وهو سبحانه قسمه في طوله ثلاثة أقسام وجعل القسم المقدم محل الحفظ التخيل والبطن الأوسط محل التأمل والتفكر والبطن الأخير محل التذكر الاسترجاع لما كان قد نسيه ولكل واحدة من هذه الأمور الثلاثة أمر مهم للإنسان لا بد له منه وأنه محتاج إلى التفهم والتفهيم ولو لم يكن حافظا لمعاني التصورات وصورها بعد غيبتها لكان إذا سمع كلمة وفهمها شذت عنه عند مجيء الأخرى فلم يحصل المقصود من الفهم والافهام فجعل له ربه وفاطره خزانة تحفظ له صور المعلومات حتى تجتمع له وتسمى القوة التي فيها القوة الحافظة ولا تتم مصلحة الإنسان إلا بها فانه إذا رأى شيئا ثم غاب عنه ثم رآه مرة أخرى عرف أن هذا الذي رآه الآن هو الذي رآه قبل ذلك لأنه في المرة الأولى ثبتت صورته في الحافظة ثم تتوارى عنه بالحجاب فلما رآه مرة ثانية صارت هذه الصورة المحسوسة مطابقة للصورة المعنوية التي في الذهن فحصل الجزم بأن هذا ذاك ولولا القوة الحافظة لما حصل ذلك ولما عرف أحدا أحدا بعد غيبته عنه ولذلك إذا طالت الغيبة جدا وانمحت تلك الصورة الأولى من الذهن بالكلية لم يحصل له العلم بأن هذا هو الذي رآه أولا إلا بعد تفكر وتأمل
وقد قال قوم إن محل هذه الصور النفس وقال قوم محلها القلب وقال قوم محلها العقل ولكل فريق منهم حجج وأدلة وكل منهم أدرك شيئا وغاب عنه شيء إذ الإدراك المذكور مفتقر إلى مجموع ذلك لا يتم إلا به
والتحقيق أن منشأ ذلك ومبدأه من القلب ونهايته ومستقره في الرأس وهي المسألة التي اختلف فيها الفقهاء هل العقل في القلب أو في الدماغ على قولين حكيا روايتين عن الإمام أحمد والتحقيق أن أصله ومادته من القلب وينتهي إلى الدماغ قال تعالى ﴿ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ﴾ فجعل العقل في القلب كما جعل السمع بالأذن والبصر بالعين وقال تعالى ﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ﴾ قال غير واحد من السلف لمن كان له عقل
واحتج آخرون بأن الرجل يضرب في رأسه فيزول عقله ولولا أن العقل في الرأس لما زال فإن السمع والبصر لا يزولان بضرب اليد أو الرجل ولا غيرهما من الأعضاء لعدم تعلقهما بهما

__________


الصفحة التالية
Icon