مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ١ فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخَّصَ فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام.
لكن قد ورد ما يفيد أنها محكَمة، فقد روى البخاري في التفسير عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في هذه الآية: ليست منسوخة، وهو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطعيان أن يصوما، فيطعمان كل يوم مسكينًا.
والصواب عندي: إنه لا تناقض بين ما قاله ابن عباس -رضي الله عنهما، وما ذهب إليه الجمهور، فالنَّسْخُ ثابت في حقِّ الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه، بقوله: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾.
وأن الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم إلّا بمشقَّة شديدة، فله أن يُفْطِرَ ويُطْعِمَ عن كل يوم مسكينًا.
وقد صحَّحَ القرطبي قول ابن عباس وقول الجمهور معًا، وجمع بينهما جمعًا أراه في غاية الحسن فقال: "قد ثبت بالأسانيد الصِّحَاح عن ابن عباس، أن الآية ليست بمنسوخة، وأنها محكَمَة في حق من ذُكِرَ.
والقول الأول: صحيح أيضًا، إلّا أنه يحتمل أن يكون النَّسْخُ هناك بمعنى التخصيص، فكثيرًا ما يُطْلِقُ المتقدِّمون النَّسْخَ بمعناه -أي: بمعنى التخصيص- والله أعلم".
ورجَّحَ الشيخ محمد عبده قول ابن عباس على قول الجمهور؛ جريًا على عادته في إنكار النَّسْخِ، وقال فيما قال: القاعدة أنه لا يُحْكَمُ بالنَّسْخِ إذا أمكن حمل القول على الإحكام.
وأقول: إن هذه القاعدة تتمشَّى مع النَّسْخِ بمعناه عند المتأخرين، وهو رفع الحكم بالكلية وإبداله بحكم آخر، ولا تتمشَّى مع النَّسْخِ بمعناه عند المتقدِّمين؛ فإن معناه عندهم واسع كما ذكرنا من قبل، فيشمل تخصيص العام، وتقييد المطلق، وغير ذلك مما سبق بيانه.
٣- قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ

١ البقرة: ١٨٥.


الصفحة التالية
Icon