الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، والكمال في الصنائع إضافي، وليس بكمال مطلق؛ إذ لا يعود على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود إلى أسباب المعاش، ويحسب العمران والتعاون عليه، لأجل دلالته على ما في النفوس١.
"ولا ينبغي أن تنخدع بما في كلام العلامة ابن خلدون -رحمه الله- من الجدية والصراحة والتحليل، فمع أنه مصيب في قوله: إن أكثر الأوجه التي سيقت في تعليل مخالفة الرسم في بعض الكلمات -المبنية على أساس اختلاف المعاني خاصة- لا أصل له إلّا التحكُّم المحض، ومع صدق الواقع فيما كان من بعض العلماء من مذاهب تنزيهًا للصحابة من أن ينسب إليهم الخطأ في الرسم، فإنه غير مصيب -إطلاقًا- في تصوره لحالة الكتابة العربية لأول الإسلام، فلا يعني ضعف القدرة على إجادة كتابة الحروف والتفنن في رسمها في حواضر الحجاز -إن صحَّ ما ذهب إليه في ذلك- أن الكتابة عندهم كانت عاجزة عن الاستجابة لمتطلبات اللغة، أو مضطربة في تمثيل أصواتها، فقد كانت الكتابة العربية قد عاشت تجربة طويلة من الاستعمال الواسع في أطراف الجزيرة قبل أن تدلف إلى الحجاز قبل الإسلام بقرن أو قرنين من الزمن، وإذا كانت قد عانت من وحشة البداوة في الحجاز، فإن ذلك لم يتجاوز صورة الحرف وأداة الكتابة.
ونجد أن الوجوه المخالفة التي أقلقت العلماء على مدى القرون يمكن أن تكون دليلًا قويًّا على رهافة الحسِّ اللغوي عند الصحابة، الذين تولَّوْا كتابة القرآن العظيم عندما حاولوا تدوين الظواهر الصوتية التي كانوا يحسُّونها عند التلاوة، مع المحافظة على صورة الكلمات القديمة، فجاء الرسم محافظًا على صور الكلمات المعهودة وممثِّلًا للعناصر الصوتية الجديدة"٢.

١ انظر المقدمة ص٣٧٨.
٢ "رسم المصحف - دراسة لغوية تاريخية" للأستاذ غانم قدوري الحمد ص٢٣.

٣- اختلاف الرسم لاختلاف المعنى:
زعم قوم أن كُتَّاب المصاحف راعوا عند كتابتها المعاني الدقيقية التي تشتملها وتنطوي عليها آيات القرآن، فكتبوا بعض الكلمات مخالِفَة للخط الهجائي؛ رعاية لمعانيها المستنبطة.


الصفحة التالية
Icon