تكن على هذا النحو، ولم تنلْ حظها من التحرِّي والدقة، والجمع والترتيب، والاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته، والإجماع عليها، بمثل ما نال مصحف أبي بكر، فهذه الخصائص تميَّز بها جمع أبي بكر للقرآن، ويرى بعض العلماء أن تسمية القرآن بالمصحف نشأت منذ ذلك الحين في عهد أبي بكر بهذا الجمع.
فلم تكن إذًا كتابة القرآن الكريم أمرًا مستحدَثًا، فقد اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- كتابًا يكتبونه، وأذن لأصحابه بكتابته، فكتبوه مفرَّقًا في الجلود والرقاع وسعف النخل، وغير ذلك مما أتيح لهم الكتابة عليه.
"وقال الحارث المحاسَبي في كتاب "فهم السنن": كتابة القرآن ليست بمحدثة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرَّقًا في الرقاع والأكتاف والعسب، فإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعًا، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء، قال: فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال؟
قيل: لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز، ونظم معروف، قد شاهدوا تلاوته من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرين سنة، فكان تزوير ما ليس منه مأمونًا، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحفه"١.
لماذا اختار الصديق زيدًا لجمع القرآن؟:
كان الصديق -رضي الله عنه- أعلم الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمقادير الرجال ومواهبهم، وكان من أحرص الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
وكان زيد هو أنسب الناس في نظره، ونظر أكثر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجمع القرآن؛ لما امتاز به من خصال كريمة لم تتوفَّر إلّا للقليل من أقرانه.

١ المرجع السابق.


الصفحة التالية
Icon