لكنهم بكفرهم الذي أخفَوْه فأظهره الله في محكَم آياته فقدوا الانتفاع والتمتُّع بهذه الحقوق الدنيوية، وفقدوا أيضًا ثواب الآخرة، وحُرِمُوا نور الله الذي أوقدته في قلوبهم فطرة الله التي فطرهم عليها، وأوقده لهم نبيهم بما كان يتلوه عليهم من قرآن.
وهم في تخوّفهم من أن يفتضح أمرهم، واحتيالهم في إخفاء كفرهم، وإفسادهم في الأرض، ومداهنتهم المؤمنين تارة، وطاعتهم لشياطينهم من الجن والإنس تارة أخرى؛ كمثل أهل الصيب الذين يكونون في أمسِّ الحاجة إليه، فينزل عليهم مصحوبًا برعد وبرق، وظلمات بعضها فوق بعض، فهم يطمعون في الغيث، ولكنهم يخشون ما يصحبه من رعد وبرق وظلمة، يحاولون أن يتجاهلوه بوضع أناملهم في آذانهم توقيًا من الموت فزعًا وهلعًا، ولكن دون جدوى، فالله محيط بهم وبأمثالهم.
ومثلهم في ترددهم في شأن الإيمان، وحيرتهم بين إرضاء إخوانهم من اليهود والمشركين، لنَيْل ما في أيدي كليهما من المنافع العاجلة، مثلهم في ذلك كمثل من يمشي في ظلمة حالكة، لا يبصر تحت قدميه شيئًا، فيبرق البرق، فيمشي على ضوئه هنيهة، فإذا ذهب البرق -وسرعان ما يذهب- وقف كما هو، لا يقدِّمُ رجلًا ولا يؤخِّر أخرى، فقد بلغ به الأمر أقصى درجات الخطر، فأفقده القدرة على مجرد التفكير في الذهاب والإياب.
وفي هذين المثلين وجوه من التشبيه لا تكاد تنحصر، فهي تختلف بحسب حال الممثَّل له في جميع مواطنه وشتَّى عصوره، بحيث لو أجرى كل مثل من هذين المثلين على قوم من المنافقين في أي عصر، وأي مكان، لطابق المشبَّه المشبَّه به، وطابق الاسم المسَمَّى.
ومن عجيب أمر الأمثال في القرآن الكريم أنها تخلو من المبالغات التي تخرِجُ الكلام عن المعاني المرادة إلى جوٍّ من الخيال المفرِط، الذي يؤدي إلى تشتت الأذهان، وذهاب الحقائق وخلوِّ الأسلوب عن الإقناع العقلي، وإن صحبه شيء من الإمتاع العاطفي.


الصفحة التالية
Icon