يتطلبها إيقاف التيار المتمرد على السلطة، وتعويق السلطة لذلك عن المضي إلى غايتها.
أما حضارة القرآن فتختلف عن جميع الحضارات من هذه الوجهة، فالقرآن هو الفطرة البشرية التي لا تختلف فيها أمة ولا جنس، فهو مقنع لجميع الناس بجدواه وعظيم فائدته، ودافع لهم بما يحتويه من وجوه الحكمة الملائمة لجميع الأجناس إلى الدرس والتدبر الذي لا يزيد الناس إلا إيمانًا وإمعانًا في استكشاف الحِكَم التي لا تنتهي، ولا تضعف في قوتها على كثرتها الكاثرة، ومن هنا كان العلم بدستور الحضارة الإسلامية إلى جانب الاقتناع به عاملًا رئيسيًّا من عوامل السرعة في البناء، والقوة في الأسس التي تقوم عليها الحضارة، وتوفير جهود السلطات الحاكمة؛ حيث تتفرغ لارتياد آفاق جدية لإقامة صرح الإسلام على أرضها.
لقد أمر رب القرآن بتدبر القرآن فقال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ ١، ونعى على من لا يتدبرونه فقال: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ ٢، ولا يمكن أن يكون التدبر إلا مقرونًا بفقه المعاني والأهداف والحكمة؛ ولهذا لم يؤثر خلاف بين الصحابة على معاني القرآن إلا نادرًا، ولم يتهرب المخالفون للشريعة من الحدود المشروعة لأمثالهم؛ بل تقدموا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طالبين إقامة الحد عليهم، رغم محاولات ردهم عن الاعتراف، والمشروعة للتثبت من أهلية طالب الحد، وجديته في طلب التطهير من الذنب؛ حيث وصل هذا التطهير إلى الموت رجمًا بالحجارة، وما كان ذلك إلا لأن هؤلاء قد وصلوا إلى درجة من الوعي القرآني والإسلامي لم يصل إليها واضعو الدساتير الأرضية فضلًا عن الشعوب المحكومة بها.

١ سورة "ص"، الآية: ٢٩.
٢ سورة النساء، الآية: ٨٢.


الصفحة التالية
Icon