٣- وأما الصورة الثالثة: وهي أن ترد في نزول الآية روايات صحيحة صريحة، وأخرى صريحة غير صحيحة، فإنه يُقَدَّمُ الصحيح الصريح على الصريح غير الصحيح.
مثاله ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب البجلي قال: اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يقم ليلتين أو ثلاثًا، فأتته امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلّا قد تركك، لم يقربك ليلتين أو ثلاثًا، فأنزل الله: ﴿وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾.
وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة، عن حفص بن ميسرة، عن أمه، عن أمتها، وكانت خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّ جروًا دخل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم، فدخل تحت السرير، فمات، فمكث النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: "يا خولة، ما حدث في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني! " فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة، فأنزل الله ﴿وَالضُّحَى﴾ إلى قوله: ﴿فَتَرْضَى﴾.
"قال ابن حجر في شرح البخاري: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، وفي إسناده مَنْ لا يُعْرَفُ، فالمعتمَد ما في الصحيحين"١.
٤- وأما الصورة الرابعة: وهي أن تكون الروايات متساوية في الصحة، وكان في أحدها وجه من وجوه الترجيح، فإنها تُقَدَّمُ الرواية الراجحة، كأن يكون الراوي مثلًا حضر القصة، أو أتى بوصف لم يأت به آخر، أو أقسم بالله على صحة ما روى، ونحو ذلك من المرجحات.
مثاله ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: "كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمرَّ بنفرٍ من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه، فقال: حدِّثْنَا عن الروح، فقام ساعة ورفع رأسه، فعرفت أنه يوحي إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ٢.
٢ الإسراء: ٨٥.