"وإنما قلنا ذلك جمعًا بين هذه النصوص في العمل بها، ودفعًا للتعارض فيما بينها، ومعلوم بالأدلة القاطعة -كما يأتي- أن القرآن أنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- مفرَّقًا لا في ليلة واحدة، بل في مدى سنين عددًا، فتعيَّنَ أن يكون هذا النزول الذي نوَّهت -هذه الآيات الثلاث نزولًا آخر غير النزول على النبي -صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الأخبار الصحيحة مبينة لمكان هذا النزول، وأنه في بيت العزة من السماء الدنيا.
أخرج الحاكم بسنده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: "فُصِّلَ القرآن من الذكر"١ فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي -صلى الله عليه وسلم".
وأخرج النسائي والحاكم والبيهقي من طريق داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: "أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أُنْزِل بعد ذلك في عشرين سنة"٢ ثم قرأ:
﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ ٣.
﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ ٤.
وأخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما من طريق منصور، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "أُنْزِلَ القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله -صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض".
وأخرج ابن مردويه والبيهقي، عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال: أوقع في قلبي الشك قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ ٥.
٢ هذا التحديد تقريبي؛ لأن القرآن نزل منجمًا في نحو ثلاث وعشرين سنة، والعرب يتجاوزون عن الكسور في كلامهم.
٣ الفرقان: ٣٣.
٤ الإسراء: ١٠٦.
٥ البقرة: ١٨٥.