فقد قالوا في تأييد مذهبهم هذا: إن المطلوب شرعًا هو صَرْفُ اللفظ عن مقام الإهمال، إذ لم يخاطب الله المكلَّفين بشيء لا يفهمون معناه، ولا يعقلون المراد منه على الجملة.
وما دام في الإمكان حمل كلام الشارع على معنى سليم، فالنظر قاضٍ بوجوبه، وانتفاعًا بما ورد عن الحكيم العليم.
المذهب الثالث: مذهب المتوسطين بين السلف والخلف.
وهؤلاء يقولون بأن التأويل نوعان: قريب وبعيد؛ فالقريب نقول به، والبعيد نتوقف عنه.
وقد نَسَبَ السيوطي هذا المذهب إلى ابن دقيق العيد، ونقل عنه قوله: "إذا كان التأويل قريبًا من لسان العرب لم يُنْكَر، أو بعيدًا توقفنا عنه، وآمنَّا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه، قال: وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرًا مفهومًا من تخاطب العرب قلنا به من غير توقيف، كما في قوله تعالى: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾ ؛ فنحمله على حق الله وما يجب له" أ. هـ١.
ومذهبه في التأويل القريب متَّفَقٌ عليه، كما سبقت الإشارة إليه في أول هذا المبحث.
ومذهبه في التأويل البعيد يشبه مذهب الفريق الأول من الخلف، ويخالف الفريق الثاني الذين يخوضون في التأويل، ويخالف أيضًا ما عليه السلف من إثبات ما أثبته الله لنفسه بلا توقُّفٍ من غير تشبيه، ولا تجسيم، فيجمعون بين الحسنيين -بين البعد عن التأويل المخالِف لظاهر النصوص، والتوقف عن القول بأن لله من الصفات ما أثبته لنفسه إجراء للنصوص على ظاهرها؛ لأن إعمالها أولى من أهمالها، فما نزل القرآن إلا ليتدبر معناه على وجه مقبول شرعًا وعقلًا، على ما سيأتي تفصيله عند الكلام على الحروف المقطعة التي افتتح الله بها تسعًا وعشرين سورة من كتابه العزيز.