تلك عظمة لا تساق إليها الشعوب بالعصا؛ وإنما تقوم على رعايتها الشعوب بمحض الإيمان والغيرة والعلم والتطلع إلى مزيد من النجاح، الأمر الذي استطاع به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه بناء أعظم حضارة عرفها التاريخ في ربع قرن من الزمان، لا يكفي لإصلاح مدينة واحدة تحت لواء دستور أرضي في أي دولة من دول العالم، وفي جميع أحقاب التاريخ.
ولعل هذا المعنى العظيم هو الذي يفسر لنا الحوافز التى شرعها الله تعالى لحفَّاظ القرآن، والتالين له في مختلف الأوقات -لا سيما قرآن الفجر المشهود- حيث يصل الإنسان في هذا الوقت إلى درجة عليا من الصفاء الذي يهيئ لمن يصاحب القرآن فيه فهمًا لا يمكن أن يتيسر في وقت آخر، حتى لقد شجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من يقرأ القرآن بلا فهم تذرعًا إلى دفعه إلى درجة من الفهم فيما بعد، وكذلك من تشق عليهم القراءة تدريبًا لهم على أن يألفوا القرآن فتسهل عليهم قراءته، ثم فهمه وتدبره، وكان القرآن شرطًا لصحة الصلاة، وأفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه، إلى آخر ما هو مسطور في السنة النبوية المشرقة.
وخامسة الدلائل على عظمة القرآن: أن إجماع أهله حجة على الناس جميعًا في مختلف العصور، ولم يمنح الله تلك الصفة على المستوى العالمي لأمة غير أمة القرآن، وما كانت عظمة تلك الأمة على هذه الصورة العجيبة إلا من عظمة دستورها: كتاب الله الحكيم.
والذي يتصل بالقرآن من دلائل حجية إجماع المسلمين على العالم قول الله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ ١، ولا خروج إلى النور إلا بالقرآن، فإذا أجمعوا على باطل كانت نتيجة إجماعهم إما بقاء الناس في الظلمات، وإما إعادة الناس من النور إلى الظلمات، وهو ما يشهد التاريخ بخلافه؛ إذ أمة القرآن بقيادة رسولهم -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده من