٣- كما بين القرآن كثيرا من المسائل التي أخفوها، أو حاولوا إخفاءها، فمن ذلك أن الدارس لأسفار العهد القديم يرى أنها (قد خلت من ذكر اليوم الآخر ونعيمه وجحيمه -وإذا كانت اليهودية في أصلها تقرر البعث والنشور والحساب والجنة والنار، كما ينبئ بذلك القرآن- فإن ذلك يدل على أن اليوم الآخر وما فيه وما يتصل به من المسائل التي أخفاها أهل الكتاب) ١.
ومن ذلك أيضا إخفاؤهم ما يتصل بخاتم الرسل من بشائر ونعوت وتحريفهم لها بالحذف أو بالتأويل الفاسد، فجاء القرآن بالحق في ذلك كله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ ٢.
٤- ومن مظاهر هيمنة القرآن على ما سبقه من كتب، أنه أنهى العمل بها فلا اعتبار لها بجانبه، لأنه شغل الفراغ كله بتشريعه الجديد وليس لأحد أن يركن إلى ما جاء بها بعد أن تسرب الباطل إليها، ولعبت الأيدي الأثيمة بها.
ولا ينافي ما تقدم من أن القرآن الكريم قد أنهى العمل بما سبقه من كتب الله، أنه أقر كثير من أحكامها ولم يتناوله بنسخ، لأنه أمر بهذه الأحكام وأقرها من جديد، فعملنا بها ليس متابعة لهذه الكتب بل لإقرار القرآن لها وأمره بها (لأن هيمنة القرآن على غيره واستئنافه للتشريع، لا يكون بالتقليد لغيره، بل بالإقرار الجديد وإن كان موافقا أحيانا لما سبقه، وهذا معنى قوله تعالى لرسوله: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ ٣، بمعنى بما أنزل عليك، وقد أنزل عليه كل ما في شريعة الإسلام ونسخ به كل ما سبقه ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ ٤.
وطريق الجمع بين الآيات أن يقال: "إن كل آية دلت على اتحاد الشرائع فهي محمولة على مقاصد الدين وأصول العبادات، وأما الآيات الدالة على اختلافها فمحمولة على الفروع وما يتعلق بظواهر العبادات، فجائز أن يتعبد الله عباده في كل وقت بما شاء"٥.
٢ المائدة آية ١٥.
٣ المائدة آية ٤٨.
٤ انظر (في رياض القرآن) للشيخ عبد اللطيف السبكي /٩٠.
٥ انظر الفتوحات الإلهية ١/٤٩٨.