وقد أخرج الترمذي وصحَّحَه عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: اسألوه عن الروح، فسألوه فأنزل الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ الآية.
فهذه الرواية تقتضي أنها نزلت بمكة حيث كانت قريش.
والرواية الأولى تقتضي أنها نزلت بالمدينة، وترجَّح الرواية الأولى لحضور ابن مسعود القصة، ثم لما عليه الأمة من تلقي صحيح البخاري بالقبول، وترجيحه على ما صحَّ في غيره.
وقد اعتبر الزركشي هذا المثال من باب تعدد النزول وتكرره١.
فتكون هذه الآية قد نزلت مرتين، مرة بمكة ومرة بالمدينة، واستند في ذلك إلى أن سورة "سبحان" مكية بالاتفاق.
وإني أرى أن كَوْن السورة مكية لا ينفي أن تكون آية منها أو أكثر مدنية، وما أخرجه البخاري عن ابن مسعود يدل على أن هذه الآية: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ مدنية.
فالوجه الذي اخترناه من ترجيح رواية ابن مسعود على رواية الترمذي عن ابن عباس أَوْلَى من حمل الآية على تعدُّد النزول وتكرره.
ولو صحَّ أن الآية مكية، وقد نزلت جوابًا عن سؤال، فإن تكرار السؤال نفسه بالمدينة لا يقتضي نزول الوحي بالجواب مرة أخرى، بل يقتضي أن يجبب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجواب الذي نزل عليه من قبل.
٥- وأما الصورة الخامسة: وهي أن ترد الروايات متساوية في الصحة، وليس في إحداها ما يرجحها على غيرها، فإنه يجمع بينها إن أمكن ذلك بلا تكلُّف، فتكون الآية قد نزلت على سببين أو أكثر، ولا مانع من ذلك إن تقارب نزول الآية على هذين السببين أو الأكثر.