قَوْلِهِ- قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ [آل عمرَان: ٧٢، ٧٣] فَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ جملَة مُعْتَرضَة.
وقُوف الْقُرْآن
الْوَقْفُ هُوَ قَطْعُ الصَّوْتِ عَنِ الْكَلِمَةِ حِصَّةً يَتَنَفَّسُ فِي مِثْلِهَا الْمُتَنَفِّسُ عَادَةً، وَالْوَقْفُ عِنْدَ انْتِهَاءِ جُمْلَةٍ مِنْ جُمَلِ الْقُرْآنِ قَدْ يَكُونُ أَصْلًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ فَقَدْ يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ الْوَقْفِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمرَان: ١٤٦] فَإِذَا وَقَفَ عِنْد كلمة قاتَلَ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ قَتَلَهُمْ قَوْمُهُمْ وَأَعْدَاؤُهُمْ، وَمَعَ الْأَنْبِيَاءِ أَصْحَابُهُمْ فَمَا تَزَلْزَلُوا لِقَتْلِ أَنْبِيَائِهِمْ فَكَانَ الْمَقْصُودُ تَأْيِيسَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ وَهَنِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى فَرْضِ قَتْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَتِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي خِطَابِ الْمُسْلِمِينَ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمرَان: ١٤٤] الْآيَةَ، وَإِذَا وصل قَوْله: قاتَلَ عِنْدَ قَوْلِهِ كَثِيرٌ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ قُتِلَ مَعَهُمْ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى فَمَا وَهَنَ مَنْ بَقِيَ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً إِلَى قَوْلِهِ: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمرَان: ١٦٩، ١٧٠].
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمرَان: ٧] الْآيَةَ، فَإِذَا وُقِفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا يَصِلُ فَهْمُ النَّاسِ إِلَى تَأْوِيلِهِ وَأَنَّ عِلْمَهُ مِمَّا اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ مِثْلَ اخْتِصَاصِهِ بِعِلْمِ السَّاعَةِ وَسَائِرِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ وَكَانَ مَا بَعْدَهُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ يُفِيدُ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يُفَوِّضُونَ فَهْمَهُ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى، وَإِذَا وُصِلَ قَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهُ بِمَا بَعْدَهُ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فِي حَالِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطَّلَاق: ٤] فَإِنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ: ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ:
وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَقَعَ قَوْلُهُ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطَّلَاق: ٤] مَعْطُوفًا عَلَى اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ خَبَرًا عَنْ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى إِذْ كَيفَ يكون للّاء لَمْ يَحِضْنَ حَمْلٌ حَتَّى يَكُونَ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ» الحَدِيث.
وَعَلِيهِ فَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنْ لَا يَحْمِلَ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَحْرِ مُؤَوَّلٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَتَرْكِ التَّغْرِيرِ (١) وَأَنَا أَحْسَبُهُ قَدْ قَصَدَ مِنْهُ
خَشْيَةَ تَأَخُّرِ نَجَدَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزَوَاتِهِمْ لِأَنَّ السُّفُنَ قَدْ يَتَأَخَّرُ وُصُولُهَا إِذَا لَمْ تُسَاعِفْهَا الرِّيَاحُ الَّتِي تَجْرِي بِمَا لَا تَشْتَهِي السُّفُنُ وَلِأَنَّ رُكُوبَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ فِي سُفُنِ ذَلِكَ الْعَصْرِ مَظِنَّةُ وُقُوعِ الْغَرَقِ، وَلِأَنَّ عَدَدَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَدُوِّ فَلَا يَنْبَغِي تَعْرِيضُهُ لِلْخَطَرِ فَذَلِكَ مِنَ النَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي أَحْكَامٍ خَاصَّةٍ لِلنَّاسِ. وَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ اسْتَأْذَنَ مُعَاوِيَةُ عُثْمَانَ فَأَذِنَ لَهُ فِي رُكُوبِهِ فَرَكِبَهُ لِغَزْوِ (قُبْرُصَ) ثُمَّ لِغَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَفِي غَزْوَةِ (قُبْرُصَ) ظَهَرَ تَأْوِيل رُؤْيا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَرَامٍ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ نَهَى عَنْ رُكُوبِهِ ثُمَّ رَكِبَهُ النَّاسُ بَعْدَهُ.
وَرُوِيَ عَن مَالك كَرَاهَة سَفَرِ الْمَرْأَةِ فِي الْبَحْرِ لِلْحَجِّ وَالْجِهَادِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَحَدِيثُ أُمِّ حَرَامٍ يَرُدُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَلَكِنْ تَأَوَّلَهَا أَصْحَابُهُ بِأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ لِخَشْيَةِ اطِّلَاعِهِنَّ عَلَى عَوْرَاتِ الرِّجَالِ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ فَخَصَّهُ أَصْحَابُهُ بِسُفُنِ أَهْلِ الْحِجَازِ لِصِغَرِهَا وَضِيقِهَا وَتَزَاحُمِ النَّاسِ فِيهَا مَعَ كَوْنِ الطَّرِيقِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْبَرِّ مُمْكِنًا سَهْلًا وَأَمَّا السُّفُنُ الْكِبَارُ كَسُفُنِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا الِاسْتِتَارُ وَقِلَّةُ التَّزَاحُمِ فَلَيْسَ بِالسَّفَرِ فِيهَا لِلْمَرْأَةِ بَأْسٌ عِنْدَ مَالِكٍ (٢).
وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي قَبْلَهُ جِيءَ بِهِ اسْمٌ مَوْصُولٌ لِيَأْتِيَ عَطْفُ صِلَةٍ عَلَى صِلَةٍ فَتَبْقَى الْجُمْلَةُ بِمَقْصِدِ الْعِبْرَةِ وَالنِّعْمَةِ، فَالصِّلَةُ الْأُولَى وَهِيَ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ تَذْكِيرٌ بِالْعِبْرَةِ لِأَنَّ فِي الصِّلَةِ مِنَ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ مَا لَيْسَ فِي نَحْوِ كَلِمَةِ الْمَطَرِ وَالْغَيْثِ، وَإِسْنَادُ الْإِنْزَالِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي أَوْجَدَ أَسْبَابَ نُزُولِ الْمَاءِ بِتَكْوِينِهِ الْأَشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى نِظَامٍ مُحْكَمٍ.
وَالسَّمَاءُ الْمُفْرَدُ هُوَ الْجَوُّ وَالْهَوَاءُ الْمُحِيطُ بِالْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهُوَ الَّذِي يُشَاهِدُهُ جَمِيعُ السَّامِعِينَ.
_________
(١) قَالَه الْقُرْطُبِيّ فِي (٢/ ١٩٥).
(٢) «التَّمْهِيد» لِابْنِ الْبر (١/ ٢٣٣، ٢٣٤)، ط. الْمغرب.
تَشْنِيعٌ، أَوْ تَوَعُّدٌ بِسُوءِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا وَلُقِيِّ الْمَتَاعِبِ وَمَرَارَةِ الْحَيَاةِ تَحْتَ صُورَةٍ يَخَالُهَا الرَّائِي مُسْتَقِيمَةً.
وَالتَّخَبُّطُ مُطَاوِعُ خَبَطَهُ إِذَا ضَرَبَهُ ضَرْبًا شَدِيدًا فَاضْطَرَبَ لَهُ، أَيْ تَحَرَّكَ تَحَرُّكًا شَدِيدًا، وَلَمَّا كَانَ مِنْ لَازِمِ هَذَا التَّحَرُّكِ عَدَمُ الِاتِّسَاقِ، أَطْلَقَ التَّخَبُّطَ عَلَى اضْطِرَابِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ اتِّسَاقٍ. ثُمَّ إِنَّهُمْ يَعْمِدُونَ إِلَى فِعْلِ الْمُطَاوَعَةِ فَيَجْعَلُونَهُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ إِذَا أَرَادُوا الِاخْتِصَارَ، فَعِوَضًا عَنْ أَنْ يَقُولُوا خَبَطَهُ فَتَخَبَّطَ يَقُولُونَ تَخَبَّطَهُ كَمَا قَالُوا: اضْطَرَّهُ إِلَى كَذَا.
فَتَخَبُّطُ الشَّيْطَانِ الْمَرْءَ جَعْلُهُ إِيَّاهُ مُتَخَبِّطًا، أَيْ مُتَحَرِّكًا عَلَى غَيْرِ اتِّسَاقٍ.
وَالَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ هُوَ الْمَجْنُون الذيب أَصَابَهُ الصَّرْعُ. فَيَضْطَرِبُ بِهِ اضْطِرَابَاتٍ،
وَيَسْقُطُ عَلَى الْأَرْضِ إِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ، فَلَمَّا شبهت الهيأة بالهيأة جِيءَ فِي لفظ الهيأة الْمُشَبَّهِ بِهَا بِالْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا فِي كَلَامِهِمْ وَإِلَّا لما فهمت الهيأة الْمُشَبَّهُ بِهَا، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ. قَالَ الْأَعْشَى يَصِفُ نَاقَتَهُ بِالنَّشَاطِ وَسُرْعَةِ السَّيْرِ، بَعْدَ أَنْ سَارَتْ لَيْلًا كَامِلًا:

وَتُصْبِحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى وَكَأَنَّهَا أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ (١)
وَالْمَسُّ فِي الْأَصْلِ هُوَ اللَّمْسُ بِالْيَدِ كَقَوْلِهَا (٢)
: «الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ»، وَهُوَ إِذَا أُطْلِقَ مُعَرَّفًا بِدُونِ عَهْدِ مَسٍّ مَعْرُوفٍ دَلَّ عِنْدَهُمْ عَلَى مَسِّ الْجِنِّ، فَيَقُولُونَ: رَجُلٌ مَمْسُوسٌ أَيْ مَجْنُونٌ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى زِيَادَةِ قَوْلِهِ مِنَ الْمَسِّ لِيَظْهَرَ الْمُرَادُ مِنْ تَخَبُّطِ الشَّيْطَانِ فَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ تَخَبُّطٌ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى الْوَسْوَسَةِ. وَ (مِنْ) ابتدائية مُتَعَلقَة بيتخبّطه لَا مَحَالَةَ.
وَهَذَا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ جَارٍ عَلَى مَا عَهِدَهُ الْعَرَبِيُّ مِثْلَ قَوْلِهِ: «طلعها كأنّه رُؤُوس الشَّيَاطِينِ»، وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ
إِلَّا أنّ هَذَا أَثَره مُشَاهَدٌ وَعِلَّتُهُ مُتَخَيَّلَةٌ وَالْآخَرَانِ مُتَخَيَّلَانِ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ تَأْثِيرَ الشَّيَاطِينِ بِغَيْرِ الْوَسْوَسَةِ. وَعِنْدَنَا هُوَ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى تَخَيِيلِهِمْ وَالصَّرَعُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ عِلَلٍ
_________
(١) يُرِيد أَنَّهَا بعد أَن تسري اللَّيْل تصبح نشيطة لشدَّة قوتها بِحَيْثُ لَا يقل نشاطها. وَالْغِب بِكَسْر الْغَيْن بِمَعْنى عقب. وطائف الْجِنّ مَا يُحِيط بالإنسان من الصرع وَالِاضْطِرَاب قَالَ تَعَالَى: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا. والأولق اسْم مس الْجِنّ وَالْفِعْل مِنْهُ أولق بِالْبِنَاءِ للْمَجْهُول.
(٢) فِي حَدِيث أم زرع من «صَحِيح البُخَارِيّ».
ورد أَنَّهُ لَمَّا شُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ:
إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ دَاعِيًا وَرَحْمَةً، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
. وَمَا ثَبَتَ مِنْ خُلُقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ.
وَأَغْرَبَ جَمَاعَةٌ فَقَالُوا نَزَلَ قَوْلُهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ نَسْخًا لِمَا كَانَ يَدْعُو بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُنُوتِهِ عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ، وَلِحْيَانَ، الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَسَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي «الْبُخَارِيِّ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَلَامٌ ضَعِيفٌ كُلُّهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ لِنَسْخِ ذَلِكَ وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ
عِلَلِ النَّصْرِ الْوَاقِعِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَتَفْسِيرُ مَا وَقَعَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الدُّعَاءَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَة أخذا بكامل الْأَدَبِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَعْلَمَهُ فِي هَذَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِمَا فِيهِ نَفْعُ الْإِسْلَامِ، وَنِقْمَةُ الْكُفْرِ، تَرَكَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِمْ إِذْ لَعَلَّهُمْ أَنْ يُسْلِمُوا. وَإِذْ جَعَلْنَا دُعَاءَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبَائِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُنُوتِ شَرْعًا تَقَرَّرَ بِالِاجْتِهَادِ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ أَصْلَ الدُّعَاءِ عَلَى الْعَدُّوِ مُبَاحٌ، فَتَرْكُهُ لِذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ قَبِيلِ النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ، نَسَخَتْ حُكْمَ الْإِبَاحَةِ الَّتِي هِيَ اسْتِوَاءُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِإِثْبَاتِ حُكْمِ أَوْلَوِيَّةِ الْفِعْلِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَ الْمَرْمَى، وَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا، وَأَنَّ (أَوْ) بِمَعْنَى حَتَّى: أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِ إِيمَانِهِمْ شَيْءٌ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إِذَا تَابَ عَلَيْهِمْ، وَهَلْ يَجْهَلُ هَذَا أَحَدٌ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى بَيَانِهِ، عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ عِلَلِ النَّصْرِ، فَكَيْفَ يشتّت الْكَلَام، وتنتثر الْمُتَعَاطِفَاتُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ الْأَمْرِ أَوْ عَلَى قَوْلِهِ شَيْءٌ، مِنْ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى اسْمٍ خَالِصٍ بِإِضْمَارِ أَنْ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ، أَيْ لَيْسَ لَكَ مِنْ أَمْرِهِمْ أَوْ تَوْبَتِهِمْ شَيْءٌ، أَوْ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ تَوْبَةٌ عَلَيْهِمْ.
الْخِلَافِ:
فَقَالَتِ الْمُرْجِئَةُ: هُوَ فِي الْجَنَّةِ بِإِيمَانِهِ وَلَا تَضُرُّهُ سَيِّئَاتُهُ، وَجَعَلُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ كُلَّهَا مُخَصَّصَةً بِالْكُفَّارِ وَآيَاتِ الْوَعْدِ عَامَّةً فِي الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِذَا كَانَ صَاحِبَ كَبِيرَةٍ فَهُوَ فِي
النَّارِ لَا مَحَالَةَ وَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: إِذَا كَانَ صَاحِبَ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ فَهُوَ فِي النَّارِ مُخَلَّدٌ وَلَا إِيمَانَ لَهُ، وَجَعَلُوا آيَاتِ الْوَعْدِ كُلَّهَا مُخَصَّصَةً بِالْمُؤْمِنِ الْمُحْسِنِ وَالْمُؤْمِنِ التَّائِبِ، وَجَعَلُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ عَامَّةً فِي الْعُصَاةِ كُفَّارًا أَوْ مُؤْمِنِينَ وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: آيَاتُ الْوَعْدِ ظَاهِرَةُ الْعُمُومِ وَلَا يَصِحُّ نُفُوذُ كُلِّهَا لِوَجْهِهِ بِسَبَبِ تَعَارُضِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [اللَّيْل: ١٥، ١٦] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الْجِنّ: ٢٣]، فَلَا بُدَّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ آيَاتِ الْوَعْدِ لَفْظُهَا لَفْظُ الْعُمُومِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ:
فِي الْمُؤْمِنِ الْمُحْسِنِ، وَفِيمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَفْوُ عَنْهُ دُونَ تَعْذِيبٍ مِنَ الْعُصَاةِ، وَأَنَّ آيَاتِ الْوَعِيدِ لَفْظُهَا عُمُومٌ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فِي الْكَفَرَةِ، وَفِيمَنْ سَبَقَ عِلْمُهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُعَذِّبُهُ مِنَ الْعُصَاةِ. وَآيَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ جَلَتِ الشَّكَّ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ:
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ مُبْطِلٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَقَوْلَهُ: لِمَنْ يَشاءُ رادّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ غُفْرَانَ مَا دُونُ الشِّرْكِ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ». وَلَعَلَّهُ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى تَأْوِيلِ الشِّرْكِ بِهِ بِمَا يَشْمَلُ الْكُفْرَ كُلَّهُ، أَوْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ أَشْرَكُوا فَقَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى أَشْرَكُوا فَقَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ فَخْرُ الدِّينِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ.
فَالْإِشْرَاكُ لَهُ مَعْنَاهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْكَفْرُ دُونَهُ لَهُ مَعْنَاهُ.
وَالْمُعْتَزِلَةُ تَأَوَّلُوا الْآيَةَ بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» : بِأَنَّ قَوْلَهُ لِمَنْ يَشاءُ مَعْمُولٌ يَتَنَازَعُهُ لَا يَغْفِرُ الْمَنْفِيُّ وَيَغْفِرُ الْمُثْبِتُ. وَتَحْقِيقُ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيَصِيرُ مَعْنَى لَا يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ أَنَّهُ لَا يَشَاءُ الْمَغْفِرَةَ لَهُ إِذْ لَوْ شَاءَ الْمَغْفِرَةَ لَهُ لَغَفَرَ لَهُ، لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ الْمُمْكِنَ لَا يَمْنَعُهَا شَيْءٌ، وَهِيَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلِ، فَلَمَّا قَالَ: لَا يَغْفِرُ علمنَا أنّ (لِمَنْ يَشاءُ) مَعْنَاهُ لَا يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، أَيْ لَا تَفْعَلْ فَأَعْرِفُكَ فَاعِلًا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ تَعَسُّفٌ بَيِّنٌ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ تَأْوِيلَ الْخَوَارِجِ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا. وَأَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَتَأَوَّلُوا بِمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ مَفْعُولَ لِمَنْ يَشاءُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، أَيْ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ مِنَ الشَّعَائِرِ الزَّمَانِيَّةِ، وَالْهَدْيُ وَالْقَلَائِدُ مِنَ الشَّعَائِرِ الذَّوَاتِ. فَعَطْفُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيِ وَمَا بَعْدَهُمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ عَطْفُ الْجُزْئِيِّ عَلَى كُلِّيِّهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ... فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التَّوْبَة: ٣٦]. فَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ كَالنَّكِرَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أُرِيدَ رَجَبٌ خَاصَّةً لِيَشْتَدَّ أَمْرُ تَحْرِيمِهِ إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ غَيْرُ مُجْمِعَةٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا خُصَّ بِالنَّهْيِ عَنْ إِحْلَالِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ الْعَرَبِ يُحَرِّمُونَهُ، فَلِذَلِكَ كَانَ يُعْرَفُ بِرَجَبِ مُضَرَ فَلَمْ تَكُنْ رَبِيعَةُ وَلَا إِيَادٌ وَلَا أَنْمَارٌ يُحَرِّمُونَهُ. وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: شَهْرُ بَنِي أُمَيَّةَ أَيْضًا، لِأَنَّ قُرَيْشًا حَرَّمُوهُ قَبْلَ جَمِيعِ الْعَرَبِ فَتَبِعَتْهُمْ مُضَرُ كُلُّهَا لِقَوْلِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ:
وَشَهْرِ بَنِي أُمَيَّةَ وَالْهَدَايَا إِذَا حبست مضرّجها الدقاء
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ فَلَا يَعُمُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّعْرِيفَ لِلْجِنْسِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالْهَدْيُ: هُوَ مَا يُهْدَى إِلَى مَنَاسِكِ الْحَجِّ لِيُنْحَرَ فِي الْمَنْحَرِ مِنْ مِنًى، أَوْ بِالْمَرْوَةِ، مِنَ الْأَنْعَامِ.
وَالْقَلَائِدُ: جَمْعُ قِلَادَةٍ وَهِيَ ظَفَائِرُ مِنْ صُوفٍ أَوْ وَبَرٍ، يُرْبَطُ فِيهَا نَعْلَانِ أَوْ قِطْعَةٌ مِنْ لِحَاءِ الشَّجَرِ، أَيْ قِشْرِهِ، وَتُوضَعُ فِي أَعْنَاقِ الْهَدَايَا مُشَبَّهَةً بِقَلَائِدِ النِّسَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ يُعْرَفَ الْهَدْيُ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِغَارَةٍ أَوْ نَحْوِهَا. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ إِذَا تَأَخَّرَ فِي مَكَّةَ حَتَّى خَرَجَتِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، وَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى وَطَنِهِ، وَضَعَ فِي عُنُقِهِ قِلَادَةً مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِسُوءٍ.
وَوَجْهُ عَطْفِ الْقَلَائِدِ عَلَى الْهَدْيِ الْمُبَالَغَةُ فِي احْتِرَامِهِ بِحَيْثُ يَحْرُمُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى قِلَادَتِهِ بَلَهِ ذَاتِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًاِِ
وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أنّ الْفَرِيقَيْنِ تفاضوا فِي ذَلِكَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، فَحَلَفَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِي وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ عَلَى أَنَّ تَمِيمًا وَعَدِيًّا أَخْفَيَا الْجَامَ وَأَنَّ بُدَيْلًا صَاحِبُهُ وَمَا بَاعَهُ وَلَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ. وَدَفَعَ لَهُمَا عَدِيٌّ خَمْسَمِائَةَ دِرْهَمٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ نَصْرَانِيٌّ. وَعَدِيٌّ هَذَا قِيلَ: أَسْلَمَ، وَعَدَّهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَنْدَهْ فِي عِدَادِ الصَّحَابَةِ، وَقِيلَ: مَاتَ نَصْرَانِيًّا، وَرَجَّحَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي نُعَيْمٍ، وَيُرْوَى عَنْ مُقَاتِلٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ. وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا قَبْلَ التَّرَافُعِ بَيْنَ الْخَصْمِ فِي قَضِيَّةِ الْجَامِ، وَأَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا بَعْدَ قَضَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ لِتَكُونَ تَشْرِيعًا لِمَا يَحْدُثُ مِنْ أَمْثَالِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ.
وبَيْنِكُمْ أَصْلُ (بَيْنَ) اسْمُ مَكَانٍ مُبْهَمٍ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يُبَيِّنُهُ مَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِعِدَّةِ أَشْيَاءَ، وَهُوَ مَجْرُورٌ بِإِضَافَةِ شَهادَةُ إِلَيْهِ عَلَى الِاتِّسَاعِ. وَأَصْلُهُ (شَهَادَةٌ) بِالتَّنْوِينِ وَالرَّفْعِ «بَيْنَكُمْ» بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. فَخَرَجَ (بَيْنَ) عَنِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَى مُطْلَقِ الِاسْمِيَّةِ كَمَا خَرَجَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ٩٤] فِي قِرَاءَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَشَرَةِ بِرَفْعِ بَيْنِكُمْ.
وَارْتَفَعَ شَهادَةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ اثْنانِ. وإِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ظَرْفُ زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٌ. وَلَيْسَ فِي (إِذَا) مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِ شَهادَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، أَيْ لِيُشْهِدْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اثْنَانِ، يَعْنِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ بِذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا أَنْ يَشْهَدَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا [الْبَقَرَة: ٢٨٢].
وحِينَ الْوَصِيَّةِ بَدَلٌ مِنْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بَدَلًا مُطَابِقًا، فَإِنَّ حِينَ حُضُورِ الْمَوْتِ هُوَ الْحِينُ الَّذِي يُوصِي فِيهِ النَّاسُ غَالِبًا. جِيءَ بِهَذَا الظَّرْفِ الثَّانِي لِيُتَخَلَّصَ بِهَذَا الْبَدَلِ إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ.
وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ إِذَا رَأَوْا عَلَامَةَ الْمَوْتِ عَلَى الْمَرِيضِ يَقُولُونَ: أَوْصِ، وَقَدْ قَالُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ أَخْبَرَ الطَّبِيبُ أَنَّ جُرْحَهُ فِي أَمْعَائِهِ. وَمَعْنَى حُضُورِ الْمَوْتِ حُضُورُ عَلَامَاتِهِ لِأَنَّ تِلْكَ حَالَةٌ يَتَخَيَّلُ فِيهَا الْمَرْءُ أَنَّ الْمَوْتَ قَدْ حَضَرَ عِنْدَهُ لِيُصَيِّرَهُ مَيِّتًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حُصُولَ الْغَرْغَرَةِ لِأَنَّ مَا طُلِبَ مِنَ الْمُوصِي
فَاقْتَصَرَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَعْنَى أَنَّ عِلَّةَ الْإِرْسَالِ هِيَ عَدَمُ إِهْلَاكِ الْقُرَى عَلَى غَفْلَةٍ، فَدَلَّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَحْذُوفِ.
وَالْإِهْلَاكُ: إِعْدَامُ ذَاتِ الْمَوْجُودِ وَإِمَاتَةُ الْحَيِّ. قَالَ تَعَالَى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الْأَنْفَال: ٤٢] فَإِهْلَاكُ الْقُرَى إِبَادَةُ أَهْلِهَا وَتَخْرِيبُهَا، وَإِحْيَاؤُهَا إِعَادَةُ عُمْرَانِهَا بِالسُّكَّانِ وَالْبِنَاءِ، قَالَ تَعَالَى: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ (أَيِ الْقَرْيَةَ) اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها [الْبَقَرَة:
٢٥٩]. وإهلاك النّاس: إبادتهم، وإحياؤهم إبقاؤهم، فَمَعْنَى إهلاك الْقُرَى هُنَا شَامِلٌ لِإِبَادَةِ سُكَّانِهَا. لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ تَعَلَّقَ بِذَاتِ الْقُرَى، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّمَجُّزِ فِي إِطْلَاقِ الْقُرَى عَلَى أَهْلِ الْقُرَى (كَمَا فِي: وسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: ٨٢] لِصِحَّةِ الْحَقِيقَةِ هُنَا، وَلِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهُ قَوْلَهُ: وَأَهْلُها غافِلُونَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
[الْإِسْرَاء: ١٦] فَجَعَلَ إِهْلَاكَهَا تَدْمِيرَهَا، وَإِلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها [الْفرْقَان: ٤٠].
وَالْبَاءُ فِي: بِظُلْمٍ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ، أَيْ مُهْلِكُهُمْ بِسَبَبِ شِرْكٍ يَقَعُ فِيهَا فَيُهْلِكُهَا وَيُهْلِكُ أَهْلَهَا الَّذِينَ أَوْقَعُوهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: بِظُلْمِ أَهْلِهَا، لِأَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّ وُجُودَ الظُّلْمِ فِيهَا سَبَبُ هَلَاكِهَا، وَهَلَاكُ أَهْلِهَا بِالْأَحْرَى لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْهَلَاكِ.
وَجُمْلَةُ: وَأَهْلُها غافِلُونَ حَالٌ مِنَ الْقُرى. وَصَرَّحَ هُنَا بِ أَهْلُها تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَلَاكَ الْقُرَى مِنْ جَرَّاءِ أَفْعَالِ سُكَّانِهَا، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النَّمْل: ٥٢].
[١٣٢]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٣٢]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ جُمْلَتَيِ الصِّلَةِ: تَفْظِيعُ حَالِ دِينِهِمْ بِأَنَّهُ ارْتِكَابُ فَوَاحِشَ، وَتَفْظِيعُ حَالِ اسْتِدْلَالِهِمْ لَهَا بِمَا لَا يَنْتَهِضُ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ. وَجَاءَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ إِذا الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ إِفَادَةُ الْيَقِينِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ هَذَا حَاصِلٌ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ.
وَالْفَاحِشَةُ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فِعْلَةٌ فَاحِشَةٌ ثُمَّ نَزَلَ الْوَصْفُ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ، فَصَارَتِ الْفَاحِشَةُ اسْمًا لِلْعَمَلِ الذَّمِيمِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْفُحْشِ- بِضَمِّ الْفَاءِ- وَهُوَ الْكَثْرَةُ وَالْقُوَّةُ فِي الشَّيْءِ الْمَذْمُومِ وَالْمَكْرُوهِ، وَغَلَبَتِ الْفَاحِشَةُ فِي الْأَفْعَالِ الشَّدِيدَةِ الْقُبْحِ وَهِيَ الَّتِي تَنْفِرُ مِنْهَا الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، أَوْ يَنْشَأُ عَنْهَا ضُرٌّ وَفَسَادٌ بِحَيْثُ يَأْبَاهَا أَهْلُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ، وَيُنْكِرُهَا أُولُو الْأَحْلَامِ، وَيَسْتَحْيِي فَاعِلُهَا مِنَ النَّاسِ، وَيَتَسَتَّرُ مِنْ فِعْلِهَا مثل الْبغاء والزّنى وَالْوَأْدِ وَالسَّرِقَةِ، ثُمَّ تَنْهَى عَنْهَا الشَّرَائِعُ الْحَقَّةُ، فَالْفِعْلُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ فَاحِشَةٌ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، كَأَفْعَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْلَ السُّجُودِ لِلتَّمَاثِيلِ وَالْحِجَارَةِ وَطَلَبِ الشَّفَاعَةِ مِنْهَا وَهِيَ جَمَادٌ، وَمِثْلَ الْعَرَاءِ فِي الْحَجِّ، وَتَرْكِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ عَلَى الذَّبَائِحِ، وَهِيَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَتَسْخِيرِهِ، وَالْبِغَاءِ، وَاسْتِحْلَالِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالضُّعَفَاءِ، وَحِرْمَانِ الْأَقَارِبِ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَاسْتِشَارَةِ الْأَزْلَامِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْعَمَلِ أَوْ تَرْكِهِ، وَقَتْلِ غَيْرِ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ، وَتَحْرِيمِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ وَتَحْلِيلِهِمُ الْخَبَائِثَ مِثْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَاحِشَةِ فِي الْآيَةِ التَّعَرِّي فِي الْحَجِّ، وَإِنَّمَا مَحْمَلُ كَلَامِهِ عَلَى أَنَّ التَّعَرِّيَ فِي الْحَجِّ مِنْ أَوَّلِ مَا أُرِيدَ بِالْفَاحِشَةِ لَا قَصْرِهَا عَلَيْهِ فَكَأَن أئمّة الشِّرْكِ قَدْ أَعَدُّوا لِأَتْبَاعِهِمْ مَعَاذِيرَ عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَلَقَّنُوهَا إِيَّاهُمْ، وَجِمَاعُهَا أَنْ يَنْسُبُوهَا إِلَى آبَائِهِمُ السَّالِفِينَ الَّذِينَ هُمْ قُدْوَةٌ لِخَلَفِهِمْ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ آبَاءَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي طَيِّ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ مَصَالِحَ لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا الْمُنْكِرُونَ لَعَرَفُوا مَا أَنْكَرُوا، ثُمَّ عَطَفُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ يَعْنُونَ أَنَّ آبَاءَهُمْ مَا رَسَمُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ رَسَمُوهَا بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُمُ اعْتَذَرُوا
وَالْجَهْلُ: انْتِفَاءُ الْعِلْمِ أَوْ تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ حَقِيقَتِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٧]، وَالْمُرَادُ جَهْلُهُمْ بِمَفَاسِدِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ وَصْفُ مُوسَى إِيَّاهُمْ بِالْجَهَالَةِ مُؤَكِّدًا لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مِنْ كَوْنِ الْجَهَالَةِ صِفَةً ثَابِتَةً فِيهِمْ وَرَاسِخَةً مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ لَهُمْ فِي بَادِئِ النَّظَرِ زَاجِرٌ عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ: الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ، مُكَنًّى بِهِ عَنِ التَّعَجُّبِ مِنْ فَدَاحَةِ جَهْلِهِمْ.
وَفِي الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ قَوْمٍ وَجعل مَا هُوَ مَقْصُودٌ بِالْإِخْبَارِ وَصْفًا لِقَوْمٍ، تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ وَصْفَهُمْ بِالْجَهَالَةِ كَالْمُتَحَقِّقِ الْمَعْلُومِ الدَّاخِلِ فِي تَقْوِيمِ قَوْمِيَّتِهِمْ، وَفِي الْحُكْمِ بِالْجَهَالَةِ عَلَى الْقَوْمِ كُلِّهِمْ تَأْكِيدٌ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِ جَهَالَتِهِمْ وَعُمُومِهَا فِيهِمْ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَشِذُّ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْغَرَابَةِ أُكِّدُّ الْحُكْمُ (بِإِنَّ) لِأَنَّ شَأْنَهُ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي ثُبُوتِهِ السَّامِعُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْهَا وَقَدْ أُكِّدَتْ وَجُعِلَتِ اسْمِيَّةً لِمِثْلِ الْأَغْرَاضِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي أُخْتِهَا، وَقَدْ عُرِّفَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ بِتِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَوْصَافِ وَهِيَ كَوْنُهُمْ مُتَبَّرًا أَمْرُهُمْ وَبَاطِلًا عَمَلُهُمْ، وَقُدِّمَ الْمُسْنَدُ وَهُوَ مُتَبَّرٌ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ مَا هُمْ فِيهِ لِيُفِيدَ تَخْصِيصَهُ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَيْ: هُمُ الْمُعَرَّضُونَ لِلتَّبَارِ وَأَنَّهُ لَا يَعْدُوهُمُ الْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ لَهُمْ ضَرْبَةُ لَازِبٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ مُتَبَّرٌ مُسْنَدًا إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِخْبَارِ هُوَ مَا هُمْ فِيهِ.
وَالْمُتَبِّرُ: الْمُدَمِّرُ، وَالتَّبَارُ- بِفَتْحِ التَّاءِ- الْهَلَاكُ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً [نوح:
٢٨]. يُقَال نبر الشَّيْءُ- كَضَرَبَ وَتَعِبَ وَقَتَلَ- وَتَبَّرَهُ تَضْعِيفٌ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ أَهْلَكَهُ وَالتَّتْبِيرُ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِفَسَادِ الْحَالِ، فَيَبْقَى اسْمُ الْمَفْعُولِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْمَوْصُوفِ بِهِ فِي زَمَنِ الْحَالِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّتْبِيرُ مُسْتَعَارًا لِسُوءِ الْعَاقِبَةِ، شُبِّهَ حَالُهُمُ الْمُزَخْرَفُ ظَاهِرُهُ بِحَالِ الشَّيْءِ الْبَهِيجِ الْآيِلِ إِلَى الدَّمَارِ وَالْكَسْرِ فَيَكُونُ اسْمُ الْمَفْعُولِ مَجَازًا فِي الِاسْتِقْبَالِ، أَيْ
فَالْعَهْدُ، الَّذِي أَعْطَوْهُ، هُوَ الْعَهْدُ بِأَنْ لَا يَعُودُوا إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي أَسْرَى الْحَرْبِ إِذَا أَطْلَقُوهُمْ فَمِنَ الْأَسْرَى مَنْ يَخُونُ الْعَهْدَ وَيَرْجِعُ إِلَى قِتَالِ مَنْ أَطْلَقُوهُ.
وَخِيَانَتُهُمَ اللَّهَ، الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْآيَةِ، يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الشِّرْكُ فَإِنَّهُ خِيَانَةٌ لِلْعَهْدِ الْفِطْرِيِّ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي آدَمَ فِيمَا حَكَاهُ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم [الْأَعْرَاف: ١٧٢] الْآيَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ اسْتَقَرَّ فِي الْفِطْرَةِ، وَمَا مِنْ نَفْسٍ إِلَّا وَهِيَ تَشْعُرُ بِهِ، وَلَكِنَّهَا تُغَالِبُهَا ضَلَالَاتُ الْعَادَاتِ وَاتِّبَاعُ الْكُبَرَاءِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَنْ يُرَادَ بِهَا الْعَهْدُ الْمُجْمَلُ الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما [الْأَعْرَاف: ١٨٩، ١٩٠].
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَهْدِ مَا نَكَثُوا مِنَ الْتِزَامِهِمْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ تَصْدِيقِهِ إِذَا جَاءَهُمْ بِبَيِّنَةٍ، فَلَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ كَفَرُوا بِهِ وَكَابَرُوا.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ.
وَتَقْدِيرُهُ: فَلَا تَضُرُّكَ خِيَانَتُهُمْ، أَوْ لَا تَهْتَمَّ بِهَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا أَعَادَهُمُ اللَّهُ إِلَى يَدِكَ كَمَا أَمْكَنَكَ مِنْهُمْ مِنْ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ سَكَتَ مُعْظَمُ التَّفَاسِيرِ وَكُتُبُ اللُّغَةِ عَنْ تَبْيِينِ حَقِيقَةِ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَبَيَانِ اشْتِقَاقِهِ، وَأَلَمَّ بِهِ بَعْضُهُمْ إِلْمَامًا خَفِيفًا بِأَنْ فسروا (أمكن) بأقدر، فَهَلْ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَكَانِ أَوْ مِنَ الْإِمْكَانِ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ أَوْ مِنَ الْمَكَانَةِ بِمَعْنَى الظَّفَرِ. وَوَقَعَ فِي «الْأَسَاسِ» «أَمْكَنَنِي الْأَمْرُ مَعْنَاهُ أَمْكَنَنِي مِنْ نَفْسِهِ» وَفِي «الْمِصْبَاحِ» «مَكَّنْتُهُ مِنَ الشَّيْءِ تَمْكِينًا وَأَمْكَنْتُهُ جَعَلْتُ لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةً».
وَالَّذِي أَفْهَمُهُ مِنْ تَصَارِيفِ كَلَامِهِمْ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَكَانِ وَأَنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ لِلْجَعْلِ، وَأَنَّ مَعْنَى أَمْكَنَهُ مِنْ كَذَا جَعَلَ لَهُ مِنْهُ مَكَانًا أَيْ مَقَرًّا، وَأَنَّ الْمَكَانَ مَجَازٌ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ فِي تَصَرُّفِهِ كَمَا يَكُونُ الْمَكَانُ مَجَالًا لِلْكَائِنِ فِيهِ.
آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، أَيْ مِنْ جِنْسِهَا حُرُوفُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، أَيْ جَمِيعُ تَرَاكِيبِهِ مِنْ جِنْسِ تِلْكَ الْحُرُوفِ.
وَالْمَقْصُودُ تَسْجِيلُ عَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِأَنَّ آيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ كُلَّهَا مِنْ جِنْسِ حُرُوفِ كَلَامِهِمْ فَمَا لَكَمَ لَا تَسْتَطِيعُونَ مُعَارَضَتَهَا بِمِثْلِهَا إِنْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِأَنَّ الْكِتَابَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِهَذَا النَّظْمِ الْمُعْجِزِ دُونَ كَلَامِهِمْ مُحَالًا إِذْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفِ كَلَامِهِمْ.
وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ التَّعْرِيفِ دَالًّا عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ فِي الْجِنْسِ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ الرَّجُلُ.
وَالْحَكِيمُ: وَصْفٌ إِمَّا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيِ الْحَاكِمُ عَلَى الْكُتُبِ بِتَمْيِيزِ صَحِيحِهَا مِنْ مُحَرَّفِهَا، مِثْلُ قَوْلِهِ: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: ٤٨]، وَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢١٣].
وَإِمَّا بِمَعْنَى مُفْعَلٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، أَيْ مُحْكَمٌ، مِثْلُ عَتِيدٍ، بِمَعْنَى مُعَدٍّ.
وَإِمَّا بِمَعْنَى ذِي الْحِكْمَةِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالْحَقِّ وَالْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ، إِذِ الْحِكْمَةُ هِيَ إِصَابَةُ الْحَقِّ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَوُصِفَ بِوَصْفِ ذِي الْحِكْمَةِ مِنَ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ النَّاشِئِ عَنِ الْبَلِيغِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
وَغَرِيبَةٍ تَأْتِي الْمُلُوكَ حَكِيمَةٍ قَدْ قُلْتُهَا لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وُصِفَ بِوَصْفِ مُنَزِّلِهِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، كَمَا مَشَى عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: ١، ٣].
وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الْحَكِيمِ مِنْ بَيْنِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لِلْقُرْآنِ لِأَنَّ لِهَذَا الْوَصْفِ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِمَقَامِ إِظْهَارِ الْإِعْجَازِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بَعْدَ إِظْهَارِ الْإِعْجَازِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ بِقَوْلِهِ: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ، وَلِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ.
لِلْجِبَالِ وَالتِّلَالِ وَالْبِحَارِ وَسَاكِنَاتِ الْمَاءِ بِأَسْرِهِنَّ نَظَرًا إِلَى مقَام ولأرود أَمر الَّذِي هُوَ مَقَامُ عَظَمَةٍ وَكِبْرِيَاءٍ.
ثُمَّ إِذْ بَيَّنَ الْمُرَادَ اخْتَصَرَ الْكَلَامَ مَعَ أَقْلِعِي احْتِرَازًا عَنِ الْحَشْوِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَهُوَ الْوَجْهُ فِي أَنْ لَمْ يَقُلْ: قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ فَبَلَعَتْ، وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي فَأَقْلَعَتْ..
وَكَذَا الْأَمْرُ دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَمْرُ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ إِنْجَازُ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ إِهْلَاكِ قَوْمِهِ لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ عَنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ قِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: لِيَبْعَدِ الْقَوْمُ، طَلَبًا لِلتَّأْكِيدِ مَعَ الِاخْتِصَارِ وَهُوَ نُزُولُ بُعْداً مَنْزِلَةَ لِيَبْعَدُوا بُعْدًا، مَعَ فَائِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ اسْتِعْمَالُ اللَّامِ مَعَ (بُعْدًا) الدَّالِّ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْبُعْدَ يَحِقُّ لَهُمْ.
ثُمَّ أَطْلَقَ الظُّلْمَ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ نَوْعٍ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ ظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ لِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى
فَظَاعَةِ سُوءِ اخْتِيَارِهِمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ.
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ إِلَى تَرْتِيبِ الْجُمَلِ، فَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ قَدَّمَ النِّدَاءَ عَلَى الْأَمْرِ، فَقِيلَ:
يَا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي دُونَ أَنْ يُقَالَ: ابْلَعِي يَا أَرْضُ وَأَقْلِعِي يَا سَمَاءُ، جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى اللَّازِمِ فِيمَنْ كَانَ مَأْمُورًا حَقِيقَةً مِنْ تَقْدِيمِ التَّنْبِيهِ لِيَتَمَكَنَ الْأَمْرُ الْوَارِدُ عَقِيبَهُ فِي نَفْسِ الْمُنَادَى قَصْدًا بِذَلِكَ لِمَعْنَى التَّرْشِيحِ.
ثُمَّ قَدَّمَ أَمْرَ الْأَرْضِ عَلَى أَمْرِ السَّمَاءِ وَابْتُدِئَ بِهِ لِابْتِدَاءِ الطُّوفَانِ مِنْهَا، وَنُزُولِهَا لِذَلِكَ فِي الْقِصَّةِ مَنْزِلَةَ الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى، ثُمَّ أَتْبَعَهَا قَوْلُهُ: وَغِيضَ الْماءُ لِاتِّصَالِهِ بِغَيْضِيَّةِ الْمَاءِ وَأَخْذِهِ بِحُجْزَتِهَا، أَلَا تَرَى أَصْلَ الْكَلَامِ: قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ فَبَلَعَتْ مَاءَهَا وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي عَنْ إِرْسَالِ الْمَاءِ فَأَقْلَعَتْ عَنْ إِرْسَالِهِ، وَغِيضَ الْمَاءُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَغَاضَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ أَيْ أُنْجِزَ الْمَوْعُودُ.. ثُمَّ أَتْبَعَهُ حَدِيثُ السَّفِينَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، ثُمَّ خُتِمَتِ الْقِصَّةُ بِمَا خُتِمَتْ...
وَصِيغَ (يُدَبِّرُ) وَ (يُفَصِّلُ) بِالْمُضَارِعِ عَكْسَ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَالتَّفْصِيلَ مُتَجَدِّدٌ مُتَكَرِّرٌ بِتَجَدُّدِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورَاتِ. وَأَمَّا رَفْعُ السَّمَاوَاتِ وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَقَدْ تَمَّ وَاسْتَقَرَّ دُفْعَةً وَاحِدَةً.
[٣]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ فَبَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ شِبْهُ التَّضَادِّ. اشْتَمَلَتِ الْأُولَى عَلَى ذِكْرِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَأَحْوَالِهَا، وَاشْتَمَلَتِ الثَّانِيَةُ عَلَى ذِكْرِ الْعَوَالِمِ السُّفْلِيَّةِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَالِقُ جَمِيعِ الْعَوَالِمِ وَأَعْرَاضِهَا.
وَالْمَدُّ: الْبَسْطُ وَالسِّعَةُ، وَمِنْهُ: ظِلٌّ مَدِيدٌ، وَمِنْهُ مَدُّ الْبَحْرِ وَجَزْرُهُ، وَمَدَّ يَدَهُ إِذَا بَسَطَهَا.
وَالْمَعْنَى: خَلَقَ الْأَرْضَ مَمْدُودَةً مُتَّسِعَةً لِلسَّيْرِ وَالزَّرْعِ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهَا أَسْنِمَةً مِنْ حَجَرٍ أَوْ جِبَالًا شَاهِقَةً مُتَلَاصِقَةً لَمَا تَيَسَّرَ لِلْأَحْيَاءِ الَّتِي عَلَيْهَا الِانْتِفَاعُ بِهَا وَالسَّيْرُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ مَمْدُودَةٍ فَمَدَّهَا بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ، فَهَذِهِ خِلْقَةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ وَعَلَى اللُّطْفِ بِعِبَادِهِ فَهِيَ آيَةٌ وَمِنَّةٌ.
وَالرَّوَاسِي: جَمْعُ رَاسٍ، وَهُوَ الثَّابِتُ الْمُسْتَقِرُّ. أَيْ جِبَالًا رَوَاسِيَ. وَقَدْ حُذِفَ مَوْصُوفُهُ لِظُهُورِهِ فَهُوَ كَقَوْلِه: وَلَهُ الْجَوارِ، أَيِ السُّفُنُ الْجَارِيَةُ. وَسَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ:
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [١٥] بِأَبْسَطَ مِمَّا هُنَا.
وَجِيءَ فِي جَمْعِ رَاسٍ بِوَزْنِ فَوَاعِلَ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ غَيْرُ عَاقِلٍ، وَوَزْنُ فَوَاعِلَ يَطَّرِدُ فِيمَا مُفْرَدُهُ صِفَةٌ لِغَيْرِ عَاقِلٍ مِثْلَ: صَاهِلٍ وَبَازِلٍ.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ الْجِبَالِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ لِمَا فِي خَلْقِهَا مِنَ الْعَظَمَةِ الْمُشَاهَدَةِ بِخِلَافِ خِلْقَةِ الْمَعَادِنِ وَالتُّرَابِ فَهِيَ خَفِيَّةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ [الغاشية: ١٩].
بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا. فَلَمَّا فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ هُنَا فُهِمْ أَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا مَقْصُودَةُ التَّمْهِيدِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَلَوْ عُطِفَتْ هَذِهِ لَمَا فُهِمَ هَذَا الْمَعْنَى الْبَدِيعُ مِنَ النَّظْمِ.
وَالْمَدُّ: أَصْلُهُ الزِّيَادَةُ. وَأُطْلِقَ عَلَى بَسْطِ الْجِسْمِ وَتَطْوِيلِهِ. يُقَالُ: مَدَّ يَدَهُ إِلَى كَذَا، وَمَدَّ رِجْلَهُ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلزِّيَادَةِ مِنْ شَيْءٍ. وَمِنْهُ مَدَدُ الْجَيْشِ، وَمَدُّ الْبَحْرِ، وَالْمَدُّ فِي الْعُمُرِ. وَتِلْكَ إِطْلَاقَاتٌ شَائِعَةٌ صَارَتْ حَقِيقَةً. وَاسْتُعِيرَ الْمَدُّ هُنَا إِلَى التَّحْدِيقِ بِالنَّظَرِ وَالطُّمُوحِ بِهِ تَشْبِيهًا لَهُ بِمَدِّ الْيَدِ لِلْمُتَنَاوِلِ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَظَرُ الْإِعْجَابِ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْحَالِ فِي رَفَاهِيَةِ عَيْشِهِمْ مَعَ كُفْرِهِمْ، أَيْ فَإِنَّ مَا أُوتِيتَهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانُوا بِمَحَلِّ الْعِنَايَةَ لَاتَّبَعُوا مَا آتَيْنَاكَ وَلَكِنَّهُمْ رَضُوا بِالْمَتَاعِ الْعَاجِلِ فَلَيْسُوا مِمَّنْ يُعْجِبُ حَالَهُمْ.
وَالْأَزْوَاجُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَشْهُورِ، أَيِ الْكُفَّارُ وَنِسَائُهُمْ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ أَنَّ حَالَتَهُمْ أَتَمُّ أَحْوَالِ التَّمَتُّعِ لِاسْتِكْمَالِهَا جَمِيعَ اللَّذَّاتِ وَالْأُنْسِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَجَازُ عَنِ الْأَصْنَافِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ أَثْبَتَهُ الرَّاغِبُ. فَوَجْهُ ذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ أَنَّ التَّمَتُّعَ الَّذِي تَمْتَدُّ إِلَى مِثْلِهِ الْعَيْنُ لَيْسَ ثَابِتًا لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ بَلْ هُوَ شَأْنُ كُبَرَائِهِمْ، أَيْ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ هُمْ فِي حَالِ خَصَاصَةٍ فَاعْتَبِرْ بِهِمْ كَيْفَ جُمِعَ لَهُمُ الْكُفْرُ وَشَظَفُ الْعَيْشِ.
وَالنَّهْيُ عَن الْحزن عَلَيْهِم شَامِلٌ لِكُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُحْزِنَ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَتُؤْسِفُهُ. فَمِنْ ذَلِكَ كُفْرُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [سُورَة الْكَهْف: ٦]. وَمِنْهُ حُلُولُ الْعَذَابِ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّهُمْ سَادَةُ أَهْلِ مَكَّة، فلعلّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَحَسَّرَ عَلَى إِصْرَارِهِمْ حَتَّى حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ مِنَ الْعَذَابِ. فَفِي هَذَا النَّهْيِ كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ وَعَنْ تَوَعُّدِهِمْ بِأَنْ سَيَحِلُّ بِهِمْ مَا يُثِيرُ الْحُزْنَ لَهُمْ، وَكِنَايَةٌ عَنْ رَحْمَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ.
وَقَدْ كَانَ التَّبْذِيرُ مِنْ خُلُقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ يَتَمَدَّحُونَ بِصِفَةِ الْمِتْلَافِ وَالْمُهْلِكِ الْمَالَ، فَكَانَ عِنْدَهُمُ الْمَيْسِرُ مِنْ أَسْبَابِ الْإِتْلَافِ، فَحَذَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ التَّلَبُّسِ بِصِفَاتِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَهِيَ مَنِ الْمَذَامِّ، وَأَدَّبَهُمْ بِآدَابِ الْحِكْمَة والكمال.
[٢٨]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٢٨]
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ [الْإِسْرَاء: ٢٦] لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِهِ.
وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ. وَالْمَقْصُودُ بِالْخِطَابِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ عَلَى وِزَانِ نَظْمِ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الْإِسْرَاء: ٢٣] فَإِنَّ الْمُوَاجَهَةَ
بِ رَبُّكَ فِي الْقُرْآنِ جَاءَتْ غَالِبًا لخطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَعْدِلُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ كَانَ إِذَا سَأَلَهُ أَحَدٌ مَالًا وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِ يُعْرِضُ عَنْهُ حَيَاءً فَنَبَّهَهُ اللَّهُ إِلَى أَدَبٍ أَكْمَلَ مِنَ الَّذِي تَعَهَّدَهُ مِنْ قَبْلُ وَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ لِسَائِرِ الْأُمَّةِ.
وَضَمِيرُ عَنْهُمُ عَائِدٌ إِلَى ذِي الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
وَالْإِعْرَاضُ: أَصْلُهُ ضِدُّ الْإِقْبَالِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُرْضِ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- أَيِ الْجَانِبِ، فَأَعَرَضَ بِمَعْنَى أَعْطَى جَانِبَهُ وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ [الْإِسْرَاء:
٨٣]، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي عَدَمِ الْإِيتَاءِ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْهُ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ يُلَازِمُهُ الْإِعْرَاضُ، أَيْ إِنْ سَأَلَكَ أَحَدُهُمْ عَطَاءً فَلَمْ تُجِبْهُ إِلَيْهِ أَوْ إِنْ لَمْ تَفْتَقِدْهُمْ بالعطاء الْمَعْرُوف فتباعدت عَنْ لِقَائِهِمْ حَيَاءً مِنْهُمْ أَنْ تُلَاقِيَهُمْ بِيَدٍ فَارِغَةٍ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا.
وَالْمَيْسُورُ: مَفْعُولٌ مِنَ الْيُسْرِ، وَهُوَ السُّهُولَةُ، وَفِعْلُهُ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ. يُقَالُ: يُسِرَ الْأَمْرُ- بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ السِّينِ- كَمَا يُقَالُ: سُعِدَ الرَّجُلُ
كَمَا رَاجَعَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِ لُوطٍ، وَكَمَا رَاجعه مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي فَرْضِ خَمْسِينَ صَلَاةً. وَمَعْنَى الْمُحَاوَرَةِ أَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ لَهَا ضُرًّا عَظِيمًا إِذْ هِيَ مَخْطُوبَةٌ لِرَجُلٍ وَلَمْ يَبْنِ بِهَا فَكَيْفَ يَتَلَقَّى النَّاسُ مِنْهَا الْإِتْيَانَ بِوَلَدٍ مِنْ غَيْرِ أَبٍ مَعْرُوفٍ.
وَقَوْلُهَا وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا تَبْرِئَةٌ لِنَفْسِهَا مِنَ الْبِغَاءِ بِمَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الْكَوْنِ مِنْ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ خَبَرُ الْكَوْنِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَأْكِيدُ النَّفْيِ فَمُفَادُ قَوْلِهَا وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا غَيْرُ مُفَادِ قَوْلِهَا وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، وَهُوَ مِمَّا زَادَتْ بِهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى مَا فِي قِصَّتِهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، لِأَنَّ قِصَّتَهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ فَصَحَّ الِاجْتِزَاءُ فِي الْقِصَّةِ بِقَوْلِهَا وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ.
وَقَوْلُهَا وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أَيْ لَمْ يَبْنِ بِي زَوْجٌ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مَخْطُوبَةً وَمُرَاكِنَةً لِيُوسُفَ النَّجَّارِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَبْنِ بِهَا فَإِذَا حَمَلَتْ بِوَلَدٍ اتَّهَمَهَا خَطِيبُهَا وَأَهْلُهَا بِالزِّنَى.
وَأَمَّا قَوْلُهَا وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا فَهُوَ نَفْيٌ لِأَنْ تَكُونَ بَغِيًّا مِنْ قَبْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ، فَلَا تَرْضَى بِأَنْ تُرْمَى بِالْبِغَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّنَزُّهِ عَنِ الْوَصْمِ بِالْبِغَاءِ بِقَاعِدَةِ الِاسْتِصْحَابِ، وَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُ بَغِيًّا فِيمَا مَضَى أَفَأَعِدُ بَغِيًّا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْرَةٌ ذَكَرَهَا الْفَخْرُ وَالطِّيبِيُّ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مَخْرَجٌ مِنْ مَأْزِقِهَا، وَلَيْسَ كَلَامُ مَرْيَمَ مَسُوقًا مَسَاقَ الِاسْتِبْعَادِ مِثْلَ قَوْلِ زَكَرِيَّاءَ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً [مَرْيَم: ٨] لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ لِأَنَّ حَالَ زَكَرِيَّاءَ حَالُ رَاغِبٍ فِي حُصُولِ الْوَلَدِ، وَحَالُ مَرْيَمَ حَالُ مُتَشَائِمٍ مِنْهُ مُتَبَرِّئٍ مِنْ حُصُولِهِ.
وَالْبَغِيُّ: اسْمٌ لِلْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ، وَوَزْنُهُ فَعِيلٌ أَوْ فَعَوْلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فَيَكُونُ أَصْلُهُ بَغُوي. لِأَنَّهُ مِنَ
وَ (الْقِسْطُ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ السِّينِ- اسْمُ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ وَفِعْلُهُ أَقْسَطَ مَهْمُوزًا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ فِي [سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: ١٨].
وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَوَازِينِ هُنَا: أَهْوَ الْحَقِيقَةُ أَمِ الْمَجَازُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ فِي يَوْمِ الْحَشْرِ مُوَازِينَ لِوَزْنِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ تُشْبِهُ الْمِيزَانَ الْمُتَعَارَفَ، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ مِيزَانًا خَاصًّا بِهِ تُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ فِي [سُورَةِ الْقَارِعَةِ: ٦- ٧].
وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ تُوزَنُ فِيهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ وَاحِدًا فَوَاحِدًا، وَأَنَّهُ بِيَدِ جِبْرِيلَ، وَعَلَيْهِ فَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَا يُوزَنُ فِيهَا لِيُوَافِقَ الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي أَنَّهُ مِيزَانٌ عَامٌّ.
وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِعَظَمَةِ ذَلِكَ لَا يُشْبِهُ مِيزَانَ الدُّنْيَا وَلَكِنَّهُ عَلَى مِثَالِهِ تَقْرِيبًا. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ الْوَضْعُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ النَّصْبُ وَالْإِرْصَادُ.
وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ الْمِيزَانَ الْوَاقِعَ فِي الْقُرْآنِ مَثَلٌ لِلْعَدْلِ فِي الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فِي [سُورَةِ الْأَعْرَافِ: ٨]، وَمَالَ إِلَيْهِ الطَّبَرَيُّ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«الْمَوَازِينُ الْحِسَابُ السَّوِيُّ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ بِالنَّصَفَةِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يظلم أحد»
هـ. أَيْ فَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْعَدْلِ فِي الْجَزَاءِ لِمُشَابَهَتِهِ لِلْمِيزَانِ فِي ضَبْطِ الْعَدْلِ فِي الْمُعَامَلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ [الْحَدِيد: ٢٥].
وَالْوَضْعُ: تَرْشِيحٌ وَمُسْتَعَارٌ لِلظُّهُورِ.
وَذَهَبَ الْأَشَاعِرَةُ إِلَى أَخْذِ الْمِيزَانِ عَلَى ظَاهِرِهِ.
وَ (إِذا) الْأُولَى ظَرْفِيَّةٌ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ فِيهَا أَنْ تَدُلَّ عَلَى ظَرْفٍ مُسْتَقْبَلٍ. وإِذا الثَّانِيَةُ فُجَائِيَّةٌ دَاخِلَةٌ عَلَى جَوَابِ شَرْطِ (إِذَا).
وَالْمُتْرَفُونَ: الْمُعْطُونَ تَرَفًا وَهُوَ الرَّفَاهِيَةُ، أَيِ الْمُنَعَّمُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: ١١] فَالْمُتْرَفُونَ مِنْهُمْ هُمْ سَادَتُهُمْ وَأَكَابِرُهُمْ وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ أَصْحَابِ الْغَمْرَةِ.
وَإِنَّمَا جُعِلَ الْأَخْذُ وَاقِعًا عَلَى الْمُتْرَفِينَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَضَلُّوا عَامَّةَ قَوْمِهِمْ وَلَوْلَا نُفُوذُ كَلِمَتِهِمْ على قَومهمْ لَا تبِعت الدَّهْمَاءُ الْحَقَّ لِأَنَّ الْعَامَّةَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْصَافِ إِذَا فَهِمُوا الْحَقَّ بِسَبَبِ سَلَامَتِهِمْ مِنْ جُلِّ دَوَاعِي الْمُكَابَرَةِ مِنْ تَوَقُّعِ تَقَلُّصِ سُؤْدُدٍ وَزَوَالِ نَعِيمٍ. وَكَذَلِكَ حَقٌّ عَلَى قَادَةِ الْأُمَمِ أَنْ يُؤَاخَذُوا بِالتَّبِعَاتِ اللَّاحِقَةِ لِلْعَامَّةِ مِنْ جَرَّاءِ أَخْطَائِهِمْ وَمُغَامَرَتِهِمْ عَنْ تَضْلِيلٍ أَوْ سُوءِ تَدَبُّرٍ، وَأَنْ يُسْأَلُوا عَنِ الْخَيْبَةِ أَنْ أَلْقَوْا بِالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي مَهْوَاةِ الْخَطَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الْأَحْزَاب: ٦٧، ٦٨]، وَقَالَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ [النَّحْل: ٢٥].
وَتَخْصِيصُ الْمُتْرَفِينَ بِالتَّعْذِيبِ مَعَ أَنَّ شَأْنَ الْعَذَابِ الْإِلَهِيِّ إِنْ كَانَ دُنْيَوِيًّا أَنْ يَعُمَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمُتْرَفِينَ هُمْ سَبَبُ نُزُولِ الْعَذَابِ بِالْعَامَّةِ، وَلِأَنَّ الْمُتْرَفِينَ هُمْ أَشَدُّ إِحْسَاسًا بِالْعَذَابِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَادُوا مَسَّ الضَّرَّاءِ وَالْآلَامِ. وَقَدْ عُلِمَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْعَذَابَ يَعُمُّ جَمِيعَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ فَإِنَّ الضَّمِيرَيْنِ فِي إِذا هُمْ ويَجْأَرُونَ عَائِدَانِ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ مُتْرَفِيهِمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عَمَلِ جَمِيعِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُتْرَفِينَ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً وَيَكُونَ ذِكْرُ الْمُتْرَفِينَ تَهْوِيلًا فِي التَّهْدِيدِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ الْعَذَابَ
لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا
حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَقُولُوا، حَظًّا لِنَفْسِهِ مِنْ حُسْنِ الذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ دُعَاءٌ لَهُ بِالرَّشَدِ وَهُوَ حَظٌّ دِينِيٌّ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ رَشَدَ، حُسْنُ ذِكْرٍ مَحْضٌ. وَفِي كِتَابِ «الْجَامِعِ» مِنْ «جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ» مِنْ أَحَادِيثِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: رَأَيْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ رَبِيعَةَ يَقُولُ: إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أُرَى رَائِحًا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَكَأَنَّهُ كَرِهَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يُعْجِبْهُ أَنْ يُحِبَّ أَحَدٌ أَنْ يُرَى فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «شَرْحِهِ» : وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي رَسْمِ
الْعُقُولِ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ أَوَّلُهُ لِلَّهِ (أَيِ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنَ الْعَمَلِ لِلَّهِ). وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ «شَرْحِهِ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: ٣٩]، وَقَالَ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاء: ٨٤].
وَقَالَ الشَّاطِبِيُّ فِي «الْمُوَافَقَاتِ» :«عَدَّ مَالِكٌ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْوَسْوَسَةِ، أَيْ أَن الشَّيْطَان بَاقِي لِلْإِنْسَانِ إِذَا سَرَّهُ مَرْأَى النَّاسِ لَهُ عَلَى الْخَيْرِ فَيَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ لَمُرَاءٍ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ لَا يُمْلَكُ» اه.
وَفِي «الْمِعْيَارِ» عَنْ كِتَابِ «سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ» لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ شَيْخَنَا أَبَا مَنْصُورٍ الشِّيرَازِيَّ الصُّوفِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [الْبَقَرَة:
١٦٠] مَا بَيَّنُوا؟ قَالَ: أَظْهَرُوا أَفْعَالَهُمْ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاحِ وَالطَّاعَاتِ.
قَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَحَلُّ اخْتِلَافٍ إِذَا كَانَ الْقَصْدُ الْمَذْكُورُ تَابِعًا لِقَصْدِ الْعِبَادَةِ. وَقَدِ الْتَزَمَ الْغَزَالِيُّ فِيهَا وَفِي أَشْبَاهِهَا أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْإِخْلَاصِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ أَخَفَّ عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ. وَأَمَّا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَذَهَبَ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَكَأَنَّ مَجَالَ النَّظَرِ يَلْتَفِتُ إِلَى انْفِكَاكِ الْقَصْدِينَ، عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الِانْفِكَاكِ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ الِانْفِكَاكُ أَوْجَهُ لِمَا جَاءَ من الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، إِلَى آخِرِهِ.
تُظْهِرُ ذِكْرَ مُوسَى وَتَنْطِقُ بِاسْمِهِ مِنْ كَثْرَةِ تَرَدُّدِ ذِكْرِهِ فِي نَفْسِهَا.
وَأَمَّا عَلَى الْأَقْوَالِ الرَّاجِعَةِ إِلَى النَّاحِيَةِ الثَّانِيَةِ فَجُمْلَةُ إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً، أَيْ كَادَتْ لَتُبْدِي أَمْرَ مُوسَى مِنْ قِلَّةِ ثَبَاتِ فُؤَادِهَا.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: لَمَّا رَأَتِ الْأَمْوَاجَ حَمَلَتِ التَّابُوتَ كَادَتِ أَنْ تَصِيحَ.
وَالْبَاءُ فِي بِهِ إِمَّا لِتَأْكِيدِ لُصُوقِ الْمَفْعُولِ بِفِعْلِهِ وَالْأَصْلُ: لَتُبْدِيهُ، وَإِمَّا لِتَضْمِينِ (تُبْدِي) مَعْنَى (تَبُوحُ) وَهُوَ أَحْسَنُ وإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَاللَّامُ فِي لَتُبْدِي فَارِقَةٌ بَيْنَ إِنْ الْمُخَفَّفَةِ وَ (إِنِ) النَّافِيَةِ.
وَالرَّبْطُ عَلَى الْقَلْبِ: تَوْثِيقُهُ عَنْ أَنْ يَضْعُفَ كَمَا يُشَدُّ الْعُضْوُ الْوَهِنُ، أَيْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا بِخَلْقِ الصَّبْرِ فِيهِ. وَجَوَابُ لَوْلا هُوَ جُمْلَةُ إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقُونَ بِوَعْدِ اللَّهِ، أَيْ لَوْلَا أَنْ ذَكَّرْنَاهَا مَا وَعَدْنَاهَا فَاطْمَأَنَّ فُؤَادُهَا. فَالْإِيمَانُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلُ، أَوْ أُرِيدَ مِنْ كَامِلَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لِتُحْرِزَ رُتْبَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِينَ لَا يَتَطَرَّقُهُمُ الشَّكُّ فِيمَا يَأْتِيهِمْ
مِنَ الواردات الإلهية.
[١١]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ١١]
وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١)
ظَاهِرُ تَرْتِيبِ الْأَخْبَارِ أَنَّهَا عَلَى وَفْقِ تَرْتِيبِ مَضَامِينِهَا فِي الْحُصُولِ، وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُ مَضْمُونِ وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً [الْقَصَص: ١٠] سَابِقًا عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِ وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ، أَيْ قَالَتْ لِأُخْتِهِ ذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّ قَلْبُهَا لِمَا أُلْهِمَتْهُ مِنْ إِلْقَائِهِ فِي الْيَمِّ، أَيْ لَمَّا أَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ قَالَتْ لِأُخْتِهِ: انْظُرِي أَيْنَ يُلْقِيهِ الْيَمُّ وَمَتَى يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ، وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّ الْيَمَّ لَا يُلْقِيهِ بَعِيدًا عَنْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى وَعْدِ اللَّهِ بِرَدِّهِ إِلَيْهَا.
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَبِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ مِنْ مُكَمِّلَاتِ مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الرّوم: ٢٥] فَعُطِفَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ زِيَادَةً لِبَيَانِ مَعْنَى إِقَامَتِهِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ.
فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَامُ الْمُلْكِ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ لَامُ التَّقْوِيَةِ، أَيْ تَقْوِيَةِ تَعْدِيَةِ الْعَامِلِ إِلَى مَعْمُولِهِ لِضَعْفِ الْعَامِلِ بِكَوْنِهِ فَرْعًا فِي الْعَمَلِ، وَبِتَأْخِيرِهِ عَنْ مَعْمُولِهِ. وَعَلَيْهِ تَكُونُ مَنْ صَادِقَةً عَلَى الْعُقَلَاءِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِهَا. وَظَاهِرُ مَعْنَى الْقُنُوتِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مُنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ فِي الْعُقَلَاءِ عُصَاةٌ كَثِيرُونَ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْقُنُوتِ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ التَّكْوِينِ، أَوْ فِي الشَّهَادَةِ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ أُورِدَ بَعْدَ ذِكْرِ الْآيَاتِ السِّتِّ إِيرَادَ الْفَذْلَكَةِ بِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ فَلَا يَحْمِلُ قُنُوتَهُمْ عَلَى امْتِثَالِهِمْ لِمَا يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَمْرِ التَّكْلِيفِ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةٍ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ مُتَفَاوِتُونَ فِي الِامْتِثَالِ لِلتَّكْلِيفِ فَالشَّيْطَانُ أَمْرَهُ اللَّهُ مُبَاشَرَةً بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَلَمْ يَمْتَثِلْ، وَآدَمُ أَمَرَهُ اللَّهُ مُبَاشَرَةً أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلَ مِنْهَا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ.
وَالْمَخْلُوقَاتُ السَّمَاوِيَّةُ مُمْتَثِلُونَ لِأَمْرِهِ سَاعُونَ فِي مَرْضَاتِهِ قَالَ تَعَالَى وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٧]. وَأَمَّا الْمَخْلُوقَاتُ الْأَرْضِيَّةُ الْعُقَلَاءُ فَهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلطَّاعَةِ قَالَ تَعَالَى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦]، فَزَيْغُ الزَّائِغِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى انْحِرَافٌ مِنْهُمْ عَنِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا، وَهُمْ فِي انْحِرَافِهِمْ مُتَفَاوِتُونَ فَالضَّالُّونَ الَّذين أشركوا با لله فَجَعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا، وَالْعُصَاةُ الَّذِينَ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ تَوْحِيدِهِ، وَلَكِنَّهُمْ رُبَّمَا خَالَفُوا بَعْضَ أَوَامِرِهِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، هُمْ فِي ذَلِكَ آخِذُونَ بِجَانِبٍ مِنَ الْإِبَاقِ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ.
فَجُمْلَةُ وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ
[الرّوم: ٢٥]. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ تَكْمِلَةً
حِينَ اسْتَقْرَأَ مِنْ عُمَرَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ يَطْمَعُ أَنْ يَدْعُوَهُ عُمَرُ إِلَى الْغَدَاءِ فَفَتَحَ عَلَيْهِ الْآيَة وَدخل فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ عَرِفَ مَا بِهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى بَيْتِهِ وَأَمَرَ لَهُ بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ ثُمَّ ثَانٍ ثُمَّ ثَالِثٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الطَّعَامَ إِدْمَاجًا لِتَبْيِينِ آدَابِهِ، وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِقَوْلِهِ: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مَثْلُهُ فِي قِصَّةِ سَبَبِ النُّزُولِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِيُوتَ بِكَسْرِ الْبَاءِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْبَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا.
وإِناهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِالْقَصْرِ: إِمَّا مَصْدَرُ أَنَى الشَّيْءُ إِذَا حَانَ، يُقَالُ: أَنَى يَأْنِي، قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الْحَدِيد: ١٦]. وَمَقْلُوبُهُ: آنْ.
وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. وَالْمَعْنَى: غَيْرُ مُنْتَظِرِينَ حُضُورَ الطَّعَامِ، أَيْ غَيْرُ سَابِقِينَ إِلَى الْبُيُوتِ وَقَبْلَ تَهْيِئَتِهِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الدُّخُولُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، أَيْ إِلَّا حَالَ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ.
وَضُمِّنَ يُؤْذَنَ مَعْنَى تَدْعُونَ فَعُدِّيَ بِ إِلى فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا أَنْ تُدْعَوْا إِلَى طَعَامٍ فَيُؤْذَنُ لَكُمْ لِأَنَّ الطُّفَيْلِيَّ قَدْ يُؤْذَنُ لَهُ إِذَا اسْتَأْذَنَ وَهُوَ غَيْرُ مَدْعُوٍّ فَهِيَ حَالَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ مِنَ الْكَلَامِ.
فَالْكَلَامُ مُتَضَمِّنُ شَرْطَيْنِ هُمَا: الدَّعْوَةُ، وَالْإِذْنُ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْإِذْنِ وَقَدْ يَقْتَرِنَانِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
وغَيْرَ ناظِرِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمْ فَهُوَ قَيْدٌ فِي مُتَعَلِّقِ الْمُسْتَثْنَى فَيَكُونُ قَيْدًا فِي قَيْدٍ فَصَارَتِ الْقُيُودُ الْمَشْرُوطَةُ ثَلَاثَةٌ.
وناظِرِينَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ نَظَرَ بِمَعْنَى انْتَظَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ [يُونُس: ١٠٢] الْآيَةَ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ: لَا تَحْضُرُوا الْبُيُوتَ لِلطَّعَامِ قَبْلَ تَهْيِئَةِ الطَّعَامِ لِلتَّنَاوُلِ فَتَقْعُدُوا تَنْتَظِرُونَ نُضْجَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَتَحَيَّنُونَ طَعَامَ
وَوَصْفُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَوُقُوعِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ. وَوَصْفُ حُسْنِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَعِيمِهِمْ. وَمُذَاكَرَتُهُمْ فِيمَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمُحَاوَلَتِهِمْ صَرْفَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى تَنْظِيرِ دَعْوَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ
بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ، وَكَيْفَ نَصَرَ اللَّهُ رُسُلَهُ وَرَفَعَ شَأْنَهُمْ وَبَارَكَ عَلَيْهِمْ. وَأُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ مَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ فِي دِينِ اللَّهِ وَمَا نَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْكُرُوبِ الَّتِي حَفَّتْ بِهِمْ. وَخَاصَةً مَنْقَبَةُ الذَّبِيحِ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ. وَوَصَفُ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ. ثُمَّ الْإِنْحَاءُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَسَادَ مُعْتَقَدَاتِهِمْ فِي اللَّهِ وَنِسْبَتِهِمْ إِلَيْهِ الشُّرَكَاءِ.
وَقَوْلِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَتَكْذِيبِ الْمَلَائِكَةِ إيَّاهُم على رُؤُوس الْأَشْهَادِ. وَقَوْلِهِمْ فِي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، وَكَيْفَ كَانُوا يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كِتَابٌ. ثُمَّ وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالنَّصْرِ كَدَأْبِ الْمُرْسَلِينَ وَدَأْبِ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ، وَأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ نَازِلٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَتَخْلُصُ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَكَانَتْ فَاتِحَتُهَا مُنَاسِبَةً لِأَغْرَاضِهَا بِأَنَّ الْقَسَمَ بِالْمَلَائِكَةِ مُنَاسِبٌ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَمْ يَدَّعُوا لَهَا مَلَائِكَةً، وَالَّذِي تَخْدِمُهُ الْمَلَائِكَةُ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ وَلِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ الدَّالِّ خَلْقُهَا عَلَى عِظَمِ الْخَالِقِ، وَيُؤْذِنُ الْقَسَمُ بِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ الْعُلْوِيَّةِ.
ثُمَّ إِنَّ الصِّفَات الَّتِي لَو حظت فِي الْقَسَمِ بِهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْأَغْرَاضِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهَا، فَ الصَّافَّاتِ يُنَاسِبُ عَظمَة رَبهَا، وفَالزَّاجِراتِ يُنَاسِبُ قَذْفَ الشَّيَاطِينِ عَنِ السَّمَاوَاتِ، وَيُنَاسِبُ تَسْيِيرَ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظَهَا مِنْ أَنْ يُدْرِكَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُنَاسِبُ زَجْرَهَا النَّاسَ فِي الْمَحْشَرِ.
بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ غَيْرَ مَقْصُودٍ مِنْهُ إِفَادَةَ اتِّصَافِهِمْ بِالْكُفْرِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ فِي فَائِدَةِ الْخَبَرِ لَا بِمَنْطُوقِهِ وَلَا بِمَفْهُومِهِ، فَإِنَّ مَفْهُومَ الْحَصْرُ وَهُوَ: أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لَا يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ كَذَلِكَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مُقَرَّرٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا نَفْسَ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِكُفْرِهِمْ كُفْرُهُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ بِسَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ، فَالْمَعْنَى: لَا عَجَبَ فِي جِدَالِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ أَتَوْا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النِّسَاء: ١٥٣].
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا جَمِيعَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ مِنَ السَّابِقِينَ وَالْحَاضِرِينَ، أَيْ مَا الْجَدَلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْإِشْرَاكِ، وَمُجَادَلَةُ مُشْرِكِي مَكَّةَ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ مُجَادَلَةِ كُلِّ الْكَافِرِينَ، فَيَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِالْأَعَمِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ تُرِكَ عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالْمُرَادُ بِالْمُجَادَلَةِ هُنَا الْمُجَادَلَةُ بِالْبَاطِلِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ فَمَعْنَى فِي آياتِ اللَّهِ فِي
صِدْقِ آيَاتِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غَافِر: ٢] فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ كَمَا دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤]، عَلَى تَقْدِيرِ: فِي إِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، فَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لِإِفَادَةِ التَّكَرُّرِ مِثْلَ: سَافَرَ وَعَافَاهُ اللَّهُ، وَهُمْ يَتَلَوَّنُونَ فِي الِاخْتِلَاقِ وَيُعَاوِدُونَ التَّكْذِيبَ وَالْقَوْلَ الزُّورَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: ٢٥]، سِحْرٌ مُبِينٌ [الْمَائِدَة: ١١٠]، بِقَوْلِ كاهِنٍ [الحاقة: ٤٢]، بِقَوْلِ شاعِرٍ [الحاقة:
٤١] لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ ذَلِكَ. وَمِنَ الْمُجَادَلَةِ تَوَرُّكُهُمْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُؤَالِهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَاتٍ كَمَا يَقْتَرِحُونَ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاء:
٩٠] الْآيَاتِ وَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفرْقَان: ٧] الْآيَاتِ.
وَقَدْ كَانَ لِتَعَلُّقِ فِي الظَّرْفِيَّةِ بِالْجِدَالِ، وَلِدُخُولِهِ عَلَى نَفْسِ الْآيَاتِ دُونَ أَحْوَالِهَا فِي قَوْلِهِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ تَحْوِي جَمِيعَ أَصْنَافِ الْجِدَالِ، وَجُعِلَ مَجْرُورُ الْحَرْفِ نَفْسَ الْآيَاتِ دُونَ تَعْيِينِ نَحْوِ صِدْقِهَا أَوْ وُقُوعِهَا أَوْ صِنْفِهَا، فَكَانَ قَوْلُهُ: فِي آياتِ اللَّهِ جَامِعًا لِلْجَدَلِ بِأَنْوَاعِهِ
وَابْتُدِئَتْ بِ قُلْ إِمَّا لِأَنَّهَا جَوَابٌ عَنْ كَلَامٍ صَدَرَ مِنْهُمْ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا مِمَّا يَهْتَمُّ بِإِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ كَمَا أَنَّ نَظَائِرَهَا افْتُتِحَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ: ٤٧] وَقَوْلِهِ: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: ٨٦] وَقَوْلِهِ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً (١) [الْأَنْعَام: ٩٠].
وَضمير عَلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَقَامِ.
وَالْأَجْرُ: الْجَزَاءُ الَّذِي يُعْطَاهُ أَحَدٌ عَلَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٢٢].
وَالْمَوَدَّةُ: الْمَحَبَّةُ وَالْمُعَامَلَةُ الْحَسَنَةُ الْمُشْبِهَةُ مُعَامَلَةَ الْمُتَحَابِّينَ، وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٢٥]. وَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ مُعَامَلَةَ الْمَوَدَّةِ، أَيِ الْمُجَامَلَةِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تُسْأَلُ لِأَنَّهَا انْبِعَاثٌ وَانْفِعَالٌ نَفْسَانِيٌّ.
وفِي للظرفية المجازية لِأَنَّهُ مَجْرُورَهَا وَهُوَ الْقُرْبى لَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مَظْرُوفًا فِيهِ.
وَمَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ هُنَا: التَّعْلِيلُ، وَهُوَ مَعْنًى كَثِيرُ الْعُرُوضِ لِحَرْفِ فِي كَقَوْلِهِ: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ [الْحَج: ٧٨].
والْقُرْبى: اسْمُ مَصْدَرٍ كَالرُّجْعَى وَالْبُشْرَى، وَهِيَ قَرَابَةُ النَّسَبِ، قَالَ تَعَالَى:
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ [الْإِسْرَاء: ٢٦]، وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أشدّ مُضَافَة... الْبَيْتَ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِذِي الْقُرْبى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٤١].
وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نَظْمُهَا: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى الْقُرْآنِ جَزَاءً إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي، أَيْ أَنْ تُعَامِلُونِي مُعَامَلَةَ الْوُدِّ، أَيْ غَيْرَ مُعَامَلَةِ الْعَدَاوَةِ، لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَنَا فِي النَّسَبِ الْقُرَشِيِّ.
_________
(١) فِي المطبوعة قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا خلط بَين آيَة الْأَنْعَام وَآيَة يُونُس [٧٢] وَآيَة الْأَنْعَام ابتدئت بقل- وَهِي مَوضِع الشَّاهِد- وَآيَة يُونُس ابتدئت بِمَا النافية، لذا حذفنا من المطبوعة من عِنْد إِنْ أَجْرِيَ لعدم الْحَاجة إِلَى ذَلِك.
الْمُشْرِكِينَ. وَرَوَى الْجَصَّاصُ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَى أَسِيرَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَسِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي ثَقِيفٍ.
وَالْغَايَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ حَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها لِلتَّعْلِيلِ لَا لِلتَّقْيِيدِ، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، أَيْ لِيَكُفَّ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا فَتَأْمَنُوا مِنَ الْحَرْبِ عَلَيْكُمْ وَلَيْسَتْ غَايَةً لِحُكْمِ الْقِتَالِ. وَالْمَعْنَى يَسْتَمِرُّ هَذَا الْحُكْمُ بِهَذَا لِيَهِنَ الْعَدُوُّ فَيَتْرُكُوا حَرْبَكُمْ، فَلَا مَفْهُومَ لِهَذِهِ الْغَايَةِ، فَالتَّعْلِيلُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَضَرْبَ الرِّقَابِ، أَيْ لَا تَتْرُكُوا الْقَتْلَ لِأَجْلِ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَيَكُونُ وَارِدًا مَوْرِدَ التَّعْلِيمِ وَالْمَوْعِظَةِ، أَيْ فَلَا تَشْتَغِلُوا عِنْدَ اللِّقَاءِ لَا بِقَتْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِتَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَإِذَا غَلَبْتُمُوهُمْ فَاشْتَغِلُوا بِالْإِبْقَاءِ عَلَى مَنْ تَغْلِبُونَهُ بِالْأَسْرِ لِيَكُونَ الْمَنُّ بَعْدَ ذَلِكَ أَوِ الْفِدَاءُ.
وَالْأَوْزَارُ: الْأَثْقَالُ، وَوَضْعُ الْأَوْزَارِ تَمْثِيلٌ لِانْتِهَاءِ الْعَمَلِ فَشُبِّهَتْ حَالَةُ انْتِهَاءِ الْقِتَالِ بِحَالَةِ وَضْعِ الْحَمَّالِ أَوِ الْمُسَافِرِ أَثْقَالَهُ، وَهَذَا مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ. وَأَخَذَ مِنْهُ عَبَدُ رَبِّهِ السُّلَمِيُّ، أَوْ سُلَيْمٌ الْحَنَفِيُّ قَوْلَهُ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
فَشَبَّهَ حَالَةَ الْمُنْتَهِي مِنْ كُلْفَةٍ بِحَالَةِ السَّائِرِ يُلْقِي عَصَاهُ الَّتِي اسْتَصْحَبَهَا فِي سَيْرِهِ.
ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ.
أُعِيدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ آنِفًا: ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ [مُحَمَّد: ٣] لِلنُّكْتَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هُنَالِكَ، وَهُوَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ. وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: الْأَمْرُ ذَلِكَ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ إِلَى هُنَا، وَيُفِيدُ اسْمُ الْإِشَارَةِ تَقْرِيرَ الْحُكْمِ وَرُسُوخِهِ فِي النُّفُوسِ.
وَالْجُمْلَةُ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمَحْذُوفِ مُعْتَرِضَةٌ ولَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُقَدَّرِ فِي الْمَصْدَرِ مِنْ قَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ،
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ لِنَفْيِ أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنَ الْعَذَابِ بِفِعْلِ مَنْ يُخَلِّصُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ فَانْتَفَى نَوْعَا الْوَسَائِل المنجية. [٤٧]
[سُورَة الطّور (٥٢) : آيَة ٤٧]
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٧)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، أَيْ وَإِنَّ لَهُمْ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ عَذَابُ الْجُوعِ فِي سِنِي الْقَحْطِ، وَعَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَفِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ ظَلَمُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَال:
وَإِن لَهُم عَذَابًا جَرْيًا عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ [الطّور: ٤٥] فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِإِفَادَةِ عِلَّةِ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا بِأَنَّهَا الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ.
وَكَلِمَةُ دُونَ أَصْلُهَا الْمَكَانُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ شَيْءٍ انْفِصَالًا قَرِيبًا، وَكَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْأَقَلِّ، يُقَالُ: هُوَ فِي الشَّرَفِ دُونَ فُلَانٍ، وَعَلَى السَّابِقِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ حُلُولًا مِنَ الْمَسْبُوقِ، وَعَلَى مَعْنَى (غَيْرِ). ودُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَالِحَةٌ لِلثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ، إِذِ الْمُرَادُ عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ [السَّجْدَة: ٢١] وَهُوَ أسبق من عَذَاب الْآخِرَة لقَوْله تَعَالَى: دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ مُغَايِرٌ لَهُ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ.
وَلِكَوْنِ هَذَا الْعَذَابِ مُسْتَبْعَدًا عِنْدَهُمْ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ فِي نِعْمَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي [فصلت: ٥٠] أُكِّدَ الْخَبَرُ بِ إِنَّ فَالتَّأْكِيدُ مُرَاعًى فِيهِ شَكُّهُمْ حِينَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي أَفَادَتْهُ (لَكِنَّ) رَاجِعٌ إِلَى مُفَادِ التَّأْكِيدِ، أَيْ هُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وُقُوعَهُ، أَيْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ وُقُوعُهُ، وَذَلِكَ مِنْ بَطَرِهِمْ وَزَهْوِهِمْ وَمَفْعُولُ لَا يَعْلَمُونَ مَحْذُوف اختصارا للْعَمَل بِهِ وَأُسْنِدَ عَدَمُ
أَنْ تَكُونَ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا يُخَمَّسُ وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَّسَهَا بَلْ ثَبَتَ ضِدُّهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ حُكْمًا خَاصًّا، أَوْ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَهَا بِمُدَّةٍ.
قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: آيَةُ مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ إِذَا نُظِرَتْ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَمَعَ آيَةِ الْغَنِيمَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ الْآيَة [الْحَشْر: ٦] إِنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَا صَارَ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ إِيجَافٍ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهَا عُمَرُ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ.
وَأَمَّا آيَةُ الْأَنْفَالِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَا صَارَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بِإِيجَافٍ، وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْحَشْرِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهَا فَمِنْهُمْ مَنْ أَضَافَهَا إِلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَضَافَهَا إِلَى آيَةِ الْأَنْفَالِ وَأَنَّهُمَا نَزَلَتَا بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْغَنِيمَةِ الْمُوجَفِ عَلَيْهَا، وَأَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ نَسَخَتْ آيَةَ الْحَشْرِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَعْنًى ثَالِثٍ غَيْرِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَتَيْنِ:
وَاخْتَلَفَ الذَّاهِبُونَ إِلَى هَذَا: فَقِيلَ نَزَلَتْ فِي خَرَاجِ الْأَرْضِ وَالْجِزْيَةِ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَمْوَالِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي حُكْمِ الْأَرْضِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ (فَتَكُونُ تَخْصِيصًا لِآيَةِ الْأَنْفَالِ) وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ. وَالْآيَةُ عِنْدَ أَهْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ اه.
وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَهْلِ الْقُرى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهِيَ قُرًى مَعْرُوفَةٌ عُدَّتْ مِنْهَا: قُرَيْظَةُ، وَفَدَكُ، وَقُرَى عُرَيْنَةَ، وَالْيَنْبُعُ، وَوَادِي الْقُرَى، وَالصَّفْرَاءُ، فُتِحَتْ فِي عهد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي فَتْحِهَا أَكَانَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا أَوْ فَيْئًا. وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ فَدَكَ كَانَتْ مَثَلَ النَّضِيرِ.
وَلَا يَخْتَصُّ جَعْلُهُ لِلرَّسُولِ بِخُصُوصِ ذَات الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ مِثْلُهُ فِيهِ أَيِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ.
وَتَقْيِيدُ الْفَيْءِ بِفَيْءِ الْقُرَى جَرَى عَلَى الْغَالِبِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ لَا تُفْتَحَ إِلَّا الْقُرَى لِأَنَّ أَهْلَهَا يُحَاصَرُونَ فَيَسْتَسْلِمُونَ وَيُعْطُونَ بِأَيْدِيهِمْ إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَارُ، فَأَمَّا
نَائِمُونَ.
وَعَنِ الْفَرَّاءِ: أَنَّ الطَّائِفَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّيْلِ، يَعْنِي وَمِنْهُ سُمِّيَ الْخَيَالُ الَّذِي يَرَاهُ النَّائِمُ فِي نَوْمِهِ طَيْفًا. قِيلَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الطَّائِفَةِ وَهِيَ الْجُزْءُ مِنَ اللَّيْلِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ.
فَقَوْلُهُ: وَهُمْ نائِمُونَ تَقْيِيدٌ لِوَقْتِ الطَّائِفِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى طائِفٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْفَرَّاءِ، وَفَائِدَتُهُ تَصْوِيرُ الْحَالَةِ.
وَتَنْوِينُ طائِفٌ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ أَمْرٍ عَظِيمٍ وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَهُوَ طَائِفُ سُوءٍ، قِيلَ: أَصَابَهَا عُنُقٌ مِنْ نَارٍ فَاحْتَرَقَتْ.
ومِنْ رَبِّكَ أَيْ جَائِيًا مِنْ قِبَلِ رَبِّكَ، فَ مِنْ لِلْابْتِدَاءِ يَعْنِي: أَنَّهُ عَذَابٌ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ عِقَابًا لَهُمْ عَلَى عَدَمِ شُكْرِ النِّعْمَةِ.
وَعُجِّلَ الْعِقَابُ لَهُمْ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِمَنْعِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ عَزْمَهُمْ عَلَى الْمَنْعِ وَتَقَاسُمَهُمْ عَلَيْهِ حَقَّقَ أَنَّهُمْ مَانِعُونَ صَدَقَاتِهِمْ فَكَانُوا مَانِعِينَ. وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ مَوْعِظَةٌ لِلَّذِينِ لَا يُوَاسُونَ بِأَمْوَالِهِمْ.
وَإِذْ كَانَ عِقَابُ أَصْحَابِ هَذِهِ الْجَنَّةِ دُنْيَوِيًّا لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ مَنَعُوا صَدَقَةً وَاجِبَةً.
وَالصَّرِيمُ قِيلَ: هُوَ اللَّيْلُ، وَالصَّرِيمُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّيْلِ وَمِنْ أَسْمَاءِ النَّهَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْصَرِمُ عَنِ الْآخَرِ كَمَا سُمِّيَ كُلٌّ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَلْوًا فَيُقَالُ: الْمَلَوَانِ، وَعَلَى هَذَا فَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ (أَصْبَحَتْ) وَ (الصَّرِيمِ) مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَقِيلَ الصَّرِيمُ: الرَّمَادُ الْأَسْوَدُ بِلُغَةِ جَذِيمَةَ أَوْ خُزَيْمَةَ.
وَقِيلَ الصَّرِيمُ: اسْمُ رَمْلَةٍ مَعْرُوفَةٍ بِالْيَمَنِ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا.
وَإِيثَارُ كَلِمَةِ الصَّرِيمِ هُنَا لِكَثْرَةِ مَعَانِيهَا وَصَلَاحِيَّةِ جَمِيعِ تِلْكَ الْمَعَانِي لِأَنْ تُرَادَ فِي الْآيَةِ.
وَبَيْنَ (يَصْرِمُنَّهَا) وَ (الصَّرِيمِ) الْجِنَاسُ.
وَفَاءُ فَتَنادَوْا لِلتَّفْرِيعِ عَلَى أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ، أَيْ فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَنَادَوْا لِإِنْجَازِ مَا بَيَّتُوا عَلَيْهِ أَمْرَهُمْ.
وَوُرُودُ فِعْلِ «أَخَذَهُ» بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ مَعَ أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ مُسْتَقْبَلٌ ليَوْم الْجَزَاء مراعى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ ابْتَدَأَ يَذُوقُ الْعَذَابَ حِينَ يَرَى مَنْزِلَتَهُ الَّتِي سَيَؤُولُ إِلَيْهَا يَوْمَ الْجَزَاءِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
وَتَقْدِيمُ الْآخِرَةِ عَلَى الْأُولى فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ أَمْرَ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ.
وَجَاءَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ بِحَوْصَلَةٍ وَفَذْلَكَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ فَقَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى فَهُوَ فِي مَعْنَى الْبَيَانِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى [النازعات: ١٥].
الْآيَاتِ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فِي ذلِكَ إِلَى حَدِيثُ مُوسى [النازعات: ١٥].
وَالْعِبْرَةُ: الْحَالَةُ الَّتِي يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْ مَعْرِفَتِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ عَاقِبَتِهَا وعاقبة أَمْثَالِهَا، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعَبْرِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ ضَفَّةِ وَادٍ أَوْ نَهْرٍ إِلَى ضَفَّتِهِ الْأُخْرَى.
وَالْمُرَادُ بِالْعِبْرَةِ هُنَا الْمَوْعِظَةُ.
وَتَنْوِينُ (عِبْرَةً) لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَوَاعِظَ كَثِيرَةً مِنْ جِهَاتٍ هِيَ مَثُلَاتٌ لِلْأَعْمَالِ وَعَوَاقِبِهَا، وَمُرَاقَبَةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى ضِدِّهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَجُعِلَ ذَلِكَ عِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى، أَيْ مَنْ تُخَالِطُ نَفْسَهُ خَشْيَةُ اللَّهِ لِأَنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ هُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ دِلَالَةَ الْأَشْيَاءِ عَلَى لَوَازِمِهَا وَخَفَايَاهَا، قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] وَقَالَ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣]. وَالْخَشْيَةُ تَقَدَّمَتْ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات: ١٩].
وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِلِانْتِفَاعِ بِمِثْلِ هَذَا كَمَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِمِثْلِهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ.
وَفِي الْقِصَّةِ كُلِّهَا تَعْرِيضٌ بِسَادَةِ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ بِتَنْظِيرِهِمْ بِفِرْعَوْنَ وَتَنْظِيرِ الدَّهْمَاءِ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ حَشَرَهُمْ فِرْعَوْنُ وَنَادَى فِيهِمْ بِالْكُفْرِ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مَضْرِبَ هَذَا الْمَثَلِ فَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يُوصَفُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِفِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ.


الصفحة التالية
Icon