تجتمع هذه الأغراض كلها في القسَم، وقد يجتمع بعضها دون البعض الآخر، ولكن المقصد الأصيل من القسم هو توكيد المقسَم عليه وتقريره وتثبيته في قلوب العباد ليستيقنوه حق الاستيقان، على أن توكيد المقسَم عليه بالمقسَم به يُعَدُّ ضربًا من الإيجاز، فهو دائمًا يأتي بالدعوة مصحوبة بدليلها، فيوفر للقارئ منطلقًا رحبًا، ويفتح له أبوابًا واسعة للتأمل والنظر.
فلو وقف القارئ أمام آية من آيات القسم، وأخذ في تدبرها وتفهُّم معانيها، لاستطاع أن يستخرج منها عشرات، بل مئات الأدلة على صحة الدعوى وصدق المقسَم عليه، فإن المقسَم به دائمًا ما يحمل السامع على الإيمان بالمقسَم عليه قبل أن يرد على مسامعه ذكره.
فإذا قرأ المتأمل مثلًا قوله تعالى: ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾.
إلى قوله -جل شأنه: ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا﴾.
أيقن أن من بيده تصريف هذه الآيات الكونية قادرًا على كل شيء.
فالمشركون لما أنكروا الرسالة والوحدانية، والبعث والجزاء، واستبعدوا ذلك كله أيما استبعاد، اقتضى توكيد ما أنكروه، وتقرير ما جحدوه بشتَّى أنواع التوكيد، ولا شكَّ أن القسَم من أقوى هذه الأنواع، وقد جرت عادة العرب توكيد عظائم الأمور به، فجاء القرآن الكريم على وفق ما جرت به عادتهم من جهة، وللأغراض التي ذكرنا بعضها من جهة أخرى.
ففي الذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات، عظات بالغة، وآيات ناطقة بوحدانية الله تعالى وعظيم قدرته على تصريفها، وإرسالها نعمة على قوم، ونقمة على آخرين، وجعل فيها الحياة للإنسان والحيوان والنبات، وصنَّفَها وفق حكمته أصنافًا شتَّى، وجعل لكل صنف منها وظيفة كونية خاصة.
فمنها ما يذرو النبات ويحركه لينمو ويزدهر، ومنها ما يحمل السحب المثقَلَة بالماء.


الصفحة التالية
Icon