السبب الذي نزلت عليه الآية، ظهر المعنى الراجح، وتلاشى المعنى المرجوح الذي توهمه المخاطب من الإجمال، فارتفع الإشكال، من هذا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ ١.
فقد وقع الإجمال في الاسم الموصول "مَنْ"، فإنه لا يُعْرَفُ مَنْ المراد على وجه التحقيق بما وقع في حيزه من شرط وجواب، هل هم اليهود وحدهم بدليل السياق، أم المراد عموم المكلَّفين، فإذا عُلِمَ من سبب النزول أن المراد به اليهود والنصارى، عُلِمَ أن الذين تركوا الحكم بالتوراة والإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد -صلى الله عليه وسلم.
وسوابق الآية ولواحقها يدل على ذلك، غير أنه لا يمنع أن تتناول الآية بعمومها جميع المكلَّفين إن تركوا الحكم بما أنزل الله جملة، وأصرُّوا على ذلك، وفعلوا ما فعله اليهود والنصارى من تحريف الكِتَاب، وترك العمل به، بناءً على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول الجمهور من المحققين.
ومنه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ ٢.
فإنها من قبيل المجْمَل الذي يحتاج بيان المراد منه على وجه التحديد، إذ يتناول لفظ الظلم جميع الذنوب التي يقترفها الإنسان، لهذا أشكل على الصحابة معناها، فأفصح لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن مراد الله منها.
قال البخاري: حدَّثَنَا محمد بن بشَّار، حدَّثَنَا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله "يعني: ابن مسعود" قال: لما نزلت: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾.
قال أصحابه: وأيُّنَا لم يظلم نفسه؟ فنزلت: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.
٢ الأنعام: ٨٢.