وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم جثَوْا على الركَبِ، وقالوا: يا رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنْزِلَتْ عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فلمَّا أقرَّ بها القوم وذلَّت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ ١ فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾.
والمراد بالنَّسْخِ هنا من قبيل بيان المجمَلِ وتقييد المطلَق على حسب مفهوم المتقدمين من الصحابة والتابعين، لا على حسب مفهومه عند المتأخرين، فالقول بعدم النَّسْخِ أسلم.
٧- قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه﴾ ٢ قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم﴾ ٣.
فإن كان النَّسْخُ بمعنى بيان المجمَل وتقييد المطلَق، كما هو مفهوم المتقدمين للنَّسْخِ - فلا مانع من القول به؛ لأن الآية الثانية بيان للآية الأولى وتقييد لمطلقها، فمن المعلوم شرعًا أن الطاعة على قدر الطاقة.
وقد نقل ابن كثير عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية بأنها لم تنسخ، ولكن حقَّ تقاته أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.

١ البقرة: ٢٨٥.
٢ سورة آل عمران: ١٠٢.
٣ سورة التغابن: ١٦.


الصفحة التالية
Icon