وثمة مثال ثان: فهم لا يعترفون بأن كلمة فى القرآن وضعت مكان كلمة أخرى أو بمعناها ففى قوله جل شأنه:
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «١» لا يرون أن «عن» بمعنى «من» تمشيا مع إنابة حروف الجر بعضها عن بعض، وإنما ينظرون إلى منطوق اللفظ نفسه، وهو «عن،» ففى اللغة تفيد معنى المجاوزة، ويكون المراد- والله أعلم-: أن الحق يقبل التوبة متجاوزا عن عباده فى توبتهم لعدم خلوصها، رحمة منه بهم، وذلك المعنى لا شك أبلغ وأفصح.
على أن فى مذهب أهل الإشارات حلا لكل العقد، وحسما للخلافات، وزوالا للشبه والريب من مسائل الكسب والاكتساب، والجبر والاختيار، والنعيم والعذاب للجسم أو للروح.. إلخ.
كل هذا وغيره من خلافات أهل علم الكلام والعقائد لا ظل له عندهم، لأنهم اطلعوا على سر الله فى أقضيته ومقدراته، وتحققوا بذلك، فاستراحوا، وملأت قلوبهم السكينة، وأفئدتهم الطمأنينة، فاستشعروا فى حياتهم من السعادة ما لم يذقه غيرهم. ذلك لأنهم فتحوا عيون قلوبهم، ولم يقيسوا بعقولهم، لأن العقل مجاله محدود، لا يكشف مهما كانت قدرته عما وراء الغيوب، وإلا فبم يعلل العقل رؤية نبينا لموسى- عليهما الصلاة والسلام- مرتين فى قصة الإسراء والمعراج مرة ببيت المقدس، وهو يصلى وراءه، وأخرى فى السماء، وهو يراجعه فى أمر الصلاة، مع أن موسى لم يترك قبره، ولم يفارق مثواه. والعقل يحار أيضا أمام حديث سجود الشمس تحت العرش كل يوم، وأنها لا تطلع حتى يؤذن لها بالطلوع، مع أنها لا تغيب عن الكون لحظة. وشبه ذلك كثير من الأمثلة.
هذا وفى سوق الواقعة الآتية ما يجعلك تلمس أن أهل التحقيق هم الذين يفهمون عن الله ورسوله ما لا يفهمه غيرهم، وأنّ من رحمة الله بعباده أن يكونوا بينهم، وإليك الواقعة:
اشتكى رجل مرضا حار فيه «نطس» الأطباء، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يرشده إلى أن يأخذ من ثمرة شجرة (لا ولا) ويستعملها ففيها شفاؤه. وحار الرجل فى تفسير رؤياه، وحار معه فى حل رمزها علماء العصر، حتى شاء الله له الخير، فالتقى برجل من أهل التحقيق، فأجابه على الفور: أمرك يسير، علاجك فى شجرة الزيتون فهى التي يقول الله فيها: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ «٢».
تلك- أيها القارئ- ومضة خاطفة من قبس أنوار أهل التحقيق، ومكانتهم عند ربهم، وجولة سريعة فى علم الإشارات، ومذهب أهله، عرضناها عليك. ألمعنا بها إليك كتمهيد للسفر الجليل والكنز الثمين الذي نحن بصدد الحديث عنه، والذي ظل طىّ الكتمان ودفين النسيان، حتى قيّض الله له باحثنا أمينا، له فى هذا العمل، من الشباب القوة، ومن الشيوخ الخبرة، فأخرجه إلى النور، وهيأه للنشر والظهور.
والآن يسعدنى أن أقدم للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها عامة، ولذوى الألباب والبصائر خاصة، ولكل باحث متصوف: تفسير القرآن، للعالم والداعية الكبير «ابن عجيبة» وهو نموذج من نماذج فيوضات أهل التحقيق،
(٢) من الآية ٣٥ من سورة النور.