من أوضاع الكلام منقول، وكأنه بيَّنَها على حَدِّ قول بعض الأدباء "وضع مرتجل" لا ترى سابقًا جاء بمثاله، ولا لاحقًا طُبِعَ على غراره، فلو أن آية منه جاءتك في جمهرة من أقوال البلغاء على مكانها، واستمازت من بينها، كما يستميز اللحن الحسَّاس بين ضروب الألحان، أو الفاكهة الجديدة بين ألوان الطعام"١.
وهذا مطلب له دليله، وإجمال له تفصيله، ومحل ذلك مبحث الإعجاز.
١ أ. هـ بتصرف يسير من كتاب "النبأ العظيم" للشيخ محمد عبد الله دراز ص٨٥-٨٧.
الخاصة الثانية: دقة التصوير
ومع جمال التعبير تكون دقة التصوير، وهي نوع آخر من أنواع الجمال الفني المعجِز الذي تتيه فيه عقول البلغاء في كل زمان ومكان.
فالقرآن الكريم يبرز المعاني المعقولة في صور محسَّة منتزَعَة من الواقع المشاهَد، مؤتلفة ائتلافًا عجيبًا في قوالب كلية متحركة، تشعر فيها بالأصوات والألوان والحركات، مما يجعلك تعيش مع الواقع الذي تصوره لك هذه التشبيهات والاستعارت والكنايات، المسبوكة سبكًا فريدًا يأخذ بمجامع القلوب، ويملك على الإنسان حسَّه ومشاعره، فلا يحتاج إلى مزيد تصوير للحقائق التي يذكرها القرآن في ثنايا هذه اللوحات البارعة البديعة في عناصرها، وائتلافها وانسجامها مع معانيها ومراميها.
إنها تشبيهات واستعارات وكنايات حيوية، تستمد حيوتها من الطبيعة في أسمى مظاهرها وأبهج مناظرها، فكانت خالدة على مرِّ الزمان، لا يمسها وهَنٌ، ولا يعتريها ضَعْفٌ، ولا يطويها نسيان، تمثل في الذهن، فلا تفارقه، وتكمنُ في القلب فلا تغادره، وذلك لما تتميز به من السمات البلاغية التي ينقِّب عنها الأدباء والبلغاء، فلا يجدون منتهى يقفون عنده حتى يكون هذا المنتهى هو المبتدى، فيعودون في التنقيب على بدء، وهكذا إلى أن يشاء الله.
ومن سماته التي اكتشفوها بالاستقراء والتتبُّع لهذه الصور البيانية أنها تصوِّر الغائب حتى يصبح حاضرًا، وتقرِّب البعيد النائي حتى يصير قريبًا دانيًا.