مُنَافِيًا لِتَعْيِينِهِ لِلْآخَرِ بِحَسَبِ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ عُرْفًا، وَلَكِنَّ صَلُوحِيَّةَ التَّرْكِيبِ لَهَا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مَعَ عَدَمِ مَا يُعِيِّنُ إِرَادَةَ أَحَدِهَا تَحْمِلُ السَّامِعَ عَلَى الْأَخْذِ بِالْجَمِيعِ
إِيفَاءً بِمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ، فَالْحَمْلُ عَلَى الْجَمِيعِ نَظِيرُ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعَانِيهِ احْتِيَاطًا. وَقَدْ يَكُونُ ثَانِي الْمَعْنَيَيْنِ مُتَوَلِّدًا مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِي الْحَمْلِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ، مِثْلَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ وَالتَّهَكُّمِ مَعَ مَعَانِيهَا الصَّرِيحَةِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: لِمَ يَدْخُلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ قَالَ: فَمَا رَئَيْتُ أَنَّهُ دَعَانِي إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النَّصْر: ١] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نَصَرَنَا وَفَتَحَ عَلَيْنَا وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَلِكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ:
هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النَّصْر: ٣] فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ.
وَإِنَّكَ لَتَمُرُّ بِالْآيَةِ الْوَاحِدَةِ فَتَتَأَمَّلُهَا وَتَتَدَبَّرُهَا فَتَنْهَالُ عَلَيْكَ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ يَسْمَحُ بِهَا التَّرْكِيبُ عَلَى اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَاتِ فِي أَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ، وَقَدْ تَتَكَاثَرُ عَلَيْك فَلَا تِلْكَ مِنْ كَثْرَتِهَا فِي حَصْرٍ وَلَا تَجْعَلِ الْحَمْلَ عَلَى بَعْضِهَا مُنَافِيًا لِلْحَمْلِ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ إِنْ كَانَ التَّرْكِيبُ سَمْحًا بِذَلِكَ.
فَمُخْتَلِفُ الْمَحَامِلِ الَّتِي تَسْمَحُ بِهَا كَلِمَاتُ الْقُرْآنِ وَتَرَاكِيبُهُ وَإِعْرَابُهُ وَدَلَالَتُهُ، مِنِ اشْتِرَاكٍ وَحَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ، وَصَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، وَبَدِيعٍ، وَوَصْلٍ، وَوَقْفٍ، إِذَا لَمْ تُفْضِ إِلَى خِلَافِ الْمَقْصُودِ مِنَ السِّيَاقِ، يَجِبُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى جَمِيعِهَا كَالْوَصْلِ وَالْوَقْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢] إِذَا وُقِفَ عَلَى لَا رَيْبَ أَوْ عَلَى فِيهِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمرَان: ١٤٦] بِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى إِذَا وُقِفَ على قَوْله قاتَلَ، أَوْ عَلَى قَوْلِهِ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ [آل عمرَان: ٧] بِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْعِلْمِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مَرْيَم: ٤٦] بِاخْتِلَافِ ارْتِبَاطِ النِّدَاءِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَالتَّبَرُّؤُ تَكَلُّفُ الْبَرَاءَةِ وَهِيَ التَّبَاعُدُ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي مِنْ شَأْنِ قُرْبِهِ أَنْ يَكُونَ مُضِرًّا وَلذَلِك يُقَال تبارءا إِذَا أَبْعَدَ كُلٌّ الْآخَرَ مِنْ تَبِعَةٍ مُحَقَّقَةٍ أَوْ مُتَوَقَّعَةٍ.
والَّذِينَ اتُّبِعُوا بِالْبِنَاءِ إِلَى الْمَجْهُولِ هُمُ الَّذِينَ ضَلَّلُوا الْمُشْرِكِينَ وَنَصَّبُوا لَهُمُ الْأَنْصَابَ مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، فَقَدْ أَشْعَرَ قَوْلُهُ: اتُّبِعُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى مُتَابَعَتِهِمْ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا أَيْ نُجَازِيهِمْ عَلَى إِخْلَافِهِمْ.
وَمَعْنَى بَرَاءَتِهِمْ مِنْهُمْ تَنَصُّلُهُمْ مِنْ مَوَاعِيدِ نَفْعِهِمْ فِي الْآخِرَةِ الَّذِي وَعَدُوهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالشَّفَاعَةِ فِيهِمْ، وَصَرَفُهُمْ عَنِ الِالْتِحَاقِ بِهِمْ حِينَ هُرِعُوا إِلَيْهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَرَأَوُا الْعَذابَ حَالِيَّةٌ أَيْ تَبَرَّءُوا فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ، وَمَعْنَى رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُ أَنَّهُمْ رَأَوْا أَسْبَابَهُ وَعَلِمُوا أَنَّهُ أُعِدَّ لِمَنْ أَضَلَّ النَّاسَ فَجَعَلُوا يَتَبَاعَدُونَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ لِئَلَّا يَحِقَّ عَلَيْهِمْ عَذَابُ الْمُضَلِّلِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ الْعَذَابِ مَجَازًا فِي إِحْسَاسِ التَّعْذِيبِ كَالْمَجَازِ فِي قَوْلِهِ: يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ [الْأَنْعَام: ٤٩] فَمَوْقِعُ الْحَالِ هَنَا حَسَنٌ جِدًّا وَهِيَ مُغْنِيَةٌ عَنِ الِاسْتِئْنَافِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمُقَامُ لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَسَاءَلُ عَنْ مُوجِبِ هَذَا التَّبَرُّؤِ فَإِنَّهُ غَرِيبٌ فَيُقَالُ رَأَوُا الْعَذَابَ فَلَمَّا أُرِيدَ تَصْوِيرُ الْحَالِ وَتَهْوِيلُ الِاسْتِفْظَاعِ عُدِلَ عَنِ الِاسْتِئْنَافِ إِلَى الْحَالِ قَضَاءً لِحَقِّ التَّهْوِيلِ وَاكْتِفَاءً بِالْحَالِ عَنِ الِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّ مَوْقِعَهُمَا مُتَقَارِبٌ، وَلَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ تَبَرَّأَ لِأَنَّ مَعْنَاهَا حِينَئِذٍ يَصِيرُ إِعَادَةً لِمَعْنَى جملَة: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ فَتَصِيرُ مُجَرَّدَ تَأْكِيدٍ لَهَا وَيَفُوتُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ.
وَضَمِيرُ رَأَوُا ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ عَائِدٌ إِلَى فَرِيقَيِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَالَّذِينَ اتُّبِعُوا.
وَجُمْلَةُ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ تَبَرَّأَ أَيْ وَإِذْ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ عَائِدٌ إِلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ.
وَالتَّقَطُّعُ الِانْقِطَاعُ الشَّدِيدُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُطَاوِعُ قَطَّعَهُ بِالتَّشْدِيدِ مُضَاعِفُ قَطَعَ بِالتَّخْفِيفِ.
وَالْأَسْبَابُ جَمْعُ سَبَبٍ وَهُوَ الْحَبْلُ الَّذِي يُمَدُّ لِيُرْتَقَى عَلَيْهِ فِي النَّخْلَةِ أَوِ السَّطْحِ، وَقَوْلُهُ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ تَمْثِيلِيَّةٌ شَبَّهَتْ هَيْئَتَهُمْ عِنْدَ خَيْبَةِ أَمَلِهِمْ حِينَ لَمْ يَجِدُوا النَّعِيمَ
الَّذِي تَعِبُوا لِأَجْلِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ وَقَدْ جَاءَ إِبَّانَهُ فِي ظَنِّهِمْ فَوَجَدُوا عِوَضَهُ الْعَذَابَ، بِحَالِ الْمُرْتَقِي إِلَى النَّخْلَةِ لِيَجْتَنِيَ الثَّمَرَ الَّذِي كَدَّ لِأَجْلِهِ طُولَ السَّنَةِ فَتَقَطَّعَ بِهِ السَّبَبُ عِنْدَ ارْتِقَائِهِ فَسَقَطَ هَالِكًا، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ قَدْ عَلِمَ كُلُّهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ لَا نَجَاةَ لَهُمْ فَحَالُهُمْ كَحَالِ السَّاقِطِ مِنْ عُلْوٍ لَا تُرْجَى لَهُ
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٨١]
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١)جِيءَ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً تَذْيِيلًا لِهَاتِهِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِلتَّرْهِيبِ مِنِ ارْتِكَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَالتَّرْغِيبِ فِي فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ أَوْ نُدِبَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ سَلَامَةً مِنْ آثَامِهَا، وَفِي فِعْلِ الْمَطْلُوبَاتِ اسْتِكْثَارًا مِنْ ثَوَابِهَا، وَالْكُلُّ يَرْجِعُ إِلَى اتِّقَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي تُطْلَبُ فِيهِ السَّلَامَةُ وَكَثْرَةُ أَسْبَابِ النَّجَاحِ.
وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ فَقَالَ جِبْرِيلُ: «يَا مُحَمَّدُ ضَعْهَا عَلَى رَأْسِ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْبَقَرَةِ». وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٌ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشَ بَعْدَ نُزُولِهَا وَاحِدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ وَاحِدًا وَثَمَانِينَ، وَقِيلَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ تِسْعَةً، وَقِيلَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ آيَةٍ هِيَ آيَةُ الْكَلَالَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَقْصَى الْأَقْوَالَ صَاحِبُ الْإِتْقَانِ.
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ تُرْجَعُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ.
[٢٨٢]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٨٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)
لَمَّا اهْتَمَّ الْقُرْآنُ بِنِظَامِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ فَابْتَدَأَ بِمَا بِهِ قِوَامُ عَامَّتِهِمْ مِنْ
مُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَوَضُحَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ
قِيَاسِيًّا. وَفِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ السُّنَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرًا: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [فاطر: ٤٣] وَفَسَّرُوا السُّنَنَ هُنَا بِسُنَنِ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ.
وَالْمَعْنَى: قَدْ مَضَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أَحْوَالٌ لِلْأُمَمِ، جَارِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ عَادَةُ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ، وَهِيَ أَنَّ قُوَّةَ الظَّالِمِينَ وَعُتُوَّهُمْ عَلَى الضُّعَفَاءِ أَمْرٌ زَائِلٌ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الْمُحِقِّينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أَيِ الْمُكَذِّبِينَ بِرُسُلِ رَبِّهِمْ وَأُرِيدَ النَّظَرُ فِي آثَارِهِمْ لِيَحْصُلَ مِنْهُ تَحَقُّقُ مَا بَلَغَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ، أَوِ السُّؤَالُ عَنْ أَسْبَابِ هَلَاكِهِمْ، وَكَيْفَ كَانُوا أُولِي قُوَّةٍ، وَكَيْفَ طَغَوْا عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ، فاستأصلهم الله أَو لِتَطْمَئِنَّ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِمُشَاهَدَةِ الْمُخْبِرِ عَنْهُمْ مُشَاهَدَةَ عَيَانٍ، فَإِنَّ لِلْعَيَانِ
بَدِيعَ مَعْنًى لِأَنَّ بَلَغَتْهُمْ أَخْبَارُ الْمُكَذِّبِينَ، وَمِنَ الْمُكَذِّبِينَ عَادٌ وَثَمُودُ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ، وَكُلُّهُمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ يَسْتَطِيعُونَ مُشَاهَدَةَ آثَارِهِمْ، وَقَدْ شَهِدَهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي أَسْفَارِهِمْ.
وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَهَمِّيَّةِ عِلْمِ التَّارِيخِ لِأَنَّ فِيهِ فَائِدَةَ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ مَعْرِفَةُ أَخْبَارِ الْأَوَائِلِ، وَأَسْبَابِ صَلَاحِ الْأُمَمِ وَفَسَادِهَا. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: «السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، وَالْمَعْنَوِيُّ هُوَ النَّظَرُ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لِلنَّاظِرِ الْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ، وَمَا يَقْرُبُ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يَحْصُلُ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِعَجْزِ الْإِنْسَانِ وَقُصُورِهِ».
وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ دُونَ مُطَالَعَةِ الْكُتُبِ لِأَنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ مَنْ كَانُوا أُمِّيِّينَ، وَلِأَنَّ الْمُشَاهِدَةَ تُفِيدُ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ عِلْمًا وَتَقْوًى عِلْمَ مَنْ قَرَأَ التَّارِيخَ أَوْ قصّ عَلَيْهِ.
[١٣٨]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٣٨]
هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)
تَذْيِيلٌ يَعُمُّ الْمُخَاطَبِينَ الْحَاضِرِينَ وَمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَجْيَالِ، وَالْإِشَارَةُ إِمَّا إِلَى مَا تَقَدَّمَ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَإِمَّا إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ وَهُوَ الْقُرْآنُ.
وَإِنَّمَا أُعِيدَ فِعْلُ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ مَعَ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ إِظْهَارًا لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْصِيلِ طَاعَةِ الرَّسُولِ لِتَكُونَ أَعْلَى مَرْتَبَةً مِنْ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِقَرَائِنِ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ الْمَأْمُورَ بِهَا تَرْجِعُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ دُونَ مَا يَأْمُرُ بِهِ فِي غَيْرِ التَّشْرِيعِ، فَإِنَّ امْتِثَالَ أَمْرِهِ كُلِّهِ خَيْرٌ، أَلَا تَرَى
أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا أَبَا سَعِيدِ بْنَ الْمُعَلَّى، وَأَبُو سَعِيدٍ يُصَلِّي، فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي» فَقَالَ:
«كُنْتُ أُصَلِّي» فَقَالَ: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ
[الْأَنْفَال: ٢٤] وَلِذَلِكَ كَانُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا مُرَادَ الرَّسُولِ مِنْ أَمْرِهِ رُبَّمَا سَأَلُوهُ: أَهُوَ أَمْرُ تَشْرِيعٍ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالنَّظَرُ، كَمَا
قَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ نَزَلَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ: أَهَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَجْتَازَهُ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ:
بَلِ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ... »
الْحَدِيثَ.
وَلَمَّا كَلَّمَ بَرِيرَةَ فِي أَنْ تُرَاجِعَ زَوْجَهَا مُغِيثًا بَعْدَ أَنْ عَتَقَتْ، قَالَتْ لَهُ: أَتَأْمُرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ تَشْفَعُ، قَالَ: بَلْ أَشْفَعُ، قَالَتْ: لَا أَبْقَى مَعَهُ
. وَلِهَذَا لَمْ يُعَدْ فِعْلُ (فَرُدُّوهُ) فِي قَوْلِهِ: (وَالرَّسُولِ) لِأَنَّ ذَلِكَ فِي التَّحَاكُمِ بَيْنَهُمْ، وَالتَّحَاكُمُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْأَخْذِ بِحُكْمِ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ، وَلِذَلِكَ لَا نَجِدُ تَكْرِيرًا لِفِعْلِ الطَّاعَةِ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي لَمْ يُعْطَفْ فِيهَا أُولُو الْأَمْرِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الْأَنْفَال: ٢٠] وَقَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الْأَنْفَال: ٤٦] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [النُّور: ٥٢]، إِذْ طَاعَةُ الرَّسُولِ مُسَاوِيَةٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ فَلَا يُتَلَقَّى أَمْرُ اللَّهِ إِلَّا مِنْهُ، وَهُوَ منقّذ أَمْرِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ، فَطَاعَتُهُ طَاعَةُ تَلَقٍّ وَطَاعَةُ امْتِثَالٍ، لِأَنَّهُ مبلّغ ومنقّذ، بِخِلَافِ أُولِي الْأَمر فإنّهم منقّذون لِمَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ فَطَاعَتُهُمْ طَاعَةُ امْتِثَالٍ خَاصَّةً. وَلِذَلِكَ كَانُوا إِذَا أَمَرَهُمْ بِعَمَلٍ فِي غَيْرِ أُمُورِ التَّشْرِيعِ، يَسْأَلُونَهُ أَهَذَا أَمْرٌ أَمْ رَأْيٌ وَإِشَارَةٌ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لِلَّذِينَ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلَحَ».
وَقَوْلُهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ يَعْنِي ذَوِيهِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَمْرِ وَالْمُتَوَلُّونَ لَهُ. وَالْأَمْرُ هُوَ الشَّأْنُ، أَيْ مَا يُهْتَمُّ بِهِ من الْأَحْوَال والشؤون، فَأُولُو الْأَمْرِ مِنَ الْأُمَّةِ وَمِنَ الْقَوْمِ هُمُ الَّذِينَ
وَكَيْفِيَّةُ اسْتِقْسَامِ الْمَيْسِرِ: الْمُقَامَرَةُ عَلَى أَجْزَاءِ جَزُورٍ يَنْحَرُونَهُ وَيَتَقَامَرُونَ عَلَى أَجْزَائِهِ، وَتِلْكَ عَشَرَةُ سِهَامٍ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٩]. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَمَا اسْتَقْسَمْتُمْ عَلَيْهِ بِالْأَزْلَامِ، فَغُيِّرَ الْأُسْلُوبُ وَعُدِلَ إِلَى وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ، لِيَكُونَ أَشْمَلَ لِلنَّهْيِ عَنْ طَرِيقَتَيِ الِاسْتِقْسَامِ كِلْتَيْهِمَا، وَذَلِكَ إِدْمَاجٌ بَدِيعٌ.
وَأَشْهَرُ صُوَرِ الِاسْتِقْسَامِ ثَلَاثَة قداح: أَحدهَا مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ «أَمَرَنِي رَبِّي»، وَرُبَّمَا كَتَبُوا عَلَيْهِ «افْعَلْ» وَيُسَمُّونَهُ الْآمِرَ. وَالْآخَرُ: مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ «نَهَانِي رَبِّي»، أَوْ «لَا تَفْعَلْ» وَيُسَمُّونَهُ
النَّاهِيَ. وَالثَّالِثُ: غُفْلٌ- بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ أُخْتِ الْقَافِ- أَيْ مَتْرُوكٌ بِدُونِ كِتَابَةٍ. فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ سَفَرًا أَوْ عَمَلًا لَا يَدْرِي أَيَكُونُ نَافِعًا أَمْ ضَارًّا، ذَهَبَ إِلَى سَادِنِ صَنَمِهِمْ فَأَجَالَ الْأَزْلَامَ، فَإِذَا خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ كِتَابَةٌ، فَعَلُوا مَا رُسِمَ لَهُمْ، وَإِذَا خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادُوا الْإِجَالَةَ. وَلَمَّا أَرَادَ امْرُؤُ الْقَيْسِ أَنْ يَقُومَ لِأَخْذِ ثَأْرِ أَبِيهِ حُجْرٍ، اسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ عِنْدَ ذِي الْخَلَصَةِ، صَنَمِ خَثْعَمَ، فَخَرَجَ لَهُ النَّاهِي فَكَسَرَ الْقِدَاحَ وَقَالَ:
لَوْ كُنْتَ يَا ذَا الْخَلَصِ الْمَوْتُورَا | مِثْلِي وَكَانَ شَيْخُكَ الْمَقْبُورَا |
وَرَدَ، فِي حَدِيثِ فَتْحِ مَكَّةَ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ فَقَالَ: «كَذَبُوا وَاللَّهِ إِنِ اسْتَقْسَمَ بِهَا قَطُّ»
وَهُمْ قَدِ اخْتَلَقُوا تِلْكَ الصُّورَةَ، أَوْ تَوَهَّمُوهَا لِذَلِكَ، تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَتَضْلِيلًا لِلنَّاسِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ. وَكَانَتْ لَهُمْ أَزْلَامٌ أُخْرَى عِنْدَ كُلِّ كَاهِنٍ مِنْ كُهَّانِهِمْ، وَمِنْ حُكَّامِهِمْ، وَكَانَ مِنْهَا عِنْدَ (هُبَلٍ) فِي الْكَعْبَةِ سَبْعَةٌ قَدْ كَتَبُوا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَيْئًا مِنْ أَهَمِّ مَاِِ
الْمَوْضِعِ فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِنَسْخِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ فَتَحْلِيفُ شَاهِدَيِ الْوَصِيَّةِ الْكَافِرَيْنِ مَنْسُوخٌ تَبَعًا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا الَّذِينَ جَعَلُوهُ مُحْكَمًا فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الْيَمِينَ بِشَاهِدَيِ الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ بِعِلَّةِ مَشْرُوعِيَّةِ تَحْلِيفِ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَاسَ عَلَيْهِ تَحْلِيفَ الشَّاهِدَيْنِ إِذَا تَطَرَّقَتْ إِلَيْهِمَا الرِّيبَةُ وَلَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ. وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ إِذْ قَدْ شَرَطَ اللَّهُ فِيهِمَا الْعَدَالَةَ وَهِيَ تُنَافِي الرِّيبَةَ، نَعَمْ قَدْ يُقَالُ:
هَذَا إِذَا تَعَذَّرَتِ الْعَدَالَةُ أَوْ ضَعُفَتْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَوَقَعَ الِاضْطِرَارُ إِلَى اسْتِشْهَادِ غَيْرِ الْعُدُولِ كَمَا هِيَ حَالَةُ مُعْظَمِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِتَحْلِيفِ الشَّاهِدِ الْمَسْتُورِ الْحَالِ وَجْهٌ فِي الْقَضَاءِ. وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا حُكْمُ تَغْلِيظِ الْيَمِينِ: فَقَدْ أُخِذَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْيَمِينَ تَقَعُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي تَغْلِيظِ الْيَمِينِ فِي نَظَرِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيَجِيءُ فِي تَغْلِيظِ الْيَمِينِ أَنْ يَكُونَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَاللَّفْظِ. وَفِي جَمِيعِهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ وَقَدْ بَيَّنْتُ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ وَبِاللَّفْظِ فَتَفْصِيلُهُ فِي كتب الْخلاف.
[١٠٩، ١١٠]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ١٠٩ إِلَى ١١٠]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قالُوا لَا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ
أَنْعَامِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ قِسَمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، فَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ (عَمِّ أَنَسٍ) مِنْ حَقِّ اللَّهِ الَّذِي سَمَّوْهُ لَهُ تَرَكُوهُ لِلصَّنَمِ وَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ اللَّهِ مَنْ حَقِّ (عَمِّ أَنَسٍ) رَدُّوهُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ بَطْنٌ يُقَالُ لَهُمُ (الْأَدِيمُ) قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: كَانُوا إِذَا جَمَعُوا الزَّرْعَ فَهَبَّتِ الرِّيحُ فَحَمَلَتْ مِنَ الَّذِي لِلَّهِ إِلَى الَّذِي لِشُرَكَائِهِمْ أَقَرُّوهُ وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُ، وَإِذَا حَمَلَتْ مِنَ الَّذِي لِشُرَكَائِهِمْ إِلَى الَّذِي لِلَّهِ رَدُّوهُ، وَإِذَا هَلَكَ مَا لِأَصْنَامِهِمْ بِقَحْطٍ أَخَذُوا بَدَلَهُ مِمَّا لِلَّهِ، وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِيمَا لِلَّهِ، وَإِذَا انْفَجَرَ مِنْ سُقْيِ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَسَاحَ إِلَى مَا لِلَّذِي لِلْأَصْنَامِ تَرَكُوهُ وَإِذَا انْفَجَرَ مَنْ سُقْيِ مَا لِلْأَصْنَامِ فَدَخَلَ فِي زَرْعِ الَّذِي لِلَّهِ سَدُّوهُ. وَكَانُوا إِذَا أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ اسْتَعَانُوا بِمَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَأَنْفَقُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَقَرُّوا مَا جَعَلُوهُ لِشُرَكَائِهِمْ لِلشُّرَكَاءِ، وَإِذَا هَلَكَ الّذي جَعَلُوهُ للأصنام وَكثر الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ قَالُوا: لَيْسَ لِآلِهَتِنَا بُدٌّ مِنْ نَفَقَةٍ وَأَخَذُوا الَّذِي جَعَلُوهُ لِلَّهِ فَأَنْفَقُوهُ عَلَيْهَا، وَإِذَا أَجْدَبَ الَّذِي لِلَّهِ وَكَثُرَ الَّذِي لِآلِهَتِهِمْ قَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَزْكَى الَّذِي لَهُ فَلَا يَرُدُّونَ عَلَى مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ شَيْئًا مِمَّا لِآلِهَتِهِمْ، فَقَوْلُهُ: فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ مُبَالَغَةٌ فِي صَوْنِهِ مِنْ أَنْ يُعْطَى لِمَا لِلَّهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَصِلُ فَهُوَ لَا يُتْرَكُ إِذَا وَصَلَ بِالْأَوْلَى.
وَعُدِّيَ يَصِلُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ وَإِلَى اسْمِ شُرَكَائِهِمْ. وَالْمُرَادُ لَا يَصِلُ إِلَى النَّصِيبِ الْمَجْعُولِ لِلَّهِ أَوْ إِلَى لِشُرَكَائِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا نَصِيبًا لِلَّهِ وَنَصِيبًا لِشُرَكَائِهِمْ فَقَدِ اسْتَشْعَرُوا ذَلِكَ النَّصِيبَ مَحُوزًا لِمَنْ جُعِلَ إِلَيْهِ وَفِي حِرْزِهِ فَكَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى ذَاتِهِ.
وَجُمْلَةُ: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ اسْتِئْنَافٌ لِإِنْشَاءِ ذَمِّ شَرَائِعِهِمْ. وَسَاءَ هُنَا بِمَعْنَى بِئْسَ:
وَمَا هِيَ فَاعِلُ ساءَ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ وَصِلَتُهَا يَحْكُمُونَ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ الْمَنْصُوبُ، وَحُذِفَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ لِدَلَالَةِ: جَعَلُوا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَرَأَهُ بَاقِي الْعَشَرَةِ:
بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ أَيْ هِيَ لَهُمُ الْآنَ حَالَ كَوْنِهَا خَالِصَةً فِي الْآخِرَةِ وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الزِّينَةَ وَالطَّيِّبَاتِ تَكُونُ خَالِصَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ فِي خالِصَةً عَائِدٌ إِلَى الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِعَيْنِهَا، أَيْ هِيَ خَالِصَةٌ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الزِّينَةَ وَالطَّيِّبَاتِ قَدِ انْقَرَضَتْ فِي الدُّنْيَا، فَمَعْنَى خَلَاصِهَا صَفَاؤُهَا، وَكَوْنُهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ: هُوَ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَظْهَرُ صَفَائِهَا أَيْ خُلُوصِهَا مِنَ التَّبِعَاتِ الْمُنْجَرَّةِ مِنْهَا، وَهِيَ تَبِعَاتُ تَحْرِيمِهَا، وَتَبِعَاتُ تَنَاوُلِ بَعْضِهَا مَعَ الْكُفْرِ بِالْمُنْعِمِ بِهَا، فَالْمُؤْمِنُونَ لَمَّا تُنَاوَلُوهَا فِي الدُّنْيَا تَنَاوَلُوهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ،
بِخِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ عَنْهَا فَيُعَاقِبُونَ عَلَى مَا تَنَاوَلُوهُ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا نِعْمَةَ الْمُنْعِمِ بِهَا، فَأَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: ٨٢] وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ تَفْسِيرُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى قِرَاءَةِ رَفْعِ:
خالِصَةً أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ هَذِهِ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ بِأَنَّهَا لَا تُعَقِّبُ الْمُتَمَتِّعِينَ بِهَا تَبِعَاتٍ وَلَا أَضْرَارًا، وَعَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ فَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي خالِصَةً عَائِدًا إِلَى الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ، بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهَا لَا بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَهُمْ أَمْثَالُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَالِصَةً.
وَمَعْنَى الْخَلَاصُ التَّمَحُّضُ وَهُوَ هُنَا التَّمَحُّضُ عَنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ لَا زِينَةَ لَهُمْ وَلَا طَيِّبَاتٍ مِنَ الرِّزْقِ يَوْمَ الْقِيَامَة، أَي أنّها فِي الدُّنْيَا كَانَتْ لَهُمْ مَعَ مُشَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ فِيهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ.
وَ (مِنْ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تبعيضية مُتَعَلقَة ب كَتَبْنا وَمَفْعُولُ كَتَبْنا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ كَتَبْنَا أَيْ مَكْتُوبًا، وَيَجُوزُ جَعْلُ (مِنْ) اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ فَيَكُونُ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِكَتَبْنَا، أَيْ كَتَبْنَا لَهُ بَعْضًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ [١٦] وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَكُلِّ شَيْءٍ عَامٌّ عُمُومًا عُرْفِيًّا أَيْ كُلُّ شَيْءٍ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ فِي دِينِهَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ١٣٨] علئى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَعَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَة: ٣] أَيْ أُصُولَهُ.
وَالَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لِمُوسَى فِي الْأَلْوَاحِ هُوَ أَصُولُ كُلِّيَّاتٍ هَامَّةٍ لِلشَّرِيعَةِ الَّتِي أَوْحَى اللَّهُ بِهَا إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ مَا فِي الْإِصْحَاحِ (٢٠) مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ وَنَصُّهَا: أَنا الرب إلاهك الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ، لَا يكن لَك ءالهة أُخْرَى أَمَامِي، لَا تَصْنَعْ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، وَلَا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ، مِنْ فَوْقَ، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ تَحْتَ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ، لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ لِأَنِّي أَنا الرب إلاهك غَيُورٌ افْتَقِدْ ذُنُوبَ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ من مبغضيّ واصنع إِحْسَانًا إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ، لَا تَنْطِقْ باسم الرب إلاهك بَاطِلًا لِأَنَّ الرب لَا يبرىء مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلًا، اذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابِعُ فَفِيهِ سبت للرب إلاهك لَا تَصْنَعْ عَمَلًا مَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأُخْتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ الَّذِي دَاخَلَ أَبْوَابِكَ لِأَنَّ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَا وَالْأَرْضَ وَالْبَحْرَ، وَكُلَّ مَا فِيهَا وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ لِذَلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ، أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي يعطيك الرب إلاهك، لَا تَقْتُلْ، لَا تَزْنِ لَا تَسْرِقْ، لَا تَشْهَدْ، عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ، لَا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ، لَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ وَلَا عَبْدَهُ وَلَا أَمَتَهُ، وَلَا ثَوْرَهُ وَلَا حِمَارَهُ وَلَا شَيْئًا مِمَّا لقريبك اهـ، وَاشْتُهِرَتْ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْوَصَايَا الْعَشْرِ، وَبِالْكَلِمَاتِ الْعشْر أَي لجمل الْعَشْرِ.
وَقَدْ فُصِلَتْ (فِي) من الْإِصْحَاحِ الْعِشْرِينَ إِلَى نِهَايَةِ الْحَادِي وَالثَلَاثِينَ مِنْ سِفْرِ
الْخُرُوجِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْوَصَايَا الْعَشْرُ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ بِهَا مُوسَى فِي جَبَلِ سِينَا
وَعَنْ سُفْيَانَ أَنَّهَا تُسَمَّى «الْمُدَمْدِمَةَ» - بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ دَمْدَمَ إِذَا أَهْلَكَ، لِأَنَّهَا كَانَتْ سَبَبَ هَلَاكِ الْمُشْرِكِينَ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ اسْمًا.
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: مَا كَانَ لِلنَّبِيءِ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى [التَّوْبَة: ١١٣] الْآيَةَ
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَمُّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ «يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ». فَكَانَ آخِرَ قَوْلِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيءُ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنه عَنْكَ»
. وَتُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ فَنَزَلَتْ مَا كَانَ لِلنَّبِيءِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: ١١٣].
وَشَذَّ مَا رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ آيَتَيْنِ مِنْ آخِرِهَا مَكِّيَّتَانِ، وَهُمَا لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَة: ١٢٨] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَسَيَأْتِي مَا رُوِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ [التَّوْبَة: ١٩] الْآيَةَ. نَزَلَ فِي الْعَبَّاسِ إِذْ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ فَعَيَّرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِالْكُفْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، فَقَالَ: نَحْنُ نَحْجُبُ الْكَعْبَةَ إِلَخْ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ آخِرُ السُّوَرِ نُزُولًا عِنْدَ الْجَمِيعِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفَتْحِ، فِي قَوْلِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، فَهِيَ السُّورَة الرَّابِعَة عشرَة بَعْدَ الْمِائَةِ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِيلَ آخِرُ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ، بَعْدَ خُرُوجِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مِنَ الْمَدِينَةِ لِلْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: قُبَيْلَ خُرُوجِهِ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَتَكُونُ مِثْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بَيْنَ السُّوَرِ الطِّوَالِ.
وَفَسَّرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بَعْضَ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ أَوْزَاعًا فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَاعِدَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي، وَلَعَلَّ مُرَادَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ غَيْرَ مُتَفَرِّقَةٍ: أَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهَا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا ابْتِدَاءُ نُزُولِ سُورَةٍ أُخْرَى.
وَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة: ١٣] نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً، كَمَا سَيَأْتِي فِي خَبَرِ بَعْثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
فِي قَوْلِهِ: مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ. فَعَلَى قِرَاءَةِ نُفَصِّلُ بِالنُّونِ وَهِيَ لِنَافِعٍ وَالْجُمْهُورِ وَرِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فَفِي ضَمِيرِ صَاحِبِ الْحَالِ الْتِفَاتٌ، وَعَلَى قِرَاءَة يُفَصِّلُ بالتحية وَهِيَ لِابْنِ كَثِيرٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَأَبِي عَمْرٍو وَابْنِ عَامِرٍ وَيَعْقُوبَ أَمْرُهَا ظَاهِرٌ.
وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ، لِأَنَّ التَّبْيِينَ يَأْتِي على الْفُصُول الشَّيْءِ كُلِّهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٥].
وَالْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ التَّكْرَارِ.
وَجُعِلَ التَّفْصِيلُ لِأَجْلِ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ، أَيِ الَّذِينَ مِنْ شَأْنِهِمُ الْعِلْمُ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ الْمُضَارِعُ مِنْ تَجَدُّدُ الْعِلْمَ، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ لِمَنْ هُوَ دَيْدَنُهُ وَدَأْبُهُ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَهْلَ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ هُمْ أَهْلُ الِانْتِفَاعِ بِالْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ.
وَذِكْرُ لَفْظِ (قَوْمٍ) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ رَسَخَ فِيهِمْ وَصْفُ الْعِلْمِ، فَكَانَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِتَفْصِيلِ الْآيَاتِ لَيْسُوا مِنَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَلَا مِمَّنْ رَسَخَ فيهم الْعلم.
[٦]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٦]
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)
اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ. وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِأَحْوَالِ الضَّوْءِ وَالظُّلْمَةِ وَتَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَفِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ. وَهُوَ بِمَا فِيهِ مِنْ عطف قَوْله تَعَالَى: وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَعَمُّ مِنَ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ لِشُمُولِهِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ خَلْقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمِنْ خَلْقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ كُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مِمَّا تَبْلُغُ إِلَيْهِ مَعْرِفَةُ النَّاسِ فِي مُخْتَلَفِ الْعُصُورِ وَعَلَى تَفَاوُتِ مَقَادِيرِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ عُقُولِهِمْ.
وَتَأْكِيدُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِحَرْفِ إِنَّ لِأَجْلِ تَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ إِلَى التَّوْحِيدِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ فِي ذَلِكَ آيَاتٍ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجَبِ الْعِلْمِ.
الْأَرْزَاقِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لِلْأُمَّةِ يَجْعَلُهَا فِي غِنًى عَنِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى وَقَادِرَةً عَلَى حِفْظِ اسْتِقْلَالِهَا وَيَجْعَلُ أُمَمًا كَثِيرَةً تَحْتَاجُ إِلَيْهَا.
وإِلى قُوَّتِكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَزِدْكُمْ. وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِ إِلى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى يَضُمُّ. وَهَذَا وَعْدٌ لَهُمْ بِصَلَاحِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-.
وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ تَحْذِيرًا مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الشِّرْكِ.
وَالتَّوَلِّي: الِانْصِرَافُ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ.
ومُجْرِمِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تَتَوَلَّوْا أَيْ مُتَّصِفِينَ بِالْإِجْرَامِ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ قَبُولِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
[٥٣- ٥٦]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٥٣ الى ٥٦]
قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)
قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ.
مُحَاوَرَةٌ مِنْهُمْ لِهُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِجَوَابٍ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَلِذَلِكَ جُرِّدَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الْعَاطِفِ.
وَافْتِتَاحُ كَلَامِهِمْ بِالنِّدَاءِ يُشِيرُ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِمَا سَيَقُولُونَهُ، وَأَنَّهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَنَبَّهَ لَهُ لِأَنَّهُمْ نَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ الْبَعِيدِ لِغَفْلَتِهِ فَنَادَوْهُ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ أَيْضًا. وَقَدْ يَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ مَعَ ذَلِكَ تَوْبِيخُهُ وَلَوْمُهُ فَيَكُونُ كِنَايَةً ثَانِيَةً، أَوِ اسْتِعْمَالُ النِّدَاءِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَقَوْلُهُمْ: مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ بُهْتَانٌ لِأَنَّهُ أَتَاهُمْ بِمُعْجِزَاتٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ [هود: ٥٩] وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ لَمْ يَذْكُرْ آيَةً مُعَيَّنَةً لِهُودٍ- عَلَيْهِ
وَإِذْ قَدْ كَانَ خَلْقُ اللَّهِ الْعَوَالِمَ وَغَيْرَهَا مَعْلُومًا لَدَى الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّ الْإِقْبَالَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ يُذْهِلُهُمْ عَنْ تَذَكُّرِهِ كَانُوا غَيْرَ مُحْتَاجِينَ لِأَكْثَرَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِذَلِكَ وَبِالتَّنْبِيهِ إِلَى مَا قَدْ يَخْفَى مِنْ دَقَائِقِ التَّكْوِينِ كَقَوْلِهِ آنِفًا بِغَيْرِ عَمَدٍ [الرَّعْد: ٢]- وَقَوْلِهِ: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ [الرَّعْد: ٤] إِلَخْ صِيغَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْخَلْقِ فِي آيَةِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ [الرَّعْد: ٢] إِلَخْ بِطَرِيقَةِ الْمَوْصُولِ لِلْعِلْمِ بِثُبُوتِ مَضْمُونِ الصِّلَةِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ.
وَجِيءَ فِي تِلْكَ الصِّلَةِ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. فَأَمَّا هُنَا فَصِيغَ الْخَبَرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُفِيدِ لِلتَّجَدُّدِ وَالتَّكْرِيرِ لِإِفَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدُ التَّعَلُّقِ بِمُقْتَضَى أَحْوَالِ الْمَعْلُومَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَالْمُتَكَاثِرَةِ عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ فِي قَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ [الرَّعْد: ٢].
وَذُكِرَ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ مَا لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ يَوْمَئِذٍ وَلَا تُسْتَشَارُ فِيهِ آلِهَتُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ بِإِثْبَاتِ الْجُزْئِيِّ لِإِثْبَاتِ الْكُلِّيِّ، فَمَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى هِيَ أَجِنَّةُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَلِذَلِكَ جِيءَ بِفِعْلِ الْحَمْلِ دُونَ الْحَبَلِ لِاخْتِصَاصِ الْحَبَلِ بِحَمْلِ الْمَرْأَةِ.
وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَعُمُومُهَا يَقْتَضِي عِلْمَ الله بِحَال الْحل الْمَوْجُودِ مِنْ ذُكُورَةٍ وَأُنُوثَةٍ، وَتَمَامٍ وَنَقْصٍ، وَحُسْنٍ وَقُبْحٍ، وَطُولٍ وَقِصَرٍ، وَلَوْنٍ.
وَتَغِيضُ: تَنْقُصُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْعُلُوقِ لِأَنَّ غَيْضَ الرَّحِمِ انْحِبَاسُ دَمِ الْحَيْضِ عَنْهَا، وَازْدِيَادُهَا: فَيَضَانُ الْحَيْضِ مِنْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْغَيْضُ مُسْتَعَارًا لِعَدَمِ التَّعَدُّدِ.
وَالِازْدِيَادُ: التَّعَدُّدُ أَيْ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْحَامِ مِنْ جَنِينٍ وَاحِدٍ أَوْ عِدَّةِ أَجِنَّةٍ وَذَلِكَ فِي الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ.
وَجُمْلَةُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى.
فَالْمُرَادُ بِالشَّيْءِ الشَّيْءُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ. وعِنْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِأَمْرِ اللَّهِ إِبْهَامٌ يُفِيدُ تَهْوِيلَهُ وَعَظَمَتَهُ لِإِضَافَتِهِ لِمَنْ لَا يَعْظُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ تَارَاتٍ بِوَعْدِ اللَّهِ وَمَرَّاتٍ بِأَجَلِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ ابْتِدَاءً لِأَنَّ اسْتِعْجَالَ الْعَذَابِ مِنْ خِصَالِهِمْ، قَالَ تَعَالَى:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [سُورَة الْحَج: ٤٧].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ عَذَابَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ الْكَافِرُونَ يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ تَهَكُّمًا لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ آتٍ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُضْمِرُونَ فِي نُفُوسِهِمِ اسْتِبْطَاءَهُ وَيُحِبُّونَ تَعْجِيلَهُ لِلْكَافِرِينَ.
فَجُمْلَةُ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَتى أَمْرُ اللَّهِ وَهِيَ مِنَ الْمَقْصُودِ بِالْإِنْذَارِ.
وَالِاسْتِعْجَالُ: طَلَبُ تَعْجِيلِ حُصُولِ شَيْءٍ، فَمَفْعُولُهُ هُوَ الَّذِي يَقَعُ التَّعْجِيلُ بِهِ.
وَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ بِالْبَاءِ فَقَالُوا: اسْتَعْجِلْ بِكَذَا. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٧] قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ.
فَضَمِيرُ تَسْتَعْجِلُوهُ إِمَّا عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ فَلَا تَسْتَعْجِلُوا اللَّهَ. وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ بِ تَسْتَعْجِلُوهُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ فَلَا تَسْتَعْجِلُوا اللَّهَ بِأَمْرِهِ، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ٣٧].
وَقِيلَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى أَمْرُ اللَّهِ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ تَعْدِيَةُ فِعْلِ الِاسْتِعْجَالِ إِلَيْهِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ.
وَالْمُرَادُ مِنَ النَّهْيِ هُنَا دَقِيقٌ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي مَوَارِدِ صِيَغِ النَّهْيِ. وَيَجْدُرُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّسْوِيَةِ كَمَا تَرِدُ صِيغَةُ الْأَمْرِ لِلتَّسْوِيَةِ، أَيْ لَا جَدْوَى فِي اسْتِعْجَالِهِ لِأَنَّهُ لَا يُعَجَّلُ قَبْلَ وَقْتِهِ الْمُؤَجَّلِ لَهُ.
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أُمِرُوا بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْعَهْدَ لِلْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقٍ يَشْمَلُ الْعَهْدَ الَّذِي عَاهَدُوا عَلَيْهِ النَّبِيءَ، وَهُوَ الْبَيْعَةُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالنَّصْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٩١] وَقَوْلِهِ: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٥٢].
وَهَذَا التَّشْرِيعُ مِنْ أُصُولِ حُرْمَةِ الْأُمَّةِ فِي نَظَرِ الْأُمَمِ وَالثِّقَةِ بِهَا لِلِانْزِوَاءِ تَحْتَ سُلْطَانِهَا. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَهِيَ مِنْ عِدَادِ مَا وَقَعَ بَعْدَ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا الْآيَات [الْإِسْرَاء: ٢٣].
وَهِيَ الْوَصِيَّةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ، أَيْ لِلْإِيجَابِ الَّذِي اقْتَضَاهُ، وَإِعَادَةُ لَفْظِ الْعَهْدَ فِي مَقَامِ إِضْمَارِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَلِتَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً فَتَسْرِي مَسْرَى الْمَثَلِ.
وَحذف مُتَعَلق مَسْؤُلًا لظُهُوره، أَي مسؤولا عَنْهُ، أَيْ يَسْأَلُكُمُ اللَّهُ عَنْهُ يَوْم الْقِيَامَة.
[٣٥]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٣٥]
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥)
هَذَانِ حُكْمَانِ هُمَا الثَّانِيَ عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الْوَصَايَا الَّتِي قَضَى اللَّهُ بِهَا. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَزِيَادَةُ الظَّرْفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ إِذا كِلْتُمْ دُونَ ذِكْرِ نَظِيرِهِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ لِمَا فِي (إِذَا) مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ فَتَقْتَضِي تَجَدُّدَ مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ فِي
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ٢٩]
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩)أَيْ أَشَارَتْ إِلَيْهِ إِشَارَةً دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا تُحِيلُهُمْ عَلَيْهِ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ قِصَّتِهِ، أَوْ أَشَارَتْ إِلَى أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ الْجَوَابَ عَنْ تَوْبِيخِهِمْ إِيَّاهَا وَقَدْ فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ إِشَارَتِهَا.
وَلَمَّا كَانَتْ إِشَارَتُهَا بِمَنْزِلَةِ مُرَاجَعَةِ كَلَامٍ حُكِيَ حِوَارُهُمُ الْوَاقِعُ عَقِبَ الْإِشَارَةِ بِجُمْلَةِ الْقَوْلِ مَفْصُولَةٍ غَيْرِ مَعْطُوفَةٍ.
وَالِاسْتِفْهَامُ: إِنْكَارٌ أَنْكَرُوا أَنْ يُكَلِّمُوا مَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَأَنْكَرُوا أَنْ تُحِيلَهُمْ عَلَى مُكَالَمَتِهِ، أَيْ كَيْفَ نَتَرَقَّبُ مِنْهُ الْجَوَابَ أَوْ كَيْفَ نُلْقِي عَلَيْهِ السُّؤَالَ، لِأَنَّ الْحَالَتَيْنِ تَقْتَضِيَانِ التَّكَلُّمَ.
وَزِيَادَةُ فِعْلِ الْكَوْنِ فِي مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَظْرُوفِيَّةِ فِي الْمَهْدِ مِنْ هَذَا الَّذِي أُحِيلُوا عَلَى مُكَالَمَتِهِ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ مِنْهُمْ فِي الْإِنْكَارِ، وَتَعَجُّبٌ مِنِ اسْتِخْفَافِهَا بِهِمْ. فَفِعْلُ (كَانَ) زَائِدٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِأَنَّ (كَانَ) الزَّائِدَةُ تَكُونُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي غَالِبًا.
وَقَوْلُهُ فِي الْمَهْدِ خَبَرٌ (مِنَ) الْمَوْصُولَةِ.
وصَبِيًّا حَالٌ مِنِ اسْم الْمَوْصُول.
و (المهد) فِرَاشُ الصَّبِيِّ وَمَا يمهد لوضعه.
ثُمَّ انْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْقَوْلِ إِلَى تَغْيِيرِهِ بِالْيَدِ مُعْلِنًا عَزْمَهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ مُؤَكِّدًا عَزْمَهُ بِالْقَسَمِ، فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ الْقَسَمِ عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالتَّاءُ تَخْتَصُّ بِقَسَمٍ عَلَى أَمْرٍ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ وَتَخْتَصُّ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ [يُوسُفَ: ٨٥].
وَسَمَّى تَكْسِيرَهُ الْأَصْنَامَ كَيْدًا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ أَوِ الْمُشَاكَلَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ لِاعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَدْفَعُ عَنْ أَنْفُسِهَا فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمَسَّهَا بِسُوءٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْكَيْدِ.
وَالْكَيْدُ: التَّحَيُّلُ عَلَى إِلْحَاقِ الضُّرِّ فِي صُورَةٍ غَيْرِ مَكْرُوهَةٍ عِنْدَ الْمُتَضَرِّرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ فِي [سُورَةِ يُوسُفَ: ٢٨].
وَإِنَّمَا قَيَّدَ كَيْدَهُ بِمَا بَعْدَ انْصِرَافِ الْمُخَاطَبِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ يَلْحَقُ الضُّرُّ بِالْأَصْنَامِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ عَزْمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ فِي تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ مَعَ كَوْنِهِ بِالْيَدِ مَقَامُ عَزْمٍ وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ حُضُورِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ فَلَوْ حَاوَلَ كَسْرَهَا بِحَضْرَتِهِمْ لَكَانَ عَمَلُهُ بَاطِلًا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ: إِزَالَتُهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَلِذَلِكَ فَإِزَالَتُهُ بِالْيَدِ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْمِكْنَةِ.
ومُدْبِرِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِعَامِلِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ فِي [سُورَة بَرَاءَة: ٢٥].
[٥٨- ٦١]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ٥٨ إِلَى ٦١]
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ
زِيَادَةُ اللَّفْظِ لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ حَسُنَتْ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ يَعْنِي أَمْ تَسْأَلُهُمْ عَلَى هِدَايَتِكَ لَهُمْ قَلِيلًا مِنْ عَطَاءِ الْخَلْقِ فَالْكَثِيرُ مِنْ عَطَاءِ الْخَالِقِ خَيْرٌ» اهـ.
وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي اللُّغَةِ عَدَمُ التَّرَادُفِ.
هَذَا وَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ خَرْجًا فَخَرْجُ رَبِّكَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخلف أم تسئلهم خَرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَتَوْجِيهُهَا عَلَى اعْتِبَارِ تَرَادُفِ الْكَلِمَتَيْنِ أَنَّهَا جَرَتْ عَلَى التَّفَنُّنِ فِي الْكَلَامِ تَجَنُّبًا لِإِعَادَةِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ الْمَقَامِ الْمُقْتَضِي إِعَادَةَ اللَّفْظَيْنِ مَعَ قُرْبِ اللَّفْظَيْنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ: ٤٧] فَإِنَّ لَفْظَ أَجْرٍ أُعِيدَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ.
وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرْقِ الَّذِي اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَتَوْجِيهُهَا بِاشْتِمَالِهَا عَلَى التَّفَنُّنِ وَعَلَى مُحَسِّنِ الْمُبَالَغَةِ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَخَلَفٍ فَتَوْجِيهُهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَادُفِ أَنَّهُمَا وَرَدَتَا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الِاسْتِعْمَال مَعَ محسن الْمُزَاوَجَةِ بِتَمَاثُلِ اللَّفْظَيْنِ. وَلَا تُوَجَّهَانِ عَلَى طَرِيقَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ.
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَلْزَمَهُمُ اللَّهُ الْحُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ (أَيْ قَوْلُهُ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٨] إِلَى هُنَا) وَقَطَعَ مَعَاذِيرَهُمْ وَعِلَلَهُمْ بِأَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ مَعْرُوفٌ أَمْرُهُ وَحَالُهُ، مَخْبُورٌ سِرُّهُ وَعَلَنُهُ، خَلِيقٌ بِأَنْ يُجْتَبَى مِثْلُهُ لِلرِّسَالَةِ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانِيهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ
يُعْرَضْ (١) لَهُ حَتَّى يَدَّعِي بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى الْعَظِيمَةِ بِبَاطِلٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ سُلَّمًا إِلَى النَّيْلِ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَاسْتِعْطَاءِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَّا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ مَعَ إِبْرَازِ الْمَكْنُونِ
_________
(١) فعل مُلْتَزم بِنَاؤُه للنائب. وَمَعْنَاهُ لم يكن مَجْنُونا.
بِالْكُفْرِ خَاضِعِينَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَهْدِيدًا لِزُعَمَائِهِمُ الَّذِينَ زَيَّنُوا لَهُمُ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ ضَعِيفٌ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَالْأَخْفَشِ:
الْأَعْنَاقُ الْجَمَاعَاتُ وَاحِدُهَا عُنُقٌ بِضَمَّتَيْنِ جَمَاعَةُ النَّاسِ، أَيْ فَظَلُّوا خَاضِعِينَ جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ، وَهَذَا أَضْعَفُ مِنْ سَابِقِهِ.
وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ وَرَكِيكِهَا مَا نَسَبَهُ الثَّعْلَبِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا وَفِي بَنِي أُمَيَّةَ فَتَذِلُّ لَنَا أَعْنَاقُهُمْ بَعْدَ صُعُوبَةٍ وَيَلْحَقُهُمْ هَوَانٌ بَعْدَ عِزَّةٍ، وَهَذَا مِنْ تَحْرِيفِ كَلِمِ الْقُرْآنِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنُحَاشِي ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقُولَهُ وَهُوَ الَّذِي دَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُعَلِّمَهُ التَّأْوِيلَ. وَهَذَا مِنْ مَوْضُوعَاتِ دُعَاةِ الْمُسَوِّدَةِ مِثْلِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَكَمْ لَهُمْ فِي الْمَوْضُوعَاتِ مِنِ اخْتِلَاقٍ، وَالْقُرْآنُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِهَذِهِ السَّفَاسِفِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُنَزِّلْ بِالتَّشْدِيدِ فِي الزَّايِ وَفَتْحِ النُّونِ الثَّانِيَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِضَم النُّون الثَّانِيَة وَتَخْفِيف الزَّاي.
[٥]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٥]
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣] أَيْ هَذِهِ شِنْشَنَتُهُمْ فَلَا تَأْسَفْ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِآيَاتِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَمَا يَجِيئُهُمْ مِنْهَا مِنْ بَعْدُ فَسَيُعْرِضُونَ عَنْهُ لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِالْإِعْرَاضِ.
وَالْمُضَارِعُ هُنَا لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ. فَالذِّكْرُ هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ تَذْكِيرٌ لِلنَّاسِ بِالْأَدِلَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ تَسْمِيَتِهِ ذِكْرًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٦].
وَالْمُحْدَثُ: الْجَدِيدُ، أَيْ مَنْ ذِكْرٍ بَعْدَ ذِكْرٍ يُذَكِّرُهُمْ بِمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِهِ فَالْمَعْنَى الْمُسْتَفَادُ مِنْ وَصْفِهِ بِالْمُحَدَثِ غَيْرُ الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ إِسْنَادِ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ. فَأَفَادَ الْأَمْرَانِ أَنَّهُ ذِكْرٌ مُتَجَدِّدٌ مُسْتَمِرٌّ وَأَنْ بَعْضَهُ يُعْقِبُ بَعْضًا وَيُؤَيِّدُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٢، ٣] قَوْلُهُ:
تَدْبِيرٍ، وَأَنَّ النَّاظِرَ الْبَصِيرَ فِي آثَارِ ذَلِكَ التَّدْبِيرِ يَقْتَبِسُ مِنْهَا دَلَالَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فِي دَعْوَتِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يُونُس: ١٦]. وَإِنَّ أَوْضَحَ تِلْكَ الْمظَاهر هُوَ مظهر اسْتِقَامَةُ السِّيرَةِ وَمَحَبَّةُ الْحَقِّ، وَأَنَّ دَلِيلَ عِنَايَةِ اللَّهِ بِمَنِ اصْطَفَاهُ لِذَلِكَ هُوَ نَصْرُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ وَنَجَاتُهُ مِمَّا لَهُ مَنِ الْمَكَائِدِ. وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَثَلٌ لِلْمُشْرِكِينَ لَوْ نَظَرُوا فِي حَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَاتِهِ وَفِي حَالِهِمْ مَعَهُ. ثُمَّ إِنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ الْآيَةَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَّ اللَّهَ مُنْجِيهِ من ظالميه.
[٢٢]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٢٢]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢)
هَذِهِ هِجْرَةٌ نَبَوِيَّةٌ تُشْبِهُ هِجْرَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [العنكبوت: ٢٦]. وَقَدْ أَلْهَمَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَقْصِدَ بِلَادَ مَدْيَنَ إِذْ يَجِدُ فِيهَا نَبِيئًا يبصره بآداب النبوءة وَلَمْ يَكُنْ مُوسَى يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَتَوَجَّهُ وَلَا مَنْ سَيَجِدُ فِي وُجْهَتِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ عَطْفٌ عَلَى جُمَلٍ مَحْذُوفَةٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ هَائِمًا عَلَى وَجْهِهِ فَاتَّفَقَ أَنْ كَانَ مَسِيرُهُ فِي طَرِيقٍ يُؤَدِّي إِلَى أَرْضِ مَدْيَنَ حِينَئِذٍ قَالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَرَجَ مُوسَى وَلَا عِلْمَ لَهُ بِالطَّرِيقِ إِلَّا حُسْنُ ظَنٍّ بِرَبِّهِ.
وتَوَجَّهَ: وَلَّى وَجْهَهُ، أَيِ اسْتَقْبَلَ بِسَيْرِهِ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ.
وتِلْقاءَ: أَصْلُهُ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ التِّفْعَالِ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي كَسْرِ التَّاءِ
إِلَّا تِمْثَالٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى اللِّقَاءِ وَالْمُقَارَبَةِ. وَشَاعَ إِطْلَاقُ هَذَا الْمَصْدَرِ عَلَى جِهَتِهِ فَصَارَ مِنْ ظُرُوفِ الْمَكَانِ الَّتِي تُنْصَبُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَمَّا تَوَجَّهَ جِهَةَ تَلَاقِي مَدْيَنَ، أَيْ جِهَةَ تَلَاقِي بِلَادِ مَدْيَنَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ
النَّاسَ مِنَ الْعُمُومِ وَإِدْمَاجًا لِفَضِيلَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يَكْفُرُونَ نِعْمَةَ الرَّحِيمِ. فَالتَّعْرِيفُ فِي النَّاسَ لِلِاسْتِغْرَاقِ.
وَالضُّرُّ، بِضَمِّ الضَّادِ: سُوءُ الْحَالِ فِي الْبَدَنِ أَوِ الْعَيْشِ أَوِ الْمَالِ، وَهَذَا نَحْوَ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْقَحْطِ حَتَّى كَانُوا يُرَوْنَ فِي الْجَوِّ مِثْلَ الدُّخَّانِ مِنْ شِدَّةِ الْجَفَافِ، وَحَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ، وَقَدْ أَصَابَ ذَلِكَ مُشْرِكِيهِمْ وَمُؤْمِنِيهِمْ وَكَانَتْ شِدَّتُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي رَفَاهِيَةٍ، فَالشِّدَّةُ أَقْوَى عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ بِكَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ فَدَعَا فَأُمْطِرُوا فَعَادُوا إِلَى تَرَفِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ
يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ
[الدُّخان: ١٠] الْآيَاتِ، فَدُعَاؤُهُمْ رَبَّهُمْ يَشْمَلُ طَلَبَهُمْ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومُنِيبِينَ حَالٌ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَيِ اسْتَوُوا فِي الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ أَيْ رَاجِعِينَ إِلَيْهِ بَعْدُ، وَاشْتَغَلَ الْمُشْرِكُونَ عَنْهُ بِدُعَاءِ الْأَصْنَامِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: ١٥]. وَتَقَدَّمَ مُنِيبِينَ آنِفًا.
وَالْمَسُّ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِصَابَةِ. وَحَقِيقَةٌ الْمَسُ: أَنَّهُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى شَيْءٍ لِيَعْرِفَ وُجُودَهُ أَوْ يَخْتَبِرَ حَالَهَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الْعُقُود [٧٣].
واختبر هُنَا لِمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ خِفَّةِ الْإِصَابَةِ، أَيْ يَدْعُونَ اللَّهَ إِذَا أَصَابَهُمْ خَفِيفُ ضُرٍّ بَلْهَ الضُّرِّ الشَّدِيدِ.
وَالْإِذَاقَةُ: مُسْتَعَارَةٌ لِلْإِصَابَةِ أَيْضًا. وَحَقِيقَتُهَا: إِصَابَةُ الْمَطْعُومِ بِطَرَفِ اللِّسَانِ وَهِيَ أَضْعَفُ إِصَابَاتِ الْأَعْضَاءِ لِلْأَجْسَامِ فَهِيَ أَقَلُّ مِنَ الْمَضْغِ وَالْبَلْعِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٩٥]، وإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ فِي سُورَة يُونُس [٢١]. واختبر فِعْلُ الْإِذَاقَةِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ إِسْرَاعِهِمْ إِلَى الْإِشْرَاكِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ إِصَابَةِ الرَّحْمَةِ لَهُمْ.
وَالرَّحْمَةُ: تَخْلِيصُهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ.
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٥٦]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦)أُعْقِبَتْ أَحْكَامُ مُعَاملَة أَزوَاج النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَتَشْرِيفِ مَقَامِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ جَارِيَةٌ عَلَى مُنَاسَبَةِ عَظمَة مقَام النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى أَنَّ لِأَزْوَاجِهِ مِنْ ذَلِكَ التَّشْرِيفِ حَظًّا عَظِيمًا. وَلِذَلِكَ كَانَتْ صِيغَةُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ الَّتِي عَلَّمَهَا لِلْمُسْلِمِينَ مُشْتَمِلَةً عَلَى ذِكْرِ أَزْوَاجِهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَلِيُجْعَلَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ بتكرير ذكر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، وَذُكِرَ صَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ مَعَ صَلَاةِ اللَّهِ ليَكُون مِثَالا من صَلَاة أَشْرَفِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الرَّسُولِ لِتَقْرِيبِ دَرَجَةِ صَلَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يُؤْمَرُونَ بِهَا عَقِبَ ذَلِكَ، وَالتَّأْكِيدُ لِلِاهْتِمَامِ. وَمَجِيءُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِتَقْوِيَةِ الْخَبَرِ، وَافْتِتَاحُهَا بِاسْمِ الْجَلَالَةِ لِإِدْخَالِ الْمَهَابَةِ وَالتَّعْظِيمِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ فِي هَذِه السُّورَة [٤٣]. وَهَذِه صَلَاة خَاصَّة هِيَ أرفع صَلَاة مِمَّا شَمله قَوْله هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِأَنَّ عَظمَة مقَام النبيء يَقْتَضِي عَظَمَةَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ هِيَ الْمَقْصُودَةُ وَمَا قَبْلَهَا تَوْطِئَةٌ لَهَا وَتَمْهِيدٌ لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ مَا يُؤْذِي الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْقَبَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ أَقْصَى حَظِّهِمْ مِنْ مُعَامَلَةِ رَسُولِهِمْ أَنْ يَتْرُكُوا أَذَاهُ بَلْ حَظُّهُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيُسَلِّمُوا، وَذَلِكَ هُوَ إكرامهم الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِكْرَامِهِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ بِحَضْرَتِهِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، فَجُمْلَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ الْوَاقِعَةِ بعد التَّمْهِيد. وَجِيء فِي صَلَاةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ بِالْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ لِيَكُونَ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ عَقِبَ ذَلِكَ مُشِيرًا إِلَى تَكْرِيرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ أُسْوَةً بِصَلَاةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ.
وَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ: إِيجَادُ الصَّلَاةِ، وَهِيَ الدُّعَاء، فَالْأَمْر يؤول إِلَى إِيجَادِ أَقْوَالٍ فِيهَا دُعَاءٌ وَهُوَ مُجْمَلٌ فِي الْكَيْفِيَّةِ.
وَالصَّلَاةُ: ذِكْرٌ بِخَيْرٍ، وَأَقْوَالٌ تَجْلِبُ الْخَيْرَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الدُّعَاءُ هُوَ أَشْهَرَ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَجِبْتَ عَلَى مَعْنَى الْمُجَازَاةِ عَلَى عَجَبِهِمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً [الصافات: ١١] دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ إِعَادَةِ الْخَلْقِ فَتَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ عَلَى عَجَبِهِمْ. وَأَطْلَقَ عَلَى ذَلِكَ الْعِقَابِ فِعْلَ عَجِبْتَ كَمَا أَطْلَقَ عَلَى عِقَابِ مَكْرِهِمُ الْمَكْرَ فِي قَوْلِهِ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمرَان: ٥٤].
وَالْوَاوُ فِي وَيَسْخَرُونَ وَاوُ الْحَالِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ عَجِبْتَ أَيْ كَانَ أَمْرُهُمْ عَجَبًا فِي حَالِ اسْتِسْخَارِهِمْ بِكَ فِي اسْتِفْتَائِهِمْ. وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي يَسْخَرُونَ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ السُّخْرِيَةِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَرْعَوُونَ عَنْهَا.
وَالسُّخْرِيَةُ: الِاسْتِهْزَاءُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠].
وَالتَّذْكِيرُ بِأَنْ يَذْكُرُوا مَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَمِنْ تَنْظِيرِ حَالِهِمْ بِحَالِ الْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَتَّعِظُوا بِذَلِكَ عِنَادًا فَأَطْلَقَ لَا يَذْكُرُونَ عَلَى أَثَرِ
الْفِعْلِ، أَيْ لَا يَحْصُلُ فِيهِمْ أَثَرُ تَذَكُّرِ مَا يُذَكَّرُونَ بِهِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ ذَكَرُوا ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ لَا يَذْكُرُونَ مَا ذُكِّرُوا بِهِ، أَيْ لِشِدَّةِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِيمَا ذُكِّرُوا بِهِ لِاسْتِقْرَارِ مَا ذُكِّرُوا بِهِ فِي عُقُولِهِمْ فَلَا يَذْكُرُونَ مَا هُمْ غَافِلُونَ عَنْهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ [الْفرْقَان: ٤٤].
ووَ إِذا رَأَوْا آيَةً أَيْ خَارِقَ عَادَةٍ أظهره الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَالًّا عَلَى صِدْقِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُغَيِّرُ نِظَامَ خلقته فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَّا إِذَا أَرَادَ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ لِأَنَّ خَرْقَ الْعَادَةِ مِنْ خَالِقِ الْعَادَاتِ وَنَاظِمِ سُنَنِ الْأَكْوَانِ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِهِ: صَدَقَ هَذَا الرَّسُولُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِّي.
وَقَدْ رَأَوُا انْشِقَاقَ الْقَمَرِ، فَقَالُوا: هَذَا سِحْرٌ، قَالَ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر: ١، ٢].
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ١١]
قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١)جَوَابٌ عَنِ النِّدَاءِ الَّذِي نُودُوا بِهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَحَكَى مَقَالَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ بِحَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، طَمَعُوا أَنْ يَكُونَ اعْتِرَافُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَسِيلَةً إِلَى مَنْحِهِمْ خُرُوجًا مِنَ الْعَذَابِ خُرُوجًا مَا لِيَسْتَرِيحُوا مِنْهُ وَلَوْ بَعْضَ الزَّمَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّدَاءَ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَوْهَمَهُمْ أَنَّ فِيهِ إِقْبَالًا عَلَيْهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاعْتِرَافِ هُوَ اعْتِرَافُهُمْ بِالْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهَا وَأَمَّا الْمَوْتَتَانِ وَالْحَيَاةُ الْأُولَى فَإِنَّمَا ذُكِرْنَ إِدْمَاجًا لِلِاسْتِدْلَالِ فِي صُلْبِ الِاعْتِرَافِ تَزَلُّفًا مِنْهُمْ، أَيْ أَيْقَنَّا أَنَّ الْحَيَاةَ الثَّانِيَةَ حَقٌّ وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ إِقْرَارَهُمْ صِدْقٌ لَا مُوَارَبَةَ فِيهِ وَلَا تَصَنُّعَ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ عَنْ دَلِيلٍ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ مُسَبَّبًا عَلَى هَذَا الْكَلَامِ بِعَطْفِهِ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ:
فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا.
وَالْمُرَادُ بِإِحْدَى الْمَوْتَتَيْنِ: الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْجَنِينُ لَحْمًا لَا حَيَاةَ فِيهِ فِي أَوَّلِ
تَكْوِينِهِ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ، وَإِطْلَاقُ الْمَوْتِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مَجَازٌ وَهُوَ مُخْتَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالسَّكَّاكِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَوْتِ انْعِدَامُ الْحَيَاةِ مِنَ الْحَيِّ بَعْدَ أَنِ اتَّصَفَ بِالْحَيَاةِ، فإطلاقه على حَالَة انْعِدَامِ الْحَيَاةِ قَبْلَ حُصُولِهَا فِيهِ اسْتِعَارَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا شَائِعَةٌ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ فَلَا إِشْكَالَ فِي اسْتِعْمَالِ أَمَتَّنَا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، فَفِي ذَلِكَ الْفِعْلِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ تَبَعًا لِجَرَيَانِ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْمَصْدَرِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ وَوَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ كَاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، وَالَّذِينَ لَا يَرَوْنَ تَقْيِيدَ مَدْلُولِ الْمَوْتِ بِأَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بَعْدَ الْحَيَاةِ يَكُونُ إِطْلَاقُ الْمَوْتِ عَلَى حَالَةِ مَا قَبْلَ الِاتِّصَافِ بِالْحَيَاةِ عِنْدَهُمْ وَاضِحًا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨]، عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ الْمَوْتِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَسْوَغُ لِأَنَّ فِيهِ تَغْلِيبًا لِلْمَوْتَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا الْمَوْتَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ الْمَوْتَةُ الْمُتَعَارَفَةُ عِنْدَ انْتِهَاءِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ.
وَالْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءَتَيْنِ: الْإِحْيَاءَةُ الْأُولَى عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ بَعْدَ مَبْدَأِ تَكْوِينِهِ،
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٢٩]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩)لَمَّا كَانَ إِنْزَالُ الْغَيْثِ جَامِعًا بَيْنَ كَوْنِهِ نِعْمَةً وَكَوْنِهِ آيَةً دَالَّةً عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ الْمُقْتَضِيَةِ انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، انْتَقَلَ مِنْ ذِكْرِهِ إِلَى ذِكْرِ آيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ آيَةُ خَلْقِ الْعَوَالِمِ الْعَظِيمَةِ وَمَا فِيهَا مِمَّا هُوَ مُشَاهَدٌ لِلنَّاسِ دُونَ قَصْدِ الِامْتِنَانِ. وَهَذَا الِانْتِقَالُ اسْتِطْرَادٌ وَاعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ الَّتِي سِيَاقُ الْآيَاتِ فِيهَا.
وَالْآيَاتُ: جَمْعُ آيَةٍ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ وَالدَّلِيلُ عَلَى شَيْءٍ. وَالسِّيَاقُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ آيَات الإلهية. وَالسَّمَوَات: الْعَوَالِمُ الْعُلْيَا غَيْرُ الْمُشَاهَدَةِ لَنَا وَالْكَوَاكِبُ وَمَا تَجَاوَزَ الْأَرْضَ مِنَ الْجَوِّ. وَالْأَرْضُ: الْكُرَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ. وَالْبَثُّ: وَضْعُ الْأَشْيَاءِ فِي أَمْكِنَةٍ كَثِيرَةٍ.
وَالدَّابَّةُ: مَا يَدُبُّ عَلَى الْأَرْضِ، أَيْ يَمْشِي فَيَشْمَلُ الطَّيْرَ لِأَنَّ الطَّيْرَ يَمْشِي إِذَا نَزَلَ وَهُوَ مِمَّا أُرِيدَ فِي قَوْلِهِ هُنَا: فِيهِما أَيْ فِي الْأَرْضِ وَفِي السَّمَاءِ، أَيْ بَعْضِ مَا يُسَمَّى بِالسَّمَاءِ وَهُوَ الْجَوُّ وَهُوَ مَا يَلُوحُ لِلنَّاظِرِ مِثْلَ قُبَّةٍ زَرْقَاءَ عَلَى الْأَرْضِ فِي النَّهَارِ، قَالَ تَعَالَى:
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ [النَّحْل: ٧٩] فَإِطْلَاقُ الدَّابَّةِ عَلَى الطَّيْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الطَّيْرَ يَدُبُّ عَلَى الْأَرْضِ كَثِيرًا لِالْتِقَاطِ الْحَبِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَوْجُودَاتُ الَّتِي فِي السَّمَوَات العلى مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَرْوَاحِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ دَابَّةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي بَعْضِ السَّمَاوَاتِ مَوْجُودَاتٌ تَدُبُّ فِيهَا فَإِنَّ الْكَوَاكِبَ مِنَ السَّمَاوَاتِ. وَالْعُلَمَاءُ يَتَرَدَّدُونَ فِي إِثْبَاتِ سُكَّانٍ فِي الْكَوَاكِبِ، وَجَوَّزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ فِي كَوْكَبِ الْمَرِّيخِ سُكَّانًا، وَقَالَ تَعَالَى: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النَّحْل: ٨]، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: فِيهِما ظَرْفِيَّةَ الْمَجْمُوعِ لَا الْجَمِيعِ، أَيْ مَا بَثَّ فِي مَجْمُوعِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مِنْ دَابَّةٍ، فَالدَّابَّةُ إِنَّمَا هِيَ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَمَّا ذُكِرَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ مُقْتَرِنَتَيْنِ وَجَاءَ ذِكْرُ الدَّوَابِّ جُعِلَتِ الدَّوَابُّ مَظْرُوفَةً فِيهِمَا لِأَنَّ الْأَرْضَ مَحُوطَةٌ بِالسَّمَاوَاتِ وَمُتَخَيَّلَةٌ مِنْهَا كَالْمَظْرُوفِ فِي ظَرْفِهِ، وَالْمَظْرُوفُ فِي ظَرْفٍ مَظْرُوفٌ فِي ظَرْفِ مَظْرُوفِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ [الرَّحْمَن: ١٩] ثُمَّ قَالَ:
وَالْخَمْرُ: عَصِيرُ الْعِنَبِ الَّذِي يُتْرَكُ حَتَّى يُصِيبَهُ التَّخَمُّرُ وَهُوَ الْحُمُوضَةُ مِثْلُ خَمِيرِ الْعَجِينِ. ولَذَّةٍ وَصْفٌ وَلَيْسَ بِاسْمٍ، وَهُوَ تَأْنِيثُ اللَّذِّ، أَيِ اللَّذِيذِ قَالَ بَشَّارٌ:
ذَكَرْتُ شَبَابِي اللَّذَّ غَيْرَ قَرِيبِ | وَمَجْلِسَ لَهْوٍ طَابَ بَيْنَ شُرُوبِ |
وَالْأَشْرِبَةِ وَالْمَلَامِسِ الْبَدَنِيَّةِ، فَوَصْفُ خَمْرٍ هُنَا بِأَنَّهَا لَذَّةٍ مَعْنَاهُ يَجِدُ شَارِبُهَا لَذَاذَةً فِي طَعْمِهَا، أَيْ بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا حَرِيقَةُ الطَّعْمِ فَلَوْلَا تَرَقُّبُ مَا تَفْعَلُهُ فِي الشَّارِبِ مِنْ نَشْوَةٍ وَطَرَبٍ لَمَا شَرِبَهَا لِحُمُوضَةِ طَعْمِهَا.
وَالْعَسَلُ الْمُصَفَّى: الَّذِي خُلِّصَ مِمَّا يُخَالِطُ الْعَسَلَ مِنْ بَقَايَا الشَّمْعِ وَبَقَايَا أَعْضَاءِ النَّحْلِ الَّتِي قَدْ تَمُوتُ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْعَسَلِ وَتَرْبِيَتِهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ.
وَمَعْنَى مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أَصْنَافٌ مِنْ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الثَّمَرَاتِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الثَّمَراتِ لِلْجِنْسِ، وكُلِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا وَهُوَ الْإِحَاطَةُ، أَيْ جَمِيعُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مِمَّا عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا وَمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرَّحْمَن: ٥٢].
ومَغْفِرَةٌ عَطْفٌ عَلَى أَنْهارٌ وَمَا بَعْدَهُ، أَيْ وَفِيهَا مَغْفِرَةٌ لَهُمْ، أَيْ تَجَاوُزٌ عَنْهُمْ، أَيْ إِطْلَاقٌ فِي أَعْمَالِهِمْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ كَمَغْفِرَتِهِ لِأَهْلِ بَدْرٍ إِذْ بُيِّنَتْ بِأَنْ يعملوا مَا شاؤوا
فِي الْحَدِيثِ «لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»
وَقَدْ تَكُونُ الْمَغْفِرَةُ كِنَايَةً عَنِ الرُّضْوَانِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: ٧٢].
وَتَقْدِيرُ الْمُضَافِ فِي مَثَلِهِ ظَاهِرٌ لِلْقَرِينَةِ. وَقَوْلُهُ: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً جِيءَ بِهِ لِمُقَابَلَةِ مَا وُصِفَ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، أَيْ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ مَحْرُومُونَ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ.
وَلَيْسُوا بِذَائِقِينَ إِلَّا الْمَاءَ
الْقَافِ، وَهَذَا مَا دَرَجَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ يُطْلَقُ الْقَابُ عَلَى مَا بَيْنَ مَقْبِضِ الْقَوْسِ (أَيْ وَسَطِ عُودِهِ الْمُقَوَّسِ) وَمَا بَيْنَ سِيتَيْهَا (أَيْ طَرَفَيْهَا الْمُنْعَطِفِ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْوَتَرُ) فَلِلْقَوْسِ قَابَانِ وَسِيَتَانِ، وَلَعَلَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ هُوَ الْأَصْلُ لِلْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَ الْفَرَّاءُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: الْقَابُ صَدْرُ الْقَوْسِ الْعَرَبِيَّةِ حَيْثُ يُشَدُّ عَلَيْهِ السَّيْرُ الَّذِي يَتَنَكَّبُهُ صَاحِبُهُ وَلِكُلِّ قَوْسٍ قَابٌ وَاحِدٌ.
وَعَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ فَقَوْلُهُ: قابَ قَوْسَيْنِ أَصْلُهُ قَابَيْ قَوْسٍ أَوْ قَابَيْ قَوْسَيْنِ (بِتَثْنِيَةِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَوْ كِلَيْهِمَا) فَوَقَعَ إِفْرَادُ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا تَجَنُّبًا لِثِقَلِ الْمُثَنَّى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: ٤] أَيْ قَلْبَاكُمَا.
وَقِيلَ يُطْلَقُ الْقَوْسُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ عَلَى ذِرَاعٍ يُذْرَعُ بِهِ (وَلَعَلَّهُ إِذَنْ مَصْدَرُ قَاسَ فَسُمِّيَ بِهِ مَا يُقَاسُ بِهِ).
وَالْقَوْسُ: آلَةٌ مِنْ عُودِ نَبْعٍ، مُقَوَّسَةٌ يُشَدُّ بِهَا وَتَرٌ مِنْ جِلْدٍ وَيُرْمَى عَنْهَا السِّهَامُ وَالنِّشَابُ وَهِيَ فِي مِقْدَارِ الذِّرَاعِ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ قَوْسَيْنِ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّالِّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ
بِقَوْلِهِ: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا الْبُعْدِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ حِكَايَةٌ لِصُورَةِ الْوَحْيِ الَّذِي كَانَ فِي أَوَائِلِ عهد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنبوءة فَكَانَتْ قُوَاهُ الْبَشَرِيَّةُ يَوْمَئِذٍ غَيْرَ مُعْتَادَةٍ لِتَحَمُّلِ اتِّصَالِ الْقُوَّةِ الْمَلَكِيَّةِ بِهَا مُبَاشَرَةً رِفْقًا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَتَجَشَّمَ شَيْئًا يَشُقُّ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ بِهِ فِي غَارِ حِرَاءٍ وَلَا اتِّصَالَ وَهُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ بِالْغَطِّ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ»
ثُمَّ كَانَتْ تَعْتَرِيهِ الْحَالَةُ الْمَوْصُوفَةُ فِي حَدِيثِ نُزُولِ أَوَّلِ الْوَحْيِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ وَسُورَةِ الْمُزَّمِّلِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: ٥]، ثُمَّ اعْتَادَ اتِّصَالَ جِبْرِيلَ بِهِ مُبَاشَرَةً فَقَدْ
جَاءَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ وَالسَّاعَةِ أَنَّهُ «جَلَسَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ»
إِذْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ وَقَدِ اعْتَادَ الْوَحْيَ وَفَارَقَتْهُ شِدَّتُهُ،
عَدَمِ قِسْمَتِهِ سَوَادَ الْعرَاق بَين الْجَيْش الْفَاتِحِينَ لَهُ عَمَلٌ آخَرُ، وَهُوَ لَيْسَ من غَرَضَنَا. وَمَحَلُّهُ كُتُبُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ.
وَالْفَرِيقُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ [الْحَشْر: ٩] كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا، وَجَعَلَ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ [الْحَشْر: ٩] خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ، جَعَلُوا قَوْله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ كَذَلِكَ مُسْتَأْنَفًا.
وَمِنَ الَّذِينَ جَعَلُوا قَوْله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا [الْحَشْر: ٩] مَعْطُوفًا عَلَى لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ [الْحَشْر: ٨] مَنْ جَعَلَ قَوْله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ مُسْتَأْنَفًا. وَنَسَبَهُ ابْنُ الْفَرَسِ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» إِلَى الشَّافِعِيِّ. وَرَأَى أَنَّ الْفَيْءَ إِذَا كَانَ أَرْضًا فَهُوَ إِلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ وَلَيْسَ يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ.
وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا عَلَى التَّفْسِيرِ الْمُخْتَارِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ.
وَالْغِلُّ بِكَسْرِ الْغَيْنِ: الْحَسَدُ وَالْبُغْضُ، أَيْ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُطَهِّرَ نُفُوسَهُمْ مِنَ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ لِلْمُؤْمِنِينَ السَّابِقَيْنِ عَلَى مَا أُعْطُوهُ مِنْ فَضِيلَة صُحْبَة النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فُضِّلَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنَ الْهِجْرَةِ وَبَعْضُهُمْ مِنَ النُّصْرَةِ، فَبَيَّنَ الله للَّذين جاؤا مِنْ بَعْدِهِمْ مَا يُكْسِبُهُمْ فَضِيلَةً لَيْسَتْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَهِيَ فَضِيلَةُ الدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَانْطِوَاءِ ضَمَائِرِهِمْ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ وَانْتِفَاءِ الْبُغْضِ لَهُمْ.
وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُضْمِرُونَ مَا يَدْعُونَ اللَّهَ بِهِ لَهُمْ فِي نُفُوسهم ويرضوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ حَقًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَذْكُرُوا سَلَفَهُمْ بِخَيْرٍ، وَأَنَّ حَقًّا عَلَيْهِمْ مَحَبَّةُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَتَعْظِيمُهُمْ، قَالَ مَالِكٌ: مَنْ كَانَ يُبْغِضُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَانَ قَلْبُهُ عَلَيْهِ غِلٌّ فَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَرَأَ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الْآيَةَ.
فَلَعَلَّهُ أَخَذَ بِمَفْهُومِ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا الْآيَةَ، فَإِنَّ الْمَقْصِدَ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ أَنْ يُضْمِرُوا مَضْمُونَهُ فِي نُفُوسِهِمْ فَإِذَا أَضْمَرُوا خِلَافَهُ وَأَعْلَنُوا بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ فَقَدْ تَخَلَّفَ فِيهِمْ هَذَا الْوَصْفُ، فَإِنَّ الْفَيْءَ عَطِيَّةٌ
(٤٣)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ يُكْشَفُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ [الْقَلَم: ٤١]، أَيْ فَلْيَأْتُوا بِالْمَزْعُومِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا مِنْ حُسْنِ التَّخَلُّصِ إِلَى ذِكْرِ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ
إِلَى السُّجُودِ إِلَخْ لِلتَّذْكِيرِ بِأَهْوَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي تَعَلُّقِ يَوْمَ فَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَالْكَشْفُ عَنْ سَاقٍ: مَثَلٌ لِشِدَّةِ الْحَالِ وَصُعُوبَةِ الْخَطْبِ وَالْهَوْلِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا هَلَعَ أَنْ يُسْرِعَ فِي الْمَشْيِ وَيُشَمِّرَ ثِيَابَهُ فَيَكْشِفَ عَنْ سَاقِهِ كَمَا يُقَالُ: شَمِّرْ عَنْ سَاعِدِ الْجِدِّ، وَأَيْضًا كَانُوا فِي الرَّوْعِ وَالْهَزِيمَةِ تُشَمِّرُ الْحَرَائِرُ عَنْ سُوقِهِنَّ فِي الْهَرَبِ أَوْ فِي الْعَمَلِ فَتَنْكَشِفُ سُوقُهُنَّ بِحَيْثُ يَشْغَلُهُنَّ هَوْلُ الْأَمْرِ عَنِ الْاحْتِرَازِ مِنْ إِبْدَاءِ مَا لَا تُبْدِينَهُ عَادَةً، فَيُقَالُ: كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا أَوْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا، أَوْ أَبْدَتْ عَنْ سَاقِهَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتُ:
كَيْفَ نَوْمِي عَلَى الْفِرَاشِ وَلَمَّا | تَشْمَلِ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ |
تُذْهِلُ الشَّيْخَ عَنْ بَنِيهِ وَتُبْدِي | عَنْ خِدَامِ الْعَقِيلَةِ الْعَذْرَاءِ |
فَتَى الْحَرْبِ عضّت بِهِ لِحَرْب الْحَرْبُ عَضَّهَا | وَإِنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا |
كَشَفَتْ لَهُمْ عَنْ سَاقِهَا | وَبَدَا مِنَ الشَّرِّ الْبَوَاحُ |
وَقَوْلُهُ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ جُمْلَةِ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ السَّامِعُ عَنْ وَجْهِ إِكْثَارِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذِكْرَهَا وَأَنَّهَا قَرِيبَةٌ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَظُّهُ التَّحْذِيرُ مِنْ بِغْتَتِهَا، وَلَيْسَ حَظُّهُ الْإِعْلَامَ بِتَعْيِينِ وَقْتِهَا، عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدِ اتَّخَذُوا إِعْرَاضَ الْقُرْآنِ عَنْ تَعْيِينِ وَقْتِهَا حُجَّةً لَهُمْ عَلَى إحالتها لأَنهم لجهلهم بِالْحَقَائِقِ يَحْسَبُونَ أَنَّ مِنْ شَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْلَمَ الْغَيْبَ وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ تَبْرِئَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الْأَنْعَام: ٥٠].
وَأَفَادَتْ إِنَّما قَصْرَ الْمُخَاطَبِ عَلَى صِفَةِ الْإِنْذَارِ، أَيْ تَخْصِيصَهُ بِحَالِ الْإِنْذَارِ وَهُوَ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ فَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اعْتَقَدُوهُ فِيهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ إِلْحَافُهُمْ فِي السُّؤَالِ مِنْ كَوْنِهِ مُطَّلِعًا عَلَى الْغَيْبِ.
وَقَوْلُهُ: مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِإِضَافَةِ مُنْذِرُ إِلَى مَنْ يَخْشاها وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَنْوِينِ مُنْذِرُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَخْشاها مَفْعُولُهُ.
وَفِي إِضَافَةِ مُنْذِرُ إِلَى مَنْ يَخْشاها أَوْ نَصْبِهِ بِهِ إِيجَازُ حَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: مُنْذِرُهَا فَيَنْتَذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ حَالِيَّةٌ لِلْعِلْمِ الْمُتَوَاتِرِ مِنَ الْقُرْآنِ بِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْذِرُ جَمِيعَ النَّاسِ لَا يَخُصُّ قَوْمًا دُونَ آخَرِينَ فَإِنَّ آيَاتِ الدَّعْوَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَقَامَاتِ دَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ إِلَّا عَامَّةً. وَلَا يُعْرَفُ مَنْ يَخْشَى السَّاعَةَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُؤْمِنَ الْمُؤْمِنُ وَلَوْ عُرِفَ أَحَدٌ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَبَدًا لَمَا وُجِّهَتْ إِلَيْهِ الدَّعْوَةُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْإِنْذَارِ إِلَّا مَنْ يَخْشَى السَّاعَةَ وَمَنْ عَدَاهُ تَمُرُّ الدَّعْوَةُ بِسَمْعِهِ فَلَا يَأْبَهُ بِهَا، فَكَانَ ذِكْرُ مَنْ يَخْشاها تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِعْلَانًا لِمَزِيَّتِهِمْ وَتَحْقِيرًا لِلَّذِينَ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ قَالَ تَعَالَى:
وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر: ٢٢، ٢٣].
وَعَلَى هَذَا القانون يفهم لماذَا وُجِّهَ الْخِطَابُ بِالْإِيمَانِ إِلَى نَاسٍ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَكَشَفَ الْوَاقِعُ عَلَى أَنَّهُمْ هَلَكُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا مِثْلَ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بن الْمُغيرَة، وَلماذَا وُجِّهَ الْخِطَابُ بِطَلَبِ التَّقْوَى مِمَّنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتَّقِي مِثْلَ دُعَّارِ الْعَرَبِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَتْرُكُوا الْعُدْوَانَ وَالْفَوَاحِشَ، وَمِثْلَ أَهْلِ الرِّدَّةِ الَّذِينَ لَمْ يَكْفُرُوا مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ