لهذا كانت تشبيهات القرآن، وأمثاله صورًا حية تعبِّر عن الواقع، لا تعدوه إلى غيره، ومع ذلك تجدها لا تخلو من الإمتاع العاطفي، والتأثير الوجداني، بما اشتملت عليه من ألوان المعاني والبيان والبديع، الذي يخلو تمامًا من التكلُّف والاعتساف، مع رقَّةٍ في النظم والحواشي والفواصل، كانت ولا تزال زادًا للبلغاء والأدباء، ومتعة عظيمة لكل ذوَّاقة لفنون الكلام البليغ في أسمى صوره، وأبهى معانيه.
وإذا كان للأمثال القرآنية هذا الجمال الفني الرائع، كان للكنايات القرآنية لون آخر من هذا الجمال المتجدِّد على مرِّ العصور، فإنها تأتي بالمعنى مصحوبًا بدليله المقنع، ويتلاشى في طيَّاتها ما نستقبح ذكره من الأقوال، وتقوم بما يقوم به التشبيه والاستعارة "وهي لون من التشبيه كما هو معروف" من إبراز المعاني والأهداف في صور محسَّة مفردة أو مركَّبة، موجبة أو سالبة، فيها تأديب وتهذيب، وترغيب وترهيب، وتنويه وتعريض، وتلميح وتمثيل، وغير ذلك من المقاصد والغايات.
يجد فيها السامع من الإقناع العقلي، والإمتاع العاطفي، ما لم يجده في غيرها من الكنايات المنتشرة في كلام الناس، هذا مع الإيجاز البليغ، والتعبير الأخَّاذ.
وكنايات القرآن منتَزعة أيضًا من الواقع المشاهَد، وأكثرها أمثال مرسَلٍة مسلمة المقدمات والنتائج عند جميع العقلاء في كل زمان ومكان، مناسِبَة لجميع الظروف والملابسات الزمنية والإنسانية، لا تبلى جدتها، ولا تبدل بغيرها، ولا يغني غناءها سواها.
وهذا أمر أسمى من أن ننبه عليه ونشير إليه.
ومن كنايات القرآن الكريم قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ﴾ ١.

١ آية: ٧٥.


الصفحة التالية
Icon