وأجاب أرباب القلب عن هذا بأنه لا يمتنع زواله بفساد الدماغ وإن كان في القلب لما بين القلب والرأس من الارتباط وهذا كما لا يمتنع نبات شعر اللحية بقطع الانثيين وفساد القوة بفساد العضو قد يكون لأنه محلها وارتباطه بها والله أعلم
وعلى كل تقدير فذلك من أعظم آيات الله وأدلته وقدرته وحكمته كيف ترتسم صورة السموات والأرض والبحار والشمس والقمر والأقاليم والممالك والأمم في هذا المحل الصغير والإنسان يحفظ كتبا كثيرة جدا وعلوما شتى متعددة وصنائع مختلفة فترتسم كلها في هذا الجزء الصغير من غير أن يختلط بعض هذه الصور ببعض بل كل صورة منهن بنفسها محصلة في هذا المحل وأنت لو ذهبت تنقش صورا وأشكالا كثيرة في محل صغير لاختلط بعضها ببعض وطمس بعضها بعضا وهذا الجزء الصغير تنقش فيه الصور الكثيرة المختلفة والمتضادة ولا يبطل منها صورة صورة
ومن أعجب الأشياء أن هذه القوة العاقلة تقبل ما تؤديه إليها الحواس فتجتمع فيها ثم تعيد كل حاسة منها فائدة الحاسة الأخرى مثاله أنك ترى الشخص فتعلم أنه فلان وتسمع صوته فتعلم أنه هو وتلمس الشيء فتعرفه وتشمه فتعرف أنه هو ثم تستدل بما تسمعه من صوته على أنه هو الذي رأيته فيغنيك سماع صوته عن رؤيته ويقوم لك مقام مشاهدته ولهذا جوز أكثر الفقهاء شهادة الأعمى وبيعه وشراءه وأجمعوا على جواز وطئه امرأته وهو لم يرها قط اعتمادا منه على الصوت بل لو كانت خرساء أيضا وهو أطرش جاز له الوطء
وقد جعل الله سبحانه بين السمع والبصر والفؤاد علاقة وارتباطا ونفوذا يقوم به بعضها مقام بعض ولهذا يقرن سبحانه بينهما كثيرا في كتابه كقوله ﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ﴾ وقوله تعالى ﴿ وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ﴾ وقوله ﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ﴾ وهذا من عناية الخالق سبحانه بكمال هذه الصورة البشرية لتقوم كل حاسة منها مقام الحاسة الأخرى وتفيد فائدتها في الجملة لا في كل شيء