وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِكِتَابِ اللَّهِ التَّوْرَاةَ فَالْمَعْنَى لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَبَذُوا مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ دَلَائِلِ صِدْقِ هَذَا الرَّسُولِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ قَدْ نَبَذُوهَا مِنْ قَبْلُ حِينَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ لَمَّا ذَكَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلَيْمَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ قَالَتِ الْيَهُودُ:
إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَن سُلَيْمَان نبيء وَمَا هُوَ بنبيء وَلَكِنَّهُ سَاحِرٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
والشَّياطِينُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا شَيَاطِينَ مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ الْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَاسٌ تَمَرَّدُوا وَكَفَرُوا وَأَتَوْا بِالْفَظَائِعِ الْخَفِيَّةِ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِمُ الشَّيَاطِينَ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَام: ١١٢] وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُمْ يُدَرِّسُونَهُ لِلنَّاسِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا إِذْ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ فِي الْإِخْبَارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنِ الْإِنْسِ لِأَنَّ كُفْرَ الشَّيَاطِينِ مِنَ الْجِنِّ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ لَا يَحْتَاجُ لِلْإِخْبَارِ عَنْهُ.
وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمَدَتِ الشَّيَاطِينُ فَكَتَبُوا أَصْنَافًا مِنَ السِّحْرِ وَقَالُوا: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَبْلُغَ كَذَا وَكَذَا فَلْيَفْعَلْ كَذَا لِأَصْنَافٍ مِنَ السِّحْرِ وَخَتَمُوهُ بِخَاتَمٍ يُشْبِهُ نَقْشَ خَاتَمِ سُلَيْمَانَ وَنَسَبُوهُ إِلَيْهِ وَدَفَنُوهُ وَزَعَمُوا أَنَّ سُلَيْمَانَ دَفَنَهُ وَأَنَّهُمْ
يَعْلَمُونَ مَدْفِنَهُ وَدَلُّوا النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَأَخْرَجُوهُ فَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا كَانَ سُلَيْمَانُ إِلَّا سَاحِرًا وَمَا تَمَّ لَهُ الْمُلْكُ إِلَّا بِهَذَا.
وَقِيلَ كَانَ آصَفُ ابْن بَرَخْيَا (١) كَاتِبُ سُلَيْمَانَ يَكْتُبُ الْحِكْمَةَ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَيَدْفِنُ كُتُبَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ لِتَجِدَهَا الْأَجْيَالُ فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ أَغَرْتِ الشَّيَاطِينُ النَّاسَ عَلَى إِخْرَاجِ تِلْكَ الْكُتُبِ وَزَادُوا فِي خِلَالِ سُطُورِهَا سِحْرًا وَكُفْرًا وَنَسَبُوا الْجَمِيعَ لِسُلَيْمَانَ فَقَالَتِ الْيَهُودُ:
كَفَرَ سُلَيْمَانُ.
وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ مَعَ سَبَبِ نُزُولِهَا- إِنْ نَزَلَتْ عَنْ سَبَبٍ- أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا مَاتَ انْقَسَمَتْ مَمْلَكَةُ إِسْرَائِيلَ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ إِلَى مَمْلَكَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مَمْلَكَةُ يَهُوذَا وَمَلِكُهَا رَحْبَعَامُ ابْن سُلَيْمَانَ جَعَلُوهُ مَلِكًا بَعْدَ أَبِيهِ وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَدْ سَئِمَتْ مُلْكَ سُلَيْمَانَ لِحَمْلِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى
_________
(١) آصف بن برخيا يعده مؤرخو الْمُسلمين وزيرا لِسُلَيْمَان حكيما كَبِيرا وَلذَلِك ضربوا بِهِ الْأَمْثَال للسياسيين الناصحين وَلَكِن هَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوف فِي كتب الإسرائيليين وَالْمَعْرُوف عِنْدهم آسَف بن برخيا أحد أَئِمَّة المغنين عِنْد دَاوُد الْملك وينسب إِلَيْهِ وضع بعض المزامير والأغاني المقدسة.
فَلَعَلَّهُ قد عَاشَ إِلَى زمن سُلَيْمَان فاتخذه وزيرا لِأَنَّهُ من خَواص أَبِيه وَإِن لم يذكر هَذَا «لاروس» وَلَا «البستاني».
[سُورَة الفلق (١١٣) : آيَة ٣]
وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣)عَطْفُ أَشْيَاءَ خَاصَّةٍ هِيَ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق: ٢]، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنْ أَنْوَاع الشرور:
أَحدهَا: وَقْتٌ يَغْلِبُ وُقُوعُ الشَّرِّ فِيهِ وَهُوَ اللَّيْلُ.
وَالثَّانِي: صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ أُقِيمَتْ صِنَاعَتُهُمْ عَلَى إِرَادَةِ الشَّرِّ بِالْغَيْرِ.
وَالثَّالِثُ: صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ ذُو خُلُقٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْعَثَ عَلَى إِلْحَاقِ الْأَذَى بِمَنْ تَعَلَّقَ بِهِ.
وَأُعِيدَتْ كَلِمَةُ مِنْ شَرِّ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَفِي الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفَتَيْنِ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ مُغْنٍ عَنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ قَصْدًا لِتَأْكِيدِ الدُّعَاءِ، تَعَرُّضًا لِلْإِجَابَةِ، وَهَذَا مِنَ الِابْتِهَالِ فَيُنَاسِبُهُ الْإِطْنَابُ.
وَالْغَاسِقُ: وَصْفُ اللَّيْلِ إِذَا اشْتَدَّتْ ظُلْمَتُهُ يُقَالُ: غَسَقَ اللَّيْلُ يَغْسِقُ، إِذَا أَظْلَمَ قَالَ تَعَالَى: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ [الْإِسْرَاء: ٧٨]، فَالْغَاسِقُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ لِظُهُورِهِ مِنْ مَعْنَى وَصْفِهِ مِثْلَ الْجَوَارِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ [الشورى: ٣٢] وَتَنْكِيرُ غاسِقٍ لِلجِّنْسِ لِأَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ اللَّيْلِ.
وَتَنْكِيرُ غاسِقٍ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ لِأَنَّ مَقَامَ الدُّعَاءِ يُنَاسِبُ التَّعْمِيمَ.
وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَرِيرِيِّ فِي الْمَقَامَةِ الْخَامِسَةِ: «يَا أَهْلَ ذَا الْمَعْنَى وُقِيتُمْ ضُرًّا» أَيْ وُقِيتُمْ كُلَّ ضُرٍّ.
وَإِضَافَةُ الشَّرِّ إِلَى غَاسِقٍ مِنْ إِضَافَةِ الِاسْمِ إِلَى زَمَانِهِ عَلَى مَعْنَى (فِي) كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: ٣٣].
وَاللَّيْل: تَكْثُرُ فِيهِ حَوَادِثُ السُّوءِ مِنَ اللُّصُوصِ وَالسِّبَاعِ وَالْهَوَامِّ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَتَقْيِيدُ ذَلِكَ بِظَرْفِ إِذا وَقَبَ أَيْ إِذَا اشْتَدَّتْ ظُلْمَتُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتٌ يَتَحَيَّنُهُ الشُّطَّارُ وَأَصْحَابُ الدَّعَارَةِ وَالْعَيْثِ، لِتَحَقُّقِ غَلَبَةِ الْغَفْلَةِ وَالنَّوْمِ عَلَى النَّاسِ فِيهِ، يُقَالُ: أَغْدَرَ اللَّيْلُ، لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ ظَلَامُهُ كَثُرَ الْغَدْرُ فِيهِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَغْدَرُ، أَيْ صَارَ ذَا غَدْرٍ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ.