والمتأمل في أدلة الفريقين يبستبعد وجهة نظر الزركشي، ويحكم بحقيقة الاختلاف.
القول الثالث: أنَّ سور القرآن ترتيبها توقيفي إلّا قليلًا منها؛ فترتيبيه عن اجتهاد من الصحابة، واختلف أصحاب هذا القول في مقدار هذا القليل وتحديده، فابن عطية يرى: أن كثيرًا من السور كان قد عُلِمَ ترتيبها في حياته -صلى الله عليه وسلم؛ كالسبع الطوال، والحواميم والمفصَّل، وإن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فُوِّضَ الأمر فيه إلى الأمة بعده.
وأبو جعفر بن الزبير يرى: أن الآثار تشهد بأكثر مما نصَّ عليه ابن عطية.
والبيهقي في المدخل يرى: أن القرآن كان مرتَّبًا على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- سوره وآياته على هذا الترتيب إلّا الأنفال وبراءة.
وأدلة هذا القول عبارة عن الأخذ بأدلة الفريقين السابقين والجمع بينهما.
وقد ناقش العلماء هذه الأدلة مناقشة موضوعية لترجيح بعضها على بعض، فاستقرَّ أكثرهم على ترجيح القول الثالث واعتماده لخلوه من الاعتراض، وجمعه بين الأقوال على نحو تطمئن إليه النفس.
وقد لخَّص الدكتور موسى لاشين هذه المناقشة بقوله: "إن استدلال أصحاب القول الأول باختلاف مصاحف الصحابة في ترتيبها، يمكن أن يُرَدَّ بأن الصحابة إنما رتبوا ترتيبهم قبل علمهم بالتوقيف، فلما علموا سلَّموا واعتمدوا الترتيب المُجْمَع عليه، وحرقوا مصاحفهم.
وأما استدلالهم الثاني والثالث: فيمكن حصر عدم التوقيف في السورتين الواردتين في الدليلين "الأنفال والتوبة"، ولا يصلح دليلًا لسحب حكم التوقيف على جميع سور القرآن.
وأما الاستدلال الرابع: فإنه في القراءة والتلاوة، وهي غير موطن النزاع، إذ لا خلاف في جواز وقراءة السور على غير ترتيبها، وإن كان الأولى قراءتها مرتَّبة، ومحل النزاع هو اعتقاد موافقة ترتيب القرآن في المصاحف لترتيبه في اللوح، وفي أن هذا الترتيب بتعليم النبي -صلى الله عليه وسلم، أو باجتهاد من الصحابة.


الصفحة التالية
Icon