يَا إِبْراهِيمُ بِالتَّوْبِيخِ بِقَوْلِهِ: أَراغِبٌ أَنْتَ، أَوْ بِالْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ.
وَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كِتَابًا مُخَاطَبًا بِهِ كُلُّ الْأُمَمِ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ، لِذَلِكَ جَعَلَهُ بِلُغَةٍ هِيَ أَفْصَحُ كَلَامٍ بَيْنَ لُغَاتِ الْبَشَرِ وَهِيَ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ، لِأَسْبَابٍ يَلُوحُ لِي
مِنْهَا، أَنَّ تِلْكَ اللُّغَةَ أَوْفَرُ اللُّغَاتِ مَادَّةً، وَأَقَلُّهَا حُرُوفًا، وَأَفْصَحُهَا لَهْجَةً، وَأَكْثَرُهَا تَصَرُّفًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَغْرَاضِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَوْفَرُهَا أَلْفَاظًا، وَجَعَلَهُ جَامِعًا لِأَكْثَرِ مَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَمَّلَهُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ فِي نَظْمِ تَرَاكِيبِهَا مِنَ الْمَعَانِي، فِي أَقَلِّ مَا يَسْمَحُ بِهِ نَظْمُ تِلْكَ اللُّغَةِ، فَكَانَ قِوَامُ أَسَالِيبِهِ جَارِيًا عَلَى أُسْلُوبِ الْإِيجَازِ فَلِذَلِكَ كَثُرَ فِيهِ مَا لَمْ يَكْثُرْ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ.
وَمِنْ أَدَقِّ ذَلِكَ وَأَجْدَرِهِ بِأَنْ نُنَبِّهَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ دُفْعَةً. وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَمَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ مَعًا. بَلْهَ إِرَادَةَ الْمَعَانِي الْمُكَنَّى عَنْهَا مَعَ الْمَعَانِي الْمُصَرَّحِ بِهَا، وَإِرَادَةَ الْمَعَانِي الْمُسْتَتْبَعَاتِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) مِنَ التَّرَاكِيبِ الْمُسْتَتْبِعَةِ (بِكَسْرِ الْبَاءِ).
وَهَذَا الْأَخِيرُ قَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِينَ اشْتَغَلُوا بِعِلْمِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ. وَبَقِيَ الْمَبْحَثَانِ الْأَوَّلَانِ وَهُمَا اسْتِعْمَالُ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ، وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، مَحَلَّ تَرَدُّدٍ بَيْنَ الْمُتَصَدِّينَ لِاسْتِخْرَاجِ مَعَانِي الْقُرْآنِ تَفْسِيرًا وَتَشْرِيعًا، سَبَبُهُ أَنَّهُ غَيْرُ وَارِدٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ أَوْ وَاقِعٌ بِنُدْرَةٍ، فَلَقَدْ تَجِدُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَدْفَعُ مَحْمَلًا مِنْ مَحَامِلِ بَعْضِ آيَاتٍ بِأَنَّهُ مَحْمَلٌ يُفْضِي إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ خَطْبًا عَظِيمًا.
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ وَعُلَمَاءُ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَعْنَى مِنْ مَدْلُوله اخْتِلَافا ينبىء عَنْ تَرَدُّدِهِمْ فِي صِحَّةِ حَمْلِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ. وَقَدْ أَشَارَ كَلَامُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّ مَثَارَ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ عَدَمُ الْعَهْدِ بِمِثْلِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، إِذْ قَالَ الْغَزَالِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ (١) يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالْمُشْتَرَكِ عِدَّةُ مَعَانٍ لَكِنْ بِإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَلَيْسَ بِدَلَالَةِ اللُّغَةِ. وَظَنِّي بِهِمَا أَنَّهُمَا يُرِيدَانِ تَصْيِيرَ تِلْكَ الْإِرَادَةِ
_________
(١) مُحَمَّد بن عَليّ الْبَصْرِيّ الشَّافِعِي المعتزلي الْمُتَوفَّى سنة ٤٣٩ هـ لَهُ كتاب «الْمُعْتَمد فِي أصُول الْفِقْه».
سَلَامَةٌ، وَهِيَ تَمْثِيلِيَّةٌ بَدِيعَةٌ لِأَنَّهَا الْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ أَشْيَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مُشَبَّهًا بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا وَهِيَ: تَشْبِيهُ الْمُشْرِكِ فِي عِبَادَتِهِ الْأَصْنَامَ وَاتِّبَاعِ دِينِهَا بِالْمُرْتَقِي بِجَامِعِ السَّعْيِ، وَتَشْبِيهُ الْعِبَادَةِ وَقَبُولِ الْآلِهَةِ مِنْهُ بِالْحَبْلِ الْمُوَصِّلِ، وَتَشْبِيهُ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ بِالثَّمَرَةِ فِي أَعْلَى النَّخْلَةِ لِأَنَّهَا لَا يَصِلُ لَهَا الْمَرْءُ إِلَّا بَعْدَ طُولٍ وَهُوَ مُدَّةُ الْعُمُرِ، وَتَشْبِيهُ الْعُمُرِ بِالنَّخْلَةِ فِي الطُّولِ، وَتَشْبِيهُ الحرمان من الْمَوْصُول للنعيم بتقطع الْحَبْلِ، وَتَشْبِيهُ الْخَيْبَةِ بِالْبُعْدِ عَنِ الثَّمَرَةِ، وَتَشْبِيهُ الْوُقُوعِ فِي الْعَذَابِ بِالسُّقُوطِ الْمُهْلِكِ. وَقَلَّمَا تَأْتِي فِي التَّمْثِيلِيَّةِ صُلُوحِيَّةِ أَجْزَاءِ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ فِيهَا لِأَنْ تَكُونَ تَشْبِيهَاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَالْوَارِدُ فِي ذَلِكَ يَكُونُ فِي أَشْيَاءَ قَلِيلَةٍ كَقَوْلِ بِشَارٍ الَّذِي يُعَدُّ مِثَالًا فِي الْحُسْنِ:
كَأَنَّ مُثَارَ النّقع فَوق رؤسنا | وَأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُهُ |
فَالْبَاءُ فِي (بِهِمْ) لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ تَقَطَّعَتِ الْأَسْبَابُ مُلْتَبِسَةٌ بِهِمْ أَيْ فَسَقَطُوا، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ مَحَلُّ التَّشْبِيهِ لِأَنَّ الْحَبْلَ لَوْ تَقَطَّعَ غَيْرَ مُلَابِسٍ لِلْمُرْتَقِي عَلَيْهِ لَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ ضُرٌّ إِذْ يُمْسِكُ بِالنَّخْلَةِ وَيَتَطَلَّبُ سَبَبًا آخَرَ يَنْزِلُ فِيهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ وَتَقَطَّعَتْ أَسْبَابُهُمْ أَوْ نَحْوَهُ، فَمَنْ قَالَ إِنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى عَنْ أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوِ التَّعْدِيَةِ فَقَدْ بَعُدَ عَنِ الْبَلَاغَةِ، وَبِهَذِهِ الْبَاءِ تَقُومُ مَعْنَى التَّمْثِيلِيَّةِ بِالصَّاعِدِ إِلَى النَّخْلَةِ بِحَبْلٍ وَهَذَا الْمَعْنَى فَائِتٌ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
تَقَطَّعَ أَسْبَابُ اللُّبَانَةِ وَالْهَوَى | عَشِيَّةَ جَاوَزْنَا حَمَاةَ وَشَيْزَرَا |
وَ (لَوْ) فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّمَنِّي وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ لِحَرْفِ (لَوْ) وَأَصْلُهَا الشَّرْطِيَّةُ حُذِفَ شَرْطُهَا وَجَوَابُهَا وَاسْتُعِيرَتْ لِلتَّمَنِّي بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْعَسِيرَ الْمَنَالِ يَكْثُرُ تَمَنِّيهِ، وَسَدَّ الْمَصْدَرُ مَسَدَّ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَوْ ثَبَتَتْ لَنَا كَرَّةٌ
لَتَبَرَّأْنَا مِنْهُمْ وَانْتَصَبَ مَا كَانَ جَوَابًا عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ التَّمَنِّي وَشَاعَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ حَتَّى صَارَ مِنْ مَعَانِي لَوْ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ وَأَصْلُهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ مُرَكَّبٌ وَهُوَ فِي الْآيَةِ مُرَشَّحٌ بِنَصْبِ الْجَوَابِ.
التَّحْذِيرَ مِنْ مُضَايَقَةِ الْمُحْتَاجِينَ إِلَى الْمُوَاسَاةِ مُضَايَقَةَ الرِّبَا مَعَ مَا فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، ثَلَّثَ بِبَيَانِ التَّوَثُّقَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنَ الْإِشْهَادِ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَهُوَ الرَّهْنُ وَالِائْتِمَانُ. وَإِنَّ تَحْدِيدَ التَّوَثُّقِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ بَثِّ الثِّقَةِ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ، وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ تَكْثِيرُ عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ وَدَوْرَانِ دُولَابِ التَّمَوُّلِ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَالْمُنَاسَبَةُ فِي الِانْتِقَالِ ظَاهِرَةٌ عَقِبَ الْكَلَامِ عَلَى غُرَمَاءَ أَهْلِ الرِّبَا.
وَالتَّدَايُنُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ رَوَاجِ الْمُعَامَلَاتِ لِأَنَّ الْمُقْتَدِرَ عَلَى تَنْمِيَةِ الْمَالِ قَدْ يَعُوزُهُ الْمَالُ فَيَضْطَرُّ إِلَى التَّدَايُنِ لِيُظْهِرَ مَوَاهِبَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوِ الصِّنَاعَةِ أَوِ الزِّرَاعَةِ، وَلِأَنَّ الْمُتَرَفِّهَ قَدْ يَنْضُبُ الْمَالُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَهُ قِبَلٌ بِهِ بَعْدَ حِينٍ، فَإِذَا لَمْ يَتَدَايَنِ اخْتَلَّ نِظَامُ مَالِهِ، فَشَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ بَقَاءَ التَّدَايُنِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَهُمْ كَيْلَا يَظُنُّوا أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا وَالرُّجُوعَ بالمتعاملين إِلَى رُؤُوس أَمْوَالِهِمْ إِبْطَالٌ لِلتَّدَايُنِ كُلِّهِ. وَأَفَادَ ذَلِكَ التَّشْرِيعَ بِوَضْعِهِ فِي تَشْرِيعٍ آخَرَ مُكَمِّلٍ لَهُ وَهُوَ التَّوَثُّقُ لَهُ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ.
وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ لِمَجْمُوعِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ خُصُوصُ الْمُتَدَايِنِينَ، وَالْأَخَصُّ بِالْخِطَابِ هُوَ الْمَدِينُ لِأَنَّ مِنْ حَقٍّ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ دَائِنَهُ مُطْمَئِنَّ الْبَالِ عَلَى مَالِهِ.
فَعَلَى الْمُسْتَقْرِضِ أَنْ يَطْلُبَ الْكِتَابَةَ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهَا الدَّائِنُ، وَيُؤْخَذْ هَذَا مِمَّا حَكَاهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ عَنْ مُوسَى وَشُعَيْبٍ، إِذِ اسْتَأْجَرَ شُعَيْبٌ مُوسَى. فَلَمَّا تَرَاوَضَا عَلَى الْإِجَارَةِ وَتَعْيِينِ أَجَلِهَا قَالَ مُوسَى: «وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ»، فَذَلِكَ إِشْهَادٌ عَلَى نَفْسِهِ لِمُؤَاجِرِهِ دُونَ أَنْ يَسْأَلَهُ شُعَيْبٌ ذَلِكَ.
وَالتَّدَايُنُ تَفَاعَلٌ، وَأُطْلِقَ هُنَا- مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ صَادِرٌ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ جِهَةُ الْمُسَلِّفِ- لأنّك تَقول ادّان مِنْهُ فَدَانَهُ، فَالْمُفَاعَلَةُ مَنْظُورٌ فِيهَا إِلَى الْمُخَاطَبِينَ هم مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ لِأَنَّ فِي الْمَجْمُوعِ دَائِنًا وَمَدِينًا، فَصَارَ الْمَجْمُوعُ مُشْتَمِلًا عَلَى جَانِبَيْنِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْمُفَاعَلَةَ عَلَى غَيْرِ بَابِهَا كَمَا تَقُولُ تَدَايَنْتُ مِنْ زِيدٍ.
وَزِيَادَةُ قَيْدِ بِدَيْنٍ إِمَّا لِمُجَرَّدِ الْإِطْنَابِ، كَمَا يَقُولُونَ رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَلَمْسَتُهُ بِيَدِي، وَإِمَّا لِيَكُونَ مَعَادًا لِلضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ فَاكْتُبُوهُ، وَلَوْلَا ذِكْرُهُ لَقَالَ فَاكْتُبُوا الدَّيْنَ فَلَمْ يَكُنِ النَّظْمُ بِذَلِكَ الْحَسَنَ، وَلِأَنَّهُ أَبْيَنُ لِتَنْوِيعِ الدَّيْنِ إِلَى مُؤَجَّلٍ وَحَالٍّ، قَالَهُ فِي «الْكَشَّافِ».
وَالْبَيَانُ: الْإِيضَاحُ وَكَشْفُ الْحَقَائِقِ الْوَاقِعَةِ. وَالْهُدَى: الْإِرْشَادُ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُ النَّاسِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. وَالْمَوْعِظَةُ: التَّحْذِيرُ وَالتَّخْوِيفُ. فَإِنْ جَعَلْتَ الْإِشَارَةَ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: ١٣٧] الْآيَةَ فَإِنَّهَا بَيَانٌ لِمَا غَفَلُوا عَنْهُ مِنْ عَدَمِ التَّلَازُمِ بَيْنَ النَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، وَلَا بَيْنَ الْهَزِيمَةِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَهِيَ هُدًى لَهُمْ لِيَنْتَزِعُوا الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ أَسْبَابِهَا، فَإِنَّ سَبَبَ النَّجَاحِ حَقًّا هُوَ الصَّلَاحُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَهِيَ مَوْعِظَةٌ لَهُمْ لِيَحْذَرُوا الْفَسَادَ وَلَا يغترّوا كَمَا اغترّت عَادٌ إِذْ قَالُوا: «مَنْ أَشَدُّ منّا قوّة».
[١٣٩]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٣٩]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
قَوْلُهُ: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا نَهْيٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ أَسْبَابِ الْفَشَلِ. وَالْوَهَنُ:
الضَّعْفُ، وَأَصْلُهُ ضَعْفُ الذَّاتِ: كَالْجِسْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَم: ٤]، وَالْحَبْلُ فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ:
فَأَصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا خَلَقًا وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي خَوَرِ الْعَزِيمَةِ وَضِعْفِ الْإِرَادَةِ وَانْقِلَابِ الرَّجَاءِ يَأْسًا، وَالشَّجَاعَةِ
جُبْنًا، وَالْيَقِينِ شَكًّا، وَلِذَلِكَ نُهُوا عَنْهُ. وَأَمَّا الْحُزْنُ فَهُوَ شِدَّةُ الْأَسَفِ الْبَالِغَةُ حَدَّ الْكَآبَةِ وَالِانْكِسَارِ. وَالْوَهَنُ وَالْحَزَنُ حَالَتَانِ لِلنَّفْسِ تَنْشَآنِ عَنِ اعْتِقَادِ الْخَيْبَةِ وَالرُّزْءِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا الِاسْتِسْلَامُ وَتَرْكُ الْمُقَاوَمَةِ. فَالنَّهْيُ عَنِ الْوَهَنِ وَالْحُزْنِ فِي الْحَقِيقَةِ نَهْيٌ عَنْ سَبَبِهِمَا وَهُوَ الِاعْتِقَادُ، كَمَا يُنْهَى عَنِ النِّسْيَانِ، وَكَمَا يُنْهَى أَحَدٌ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ فِي نَحْوِ لَا أَرَيَنَّ فُلَانًا فِي مَوْضِعِ كَذَا أَيْ لَا تَتْرُكْهُ يَحُلُّ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ عَلَى هَذَا النَّهْيِ قَوْلَهُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: ١٣٧] إِلَخْ... وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَهَذِهِ بِشَارَةٌ لَهُمْ بِالنَّصْرِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَالْعُلُوُّ هُنَا علوّ مَجَازِيٌّ وَهُوَ عُلُوُّ الْمَنْزِلَةِ.
يُسْنِدُ النَّاسُ إِلَيْهِم تَدْبِير شؤونهم وَيَعْتَمِدُونَ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَيَصِيرُ الْأَمْرُ كَأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِمْ، فَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُمْ: ذَوُوُ الْأَمْرِ وَأُولُو الْأَمْرِ، وَيُقَالُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ: لَيْسَ لَهُ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ. وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلِمْنَا أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ طَائِفَةٌ مُعَيَّنَةٌ، وَهُمْ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ وَأُمَنَاؤُهَا، فَعَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ تَثْبُتُ لَهُمْ بِطُرُقٍ شَرْعِيَّةٍ إِذْ أُمُورُ الْإِسْلَامِ لَا تَخْرُجُ عَنِ الدَّائِرَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَطَرِيقُ ثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهُمْ إِمَّا الْوَلَايَةُ الْمُسْنَدَةُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَنَحْوِهِ، أَوْ مِنْ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُلْطَانٌ، وَإِمَّا صِفَاتُ الْكَمَالِ الَّتِي تَجْعَلُهُمْ مَحَلَّ اقْتِدَاءِ الْأُمَّةِ بِهِمْ وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَالْعِلْمُ وَالْعَدَالَةُ. فَأَهْلُ الْعِلْمِ الْعُدُولُ: مِنْ أُولِي الْأَمْرِ بِذَاتِهِمْ لِأَنَّ صِفَةَ الْعِلْمِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى وِلَايَةٍ، بَلْ هِيَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِأَرْبَابِهَا الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بَيْنَ الْأُمَّةِ بِهَا، لِمَا جُرِّبَ مِنْ عِلْمِهِمْ وَإِتْقَانِهِمْ فِي الْفَتْوَى وَالتَّعْلِيمِ.
قَالَ مَالِكٌ: «أُولُو الْأَمْرِ: أَهْلُ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ» يَعْنِي أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَالِاجْتِهَادِ، فَأُولُو الْأَمْرِ هُنَا هُمْ مَنْ عَدَا الرَّسُولِ مِنَ الْخَلِيفَةِ إِلَى وَالِي الْحِسْبَةِ، وَمِنْ قُوَّادِ الْجُيُوشِ وَمِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَالْمُجْتَهِدِينَ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَأُولُو الْأَمْرِ هُمُ الَّذِينَ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.
وَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ قِوَامُ نِظَامِ الْأُمَّةِ وَهُوَ تَنَاصُحُ الْأُمَرَاءِ وَالرَّعِيَّةِ وَانْبِثَاثُ الثِّقَةِ بَيْنَهُمْ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْحَوَادِثُ لَا تَخْلُو مِنْ حُدُوثِ الْخِلَافِ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ، أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَى طَرِيقَةِ فَصْلِ الْخِلَافِ بِالرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ. وَمَعْنَى الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي نَظِيرِهِ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَة: ١٠٤].
وَمَعْنَى الرَّدِّ إِلَى الرَّسُولِ إِنْهَاءُ الْأُمُورِ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَحَضْرَتِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نَظِيرِهِ إِلَى الرَّسُولِ [النِّسَاء: ٨٣] فَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ أَوْ فِي غَيْبَتِهِ، فَالرَّدُّ إِلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَالِاحْتِذَاءُ بِسُنَّتِهِ.
روى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ متّكئا على أريكته يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ».
وَفِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْعِرْبَاضِ ابْن سَارِيَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يَخْطُبُ يَقُولُ: «أَيَحْسَبُ أحدكُم وَهُوَ متّكىء عَلَى أَرِيكَتِهِ وَقَدْ
يَعْرِضُ لَهُم فِي شؤونهم، كَتَبُوا عَلَى أَحَدِهَا الْعَقْلُ فِي الدِّيَةِ، إِذَا اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ مَنْ يَحْمِلُ الدِّيَةَ مِنْهُمْ وَأَزْلَامٌ لِإِثْبَاتِ النِّسَبِ، مَكْتُوبٌ عَلَى وَاحِدٍ «مِنْكُمْ»، وَعَلَى وَاحِدٍ «مِنْ غَيْرِكُمْ»، وَفِي آخَرَ «مُلْصَقٌ».
وَكَانَتْ لَهُمْ أَزْلَامٌ لِإِعْطَاءِ الْحَقِّ فِي الْمِيَاهِ إِذَا تَنَازَعُوا فِيهَا. وَبِهَذِهِ اسْتَقْسَمَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حِينَ اسْتَشَارَ الْآلِهَةَ فِي فِدَاءِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ مِنَ النَّذْرِ الَّذِي نَذَرَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ بِعَشَرَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَخَرَجَ الزَّلَمُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالُوا لَهُ: ارْضِ الْآلِهَةَ فَزَادَ عَشَرَةً حَتَّى بَلَغَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ فَخَرَجَ الزَّلَمُ عَلَى الْإِبِلِ فَنَحَرَهَا. وَكَانَ الرَّجُلُ قَدْ يَتَّخِذُ أَزْلَامًا لِنَفْسِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ «أَنَّ سُرَاقَةَ ابْن مَالِكٍ لَمَّا لحق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَأْتِيَ بِخَبَرِهِ إِلَى أَهْلِ مَكَّة استقسم بالأزلام فَخَرَجَ لَهُ مَا يَكْرَهُ».
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكُمْ فِسْقٌ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا. وَجِيءَ بِالْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَقَعَ الْحُكْمُ عَلَى مُتَمَيِّزٍ مُعَيَّنٍ.
وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنِ الدِّينِ، وَعَنِ الْخَيْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
وَجَعَلَ اللَّهُ الِاسْتِقْسَامَ فِسْقًا لِأَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ مُقَامَرَةٌ، وَفِيهِ مَا هُوَ مِنْ شَرَائِعِ الشِّرْكِ، لِتَطَلُّبِ الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهَا، إِذْ لَيْسَ الِاسْتِقْسَامُ سَبَبًا عَادِيًّا مَضْبُوطًا، وَلَا سَبَبًا
شَرْعِيًّا، فَتَمَحَّضَ لِأَنْ يَكُونَ افْتِرَاءً، مَعَ أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ تَوَهُّمِ النَّاسِ إِيَّاهُ كَاشِفًا عَنْ مُرَادِ اللَّهِ بِهِمْ، مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ نَصَبَ لِمَعْرِفَةِ الْمُسَبَّبَاتِ أَسْبَابًا عَقْلِيَّةً: هِيَ الْعُلُومُ وَالْمَعَارِفُ الْمُنْتَزَعَةُ مِنَ الْعَقْلِ، أَوْ مِنْ أَدِلَّتِهِ، كَالتَّجْرِبَةِ، وَجَعَلَ أَسْبَابًا لَا تُعْرَفُ سَبَبِيَّتُهَا إِلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنْهُ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ: كَجَعْلِ الزَّوَالِ سَبَبًا لِلصَّلَاةِ. وَمَا عَدَا ذَلِكَ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ فِسْقًا، وَلِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاؤُنَا بِجُرْحَةِ مَنْ يَنْتَحِلُ ادِّعَاءَ مَعْرِفَةِ الْغُيُوبِ.
(١١٠)
جُمْلَةُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا- إِلَى قَوْلِهِ- وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ [الْمَائِدَة: ٨٥]. وَمَا بَيْنَهُمَا جُمَلٌ مُعْتَرِضَةٌ نَشَأَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَعَادَ الْكَلَامُ الْآنَ إِلَى أَحْوَالِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَبَدَّلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ تَبْدِيلًا بَلَغَ بِهِمْ إِلَى الْكُفْرِ وَمُضَاهَاةِ الْمُشْرِكِينَ، لِلتَّذْكِيرِ بِهَوْلٍ عَظِيمٍ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَكُونُ فِيهِ شَهَادَةُ الرُّسُلِ عَلَى الْأُمَمِ وَبَرَاءَتُهُمْ مِمَّا أَحْدَثَهُ أُمَمُهُمْ بُعْدَهُمْ فِي الدِّينِ مِمَّا لَمْ
يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى شَهَادَةِ عِيسَى عَلَى النَّصَارَى بِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَأْلِيهِهِ وَعِبَادَتِهِ. وَهَذَا مُتَّصِلٌ فِي الْغَرَضِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [الْمَائِدَة: ٨٢]. فَإِنَّ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، وَإِبْعَادًا وَتَقْرِيبًا، وَقَعَ الِانْتِقَالُ مِنْهَا إِلَى أَحْكَامٍ تَشْرِيعِيَّةٍ نَاسَبَتْ مَا ابْتَدَعَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [الْمَائِدَة: ٨٧] وَتَفَنُّنُ الِانْتِقَالِ إِلَى هَذَا الْمَبْلَغِ، فَهَذَا عَوْدٌ إِلَى بَيَانِ تَمَامِ نُهُوضِ الْحُجَّةِ عَلَى النَّصَارَى فِي مَشْهَدِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلَقَدْ جَاءَ هَذَا مُنَاسِبًا لِلتَّذْكِيرِ الْعَامِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [الْمَائِدَة: ١٠٨]. وَلِمُنَاسَبَةِ هَذَا الْمَقَامِ الْتَزَمَ وَصْفَ عِيسَى بِابْنِ مَرْيَمَ كُلَّمَا تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ تَعْرِيضًا بِإِبْطَالِ دَعْوَى أَنَّهُ ابْنٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى الِاسْتِشْهَادِ عَلَى وَصَايَا الْمَخْلُوقِينَ نَاسَبَ الِانْتِقَالَ إِلَى شَهَادَةِ الرُّسُلِ عَلَى وَصَايَا الْخَالِقِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْأَدْيَانَ وَصَايَا اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ. قَالَ تَعَالَى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى [الشورى: ١٣]. وَقَدْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى شُهَدَاءً فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: ٤١].
فَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَجْمَعُ ظَرْفٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِعَامِلٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ بِنَحْوِ: اذْكُرْ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ، أَوْ يُقَدَّرُ لَهُ عَامِلٌ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ لِلظَّرْفِ، لِأَنَّ الظَّرْفَ إِذَا تَقَدَّمَ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فِي إِعْطَائِهِ جَوَابًا. وَقَدْ حُذِفَ هَذَا الْعَامِلُ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ مِنَ التَّهْوِيلِ، تَقْدِيرُهُ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ يَكُونُ هَوْلٌ عَظِيمٌ لَا يَبْلُغُهُ طُولُ التَّعْبِيرِ فَيَنْبَغِي طَيُّهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ
عَلَيْهِ، أَيْ: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ جَعْلُهُمْ، وَسَمَّاهُ حُكْمًا تَهَكُّمًا، لِأَنَّهُمْ نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِتَعْيِينِ الْحُقُوقِ، فَفَصَلُوا بِحُكْمِهِمْ حَقَّ اللَّهِ مِنْ حَقِّ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ أَبَاحُوا أَنْ تَأْخُذَ الْأَصْنَامُ حَقَّ اللَّهِ وَلَا يَأْخُذَ اللَّهُ حَقَّ الْأَصْنَامِ، فَكَانَ حُكْمًا بَاطِلًا كَقَوْلِهِ: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [الْمَائِدَة: ٥٠].
[١٣٧]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٣٧]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧)
عطف على جملَة: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الْأَنْعَام: ١٣٦] وَالتَّقْدِيرُ: جَعَلُوا وَزَيَّنَ لَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ فَقَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ، فَهَذِهِ حِكَايَةُ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ تَشْرِيعَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى تَصَرُّفِهِمْ فِي ذُرِّيَّاتِهِمْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي نَتَائِجِ أَمْوَالِهِمْ. وَلَقَدْ أَعْظَمَ اللَّهُ هَذَا التَّزْيِينَ الْعَجِيبَ فِي الْفَسَادِ الَّذِي حَسَّنَ أَقْبَحَ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ قَتْلُهُمْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ أَبْنَاؤُهُمْ، فَشُبِّهَ بِنَفْسِ التَّزْيِينِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يُمَثِّلَهُ بِشَيْءٍ فِي الْفَظَاعَةِ وَالشَّنَاعَةِ لَمْ يَسَعْهُ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ شَيْءٌ مَبْلَغَ أَنْ يَكُونَ أَظْهَرَ مِنْهُ فِي بَابِهِ، فَيَلْجَأْ إِلَى تَشْبِيهِهِ بِنَفْسِهِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ «وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا». وَالتَّقْدِيرُ: وَزَيَّنَ شُرَكَاءُ الْمُشْرِكِينَ لِكَثِيرٍ فِيهِمْ تَزْيِينًا مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ الَّذِي زَيَّنُوهُ لَهُمْ، وَهُوَ هُوَ نَفْسُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣].
وَمَعْنَى التَّزْيِينِ التَّحْسِينُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ
وَمَعْنَى: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ كَهَذا التّفصيل المتبدئ مِنْ قَوْلِهِ: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً [الْأَعْرَاف: ٢٦] الْآيَاتِ أَوْ مِنْ قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الْأَعْرَاف: ٣]. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَانْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ رَسُوله محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ بَيَّنَ فَسَادَ دِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَلَّمَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ عِلْمًا كَامِلًا لَا يَخْتَلِطُ مَعَهُ الصَّالِحُ وَالْفَاسِدُ مِنَ الْأَعْمَالِ، إِذْ قَالَ: خُذُوا زِينَتَكُمْ، وَقَالَ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [الْأَعْرَاف: ٣١]، ثُمَّ قَالَ: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ
[الْأَعْرَاف: ٣١]، وَإِذْ عَاقَبَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شِرْكِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ بِعِقَابٍ فِي الدُّنْيَا، فَخَذَلَهُمْ حَتَّى وَضَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ شَرْعًا حَرَمَهُمْ مِنْ طَيِّبَاتٍ كَثِيرَةٍ وَشَوَّهَ بِهِمْ بَيْنَ الْمَلَأِ فِي الْحَجِّ بِالْعَرَاءِ فَكَانُوا مَثَلَ سَوْءٍ ثُمَّ عَاقَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِذْ وَفَّقَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا اسْتَعَدُّوا لِقَبُولِ دَعْوَةِ رَسُولِهِ فَاتَّبَعُوهُ، فَمَتَّعَهُمْ بِجَمِيعِ الطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا غَيْرَ مَحْرُومِينَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا أَشْيَاءَ فِيهَا ضُرٌّ عَلِمَهُ اللَّهُ فَحَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ، وَسَلَّمَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لَامُ الْعِلَّةِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ نُفَصِّلُ، أَيْ تَفْصِيلُ الْآيَاتِ لَا يَفْهَمُهُ إِلَّا قَوْمٌ يَعْلَمُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَصَّلَ الْآيَاتِ يَعْلَمُ أَنَّ تَفْصِيلَهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْآيَاتِ، أَيْ حَالِ كَوْنِهَا دَلَائِلَ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، فَإِنَّ غَيْرَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَا تَكُونُ آيَاتٍ لَهُمْ إِذْ لَا
يَفْقَهُونَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٩]، أَيْ كَذَلِكَ التَّفْصِيلُ الَّذِي فَصَّلْتُهُ لَكُمْ هُنَا نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَيَتَجَدَّدُ تَفْصِيلُنَا إِيَّاهَا حِرْصًا عَلَى نَفْعِ قَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
وَوَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالثَلَاثِينَ أَنَّ الْأَلْوَاحَ لَمْ تُكْتَبْ فِيهَا إِلَّا الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ، الَّتِي بِالْفِقْرَاتِ السَبْعَ عَشْرَةَ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ هُنَا مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا يَقْتَضِي الِاعْتِمَادَ عَلَى مَا فِي الْأَصَاحِيحِ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ.
وَالْمَوْعِظَةُ اسْمُ مَصْدَرِ الْوَعْظِ وَهُوَ نُصْحٌ بِإِرْشَادٍ مَشُوبٍ بِتَحْذِيرٍ مِنْ لَحَاقِ ضُرٍّ فِي الْعَاقِبَةِ أَوْ بِتَحْرِيضٍ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ، مَغْفُولٍ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٧٥]، وَقَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣]، وَسَيَجِيءُ قَوْلُهُ: وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ [١٢٥].
وَالتَّفْصِيلُ التَّبْيِينُ لِلْمُجْمَلَاتِ وَلَعَلَّ الْمَوْعِظَةَ هِيَ الْكَلِمَاتُ الْعَشْرُ وَالتَّفْصِيلُ مَا ذُكِرَ بَعْدَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فِي الْإِصْحَاحَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَانْتَصَبَ مَوْعِظَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ (مِنْ) إِذَا كَانَتِ اسْمًا- إِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّفْصِيلِ قَدْ عَقِبَ كِتَابَةَ الْأَلْوَاحِ بِمَا كَلَّمَهُ اللَّهُ بِهِ فِي الْمُنَاجَاةِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ سِفْرُ الْخُرُوجِ مِنَ الْإِصْحَاحِ الْحَادِيِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَلَاثِينَ وَلِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ إِثْرَ ذَلِكَ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا حَالَيْنِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي قَوْلِهِ: وَكَتَبْنا لَهُ أَيْ واعظين ومفصلين، فموعظة حَالٌ مُقَارِنَةٌ وَتَفْصِيلًا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَأَمَّا جَعْلُهُمَا بَدَلَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ بِالنِّسْبَةِ لِقَوْلِهِ: وَتَفْصِيلًا.
وَقَوْلُهُ: فَخُذْها يَتَعَيَّنُ أَنَّ الْفَاءَ دَالَّةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعْنَى مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى، وَلَمَّا لَمْ يَقَعْ فِيمَا وَلَيْتُهُ مَا يصلح لِأَن يتقرع عَنْهُ الْأَمْرُ بِأَخْذِهَا بِقُوَّةٍ. تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:
فَخُذْها بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ [الْأَعْرَاف: ١٤٤] بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِقُوَّةٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْأَخْذُ الْمُطْلَقُ، وَقَدِ اقْتَضَاهُ الْعَوْدُ، إِلَى مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى إِثْرَ صَعْقَتِهِ إِتْمَامًا لِذَلِكَ الْخِطَابِ فَأُعِيدَ مَضْمُونُ مَا سَبَقَ لِيَتَّصِلَ بِبَقِيَّتِهِ، فَيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ بِقُوَّةٍ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ اعْتِرَاضٍ، وَلَوْلَا إِعَادَةُ فَخُذْها لَكَانَ مَا بَيْنَ قَوْلِهِ: مِنَ الشَّاكِرِينَ [الْأَعْرَاف: ١٤٤] وَقَوْلِهِ: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا اعْتِرَاضًا عَلَى بَابِهِ وَلَمَّا اقْتَضَى الْمَقَامُ هَذَا الْفَصْلَ، وَإِعَادَةَ الْأَمْرِ بِالْأَخْذِ، اقْتَضَى حُسْنُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ
لِيُؤَذِّنَ بِهَا فِي الْمَوْسِمِ. وَهَذَا مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ثَلَاثِينَ آيَةً مِنْهَا، مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التَّوْبَة: ٣٠] أُذِّنَ بِهَا يَوْمَ الْمَوْسِمِ، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ آيَةً: مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التَّوْبَة: ٤٠] أُذِّنَ بِهِ فِي الْمَوْسِمِ، كَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا فِي مُخْتَلِفِ الرِّوَايَاتِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهَا يُغَلِّبُ الظَّنَّ بِأَنَّ أَرْبَعِينَ آيَةً نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً، عَلَى أَنَّ نُزُولَ جَمِيعِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَيْسَ بِبَعِيدٍ عَنِ الصِّحَّةِ.
وَعَدَدُ آيِهَا، فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ: مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً، وَفِي عَدِّ
أَهْلِ الْكُوفَةِ مِائَةٌ وَتِسْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً.
اتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فِي رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ، عَقَدَ الْعَزْمَ عَلَى أَنْ يَحُجَّ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ عَامِهِ وَلَكِنَّهُ كَرِهَ (عَنِ اجْتِهَادٍ أَوْ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ مُخَالَطَةَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَجِّ مَعَهُ، وَسَمَاعَ تَلْبِيَتِهِمُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْإِشْرَاكَ، أَيْ قَوْلِهِمْ فِي التَّلْبِيَةِ «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ».- وَطَوَافُهُمْ عُرَاةً، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ لَمْ يَزَلْ عَامِلًا لَمْ يُنْقَضْ- وَالْمَعْنَى أَنَّ مَقَامَ الرِّسَالَةِ يَرْبَأُ عَنْ أَنْ يَسْمَعَ مُنْكَرًا مِنَ الْكُفْرِ وَلَا يُغَيِّرُهُ بِيَدِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى الْإِيمَانِ- فَأَمْسَكَ عَنِ الْحَجِّ تِلْكَ السَّنَةِ، وَأَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ عَلَى أَنْ يَحُجَّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ عَامِهِ ذَلِكَ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَأَكْثَرُ الْأَقْوَالِ عَلَى أَنَّ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ خُرُوجِ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِرًا عَنْ وَحْيٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التَّوْبَة: ١٧، ١٨]- وَقَوْلِهِ- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا [التَّوْبَة: ٢٨] الْآيَةَ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ عَلَى أَنْ يَضَعُوا الْحَرْبَ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ ثُمَّ عَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ بِسَبَبِ دَمٍ كَانَ لِبَنِي بَكْرٍ عِنْدَ خُزَاعَةَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِمُدَّةٍ. وَاقْتَتَلُوا فَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلصُّلْحِ. وَاسْتَصْرَخَتْ خُزَاعَةُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَتْحِ
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي شَبِيهَةِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] وَفِي خَوَاتِمِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
وَشَمِلَ قَوْلُهُ: وَما خَلَقَ اللَّهُ الْأَجْسَامَ وَالْأَحْوَالَ كُلَّهَا.
وَجُعِلَتِ الْآيَاتُ هُنَا لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ وَفِي آيَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَفِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٠] لِأُولِي الْأَلْبابِ لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِالْآيَاتِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ بُعْدَهُمْ عَنِ التَّقْوَى هُوَ سَبَبُ حِرْمَانِهِمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ، وَأَنَّ نَفْعَهَا حَاصِلٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، أَيْ يَحْذَرُونَ الضَّلَالَ. فَالْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُتَّصِفُونَ بِاتِّقَاءِ مَا يُوقِعُ فِي الْخُسْرَانِ فَيَبْعَثُهُمْ عَلَى تَطَلُّبِ أَسْبَابِ النَّجَاحِ فَيَتَوَجَّهُ الْفِكْرُ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلَائِلِ.
وَقَدْ مَرَّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ [٢] عَلَى أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يُونُس: ٥]، وَأَمَّا آيَةُ الْبَقَرَةِ وَآيَةُ آلِ عِمْرَانَ فَهُمَا وَارِدَتَانِ فِي سِيَاقٍ شَامِلٍ لِلنَّاسِ عَلَى السَّوَاءِ. وَذِكْرُ لَفْظِ (قَوْمٍ) تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قبل هَذِه.
[٧، ٨]
[سُورَة يُونُس (١٠) : الْآيَات ٧ إِلَى ٨]
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨)
هَذَا اسْتِئْنَافُ وَعِيدٍ لِلَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْبَعْثِ وَلَا فَكَّرُوا فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الْآيَاتِ نَشَأَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا كَفَرُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ الْمُنَاسِبِ لِأَهْلِ الْعُقُولِ وَبَيْنَ الْوَعِيدِ الْمُنَاسِبِ لِلْمُعْرِضِينَ عَنِ الْحَقِّ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا تَنْفَعُهُمُ الْأَدِلَّةُ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَيَتَّقُونَ وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ سَادِرُونَ فِي غُلْوَائِهِمْ حَتَّى يُلَاقُوا الْعَذَابَ. وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ لِلْجَزَاءِ تَأَتَّى الْوَعِيدُ لِمُنْكِرِي الْبَعْثِ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ رَبِّهِمْ وَالْمَصِيرَ إِلَيْهِ.
السَّلَامُ-.
وَلَعَلَّ آيَتَهُ أَنَّهُ وَعَدَهُمْ عِنْدَ بِعْثَتِهِ بِوَفْرَةِ الْأَرْزَاقِ وَالْأَوْلَادِ وَاطِّرَادِ الْخِصْبِ وَفْرَةً مُطَّرِدَةً لَا تَنَالُهُمْ فِي خِلَالِهَا نَكْبَةٌ وَلَا مُصِيبَةٌ بِحَيْثُ كَانَتْ خَارِقَةً لِعَادَةِ النِّعْمَةِ فِي الْأُمَمِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: ١٥].
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا من الْأَنْبِيَاء نبيء إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ»
الْحَدِيثَ.
وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا هُودٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ تَكُنْ طِبْقًا لِمُقْتَرَحَاتِهِمْ. وَجَعَلُوا ذَلِكَ عِلَّةً لِتَصْمِيمِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ فَقَالُوا: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ. وَلَمْ يَجْعَلُوا وَما نَحْنُ بِتارِكِي مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِهِمْ: مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ.
وعَنْ فِي عَنْ قَوْلِكَ لِلْمُجَاوَزَةِ، أَيْ لَا نَتْرُكُهَا تَرْكًا صَادِرًا عَنْ قَوْلِكَ، كَقَوْلِهِ:
وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الْكَهْف: ٨٢]. وَالْمَعْنَى عَلَى أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ عِلَّةً لِتَرْكِهِمْ آلِهَتَهُمْ.
وَجُمْلَةُ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ لِلسَّامِعِ وَمَنْ مَعَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَاذَا تَعُدُّونَ دَعْوَتَهُ فِيكُمْ، أَيْ نَقُولُ إِنَّكَ مَمْسُوسٌ مِنْ بَعْضِ آلِهَتِنَا، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ الْآلِهَةِ تَهْدِيدًا لِلنَّاسِ بِأَنَّهُ لَوْ تَصَدَّى لَهُ جَمِيعُ الْآلِهَةِ لَدَكُّوهُ دَكًّا.
وَالِاعْتِرَاءُ: النُّزُولُ وَالْإِصَابَةُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَصَابَكَ بِسُوءٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ أَصَابَتْهُ بِمَسٍّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ بِدَعْوَةِ رَفْضِ عِبَادَتِهَا لِسَبَبٍ آخَرَ، وَهُوَ كَلَامٌ غَيْرُ جَارٍ عَلَى انْتِظَامِ الْحُجَّةِ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُلَفَّقٌ مِنْ نَوْعِ مَا يَصْدُرُ عَنِ السُّفِسْطَائِيِّينَ، فَجَعَلُوهُ مَجْنُونًا وَجَعَلُوا سَبَبَ جُنُونِهِ مَسًّا مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَلِمَ يَتَفَطَّنُوا إِلَى دَخَلِ كَلَامِهِمْ وَهُوَ أَنَّ الْآلِهَةَ كَيْفَ تَكُونُ سَبَبًا فِي إِثَارَةِ ثَائِرٍ عَلَيْهَا.
خَبَرًا عَنْ وَكُلُّ شَيْءٍ وبِمِقْدارٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ وَكُلُّ شَيْءٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون بِمِقْدارٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مِقْدَارٍ وَيَكُونُ بِمِقْدارٍ خَبَرًا عَنْ كُلُّ شَيْءٍ.
وَالْمِقْدَارُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِقَرِينَةِ الْبَاءِ، أَيْ بِتَقْدِيرٍ، وَمَعْنَاهُ: التَّحْدِيدُ وَالضَّبْطُ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا مُفَصَّلًا لَا شُيُوعَ فِيهِ وَلَا إِبْهَامَ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ الْقَائِلِينَ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ وَلَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ فِرَارًا مِنْ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْحَوَادِثِ. وَقَدْ أَبْطَلَ مَذْهَبَهُمْ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ بِمَا لَيْسَ فَوْقَهُ مَرَامٌ. وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ أَثْبَتَتْ عُمُومَ عِلْمِهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ وَقَعَ إِثْبَاتُ الْعُمُومِ بِطَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِعِلْمِهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ الْخَفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ.
وَجُمْلَةُ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِتَعْمِيمِ الْعِلْمِ بِالْخَفِيَّاتِ وَالظَّوَاهِرِ وَهُمَا قِسْمَا الْمَوْجُودَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْغَيْبِ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤].
وَأَمَّا الشَّهادَةِ فَهِيَ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْأَشْيَاءُ الْمَشْهُودَةُ، وَهِيَ الظَّاهِرَةُ الْمَحْسُوسَةُ، الْمَرْئِيَّاتُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ تَعْمِيمُ الْمَوْجُودَاتِ كَقَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ [الحاقة:
٣٨- ٣٩].
وَالْكَبِيرُ: مَجَازٌ فِي الْعَظَمَةِ، إِذْ قَدْ شَاعَ اسْتِعْمَالُ أَسْمَاءِ الْكَثْرَةِ وَأَلْفَاظِ الْكِبَرِ فِي الْعَظَمَةِ تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ. وَالْمُتَعَالِي:
الْمُتَرَفِّعُ. وَصِيغَتِ الصِّفَةُ بِصِيغَةِ التَّفَاعُلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعُلُوَّ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ، أَيِ الرَّفِيعُ رِفْعَةً وَاجِبَةً لَهُ عَقْلًا. وَالْمُرَادُ بِالرِّفْعَةِ هَنَا الْمَجَازُ عَنِ الْعِزَّةِ التَّامَّةِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ مَوْجُودٌ أَنْ يَغْلِبَهُ أَوْ يُكْرِهَهُ، أَوِ الْمُنَزَّهُ عَنِ النَّقَائِصِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النَّحْل: ٣].
وَحَذْفُ الْيَاءِ من الْمُتَعالِ لمرعاة الْفَوَاصِلِ السَّاكِنَةِ لِأَنَّ الْأَفْصَحَ فِي
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ مِنَ الْوَعِيدِ، إِذِ الْوَعِيدُ وَالزَّجْرُ إِنَّمَا كَانَا لِأَجْلِ إِبْطَالِ الْإِشْرَاكِ، فَكَانَتْ جُمْلَةُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ كَالْمُقَدِّمَةِ، وَجُمْلَةُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ كَالْمَقْصِدِ.
وَ (مَا) فِي قَوْلِهِ: عَمَّا يُشْرِكُونَ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ عَنْ إِشْرَاكِهِمْ غَيْرِهِ مَعَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُشْرِكُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ، فَعَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ لِيَخْتَصَّ التَّبَرُّؤُ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَنْزِلُوا عَنْ شَرَفِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ.
[٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٢]
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)
كَانَ اسْتِعْجَالُهُمْ بِالْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبِهِ، وَكَانَ نَاشِئًا عَنْ عَقِيدَةِ الْإِشْرَاكِ الَّتِي مِنْ أُصُولِهَا اسْتِحَالَةُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ.
وَأُتْبِعَ تَحْقِيقُ مَجِيءِ الْعَذَابِ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الشَّرِيكِ فَقُفِّيَ ذَلِكَ بتبرئة الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- مِنَ الْكَذِبِ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنْ رَبِّهِ وَوَصَفَ لَهُمُ الْإِرْسَالَ وَصْفًا مُوجَزًا. وَهَذَا اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَلَائِكَةِ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ وَهُوَ جِبْرَئِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَالرُّوحُ: الْوَحْيُ. أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الرُّوحِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْوَحْيَ بِهِ هدي الْعُقُول إِلَى الْحَقِّ، فَشَبَّهَ الْوَحْيَ بِالرُّوحِ كَمَا يُشَبِّهُ الْعِلْمَ الْحَقَّ بِالْحَيَاةِ، وَكَمَا يُشَبِّهُ الْجَهْلَ بِالْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٢٢].
جَمِيعِ أَزْمِنَةِ حُصُولِ مَضْمُونِ شَرْطِ (إِذَا) الظَّرْفِيَّةِ الشَّرْطِيَّةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عَدَمِ التَّسَامُحِ فِي شَيْءٍ مِنْ نَقْصِ الْكَيْلِ عِنْدَ كُلِّ مُبَاشَرَةٍ لَهُ. ذَلِكَ أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ آيَةِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّ مَضْمُونَهَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ فِي سُوءِ شَرَائِعِهِمْ وَكَانَتْ هُنَا أَجْدَرَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْرِيعِ.
وَفِعْلُ (كَالَ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ مُبَاشِرُ الْكَيْلِ، فَهُوَ الَّذِي يَدْفَعُ الشَّيْءَ الْمَكِيلَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ، وَيُقَالُ لِلَّذِي يَقْبِضُ الشَّيْءَ الْمَكِيلَ: مُكْتَالٌ. وَهُوَ مِنْ أَخَوَاتِ بَاعَ وَابْتَاعَ، وَشَرَى وَاشْتَرَى، وَرَهَنَ وَارْتَهَنَ، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين: ٢- ٣].
وَ «الْقُسْطَاسِ» - بِضَمِّ الْقَافِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَهُ- بِالْكَسْرِ- حَفْصٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكسَائِيّ، وَخلف. وَهَا لُغَتَانِ فِيهِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْمِيزَانِ أَيْ آلَةِ الْوَزْنِ، وَاسْمٌ لِلْعَدْلِ، قِيلَ: هُوَ مُعَرَّبٌ مِنَ الرُّومِيَّةِ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ قَسَطَ، أَيْ عَدَلَ، وَطَاسَ وَهُوَ كِفَّةُ الْمِيزَانِ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقِسْطَاسُ: الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ». وَلَعَلَّ كَلِمَةَ قَسَطَ اخْتِصَارٌ لِقِسْطَاسٍ لِأَنَّ غَالِبَ الْكَلِمَاتِ الرُّومِيَّةِ تَنْتَهِي بِحَرْفِ السِّينِ. وَأَصْلُهُ فِي الرُّومِيَّةِ مَضْمُومُ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا غَيَّرَهُ الْعَرَبُ بِالْكَسْرِ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَحَرَّوْنَ فِي ضَبْطِ الْكَلِمَاتِ الْأَعْجَمِيَّةِ. وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «أَعْجَمِيٌّ فَالْعَبْ بِهِ مَا شِئْتَ».
وَمَعْنَى الْعَدْلِ وَالْمِيزَانِ صَالِحَانِ هُنَا، لَكِنَّ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ جَاءَ فِيهَا بِالْقِسْطِ فَهُوَ الْعَدْلُ لِأَنَّهَا سِيقَتْ مَسَاقَ التَّذْكِيرِ لِلْمُشْرِكِينَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ فَنَاسَبَ أَنْ يُذَكَّرُوا بِالْعَدْلِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ ظُلْمٌ. وَالْبَاءُ هُنَالِكَ لِلْمُلَابَسَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ خِطَابًا لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ أَجْدَرَ بِاللَّفْظِ الصَّالِحِ لِمَعْنَى آلَةِ الْوَزْنِ، لِأَنَّ شَأْنَ التَّشْرِيعِ بَيَانُ تَحْدِيدِ الْعَمَلِ مَعَ كَونه يومىء إِلَى مَعْنَى الْعَدْلِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. فَالْبَاءُ هُنَا ظَاهِرَةٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ وَالْآلَةِ، وَمُفِيدَةٌ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْضًا.
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : الْآيَات ٣٠ إِلَى ٣٣]
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)كَلَامُ عِيسَى هَذَا مِمَّا أَهْمَلَتْهُ أَنَاجِيلُ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ طَوَوْا خَبَرَ وُصُولِهَا إِلَى أَهْلِهَا بَعْدَ وَضْعِهَا، وَهُوَ طَيٌّ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كُتِبَتْ فِي أَحْوَالٍ غَيْرِ مَضْبُوطَةٍ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالِابْتِدَاءُ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ أَلْقَاهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ عِيسَى لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ بِأَنَّ قَوْمًا سَيَقُولُونَ: أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِيتَاءِ الْكِتَابِ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ مُرَادٌ بِهِ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ إِيتَاءَهُ إِيَّاهُ، أَيْ قدّر أَن يوتيني الْكِتَابَ.
وَالْكِتَابُ: الشَّرِيعَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُكْتَبَ لِئَلَّا يَقَعَ فِيهَا تَغْيِيرٌ. فَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى كَإِطْلَاقِ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْإِنْجِيلُ وَهُوَ مَا كُتِبَ مِنَ الْوَحْيِ الَّذِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ عِيسَى. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ فَيَكُونَ الْإِيتَاءُ إِيتَاءَ عِلْمِ مَا فِي التَّوْرَاةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مَرْيَم: ١٢] فَيَكُونَ قَوْلُهُ وَجَعَلَنِي نَبِيئًا ارْتِقَاءً فِي الْمَرَاتِبِ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا.
وَالْقَوْلُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْمَاضِي كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ وآتانِيَ الْكِتابَ.
(٦١)
الضَّمِيرَانِ البارزان فِي فَجَعَلَهُمْ وَفِي لَهُمْ عَائِدَانِ إِلَى الْأَصْنَامِ بِتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْعَاقِلِ، وَضَمِيرُ لَعَلَّهُمْ عَائِدٌ إِلَى قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْقَرِينَةُ تَصْرِفُ الضَّمَائِرَ الْمُتَمَاثِلَةَ إِلَى مَصَارِفِهَا مِثْلَ ضَمِيرَيِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها [الرّوم: ٩].
وَالْجُذَاذُ- بِضَمِّ الْجِيمِ- فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: اسْمٌ جَمْعُ جُذَاذَةٍ، وَهِيَ فُعَالَةٌ مِنَ الْجَذِّ، وَهُوَ الْقَطْعُ مِثْلَ قُلَامَةٍ وَكُنَاسَةٍ، أَيْ كَسَّرَهُمْ وَجَعَلَهُمْ قِطَعًا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ جُذاذاً- بِكَسْرِ الْجِيمِ- عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، فَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ.
قِيلَ: كَانَتِ الْأَصْنَامُ سَبْعِينَ صَنَمًا مُصْطَفَّةً وَمَعَهَا صَنَمٌ عَظِيمٌ وَكَانَ هُوَ مُقَابِلَ بَابِ بَيْتِ الْأَصْنَامِ، وَبَعْدَ أَنْ كَسَرَهَا جَعَلَ الْفَأْسَ فِي رَقَبَةِ الصَّنَمِ الْأَكْبَرِ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ.
وَمَعْنَى لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ الْأَقْوَامُ إِلَى اسْتِشَارَةِ الصَّنَمِ الْأَكْبَرِ لِيُخْبِرَهُمْ بِمَنْ كَسَرَ بَقِيَّةَ الْأَصْنَامِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ جَهْلَهُمْ يُطْمِعُهُمْ فِي اسْتِشَارَةِ الصَّنَمِ الْكَبِيرِ.
وَلَعَلَّ الْمُرَادَ اسْتِشَارَةُ سَدَنَتِهِ لِيُخْبِرُوهُمْ بِمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ وَحْيِهِ الْمَزْعُومِ.
وَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْأَصْنَامِ مِنْ قَوْله أَصْنامَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٥٧]. وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَصْنَامِ ضَمِيرُ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ مُحَاكَاةً لِمَعْنَى كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ قَوْمَهُ يَحْسُبُونَ الْأَصْنَامَ عُقَلَاءَ، وَمِثْلُهُ ضَمَائِرُ قَوْلِهِ بَعْدَهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ [الْأَنْبِيَاء:
٦٣].
مِنْ أَدْوَائِهِمْ وَهُوَ إِخْلَالُهُمْ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ. وَاسْتِهْتَارُهُمْ بِدِينِ الْآبَاءِ الضُّلَّالِ مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ، وَتَعَلُّلُهُمْ بِأَنَّهُ مَجْنُونٌ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ وَثَبَاتِ التَّصْدِيقِ مِنَ اللَّهِ بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْآيَاتِ النَّيِّرَةِ، وَكَرَاهَتُهُمْ لِلْحَقِّ وَإِعْرَاضُهُمْ عَمَّا فِيهِ حَظُّهُمْ مِنَ الذِّكْرِ» اهـ.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ مُعْتَرِضَةٌ تَكْمِيلًا لِلْغَرَضِ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّعْرِيفِ بِسِعَةِ فَضْلِهِ. وَيُفِيدُ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ.
[٧٣، ٧٤]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٧٣ إِلَى ٧٤]
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤)
أُعْقِبَ تَنْزِيهُ الرَّسُولِ عَمَّا افْتَرُوهُ عَلَيْهِ بِتَنْزِيهِ الْإِسْلَامِ عَمَّا وسموه بِهِ مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَالتَّنْزِيهِ بِإِثْبَاتِ ضِدِّ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ طَرِيقٌ لَا الْتِوَاءَ فِيهِ وَلَا عَقَبَاتٍ، فَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينِ اعْتَقَدُوا خِلَافَ ذَلِكَ. وَإِطْلَاقُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُوصِّلٌ إِلَى مَا يَتَطَلَّبُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مِنَ النَّجَاةِ وَحُصُولِ الْخَيْرِ، فَكَمَا أَنَّ السَّائِرَ إِلَى طَلْبَتِهِ لَا يَبْلُغُهَا إِلَّا بِطَرِيقٍ، وَلَا يَكُونُ بُلُوغُهُ مَضْمُونًا مَيْسُورًا إِلَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مُسْتَقِيمًا فالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ دَعَاهُمْ إِلَى السَّيْرِ فِي طَرِيقٍ مُوصِلٍ بِلَا عَنَاءٍ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَسُوقٌ لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُنْكِرِينَ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَذَلِكَ التَّوْكِيدُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ.
وَالتَّعْبِيرُ فِيهِ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتُهُ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ حَيْثُ عُدِلَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: وَإِنَّهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ. وَالْغَرَضُ مِنْهُ مَا تنبىء بِهِ الصِّلَةُ مِنْ سَبَبِ تَنَكُّبِهِمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَنَّ سَبَبَهُ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ
إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ.
وَذُكِرَ اسْمُ الرَّحْمَنِ هُنَا دُونَ وَصْفِ الرَّبِّ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ السِّيَاقَ هُنَا لِتَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِعْرَاضِ قَوْمِهِ فَكَانَ فِي وَصْفِ مُؤْتِي الذِّكْرِ بِالرَّحْمَنِ تَشْنِيعٌ لِحَالِ الْمُعْرِضِينَ وَتَعْرِيضٌ لِغَبَاوَتِهِمْ أَنْ يُعْرِضُوا عَمَّا هُوَ رَحْمَةٌ لَهُمْ، فَإِذَا كَانُوا لَا يُدْرِكُونَ صَلَاحَهُمْ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ حَسَرَاتٍ عَلَى قَوْمٍ أَضَاعُوا نَفْعَهُمْ وَأَنْتَ قَدْ أَرْشَدْتَهُمْ إِلَيْهِ وَذَكَّرْتَهُمْ، كَمَا قَالَ الْمَثَلُ: «لَا يَحْزُنْكَ دَمٌ هَرَاقَهُ أَهْلُهُ» وَقَالَ النَّابِغَةُ:
فَإِنْ تَغْلِبْ شَقَاوَتُكُمْ عَلَيْكُمْ | فَإِنِّي فِي صَلَاحِكُمْ سَعَيْتُ |
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ ذِكْرٍ مُؤَكِّدَةٌ لِعُمُومِ نَفْيِ الْأَحْوَالِ.
ومِنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مِنَ الرَّحْمنِ ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ، فَجُمْلَةُ: كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ. وَتَقَدَّمَ الْمَجْرُورُ لرعاية الفاصلة.
[٦]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٦]
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦)
فَاءُ فَقَدْ كَذَّبُوا فَصِيحَةٌ، أَيْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ إِعْرَاضُ تَكْذِيبٍ بعد الْإِخْبَار عَنْهُم بِأَنَّ سَنَّتَهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الذِّكْرِ الْآتِي بَعْضُهُ عَقِبَ بَعْضٍ فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ كَانَ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ. وَأَمَّا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَسَيَأْتِيهِمْ فَلِتَعْقِيبِ الْإِخْبَارِ بِالْوَعِيدِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِالتَّكْذِيبِ.
وَالْأَنْبَاءُ: جَمْعُ نَبَأٍ، وَهُوَ الْخَبَرُ عَنِ الْحَدَثِ الْعَظِيمِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ
ومَدْيَنَ: قَوْمٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٨٥].
وَأَرْضُ مَدْيَنَ وَاقِعَةٌ عَلَى الشَّاطِئِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ وَكَانَ مُوسَى قَدْ سَلَكَ إِلَيْهَا عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَلَدِ (رَعْمَسِيسَ) أَوْ (مَنْفِيسَ) طَرِيقًا غَرْبِيَّةً جَنُوبِيَّةً فَسَلَكَ بَرِّيَّةً تَمُرُّ بِهِ عَلَى أَرْضِ الْعَمَالِقَةِ وَأَرْضِ الْأَدُومِيِّينَ ثُمَّ بِلَادِ النَّبَطِ إِلَى أَرْضِ مَدْيَنَ. تِلْكَ مَسَافَةُ ثَمَانِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِيلًا تَقْرِيبًا. وَإِذْ قَدْ كَانَ مُوسَى فِي سَيْرِهِ ذَلِكَ رَاجِلًا فَتِلْكَ الْمَسَافَةُ تَسْتَدْعِي مِنَ الْمُدَّةِ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَكَانَ يَبِيتُ فِي الْبَرِّيَّةِ لَا مَحَالَةَ. وَكَانَ رَجُلًا جَلْدًا وَقَدْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ سَوَاءَ السَّبِيلِ فَلَمْ يَضِلَّ فِي سَيْرِهِ.
وَالسَّوَاءُ: الْمُسْتَقِيمُ النَّهْجِ الَّذِي لَا الْتِوَاءَ فِيهِ. وَقَدْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الدَّعْوَةَ الَّتِي فِي طَيِّهَا تَوْفِيقُهُ إِلَى الدَّين الْحق.
[٢٣، ٢٤]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : الْآيَات ٢٣ إِلَى ٢٤]
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ مَا خَطْبُكُما قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤)
يَدُلُّ قَوْلُهُ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أَنَّهُ بَلَغَ أَرْضَ مَدْيَنَ، وَذَلِكَ حِينَ وَرَدَ مَاءَهُمْ.
وَالْوُرُودُ هُنَا مَعْنَاهُ الْوُصُولُ وَالْبُلُوغُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَم: ٧١].
وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ مَوْضِعُ الْمَاءِ. وَمَاءُ الْقَوْمِ هُوَ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ دِيَارُهُمْ لِأَنَّ الْقَبَائِلَ كَانَتْ تَقْطُنُ عِنْدَ الْمِيَاهِ وَكَانُوا يُكَنُّونَ عَنْ أَرْضِ الْقَبِيلَةِ بِمَاءِ بَنِي فُلَانٍ، فَالْمَعْنَى: وَلَمَّا ورد، أَي عِنْد مَا بَلَغَ بِلَادَ مَدْيَنَ. وَيُنَاسِبُ الْغَرِيبَ إِذَا جَاءَ دِيَارَ قَوْمٍ أَنْ يَقْصِدَ الْمَاءَ لِأَنَّهُ مُجْتَمَعُ النَّاسِ فَهُنَالِكَ يَتَعَرَّفُ لِمَنْ يُصَاحِبُهُ وَيُضِيفُهُ.
ولَمَّا حَرْفُ تَوْقِيتِ وُجُودِ شَيْءٍ بِوُجُودِ غَيره، أَي عِنْد مَا حَلَّ بِأَرْضِ مَدْيَنَ وَجَدَ أُمَّةً.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ بِاللَّهِ بَعْدَ الدُّعَاءِ وَالْإِنَابَةِ وَحُصُولِ رَحْمَتِهِ أَعْجَبُ مِنْ إِشْرَاكِهِمُ السَّابِقِ، فَفِي التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ مَعْنَى التَّعْجِيبِ مِنْ تَجَدُّدِ إِشْرَاكِهِمْ، وَحَرْفُ الْمُفَاجَأَةِ إِذا يُفِيدُ أَيْضًا أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ أَسْرَعُوا الْعَوْدَةَ إِلَى الشِّرْكِ بِحِدْثَانِ ذَوْقِ الرَّحْمَةِ لِتَأَصُّلِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ وَكُمُونِهِ فِي نُفُوسِهِمْ.
وَضَمِيرُ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنِ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلقَة ب أَذاقَهُمْ.
ورَحْمَةً فَاعل أَذاقَهُمْ وَلَمْ يُؤَنِّثْ لَهَا الْفِعْلُ لِأَنَّ تَأْنِيثَ مُسَمَّى الرَّحْمَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَلِأَجِلِّ الْفَصْلِ بِالْمَجْرُورِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْفَاعِلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِيُظْهِرَ أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيَكْفُرُوا لَامُ التَّعْلِيلِ وَهِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِمَعْنَى التَّسَبُّبِ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُفَادَ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَشْرَكُوا لَمْ يُرِيدُوا بِشِرْكِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ عِلَّةً لِلْكُفْرِ بِالنِّعْمَةِ وَلَكِنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَحَبَّةً لِلشِّرْكِ فَكَانَ الشِّرْكُ مُفْضِيًا إِلَى كُفْرِهِمْ نِعْمَةَ اللَّهِ خَشْيَةَ الْإِفْضَاءِ وَالتَّسَبُّبِ بِالْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨].
وَضَمِيرُ لِيَكْفُرُوا عَائِدٌ إِلَى الْفَرِيقِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ.
وَالْإِيتَاءُ: إِعْطَاءُ النَّافِعِ، أَيْ بِمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي هِيَ نِعْمَةُ الْإِيجَادِ وَالرِّزْقِ وَكَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُمْ. ثُمَّ الْتَفَتَ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ فَتَمَتَّعُوا تَوْبِيخًا لَهُمْ وَإِنْذَارًا، وَجِيءَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ فَتَمَتَّعُوا لِأَنَّ الْإِنْذَارَ وَالتَّوْبِيخَ مُفَرَّعَانِ عَنِ الْكَلَامِ السَّابِقِ. وَالْأَمْرُ فِي (تَمَتَّعُوا) مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ وَالتَّوْبِيخِ. وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ بِالْمُلَائِمِ وَبِالنِّعْمَةِ مُدَّةً تَنْقَضِي.
وَالْفَاءُ فِي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تَفْرِيعٌ لِلْإِنْذَارِ عَلَى التَّوْبِيخِ، وَهُوَ رَشِيقٌ. وَ (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إِنْذَارٌ بِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ شَيْئًا عَظِيمًا، وَالْعِلْمُ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الْأَمْرِ الَّذِي يُعْلَمُ، أَيْ عَنْ حُلُولِ مَصَائِبَ بِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ كُنْهَهَا الْآنَ، وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى عَظَمَتِهَا وَأَنَّهَا غَيْرُ مُتَرَقَّبَةٍ لَهُمْ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَيُصَابُونَ بِهِ
مُسَمَّيَاتِ الصَّلَاةِ، فَصَلَاةُ اللَّهِ: كَلَامُهُ الَّذِي يُقَدِّرُ بِهِ خَيْرًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ فِي جَانِبِ اللَّهِ مُعَطَّلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَدْعُوهُ النَّاسُ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ: اسْتِغْفَارٌ وَدُعَاءٌ بِالرَّحَمَاتِ.
وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّ الْوَاجِبَ كُلُّ كَلَامٍ فِيهِ دُعَاء للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ الصَّحَابَةَ
لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة سَأَلُوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ
قَدْ عَلِمْنَاهُ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟» يَعْنُونَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا السَّلَامَ عَلَيْهِ مِنْ صِيغَةِ بَثِّ السَّلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِي التَّشَهُّدِ فَالسَّلَامُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ صِيغَتُهُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَالسَّلَامُ فِي التَّشَهُّد هُوَ «السَّلَام عيك أَيهَا النبيء وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» أَوِ «السَّلَام على النبيء وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: قُولُوا: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكَتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ». هَذِهِ رِوَايَةُ مَالِكٍ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ بِلَفْظِ «وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ» (عَنْ أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ) وَبِزِيَادَةٍ «فِي الْعَالَمِينَ»، قَبْلَ: «إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ».
وَهُمَا أَصَحُّ مَا رُوِيَ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. وَهُنَاكَ رِوَايَاتٌ خَمْسٌ أُخْرَى مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ وَقَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ». وَمَرْجِعُ صيغها إِلَى تَوَجُّهٌ إِلَى اللَّهِ بِأَنْ يُفِيضَ خَيْرَاتٍ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَعْنَى الصَّلَاة الدُّعَاء، وَالدُّعَاء من حسن الْأَقْوَال، وَدُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ.
وَظَاهِرُ صِيغَةِ الْأَمْرِ مَعَ قَرِينَةِ السِّيَاقِ يَقْتَضِي وُجُوبَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُؤمن على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُجْمَلًا فِي الْعَدَدِ فَمَحْمَلُهُ مَحْمَلُ الْأَمْرِ الْمُجْمَلِ أَنْ يُفِيدَ الْمَرَّةَ لِأَنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ لِإِيقَاعِ الْفِعْلِ وَلِمُقْتَضَى الْأَمْرِ. وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُصَلِّي على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ، فَجَعَلُوا وَقْتَهَا الْعُمُرَ كَالْحَجِّ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فِي حُكْمِهِ وَمِقْدَارِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ الْإِكْثَارِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَخَاصَّةً عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ
وَ (يَسْتَسْخِرُونَ) مُبَالَغَةٌ فِي السُّخْرِيَةِ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمرَان: ١٩٥] وَقَوْلِهِ: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف: ٤٣].
فَالسُّخْرِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْخَرُونَ سُخْرِيَةٌ مِنْ محاجّة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِالْأَدِلَّةِ. وَالسُّخْرِيَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا سُخْرِيَةٌ مِنْ ظُهُورِ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ، أَيْ يَزِيدُونَ فِي السُّخْرِيَةِ بِمَنْ ظَنَّ مِنْهُمْ أَنَّ ظُهُورَ الْمُعْجِزَاتِ يَحُولُ بِهِمْ عَنْ كُفْرِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا:
إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الْفرْقَان: ٤٢].
[١٥- ١٩]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٩]
وَقالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً [الصافات: ١١] الْآيَةَ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ:
إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً وَهُوَ إِعَادَةُ الْخَلْقِ عِنْدَ الْبَعْثِ، ويبينه قَوْله: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَيْ وَقَالُوا فِي رَدِّ الدَّلِيلِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا [الصافات: ١١] أَيْ أَجَابُوا بِأَنَّ ادِّعَاءَ إِعَادَةِ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْبِلَى كَلَامُ سِحْرٍ مُبِينٍ، أَيْ كَلَامٌ لَا يُفْهَمُ قُصِدَ بِهِ سِحْرُ السَّامِعِ.
هَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ تَفْسِيرًا يَلْتَئِمُ بِهِ نَظْمُهَا خِلَافًا لِمَا دَرَجَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ هَمْزَةُ إِنَّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَوَابُ إِذا الْوَاقِعَةِ فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ مِنْ حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَرَأَ غير نَافِع أَإِنَّا بِهَمْزَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُؤَكِّدَةٌ لِلْهَمْزَةِ الدَّاخِلَةِ عَلَى إِذا.
وَقَوله: أَوَآباؤُنَا قَرَأَهُ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِسُكُون وَاو أَوَعلى أَنَّ الْهَمْزَةَ مَعَ الْوَاوِ حَرْفٌ وَاحِدٌ هُوَ أَوْ الْعَاطِفَةُ الْمُفِيدَةُ لِلتَّقْسِيمِ هُنَا
وَالْإِحْيَاءَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الْبَقَرَة: ٢٨].
وَانْتَصَبَ اثْنَتَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الصِّفَةِ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ:
مَوْتَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ وَإِحْيَاءَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ فَيَجِيءُ فِي تَقْدِيرِ مَوْتَتَيْنِ تَغْلِيبُ الِاسْمِ الْحَقِيقِيِّ عَلَى الِاسْمِ الْمَجَازِيِّ عِنْدَ مَنْ يُقَيِّدُ مَعْنَى الْمَوْتِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِشْكَالَ أَنَّ هُنَالِكَ حَيَاةً ثَالِثَةً لَمْ تُذْكَرْ هُنَا وَهِيَ الْحَيَاةُ فِي الْقَبْرِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا حَدِيثُ سُؤَالِ الْقَبْرِ وَهُوَ حَدِيثٌ اشْتُهِرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ السَّلَفِ، وَفِي كَوْنِ سُؤَالِ الْقَبْرِ يَقْتَضِي حَيَاةَ الْجِسْمِ حَيَاةً كَامِلَةً احْتِمَالٌ، وَقَدْ يُتَأَوَّلُ بِسُؤَالِ رُوحِ الْمَيِّتِ عِنْدَ جَسَدِهِ أَوْ بِحُصُولِ حَيَاةِ بَعْضِ الْجَسَدِ أَو لِأَنَّهَا لما كَانَت حَيَاةٌ مُؤَقَّتَةٌ بِمِقْدَارِ السُّؤَالِ لَيْسَ لِلْمُتَّصِفِ بِهَا تَصَرُّفُ الْأَحْيَاءِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، لَمْ يُعْتَدْ بِهَا لَا سِيَّمَا وَالْكَلَامُ مُرَادٌ مِنْهُ التَّوْطِئَةُ لِسُؤَالِ خُرُوجِهِمْ مِنْ جَهَنَّمَ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا لِثُبُوتِ الْحَيَاةِ عِنْدَ السُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ.
وَتَفَرَّعَ قَوْلُهُمْ: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا عَلَى قَوْلِهِمْ: وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ اعْتِبَارُ أَنَّ إِحْدَى الْإِحْيَاءَتَيْنِ كَانَتِ السَّبَبَ فِي تَحَقُّقِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي مِنْ أُصُولِهَا إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ فَلَمَّا رَأَوُا الْبَعْثَ رَأْيَ الْعَيْنِ أَيْقَنُوا بِأَنَّهُمْ مُذْنِبُونَ إِذْ أَنْكَرُوهُ وَمُذْنِبُونَ بِمَا اسْتَكْثَرُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ لِاغْتِرَارِهِمْ بِالْأَمْنِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ.
فَجُمْلَةُ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا إِنْشَاءُ إِقْرَارٍ بِالذُّنُوبِ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي كَمَا هُوَ غَالِبُ صِيَغِ الْخَبَرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْإِنْشَاءِ مِثْلَ صِيَغِ الْعُقُودِ نَحْوَ: بِعْتُ. وَالْمَعْنَى: نَعْتَرِفُ بِذُنُوبِنَا.
وَجَعَلُوا هَذَا الِاعْتِرَافَ ضَرْبًا مِنَ التَّوْبَةِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّ التَّوْبَةَ تَنْفَعُ يَوْمَئِذٍ، فَلِذَلِكَ فَرَّعُوا عَلَيْهِ: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ، فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ وَالِاسْتِعْطَافِ كُلِّيًّا لِرَفْعِ الْعَذَابِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ حِكَايَةُ سُؤَالِ أَهْلِ النَّارِ الْخُرُوجَ أَوِ التَّخْفِيفَ وَلَوْ يَوْمًا.
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرَّحْمَن: ٢٢] واللؤلؤ وَالْمَرْجَانُ يَخْرُجَانِ مِنْ أَحَدِ الْبَحْرَيْنِ وَهُوَ الْبَحْرُ الْمَلِحُ لَا مِنَ الْبَحْرِ الْعَذْبِ.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ، مُعْتَرِضَةٌ فِي جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ لِإِدْمَاجِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ فِي عَرْضِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا عَنْ عَدَمٍ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِ بَعْضِ مَا فِيهِمَا لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِهِ فَكَيْفَ تَعُدُّونَهُ مُحَالًا. وَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: جَمْعِهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الَّذِي تَتَعَلَّقُ الْإِرَادَةُ بِجَمْعِهِ فِي الْحَشْرِ لِلْجَزَاءِ هُمُ الْعُقَلَاءُ مِنَ الدَّوَابِّ أَيِ الْإِنْسُ. وَالْمُرَادُ بِ جَمْعِهِمْ حَشْرُهُمْ لِلْجَزَاءِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن: ٩].
وَقَدْ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ بَعْضَ الدَّوَابِّ تُحْشَرُ لِلِانْتِصَافِ مِمَّنْ ظَلَمَهَا.
وإِذا ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ هُنَا مُجَرَّدٌ عَنْ تَضَمُّنِ الشَّرْطِيَّةِ، فَالتَّقْدِيرُ: حِينَ يَشَاءُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ جَمْعِهِمْ. وَهَذَا الظَّرْفُ إِدْمَاجٌ ثَانٍ لِإِبْطَالِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَأَخُّرِ يَوْمِ الْبَعْثِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الْإِسْرَاء: ٥١] ويَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ: ٢٩، ٣٠].
[٣٠]
[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٣٠]
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠)
لَمَّا تَضَمَّنَتِ الْمِنَّةُ بِإِنْزَالِ الْغَيْثِ بَعْدَ الْقُنُوطِ أَنَّ الْقَوْمَ أَصَابَهُمْ جُهْدٌ مِنَ الْقَحْطِ بَلَغَ بِهِمْ مَبْلَغَ الْقُنُوطِ مِنَ الْغَيْثِ أَعْقَبَتْ ذَلِكَ بِتَنْبِيهِهِمْ إِلَى أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْبُؤْسِ هُوَ جَزَاءٌ عَلَى مَا اقْتَرَفُوهُ مِنَ الشِّرْكِ تَنْبِيهًا يَبْعَثُهُمْ وَيَبْعَثُ الْأُمَّةَ عَلَى أَنْ
الْحَمِيمَ الَّذِي يُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ بِفَوْرِ سَقْيِهِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَرِّجْ هُنَا عَلَى طَعَامِ أَهْلِ النَّارِ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [الْوَاقِعَة: ٥٢- ٥٤] وَقَوْلِهِ: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات: ٦٢] إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ [الصافات: ٦٦- ٦٧].
وَضَمِيرُ سُقُوا رَاجع إِلَى كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى (مَنْ) وَهُوَ الْفَرِيقُ مِنَ الْكَافِرِينَ بَعْدَ أَنْ أُعِيدَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْمُفْرَدِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ خالِدٌ.
وَالْأَمْعَاءُ: جَمْعُ مَعًى مَقْصُورًا وَبِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا، وَهُوَ مَا يَنْتَقِلُ الطَّعَامُ إِلَيْهِ بَعْدَ نُزُولِهِ مِنَ الْمعدة. وَيُسمى عفج بِوَزْنِ كَتِفٍ.
[١٦]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١٦]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ آنِفاً.
ضَمِيرُ وَمِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [مُحَمَّد: ١٢] الَّذِينَ جَرَى ذِكْرُهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ، أَيْ وَمِنَ الْكَافِرِينَ قَوْمٌ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، وَأَرَادَ بِمَنْ يَسْتَمِعُ مَعَهُمُ الْمُنَافِقِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ وَقَوْلِهِ: خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْمُسْتَمِعِينَ مِثْلَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ [يُونُس: ٤٢] وَقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [الْأَنْعَام: ٢٥] لِلْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْنَ الْأُسْلُوبَيْنِ، وَهَذَا صِنْفٌ آخَرُ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ أَسَرُّوا الْكُفْرَ وَتَظَاهَرُوا بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَقْصُودِينَ مَنْ لَفْظِ الْكُفَّارِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ نَازِلَةٌ بِقُرْبِ عَهْدٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِيهَا الْفَرِيقَانِ مِنَ الْكُفَّارِ.
وَمَعْنَى يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ: يَحْضُرُونَ مَجْلِسَكَ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَكَ وَمَا تَقْرَأُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ صِفَةُ مَنْ يَتَظَاهَرُ بِالْإِسْلَامِ فَلَا يُعْرِضُونَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إِعْرَاضَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ. رُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ
وَلِمُرَاعَاةِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ كَانَ جِبْرِيلُ يَتَمَثَّلُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ وَقَدْ وَصَفَهُ عُمَرُ فِي حَدِيثِ بَيَانِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ: «إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ» الْحَدِيثُ،
وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ «يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قَالَ عُمَرُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»
. وَقَوْلُهُ: أَوْ أَدْنى أَوْ فِيهِ لِلتَّخْيِيرِ فِي التَّقْدِيرِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيبِ، أَيْ إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ تَقْرِيبَ هَذِهِ الْمَسَافَةِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، أَيْ لَا أَزْيَدَ إِشَارَةٌ إِلَى أَن التَّقْدِير لَا مُبَالَغَةَ فِيهِ.
وَتَفْرِيعُ فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
عَلَى قَوْلِهِ: فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ الْمُفَرَّعِ عَلَى الْمُفَرَّعِ عَلَى قَوْلِهِ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى، وَهَذَا التَّفْرِيعُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَيَانِ وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ، وَتَمْثِيلٌ لِأَحْوَالٍ عَجِيبَةٍ بِأَقْرَبِ مَا يَفْهَمُهُ النَّاسُ لِقَصْدِ بَيَانِ إِمْكَانِ تَلَقِّي الْوَحْيِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِيلُونَهُ فَبَيَّنَ لَهُمْ إِمْكَانَ الْوَحْيِ بِوَصْفِ طَرِيقِ الْوَحْيِ إِجْمَالًا، وَهَذِهِ كَيْفِيَّةٌ مِنْ صُوَرِ الْوَحْيِ.
وَضَمِيرُ أَوْحى
عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمعْنَى: فَأوحى الله إِلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا كَافٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ الْإِيحَاءِ لِإِبْطَالِ إِنْكَارِهِمْ إِيَّاهُ.
وَإِيثَارُ التَّعْبِيرِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُنْوَانِ عَبْدِهِ
إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي اخْتِصَاصِ الْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ مِنَ التَّشْرِيفِ.
وَفِي قَوْلِهِ: مَا أَوْحى
إِبْهَام لِتَفْخِيمِ مَا أوحى إِلَيْهِ.
[١١، ١٢]
[سُورَة النَّجْم (٥٣) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٢]
مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى (١٢)
الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا رَدٌّ لِتَكْذِيبٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا بَلَغَهُمْ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ رُؤْيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَلَكَ جِبْرِيلَ وَهُوَ الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ بَعْدَ: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى.
أَعْطَاهَا اللَّهُ تِلْكَ الْأَصْنَافَ وَلَمْ يَكْتَسِبُوهَا بِحَقِّ قِتَالٍ، فَاشْتَرَطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِهَا أَنْ يَكُونُوا مُحِبِّينَ لِسَلَفِهِمْ غَيْرَ حَاسِدِينَ لَهُمْ.
وَهُوَ يَعْنِي إِلَّا مَا كَانَ مِنْ شَنَآنٍ بَيْنَ شَخْصَيْنِ لِأَسْبَابٍ عَادِيَّةٍ أَوْ شَرْعِيَّةٍ مِثْلِ مَا كَانَ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ حِينَ تَحَاكَمَا إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الظَّالِمِ الْخَائِنِ الْغَادِرِ. وَمِثْلِ إِقَامَةِ عُمَرَ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى أَبِي بَكْرَةَ.
وَأَمَّا مَا جَرَى بَيْنَ عَائِشَةَ وَعَلِيٍّ مِنَ النِّزَاعِ وَالْقِتَالِ وَبَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ مِنَ الْقِتَالِ فَإِنَّمَا كَانَ انْتِصَارًا لِلْحَقِّ فِي كِلَا رَأْيَيِ الْجَانِبَيْنِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغِلٍّ أَوْ تَنَقُّصٍ، فَهُوَ كَضَرْبِ الْقَاضِي
أَحَدًا تَأْدِيبًا لَهُ فَوَجَبَ إِمْسَاكُ غَيْرِهِمْ مِنَ التَّحَزُّبِ لَهُمْ بَعْدَهُمْ فَإِنَّهُ وَإِنْ سَاغَ ذَلِك لآحادهم لتكافىء دَرَجَاتِهِمْ أَوْ تَقَارُبِهَا. وَالظَّنُّ بِهِمْ زَوَالُ الْحَزَازَاتِ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِانْقِضَاءِ تِلْكَ الْحَوَادِثِ، لَا يُسَوِّغُ ذَلِكَ لِلْأَذْنَابِ مِنْ بَعْدِهِمُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْهُمْ فِي عِيرٍ وَلَا نَفِيرٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مَسْحَةٌ مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ نَخَرَتْ عَضُدَ الْأمة المحمدية.
[١١]
[سُورَة الْحَشْر (٥٩) : آيَة ١١]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١)
أَعْقَبَ ذِكْرَ مَا حَلَّ بِبَنِي النَّضِيرِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ بَيَانِ أَسْبَابِهِ، ثُمَّ بَيَانِ مَصَارِفِ فَيْئِهِمْ وَفَيْءِ مَا يُفْتَحُ مِنَ الْقُرَى بَعْدَ ذَلِكَ، بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ وَتَغْرِيرِهِمْ بِالْوُعُودِ الْكَاذِبَةِ لِيَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ النِّفَاقَ سَجِيَّةٌ فِي أُولَئِكَ لَا يَتَخَلَّوْنَ عَنْهُ وَلَوْ فِي جَانِبِ قَوْمٍ هُمُ الَّذِينَ يَوَدُّونَ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ فَبُنِيَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِحَالِهِمْ كِنَايَةً عَنِ التَّحْرِيضِ عَلَى إِيقَاعِ هَذَا الْعِلْمِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: تَأَمَّلَ الَّذِينَ نَافَقُوا فِي حَالِ مَقَالَتِهِمْ لِإِخْوَانِهِمْ وَلَا تَتْرُكِ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ حَالٌ عَجِيبٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعْنَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى كَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
تَكْشِفُ الشِّدَّةُ عَنْ سَاقِهَا أَوْ تَكْشِفُ الْقِيَامَةُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ.
وَالْمَعْنَى: يَوْمَ تَبْلُغُ أَحْوَالُ النَّاسِ مُنْتَهَى الشِّدَّةِ وَالرَّوْعِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ: عَنْ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ، وَهِيَ أَشَدُّ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَرَوَى عَبَدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا، فَقَالَ: «إِذَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَابْتَغُوهُ فِي الشِّعْرِ فَإِنَّهُ دِيوَانُ الْعَرَبِ»، أَمَّا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
صَبْرًا عَنَاقُ إِنَّه لشرباق | فقد سَنَّ لِي قَوْمُكِ ضَرْبَ الْأَعْنَاقْ (١) |
وَجُمْلَةُ وَيُدْعَوْنَ لَيْسَ عَائِدًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِثْلُ ضَمِيرِ إِنَّا بَلَوْناهُمْ [الْقَلَم: ١٧] إِذْ لَا يُسَاعِدُ قَوْلَهُ: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا فِي الدُّنْيَا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ. فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، أَيْ وَيُدْعَى مَدْعُوُّونَ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِالْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَيُمْتَحَنُ النَّاسُ بِدُعَائِهِمْ إِلَى السُّجُودِ لِيَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ الْخُلَّصُ عَنْ غَيْرِهِمْ تَمَيُّزَ تَشْرِيفٍ فَلَا يَسْتَطِيعُ الْمُنَافِقُونَ السُّجُودَ فَيُفْتَضَحُ كُفْرُهُمْ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّكَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مُخْلِصًا يَخِرُّ سَاجِدًا لَهُ وَيَبْقَى الْمُنَافِقُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ كَأَنَّ فِي ظُهُورِهِمُ السَّفَافِيدَ اهـ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ إِدْمَاجًا لِذِكْرِ بَعْضِ مَا يَحْصُلُ مِنْ أَحْوَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ وَحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ رِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ»
الْحَدِيثَ، فَيَصْلُحُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ.
_________
(١) شربق مقلوب شبرق أَي مزق وَيُقَال: ثوب شرباق كقرطاس.
وَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ لِأَنَّ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا يَبْلُغُ النَّاسُ إِلَى عِلْمِهِ وَلَا تَظْهَرُ نِهَايَتُهُ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِمَسْأَلَة الموافاة.
[٤٦]
[سُورَة النازعات (٧٩) : آيَة ٤٦]
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)
جَوَابٌ عَمَّا تضمنه قَوْله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [النازعات: ٤٢] بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ حَالِ السُّؤَالِ مِنْ طَلَبِ الْمَعْرِفَةِ بِوَقْتِ حُلُولِ السَّاعَةِ وَاسْتِبْطَاءِ وُقُوعِهَا الَّذِي يَرْمُونَ بِهِ إِلَى تَكْذِيبِ وُقُوعِهَا، فَأُجِيبُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ إِنْ طَالَ تَأَخُّرُ حُصُولِهَا فَإِنَّهَا وَاقِعَةٌ وَأَنَّهُمْ يَوْمَ وُقُوعِهَا كَأَنَّهُ مَا لَبِثُوا فِي انْتِظَارٍ إِلَّا بَعْضَ يَوْمٍ.
وَالْعَشِيَّةُ: مُعَبَّرٌ بِهَا عَنْ مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ كَأَنَّهُمْ، فَهُوَ تَشْبِيهُ حَالِهِمْ بِحَالَةِ مَنْ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا عَشِيَّةً، وَهَذَا التَّشْبِيهُ مَقْصُودٌ مِنْهُ تقريب معنى المشبّه مِنَ الْمُتَعَارَفِ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ ضُحاها تَخْيِيرٌ فِي التَّشْبِيهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩]. وَفِي هَذَا الْعَطْفِ زِيَادَةٌ فِي تَقْلِيلِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ حِصَّةَ الضُّحَى
أَقْصَرُ مِنْ حِصَّةِ الْعَشِيَّةِ.
وَإِضَافَةُ (ضُحًى) إِلَى ضَمِيرِ (الْعَشِيَّةِ) جَرَى عَلَى اسْتِعْمَالٍ عَرَبِيٍّ شَائِعٍ فِي كَلَامِهِمْ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: أُضِيفَ الضُّحَى إِلَى الْعَشِيَّةِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: آتِيكَ الْغَدَاةَ أَوْ عَشِيَّتَهَا، وَآتِيكَ الْعَشِيَّةَ أَوْ غَدَاتَهَا، وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ بَنِي عُقَيْلٍ:
نَحْنُ صَبَّحْنَا عَامِرًا فِي دَارِهَا | جُرْدًا تَعَادَى طَرَفَيْ نَهَارِهَا |
وَمُسَوِّغُ الْإِضَافَةِ أَنَّ الضُّحَى أَسْبَقُ مِنَ الْعَشِيَّةِ إِذْ لَا تَقَعُ عَشِيَّةٌ إِلَّا بَعْدَ مُرُورِ ضُحًى، فَصَارَ ضُحَى ذَلِكَ الْيَوْمِ يُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَشِيَّةِ الْيَوْمِ لِأَنَّ الْعَشِيَّةَ