٥] وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٦٣] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ [٩٣] وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ
الْآيَةَ. فَأُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا أَفَادَهُ سَوْقُ تِلْكَ الْقِصَصِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَعْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِ. فَقَوْلُهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمْرٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْشَاءِ حَمْدِ اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ صِيغَةُ الْحَمْدِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ.
وَعُطِفَ عَلَى الْمَأْمُورِ بِأَنْ يَقُولَهُ مِنَ الْحَمْدِ أَمْرٌ بِأَنْ يُتْبِعَهُ بِالسَّلَامِ عَلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ سَبَقُوهُ قَدْرًا لِقَدْرِ مَا تَجَشَّمُوهُ فِي نَشْرِ الدِّينِ الْحَقِّ.
وَأَصْلُ سَلامٌ سَلَّمْتُ سَلَامًا، مَقْصُودٌ مِنْهُ الْإِنْشَاءُ فَحُذِفَ الْفِعْلُ وَأُقِيمَ
يَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهَا هَلْ نُسِخَتْ أَمْ بَقِيَ حُكْمُهَا لِأَنَّ ذَلِكَ خُرُوجٌ بِهَا عَنْ مَهْيَعِهَا. وَالْمُجَادَلَةُ تَعْرِضُ فِي أَوْقَاتِ السِّلْمِ وَأَوْقَاتِ الْقِتَالِ.
وأَهْلَ الْكِتابِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْيَهُودُ فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا كَثِيرِينَ فِي الْمَدِينَةِ وَالْقُرَى حَوْلَهَا. وَيَشْمَلُ النَّصَارَى إِنْ عَرَضَتْ مُجَادَلَتُهُمْ مِثْلَ مَا عَرَضَ مَعَ نَصَارَى نَجْرَان.
وبِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مُسْتَثْنًى مِنْ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُسْتَثْنَى، تَقْدِيرُهُ: لَا تُجَادِلُوهُمْ بِجِدَالٍ إِلَّا بِجِدَالٍ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وأَحْسَنُ اسْمُ تَفْضِيلٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ فَيُقَدَّرُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، أَيْ بِأَحْسَنَ مِنْ مُجَادَلَتِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْ مُجَادَلَتِهِمْ إِيَّاكُمْ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ. وَيَجُوزُ كَوْنُ اسْمِ التَّفْضِيلِ مَسْلُوبَ الْمُفَاضَلَةِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحُسْنِ، أَيْ إِلَّا بِالْمُجَادَلَةِ الْحُسْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ [١٢٥]. فَاللَّهُ جَعَلَ الْخِيَارَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ أَنْ يُجَادِلَهُمْ بِالْحُسْنَى كَمَا اقْتَضَتْهُ آيَةُ سُورَةِ النَّحْلِ، وَبَيْنَ أَنْ يُجَادِلَهُمْ بِالشِّدَّةِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: ٧٣]، فَإِنَّ الْإِغْلَاظَ
شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ وَمِنْهَا الْمُجَادَلَاتُ وَلَا يَخْتَصُّ بِخُصُوصِ الْجِهَادِ فَإِنَّ الْجِهَادَ كُلَّهُ إِغْلَاظٌ فَلَا يَكُونُ عَطْفُ الْإِغْلَاظِ عَلَى الْجِهَادِ إِلَّا إِغْلَاظًا غَيْرَ الْجِهَادِ.
وَوَجْهُ الْوِصَايَةِ بِالْحُسْنَى فِي مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ غَيْرُ مُشْرِكِينَ بِهِ فَهُمْ مُتَأَهِّلُونَ لِقَبُولِ الْحُجَّةِ غَيْرُ مَظْنُونٍ بِهِمُ الْمُكَابَرَةُ وَلِأَنَّ آدَابَ دِينِهِمْ وَكِتَابِهِمْ أَكْسَبَتْهُمْ مَعْرِفَةَ طَرِيقِ الْمُجَادَلَةِ فَيَنْبَغِي الِاقْتِصَارُ فِي مُجَادَلَتِهِمْ عَلَى بَيَانِ الْحُجَّةِ دُونَ إِغْلَاظٍ حَذَرًا مِنْ تَنْفِيرِهِمْ، بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ تَصَلُّبِهِمْ وَصَلَفِهِمْ وَجَلَافَتِهِمْ مَا أَيْأَسَ مِنْ إِقْنَاعِهِمْ بِالْحُجَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَعَيَّنَ أَنْ يُعَامَلُوا بِالْغِلْظَةِ وَأَنْ يُبَالَغَ فِي تَهْجِينِ دِينِهِمْ وَتَفْظِيعِ طَرِيقَتِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ نُجُوعًا لَهُمْ.
مِنْ خَصَائِص أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِظَمِ قَدْرِهِنَّ، لَأَنَّ زِيَادَةَ قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ تَتْبَعُ زِيَادَةَ فَضْلِ الْآتِي بِهَا. ودرجة أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظِيمَةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَعْمَلْ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ الْمَوْصُولَةِ المُرَاد بهَا إِحْدَى النِّسَاءِ وَحَسَّنَهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلِ يَقْنُتْ بَعْدَ أَنْ تَعَلَّقَ بِهِ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ وَهُوَ ضَمِيرُ نِسْوَةٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَيَعْمَلْ بِالتَّحْتِيَّةِ مُرَاعَاةً لِمَدْلُولِ مَنْ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُؤْتِها بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ ضَمِيرِ الْغَائِبِ عَائِدًا إِلَى اسْم الْجَلالَة من قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [الْأَحْزَاب: ٣٠].
وَالْقَوْلُ فِي أَعْتَدْنا لَها كَالْقَوْلِ فِي فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ [الْأَحْزَاب: ٢٩].
وَالتَّاءُ فِي أَعْتَدْنا بَدَلٌ عَنْ أَحَدِ الدَّالَيْنِ مِنْ (أَعَدَّ) لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهَا وَقَصْدِ التَّخْفِيفِ.
وَالْعُدُولُ عَنِ الْمُضَارِعِ إِلَى فِعْلِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: أَعْتَدْنا لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ.
وَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ: هُوَ رِزْقُ الْجَنَّةِ قَالَ تَعَالَى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً [الْبَقَرَة:
٢٥] الْآيَةَ. وَوَصَفَهُ بِالْكَرِيمِ لَأَنَّهُ أَفْضَلُ جِنْسِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩].
[٣٢]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٣٢]
يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢)
يَا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ.
أُعِيدَ خِطَابُهُنَّ مِنْ جَانِبِ رَبِّهِنَّ وَأُعِيدَ نِدَاؤُهُنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ اهْتِمَامًا يَخُصُّهُ.
وَأَحَدٌ: اسْمٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ مِثْلَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الْإِخْلَاص: ١] وَهَمْزَتُهُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ. وَأَصْلُهُ: وَحَدَ بِوَزْنِ فَعَلَ، أَيْ مُتَوَحِّدٌ، كَمَا قَالُوا: فَرَدَ بِمَعْنَى مُنْفَرِدٌ. قَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ رُكُوبَهُ رَاحِلَتَهُ:
كَأَنَّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا يَوْمَ الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنِسٍ وَحِدِ
يُرِيدُ عَلَى ثَوْرٍ وَحْشِيٍّ مُنْفَرِدٍ. فَلَمَّا ثَقُلَ الِابْتِدَاءُ بِالْوَاوِ شَاعَ أَنْ يَقُولُوا: أَحَدٌ،
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ جُنْدٍ مُؤَكِّدَةٌ لِعُمُومِ جُنْدٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ السَّماءِ ابْتِدَائِيَّةٌ وَفِي الْإِتْيَانِ بِحَرْفٍ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَعْنَى
مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ إِذْ قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٩٢] أَيْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ الَّذِي تَدَّعِي أَنَّهُ أَرْسَلَكَ وَمَعَهُ جُنْدُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيَثْأَرَ لَكَ.
فَجُمْلَةُ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ نَوْعَيِ الْعِقَابِ الْمَنْفِيِّ وَالْمُثْبَتِ، لِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَجْرِ بِإِنْزَالِ الْجُنُودِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ وَشَأْنُ الْعَاصِينَ أَدْوَنُ مِنْ هَذَا الِاهْتِمَامِ.
وَالصَّيْحَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الصِّيَاحِ، بِوَزْنِ فَعْلَةٍ، فَوَصْفُهُا بِوَاحِدَةٍ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْوَحْدَةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ الْمُفْرَدُ مِنْ بَيْنِ الْأَجْنَاسِ، وصَيْحَةً مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كانَتْ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفْرَّغِ، وَلَحَاقُ تَاءِ التَّأْنِيثِ بِالْفِعْلِ مَعَ نَصْبِ صَيْحَةً مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَحْذُوفَ الْعُقُوبَةُ أَوِ الصَّيْحَةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا صَيْحَةً واحِدَةً، أَيْ لَمْ تَكُنِ الْعُقُوبَةُ أَوِ الصَّيْحَةُ إِلَّا صَيْحَةً مِنْ صِفَتِهَا أَنَّهَا وَاحِدَةٌ إِلَى آخِرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِرَفْعِ صَيْحَةً عَلَى أَنَّ «كَانَ» تَامَّةٌ، أَيْ مَا وَقَعَتْ إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَمَجِيءُ «إِذَا» الْفُجَائِيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ الْمُفَرَّعَةِ عَلَى إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً لِإِفَادَةِ سُرْعَةِ الْخُمُودِ إِلَيْهِمْ بِتِلْكَ الصَّيْحَةِ. وَهَذِهِ الصَّيْحَةُ صَاعِقَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ ثَمُودٍ:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [الْحجر: ٧٣].
وَالْخُمُودُ: انْطِفَاءُ النَّارِ، اسْتُعِيرَ لِلْمَوْتِ بَعْدَ الْحَيَاةِ الْمَلِيئَةِ بِالْقُوَّةِ وَالطُّغْيَانِ، لِيَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ تَشْبِيهَ حَالِ حَيَاتِهِمْ بِشُبُوبِ النَّارِ وَحَالِ مَوْتِهِمْ بِخُمُودِ النَّارِ فَحَصَلَ لِذَلِكَ اسْتِعَارَتَانِ إِحْدَاهُمَا صَرِيحَةٌ مُصَرِّحَةٌ، وَأُخْرَى ضِمْنِيَّةٌ مَكْنِيَّةٌ وَرَمْزُهَا الْأُولَى، وَهُمَا الِاسْتِعَارَتَانِ اللَّتَانِ تَضَمَّنَهُمَا قَوْلُ لَبِيَدٍ:
الظُّلْمِ الْعَظِيمِ: ظُلْمِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى حُرْمَةِ الرَّبِّ بِالْكَذِبِ فِي صِفَاتِهِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ لَهُ شُرَكَاءَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْكَذِبِ عَلَيْهِ بِادِّعَاءِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، وَظُلْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَكْذِيبِهِ، وَظُلْمِ الْقُرْآنِ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الْبَاطِلِ، وَظُلْمِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَذَى، وَظُلْمِ حَقَائِقِ الْعَالَمِ بِقَلْبِهَا وَإِفْسَادِهَا، وَظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ بِإِقْحَامِهَا فِي الْعَذَابِ الْخَالِدِ.
وَعُدِلَ عَن الْإِتْيَان بضميرهم إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ كَوْنِهِمْ أَظْلَمَ النَّاسِ. وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا بِالصِّدْقِ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْكَذِبَيْنِ هُمَا جِمَاعُ مَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الظُّلْمِ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
وَالصِّدْقُ: ضِدُّ الْكَذِبِ. وَالْمُرَادُ بِالصِّدْقِ الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَجِيءُ الصِّدْقِ إِلَيْهِمْ: بُلُوغُهُ إِيَّاهُمْ، أَيْ سَمَاعُهُمْ إِيَّاهُ وَفَهْمُهُمْ فَإِنَّهُ بِلِسَانِهِمْ وَجَاءَ بِأَفْصَحِ بَيَانٍ بِحَيْثُ لَا يُعْرِضُ عَنْهُ إِلَّا مُكَابِرٌ مُؤْثِرٌ حُظُوظَ الشَّهْوَةِ وَالْبَاطِلِ عَلَى حُظُوظِ الْإِنْصَافِ وَالنَّجَاةِ.
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ كَلِمَةِ (الصِّدْقِ) وَفِعْلِ كَذَبَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وإِذْ جاءَهُ مُتَعَلِّقٌ بِ كَذَبَ، وإِذْ ظَرْفُ زَمَنٍ مَاضٍ وَهُوَ مُشْعِرٌ بِالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الزَّمَنِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا، وَحُصُولُ مُتَعَلِّقِهِ، فَقَوْلُهُ: إِذْ جاءَهُ يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ كَذَّبَ بِالْحَقِّ بِمُجَرَّدِ بُلُوغِهِ إِيَّاهُ بِدُونِ مُهْلَةٍ، أَيْ بَادَرَ بِالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ وَقْفَةٍ لِإِعْمَالِ رُؤْيَةٍ وَلَا اهْتِمَامٍ بِمَيْزٍ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ.
وَجُمْلَةُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ مُبَيِّنَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ أَيْ أَنَّ ظُلْمَهُمْ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ مَثْوَاهُمْ فِي جَهَنَّمَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَإِنَّمَا وُجِّهَ الِاسْتِفْهَامُ إِلَى نَفْيِ مَا الْمَقْصُودُ التَّقْرِيرُ بِهِ جَرْيًا
بِأَقْرَبَ مِنْهَا فَإِنَّهَا أُمُورٌ مُشَاهَدَةٌ وَلَا يَعْلَمُ تَفْصِيلَ حَالِهَا إِلَّا اللَّهُ، أَيْ فَلَيْسَ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِوَقْتِ السَّاعَةِ حُجَّةٌ عَلَى تَكْذِيبِ مَنْ أَنْذَرَ بِهَا، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يس: ٤٨]، أَيْ إِنْ لَمْ تُبَيِّنْ لَنَا وَقْتَهُ فَلَسْتَ بِصَادِقٍ. فَهَذَا وَجْهُ ذِكْرِ تِلْكَ النَّظَائِرِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:
أَوَّلُهَا: عِلْمُ مَا تُخْرِجُهُ أَكْمَامُ النَّخِيلِ مِنَ الثَّمَرِ بِقَدْرِهِ وَجَوْدَتِهِ وَثَبَاتِهِ أَوْ سُقُوطِهِ، وَضَمِيرُ أَكْمامِها رَاجِعٌ إِلَى الثَّمَرَاتِ. وَالْأَكْمَامُ: جَمْعُ كِمٍّ بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ
وَهُوَ وِعَاءُ الثَّمَرِ وَهُوَ الْجُفُّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ النَّخْلَةِ مُحْتَوِيًا عَلَى طَلْعِ الثَّمَرِ.
ثَانِيهَا: حَمْلُ الْأُنْثَى مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ، وَلَا يَعْلَمُ الَّتِي تُلَقَّحُ مِنَ الَّتِي لَا تُلَقَّحُ إِلَّا اللَّهُ.
ثَالِثُهَا: وَقْتُ وَضْعِ الْأَجِنَّةِ فَإِنَّ الْإِنَاثَ تَكُونُ حَوَامِلَ مُثْقَلَةً وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَ وَضْعِهَا بِالْيَوْمِ وَالسَّاعَةِ إِلَّا اللَّهُ.
وَعُدِلَ عَنْ إِعَادَةِ حَرْفِ مَا مَرَّةً أُخْرَى لِلتَّفَادِي مِنْ ذِكْرِ حَرْفٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَنَّ تَسَاوِيَ هَذِهِ الْمَنْفِيَّاتِ الثَّلَاثَةِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي كَوْنِ أَزْمَانِ حُصُولِهَا سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَالِ وَلِلِاسْتِقْبَالِ يَسُدُّ عَلَيْنَا بَابَ ادِّعَاءِ الْجُمْهُورِ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا وَ (لَا) فِي تَخْلِيصِ الْمُضَارِعِ لِزَمَانِ الْحَالِ مَعَ حَرْفِ مَا وَتَخْلِيصِهِ لِلِاسْتِقْبَالِ مَعَ حَرْفِ (لَا). وَيُؤَيِّدُ رَدَّ ابْنِ مَالِكٍ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي جَانِبِ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ. وَحَرْفُ مَنْ بَعْدَ مَدْخُولَيْ مَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِإِفَادَةِ عُمُومِ النَّفْيِ وَيُسَمَّى حَرْفًا زَائِدًا.
وَالْبَاءُ فِي بِعِلْمِهِ لِلْمُلَابَسَةِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ ثَمَراتٍ بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ ثَمَرَةٍ وَاحِدَةِ الثَّمَرَاتِ.
مِنَ الْبَعْثَةِ وَأَسَانِيدُ جَمِيعِهَا مُتَفَاوِتَةٌ. وَأَقْوَاهَا مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهَا، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا.
وَهَذِهِ السُّورَةُ مَعْدُودَةٌ الْخَامِسَةَ وَالسِتِّينَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ الْجَاثِيَةِ وَقَبْلَ الذَّارِيَاتِ. وَعُدَّتْ آيُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ
خَمْسًا وَثَلَاثِينَ وَالِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ حم تُعْتَبَرُ آيَةً مُسْتَقِلَّةً أَوْ لَا.
أَغْرَاضُهَا
وَمن الْأَغْرَاضِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا أَنَّهَا افْتُتِحَتْ مِثْلَ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ بِمَا يُشِيرُ إِلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِإِتْقَانِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى التَّفَرُّدِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى إِثْبَاتِ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى وُقُوعِ الْجَزَاءِ بَعْدَ الْبَعْثِ وَأَنَّ هَذَا الْعَالَمَ صَائِرٌ إِلَى فَنَاءٍ. وَإِبْطَالُ الشُّرَكَاءِ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَالتَّدْلِيلُ عَلَى خُلُّوِهِمْ عَنْ صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. وَإِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ صُنْعِ غَيْرِ اللَّهِ. وَإِثْبَاتُ رِسَالَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِشْهَادُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ وَاسْتِشْهَادُ شَاهِدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. وَالثَّنَاءُ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ وَذِكْرُ بَعْضَ خِصَالِهِمُ الْحَمِيدَةِ وَمَا يُضَادُّهَا مِنْ خِصَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَحَسَدِهِمُ الَّذِي بَعَثَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ. وَذَكَرَتْ مُعْجِزَةَ إِيمَانِ الْجِنِّ بِالْقُرْآنِ.
وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بتثبيت الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأُقْحِمَ فِي ذَلِكَ مُعَامَلَةُ الْوَالِدَيْنِ وَالذُّرِّيَّةِ مِمَّا هُوَ مِنْ خُلُقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا هُوَ مِنْ خُلُقِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ.
وَقَدْ عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ لَا تَكُونُ لِمُجَرَّدِ بِشَارَتِهِ بِابْنٍ يُولَدُ لَهُ وَلِزَوْجِهِ إِذْ كَانَتِ الْبِشَارَةُ تَحْصُلُ لَهُ
بِالْوَحْيِ، فَكَانَ مِنْ عِلْمِ النُّبُوءَةِ أَنَّ إِرْسَالَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَرْضِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِخَطْبٍ قَالَ تَعَالَى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [الْحجر: ٨].
وَالْخَطْبُ: الْحَدَثُ الْعَظِيمُ وَالشَّأْنُ الْمُهِمُّ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِهِمْ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ.
وَالْمَعْنَى: مَا الْخَطْبُ الَّذِي أُرْسِلْتُمْ لِأَجْلِهِ إِذْ لَا تَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا بِالْحَقِّ. وَخَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَا يُسَمِّيهِمْ بِهِ إِلَّا وَصْفَ أَنَّهُمُ الْمُرْسَلُونَ، وَالْمُرْسَلُونَ مِنْ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [المرسلات: ١] عَن أَحَدِ تَفْسِيرَيْنِ.
وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أَهْلُ سَدُومَ وَعَمُّورِيَّةَ، وَهُمْ قَوْمُ لُوطٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ هُودٍ.
وَالْإِرْسَالُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي الرَّمْيِ مَجَازًا كَمَا يُقَالُ: أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى الصَّيْدِ، وَهَذَا الْإِرْسَالُ يَكُونُ بَعْدَ أَنْ أَصْعَدُوا الْحِجَارَةَ إِلَى الْجَوِّ وَأَرْسَلَتْهَا عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ مَطَرًا فِي بَعْضِ الْآيَاتِ.
وَحَصَلَ بَيْنَ أُرْسِلْنا وَبَيْنَ لِنُرْسِلَ جِنَاسٌ لَاخْتِلَافِ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ.
وَالْحِجَارَةُ: اسْمُ جَمْعٍ لِلْحَجَرِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الْحِجَارَةِ مِنْ طِينٍ: أَنَّ أَصْلَهَا طِينٌ تَحَجَّرَ بِصَهْرِ النَّارِ، وَهِيَ حِجَارَةٌ بُرْكَانِيَّةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ قَذَفَتْهَا الْأَرْضُ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي صَارَتْ بُحَيْرَةً تُدْعَى الْيَوْمَ بُحَيْرَةَ لُوطٍ، وَأَصْعَدَهَا نَامُوسٌ إِلَهِيٌّ بِضَغْطٍ جَعَلَهُ اللَّهُ يَرْفَعُ الْخَارِجَ مِنَ الْبُرْكَانِ إِلَى الْجَوِّ فَنَزَلَتْ عَلَى قُرَى قَوْمِ لُوطٍ فَأَهْلَكَتْهُمْ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ التَّكْوِينِ بِوَاسِطَةِ الْقُوَى الْمَلَكِيَّةِ.
وَالْمُسَوَّمَةُ: الَّتِي عَلَيْهَا السُّومَةُ أَيْ الْعَلَامَةُ، أَيْ عَلَيْهَا عَلَامَاتٌ مِنْ أَلْوَانٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْحِجَارَةِ الْمُتَعَارَفَةِ.
وَمَعْنَى عِنْدَ رَبِّكَ أَنَّ عَلَامَاتِهَا بَخَلْقِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ.
وَهِيَ السُّورَةُ الْمِائَةُ وَثَلَاثٌ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ وَقَبْلَ سُورَةِ التَّحْرِيمِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ سُورَةَ الْمُجَادَلَةِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْأَحْزَابِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [٤] : وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ إِبْطَالِ حُكْمِ الظِّهَارِ بِمَا فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا جَعَلَ يَقْتَضِي إِبْطَالَ التَّحْرِيمِ بِالْمُظَاهَرَةِ. وَإِنَّمَا أُبْطِلَ بِآيَةِ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ. وَقَالَ السَّخَاوِيُّ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ بَعْدَ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ وَقَبْلَ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ.
وَآيِهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ إِحْدَى وَعِشْرُونَ، وَفِي عَدِّ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ.
أغراض هَذِه السُّورَة
الْحُكْمُ فِي قَضِيَّةِ مُظَاهَرَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ مِنْ زَوْجِهِ خَوْلَةَ.
وَإِبْطَالُ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ إِذَا ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا وَأَنَّ عَمَلَهُمْ مُخَالِفٌ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَأَنَّهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ وَزُورِهِمُ الَّتِي كَبَتَهُمُ اللَّهُ بِإِبْطَالِهَا. وَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى ضَلَالَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَمِنْهَا مُنَاجَاتُهُمْ بمرأى الْمُؤمنِينَ ليغيظوهم وَيُحْزِنُوهُمْ.
وَمِنْهَا مُوَالَاتُهُمُ الْيَهُودَ. وَحَلِفُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ. وَتَخَلَّلَ ذَلِك التَّعَرُّض لِآدَابِ مجْلِس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَشَرَعَ التَّصَدُّقَ قَبْلَ مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي مُجَافَاتِهِمُ الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ. وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَحِزْبَهُمَا هم الغالبون.
[١]
[سُورَة المجادلة (٥٨) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
الْأُخْرَى مِثْلَ تَسْمِيَةِ (لَامِ أَلِفٍ). وَنَظِيرُهُ أَسْمَاءُ السُّوَرِ بِالْأَحْرُفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ فِي الْمُرَادِ مِنْهَا وَعَلَيْهِ فَيُحْكَى لَفْظُ «تَبَارَكَ» بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَيُحْكَى لَفْظُ «الْمُلْكُ» مَرْفُوعًا كَمَا هُوَ فِي الْآيَةِ، فَيَكُونُ لَفْظُ «سُورَةٍ» مُضَافًا مِنْ إِضَافَةِ الْمُسَمَّى إِلَى الِاسْمِ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْرِيفُ السُّورَةِ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ عَلَى حِكَايَةِ اللَّفْظَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِي أَوَّلِهَا مَعَ اخْتِصَارِ مَا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ وَذَلِكَ قصدا للْفرق بَينهَا وَبَيْنَ «تَبَارَكَ الْفُرْقَانِ»، كَمَا قَالُوا: عُبَيْدُ اللَّهِ الرُّقَيَّاتِ، بِإِضَافَةِ مَجْمُوعِ «عُبَيْدِ اللَّهِ» إِلَى «الرُّقَيَّاتِ» تَمْيِيزًا لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْعَامِرِيِّ (١) الشَّاعِرِ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُشْبِهُ اسْمُهُ اسْمَهُ مِثْلِ عُبَيْدِ اللَّهِ
ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَوْ لمُجَرّد اشتهاره بالتشبيب فِي نِسَاءٍ كَانَ اسْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رُقَيَّةَ (٢) وَهُنَّ ثَلَاثٌ وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ «تَبَارَكَ» فِي هَذَا الْمُرَكَّبِ مَفْتُوحَ الْآخِرِ. وَلَفْظُ «الْمُلْكُ» مَضْمُومُ الْكَافِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ ضَبْطُهُ فِي نُسْخَةِ «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» وكِلْتَاهُمَا حَرَكَةُ حِكَايَةٍ.
وَالشَّائِعُ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَفِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ تَسْمِيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ «سُورَةَ الْمُلْكِ» وَكَذَلِكَ تَرْجَمَهَا التِّرْمِذِيُّ: بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ سُورَةِ الْمُلْكِ. وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ».
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ «كُنَّا نُسَمِّيهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ الْمَانِعَةَ»، أَيْ أَخْذًا مِنْ وَصْفِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا بِأَنَّهَا الْمَانِعَةُ الْمُنْجِيَةُ كَمَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ الْمَذْكُورِ آنِفًا وَلَيْسَ بِالصَّرِيحِ فِي التَّسْمِيَةِ.
وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ «تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ» مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهَا الْمُنْجِيَةَ»
وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ إِيِّاَهاَ بِالْمُنْجِيَةِ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَلَيْسَ أَيْضًا بِالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ اسْمٌ.
وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ «كِتَابِ جَمَالِ الْقُرَّاءِ» تُسَمَّى أَيْضًا «الْوَاقِيَةَ»، وَتُسَمَّى «الْمَنَّاعَةَ» بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ.
_________
(١) هُوَ من بني عَامر بن لؤَي شَاعِر مجيد من شعراء الْعَصْر الْأمَوِي.
(٢) هِيَ رقية بنت عبد الْوَاحِد بن أبي سعد من بني عَامر بن لؤَي، وَابْنَة عَم لَهَا يُقَال لَهَا: رقية، ورقية أُخْرَى امْرَأَة من بني أُميَّة وَكن فِي عصر وَاحِد.
أغراضها اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى وَصْفِ خَوْضِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِمَّا يُخَالِفُ مُعْتَقَدَاتِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ، وَسُؤَالُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنِ الرَّأْيِ فِي وُقُوعِهِ مُسْتَهْزِئِينَ بِالْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِهِ.
وَتَهْدِيدُهُمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ.
وَفِيهَا إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَبِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ لِلْإِنْسَانِ وَأَحْوَالِهِ.
وَوَصْفُ الْأَهْوَالِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ الْبَعْثِ مِنْ عَذَابِ الطَّاغِينَ مَعَ مُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِوَصْفِ نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَصِفَةُ يَوْمِ الْحَشْرِ إِنْذَارًا لِلَّذِينَ جَحَدُوا بِهِ وَالْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ بِعَذَابٍ قَرِيبٍ قَبْلَ عَذَابِ يَوْمِ الْبَعْثِ.
وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ أَعمال النَّاس.
[١- ٣]
[سُورَة النبإ (٧٨) : الْآيَات ١ إِلَى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣)
افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالِاسْتِفْهَامِ عَنْ تَسَاؤُلِ جَمَاعَةٍ عَنْ نَبَأٍ عَظِيمٍ، افْتِتَاحُ تَشْوِيقٍ ثُمَّ تَهْوِيلٍ لِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ، فَهُوَ مِنَ الْفَوَاتِحِ الْبَدِيعَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ أُسْلُوبٍ عَزِيزٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ وَمِنْ تَشْوِيقٍ بِطَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ الْمُحَصِّلَةِ لِتَمَكُّنِ الْخَبَرِ الْآتِي بَعْدَهُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أكمل تمكن.
وَإِذ كَانَ هَذَا الِافْتِتَاحُ مُؤْذِنًا بِعَظِيمِ أَمْرٍ كَانَ مُؤْذِنًا بِالتَّصَدِّي لِقَوْلٍ فَصْلٍ فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِأَهَمِّ مَا فِيهِ خَوْضُهُمْ يَوْمَئِذٍ يُجْعَلُ افْتِتَاحَ الْكَلَامِ بِهِ مِنْ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ.


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ