ومن سماتها إنها تتغلغل في النفس البشرية حتى تصير جزءًا من كيانها الروحي.
فإذا ما تدبَّر المؤمن البصير هذه الصور المنتزعة من الواقع المشاهَد كما قلنا، وتفاعل معها وانفعل بها، وهضم معانيها، جرت هذه المعاني في عروق روحه مجرى الدم في عروق بدنه، فنمت وسمت إلى آفاق رحبة من العلم والمعرفة واليقين.
ومن سماتها أيضًا التلوين في التشبيهات، فكثيرًا ما يكون المشبَّه واحدًا والمشبَّه به شيئان فأكثر، تثبيتًا للمعاني المرادة، وتعميقًا لآثارها في النفس.
ومن ذلك ما شبَّه الله به حال المنافقين في سورة البقرة، بقوله -جل شأنه: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ١.
والتشبيه الأول ناري والثاني مائي، والمشبَّه فيهما المنافقون، والمشبَّه به أمور كثيرة مؤتلفة لا ينفك بعضها عن بعض، والصور فيهما كلية متزاحمة في نسق فريد، لإبراز أحوال هؤلاء المنافقين إبرازًا لا تخفى معه حقيقة من حقائقهم، ولا خفيَّة من خفاياهم، فقد أخرجت لنا ما كان يدور في خلجات نفوسهم من شرٍّ أرادوا به المسلمين، وما كانت تنطوي عليه ضمائرهم من خبث ومكر ودهاء، وكشف لنا بجلاء عن عاقبة أمرهم في الدنيا والآخرة.
فهي في إدعائهم الإيمان كمن أوقد لنفسه نارًا لينتفع بها، وفي إخفائهم الكفر يكون مثلهم كمثل من لم ينتفع بالنار التي أوقدها، أو أوقدت له، فالمنافقون قد أظهروا الإيمان حمايةً لأنفسهم وأموالهم، ولتكون لهم مثل ما للمؤمنين من الحقوق العامة في الغنيمة، والزكاة، وغيرها.