الثالث، أي: الحقيقة التي يُؤَوَّل إليها الكلام، فحقيقة ذات الله وكنهها وكيفية أسمائه وصفاته، وحقيقة المعاد لا يعلمها إلّا الله.
والذين يقولون بالوقف على قوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ على أن الواو للعطف وليست للاسئتناف، إنما عُنوا بذلك التأويل بالمعنى الثاني، أي: التفسير، ومجاهد إمام المفسرين، قال الثوري فيه: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك، فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه، فالمراد به أن يعرف تفسيره.
وبهذا يتضح أنه لا منافاة بين المذهبين في النهاية، وإنما الأمر يرجع إلى الاختلاف في معنى التأويل.
ففي القرآن ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، ولكن الحقيقة ليست كالحقيقة، فأسماء الله وصفاته، وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه في اللفظ والمعنى الكلي، إلّا أن حقيقة الخالق وصفاته ليست كحقيقة المخلوق وصفاته، والعلماء المحققون يفهمون معانيها، ويميزون الفرق بينها، وأما نفس الحقيقة فهي من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
ولهذا لما سُئِلَ مالك وغيره من السَّلف عن قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾.
قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وكذلك قال ربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك قبله: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان".
فبيَّن أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهولة.
وكذلك الشأن بالنسبة إلى أخبار الله عن اليوم الآخر، ففيها ألفاظ تشبه معانيها ما هو معروف لدينا، إلّّا أن الحقيقة غير الحقيقة، ففي الآخرة ميزان وجنة ونار، وفي الجنة: ﴿أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ ١.
﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ ٢.
٢ الغاشية: ١٣-١٦.