حدة، والغريب أنه لم يذكر فيه كتاب الواسطي، ولا كتاب الرماني، ولا كتاب الخطابي الذي كان يعاصره، وأومأ إلى كتاب الجاحظ بكلمتين لا خير فيهما، فكأنه هو ابتداء بالتأليف في الإعجاز بما بسط في كتابه واتسع، وفي ذلك ما يثبت لنا أن عهد هذا التأليف لا يرد في نشأته إلى غير الجاحظ.
على أن كتاب الباقلاني وإن كان فيه الجيد الكثير، وكان الرجل قد هذَّبه وصفاه، وتصنَّع له، إلا أنه لم يملك فيه بادرة عابها هو من غيره، ولم يتحاش وجهًا من التأليف لم يرضه مَنْ سواه، وخرج كتابه كما قال في كتاب الجاحظ: "لم يكشف عَمَّا يلتبس في أكثر هذا المعنى".
فإن مرجع الإعجاز فيه إلى الكلام، وإلى شيء من المعارضة البيانية بين جنس وجنس من القول، ونوع وآخر من فنونه، وقد حشد إليه أمثلة من كل قبيل من النظم والنشر، ذهبت بأكثره وغمرت جملته، وعدَّها في محاسنه وهي من عيوبه.
وكان الباقلاني -رحمه الله وأثابه- واسع الحيلة في العبارة، مبسوط اللسان إلى مدى بعيد، يذهب في ذلك مذهب الجاحظ، ومذهب مقلده ابن العميد على بصر وتمكُّن، وحسن تصرُّف، فجاء كتابه وكأنه في غير ما وضِعَ له، لما فيه من الإغراق في الحشد، والمبالغة في الاستعانة، والاستراحة إلى النقل، إذ كان أكبر غرضه في هذا الكتاب أن ينبه على الطريقة، ويدل على الوجه، ويهدي إلى الحجة، وهذه ثلاثة لو بسط لها كل علوم البلاغة، وفنون الأدب لوسعتها، وهي مع ذلك حشو ووصل.
على أن كتابه قد استبدَّ بهذا الفرع من التصنيف في الإعجاز، واحتمل المؤنة فيه بجملتها من الكلام والعربية والبيان والنقد، ووفى بكثير مما قصد إليه من أمهات المسائل والأصول التي أوقع الكلام عليها، حتى عَدُّوه الكتاب وحده، لا يشرك العلماء معه كتابًا آخر في خطره ومنزلته وبُعْدِ غوره، وإحكام ترتيبه، وقوة حجته، وبسط عبارته، وتوثيق سرده، فأنظر ما عسى أن يكون غيره مما سبقه أو تلاه.


الصفحة التالية
Icon