وقد تقدَّمَ بيان شيء من ذلك في مقدمة هذا المبحث، وعند ذكر أقسام أسباب النزول، فقد قلنا هناك: إن منها ما يبين الإبهام ويرفع الإجمال، ويزيل الإشكال، وضربنا لذلك أمثلة، نضيف إليها هنا أمثلة أخرى؛ لكي تتحقق من أهمية هذا العلم في تقرير الأحكام، وبيان المعاني والمقاصد المرادة من كلام الله -عز وجل.
أ- ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ١.
فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما، أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فَرِحٌ بما أوتي، وأحبَّ أن يُحْمَدَ بما لم يفعل يُعَذَّب، لنعذَّبَنَّ أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية، إنما نزلت في أهل الكتاب، ثم تلا: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ الآية.
قال ابن عباس: سألهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فكتموه إياه وأخذوا بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمان ما سألهم عنه".
ب- ما جاء في سبب نزول قوله تعالى:
﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ ٢.
فإن ظاهر لفظ الآية لا يقتضي أن السعي فرض؛ لأن رفع الجناح يفيد الإباحة لا الوجوب، وذهب بعضهم إلى هذا تمسكًا بالظاهر، وقد ردَّت عائشة على عروة بن الزبير في فهمه ذلك بما ورد في سبب نزولها، وهو أن الصحابة تأثَّموا من السعي بينهما؛ لأنه من عمل الجاهلية، حيث كان على الصفا إساف، وعلى المروة نائلة، وهما صنمان، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما.
"عن عائشة أن عروة قال لها: أرأيت قول الله:

١ آل عمران: ١٨٨.
٢ البقرة: ١٥٨.


الصفحة التالية
Icon